الزهرة البارقة لمعرفة أحوال المجاز والحقيقة

هویة الکتاب

الزُهَرَةُ البَارِقَة لِمَعرِفَةِ أَحوَالِ المَجَازِ وَالحَقِيقَة

تَألِيْفُ

الْعَلَّاْمَةِ المُحَقّقِ الْفَقِيْهِ الْأُصُوْلِيّ

الحَاْجّ السَّيِّد مُحَمَّد بَاْقِر المُوْسَوِيّ الشَّفْتِيّ قُدِّسَ سِرُّه

المَعْرُوْف بِحُجَّةِ الْإِسْلَاْمِ عَلَى الْإِطْلَاْق

(1180 - 1260 ق)

تَحْقِيْقُ

السَّيِّد مُحَمَّد الرِّضَا الشَّفْتِيّ

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

مقدّمة المركز

الحَمْدُ لِلهِِ رَبِّ العَالمَينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.

أمَّا بَعْدُ فَقَدِ اهْتَمَّ المُسْلِمُونَ باللُّغَة الْعَرَبِيَّةِ اهْتِمِامًا يَنْقَطِعُ نَظِيرَهُ فِي بَقِيَّةِ لُغَاتِ الْعَالَمِ، فَقَسَّمُوهَا إِلى اثْنَي عَشَرَ عِلْمًا، وَتَوَسَّعُوا فِي كُلِّ عِلْمٍ مِنْهَا، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ عُلُومٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالاِشْتِقَاقِ الَّذِي يُدَرَّسُ فِي عِلْمِ الصَّرْفِ، وَالنَّحْوِِ، وَالْبَلَاغَةِ، وَمِنْ تِلْكَ المَوَاضِيعِ المُشْتَرَكَةِ مَوْضُوعُ الحَقِيقَةِ وَالمَجَازِ؛ فَالدّرَاسَاتُ الأَوَّلِيَّةُ لَهُ نَجِدُهَا فِي كِتَابِِ سِيبَوَيْه المُتُوَفّى سَنَة 180ﻫ، ثُمَّ كَانَتْ هُنَاكَ آرَاءٌ أُخْرَى حَوْلَ ثُبُوتِ المَجَازِ في اللُّغَةِ؛ فَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازَ فِيهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ كُلّهُ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةَ فِيهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ أَثْبَتَت ِالدِّرَاسَاتُ أَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ فِيهَا الحَقِيقَةُ، وَفِيهَا المَجَازُ.

ثُمَّ تَوَسَّعَ البَيَانِيُّونَ في أَقْسَامِ المَجَازِ، فَقَسَّمُوهُ عَلَى مَجَازٍ عَقْلِيٍّ وَيَقَعُ فِي الإِسْنَادِ، وَمَجَازٍ لُغَوِيّ.

وَالمَجَازُ اللُّغَوِيّ قَسَّمُوهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍٍ: مَجَازٌ مُفْرَدٌ مُرْسَلٌ، وَمَجَازٌ مُفْرَدٌ بِالاِسْتِعَارَةِ، وَمَجَازٌ مُرَكَّبٌ مُرْسَلٌ، وَمَجَازٌ مُرَكَّبٌ بِالاِسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ.

ثُمَّ تَلَاهُم الأُصُولِيُّونَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ حَتَّى وَصَلَ المُتَأَخِّرُونَ مِنْهُم إِلَى الذّرْوَةِ، فَتَعَمَّقَتْ مَبَاحِثُهُم اللُّغَوِيَّةُ وَالدَّلَالِيَّةُ الَّتِي اتَّسَمَتْ بِالدِّقَّةِ وَالْتَعَمُّقِِِ عَنْ طَريْقِ رَصْدِ المَعَالِم الدّلَالِيَّةِ العَمِيقَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الفَهْمِ الدَّقِيقِ لِفَحْوَى

ص: 5

الخِطَابِِ، فَخَاضُوا فِي أَقْسَامِ الأَلْفَاظِ وَالدّلَالَاتِ، فَبَحَثُوا الاِشْتِرَاكَ وَالتَّرَادُفَ وَأَفَاضُوا الجَدَلَ حَوْلَهمُا، وَقَسَّمُوا الدّلَالَاتِ بِحَسَبِ المَنْطُوقِ وَالمَفْهُومِ مِنِ الخِطَابِ، كَمَا أَبَانُوا عَنْ قُدْرَةٍ لُغَوِيَّةٍ فِي تَحْدِيدِ أَدَوَاتِ ضَبْطِ الدّلَالَةِ المُعَيَّنَةِ، فَبَحَثُوا الاسْتِغْرَاقَ وَالْعُمُومَ وَالشَّرْطَ وَالاسْتِثْنَاءَ وَالتَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ والإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِن المَبَاحِثِ، فَتَوَصَّلُوا إِلَى مَفَاهِيمَ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَيْهَا اللُّغَوِيُّونَ أَوْ النُّحَاةُ، أَوْ البَيَانِيُّونَ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُم فَصَّلُوا القَوْلَ حَوْلَ مَاهِيَّة الحَقَيقَة وَالمَجَاز، وَأَقْسَامِهِمَا، وَالمَعَايِير المُمَيِّزَة لِكُلِّ قِسْمٍ؛ كَالحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَالحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ، وَالَحقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الحَالُ فِي تَقْسِيمِ المَجَازِ وَالتَّعَمُّقِ فِي مَبَاحِثِهِ.

وَقَدْ أَلَّفَ الْعَلَّاْمَةُ المُحَقِّقُ الْفَقِيْهُ الْأُصُوْلِيُّ الحَاْجُّ السَّيِّدُ مُحَمَّد بَاْقِر المُوْسَوِيّ الشَّفْتِيّ (قدس سره)، المَعْرُوْفُ بِحُجَّةِ الْإِسْلَاْمِ عَلَى الْإِطْلَاْقِ (1180- 1260ﻫ) كِتَابَ الزُهَرَة البَارِقَة لِمَعرِفَةِ أَحوَالِ المَجَازِ وَالحَقِيقَة.

وَقَد احْتَوَى هَذَا الْكِتَابُ عَلَى مَبَاحِثَ نَفِيسَةٍ وَفَرَائِدَ قَيِّمَةٍ مِن المَسَائِلِ الأُصُولِيَّةِ وَالعَرَبِيَّةِ، وَمَبَاحِثِ الأَلْفَاظِ وَالمَبَادِئ اللُّغَوِيَّةِ؛ مِنْهَا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الحَقِيقَة وَالمَجَاز، والأَمَارَات الَّتِي بِهَا يَحْصَلُ الامْتِيَازُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ وَالمَجَازِِ، وَتَحَقُّقِ الوَاسِطَة فِي الأَلْفَاظِ بَيْنَ المَجَازِ وَالحَقِيقَةِ وَتَعَارض الأَحْوَالِ وَغَيْرهمَا، وَتَقْسِيم الحَقِيقَةِ وَالمَجَازِ عَلَى الأَقْسَامِ المَعْرُوفَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِن الأُمُورِِ المُهِمَّةِ، وَاللَّفْظ المُشْتَرَك، وَالفَرْق بَيْنَ القَرِينَةِ الَّتِي فِي المُشْتَرَكِ وَالَّتِي فِي المَجَازِ، وَالفَرْق بَيْنَ اسْمِ الفَاعِلِ وَالفِعْلِ، وَوَجْه اعْتِبَارِ العِلَاقَةِ فِي المَجَازَاتِ، وتَحْدِيدِهَا وَبَيَان أَنْوَاعِهَا، وَوَجْه اشْتِرَاطِ العِلَاقَةِ فِي المَعَانِي المَجَازِيَّةِ، وَتَحَقّق الوَاسِطَةِ فِي الأَلْفَاظِ

ص: 6

بَيْنَ المَجَازِ وَالحَقِيقَةِ وَتعَارض الأَحْوَالِ وَغَيْرهمَا، وَالحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة، وَالثَّمَرَة المُترَتِّبَة عَلَى ثُبُوتِ الحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَعَدَمه، وَغَيْر ذَلِكَ مِن المَبَاحِثِ القَيِّمَةِ.

وَقَدْ قَامَ سَمَاحَةُ السَّيِّدِ مُحَمَّد الرِّضَا الشَّفْتِيّ مَشْكُورًا وَمَأْجُورًا بِتَحْقِيقِهِ، وَقَدْ قُمْنَا بِمُرَاجَعَتِهِ، وَضَبْطِهِ، وَوَضْعِ الفَهَارِسِ الفَنِيَّةِ، وَلَا نَنْسَى تَقْدِيمَ الشُّكْر والثَّنَاءِ لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ شَادِي وَجِيه وَهْبِي عَلَى مُرَاجَعَتِهِ لِلْكِتَابِ، وَالأَخ مُرْتَضَى حرَيِّج عَلَى تَدْقِيقِهِ لُغَوِيًّا، والأَخ مُصْطَفَى عِمَاد الْحَمْدَان عَلى إخرَاجِ الكِتَابِ طِباعِيًّا وعَمَل فَهَارِسِهِ الفَنِّيَّةِ.

هَذَا وَنَسْأَلُ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَنْفَعَ المُؤْمِنِينَ بِهَذَا السِّفْرِ القَيِّمِ الَّذِي يُشَكِّلُ إِضَافَةً إِلَى مَكْتَبَتِنَا الإِسْلَامِيَّةِ.

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنْ الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالمَِينَ.

د. إحْسَان عَلِيّ الغُرَيْفِيّ

مُدِيْرُ مَرْكَزِ تُرَاثِ كَرْبَلَاء

قِسْمُ شُؤُوْنِ المعارفِ الإسلاميَّةِ والإنسانيَّة

24 رجب 1442ﻫ/9 آذار 2021م

ص: 7

ص: 8

مقدّمة التحقيق

لمحةٌ من حياة المؤلّف

اشارة

لمحةٌ من حياة المؤلّف(1)

اسمه ونسبه

هو السيّد محمّد باقر ابن السيّد محمّد نقي (بالنون) الموسويّ النسب، الشفتيّ الرشتيّ الجيلانيّ الأصل واللّقب، الغرويّ الحائريّ الكاظميّ العلم والأدب، العراقيّ، الأصفهانيّ البيدآبادي المنشأ والموطن والمدفن والمآب، الشهير في الآفاق بحجّة الإسلام على الإطلاق، من فحول علماء الإماميّة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ومن كبار زعماء الدين وأعلام الطائفة.

ص: 9


1- وردت ترجمته في: بيان المفاخر: المجلّد الأوّل والثاني، روضات الجنّات: 2/ 100؛ الفوائد الرضويّة: 2/426، تاريخ أصفهان: 97، طبقات أعلام الشيعة (ق13): 2/ 193، قصص العلماء: 135، الروضة البهيّة في الإجازة الشفيعيّة: 19، مستدرك الوسائل: 3/ 399، أعيان الشيعة: 9/ 188، ريحانة الأدب: 1/312، الكنى والألقاب: 2/ 155، لباب الألقاب: 70، الكرام البررة: 1/ 192، معارف الرجال: 2/196، مكارم الآثار: 5/ 1614، نجوم السماء: 63، بغية الراغبين (المطبوع ضمن موسوعة الإمام شرف الدين): 7/ 2949، تكملة أمل الآمل: 5/ 238، موسوعة طبقات الفقهاء: 13/ 533، دانشمندان وبزرگان أصفهان: 1/ 373، تذكرة القبور: 149، رجال ومشاهير أصفهان: 255، وفيات العلماء: 162، غرقاب: 210، بغية الطالب: 171، هديّة الأحباب: 140، مزارات أصفهان: 163، تذكرة العلماء: 213، أعلام أصفهان: 2/141.

وأمّا نسبه الشريف:

فهو السيّد محمّد باقر بن محمّد نقي بن محمّد زكي بن محمّد تقي ابن شاه قاسم ابن مير أشرف ابن شاه قاسم ابن شاه هدايت ابن الأمير هاشم ابن السلطان السيّد عليّ قاضي ابن السيّد عليّ ابن السيّد محمّد ابن السيّد عليّ ابن السيّد محمّد ابن السيّد موسى ابن السيّد جعفر ابن السيّد إسماعيل ابن السيّد أحمد ابن السيّد محمّد ابن السيّد أحمد ابن السيّد محمّد ابن السيّد أبي القاسم ابن السيّد حمزة ابن الإمام موسى الكاظم (علیه السلام) (1).

ولادته ونشأته

ولد على أصحّ القولين في سنة 1180 أو 1181ﻫ(2) في قرية من قرى: «طارم العُليا»، وانتقل إلى شفت وهو ابن سبع سنين(3).

ثمّ هاجر إلى العراق لطلب العلوم الدينيّة والكمالات النفسانيّة في حدود سنة 1197 ﻫ أو قريبًا من ذلك، وهو ابن ستّ أو سبع عشرة سنة(4)، فحضر في أوّل أمره على الأستاذ الأكبر الآقا محمّد باقر الوحيد البهبهاني في كربلاء(5)، ثمّ على أستاذه العلّامة المير سيّد عليّ الطباطبائيّ صاحب الرياض.

ص: 10


1- هكذا ذكره صاحب الترجمة في ديباجة كتابه «مطالع الأنوار: 1/ 1».
2- روضات الجنّات: 2/ 102، تاريخ أصفهان: 97.
3- بيان المفاخر: 1/ 24 -25.
4- روضات الجنّات: 2/ 102.
5- صرّح بذلك صاحب الترجمة (قدس سره) في بعض إجازاته، إذ قال: «... عن المولى الساطع... الّذي فزنا بالاستفادة من جنابه في أوائل التحصيل في علم الأصول، وقرأنا عليه من مصنّفاته ما هو مشهور بالفوائد العتيق... مولانا آقا محمّد باقر البهبهاني((كتاب الإجازات: مخطوط).

ثمّ رحل إلى النجف الأشرف وأقام فيها سبع سنين، وحضر فيها على العلّامة الطباطبائيّ بحر العلوم، والشيخ الأكبر صاحب كشف الغطاء قدّس سرّهم.

ثمّ سافر إلى الكاظميّة، فحضر فيها على المحقّق السيّد مُحسن الأعرجي البغداديّ (قدس سره) قليلًا، فقد قرأ عليه القضاء والشهادات، وأقام عنده مدّة من الزمان.

ولمّا حلّت سنة 1205 ﻫ وقد تمّ بها على المترجم في العراق ثمان سنين بلغ فيها درجة سامية ومكانة عالية، رجع إلى ديار العجم(1) وتوطّن في أصفهان(2) مع الحاجّ الشيخ محمّد إبراهيم الكلباسيّ (قدس سره) وكانا صديقين رفيقين شفيقين.

ثمّ اتّفق له في سنة 1215 ﻫ الارتحال من أصفهان إلى قم أيّام زعامة المحقّق القمّي (قدس سره) فحضر مجلسه فيما ينيف على ستّة أشهر(3)، وكان يقول: «أرى لنفسي الترقّي الكامل في هذه المدّة القليلة بقدر تمام ما حصل لي في مدّة مقامي بالعتبات

ص: 11


1- كما نصّ عليه نفسه (قدس سره) في حواشي بعض إجازاته، قال: «قد حُرِمنا من شرافة مجاورة العتبات العاليات -على مشرّفها آلاف التحيّة والصلوات- وانتقلنا منها إلى ديار العجم في سنة خمس ومائتين بعد الألف، وكان مولانا مولى الكلّ آقا محمّد باقر البهبهانيّ في الحياة، ثمّ انتقل إلى الفردوس الأعلى في سنة ستّ ومائتين بعد الألف قدّس الله تعالى روحه السعيدة» (كتاب الإجازات: مخطوط).
2- قال المترجم له في حاشية بعض إجازاته ما هذا نصّه: (انتقل المرحوم المغفور مير عبد الباقي إلى دار الآخرة -قدّس الله تعالى روحه- في أوائل ورودي في أصبهان في سنة سبع ومائتين بعد الألف من الهجرة» (كتاب الإجازات: مخطوط).
3- قال سيّدنا المترجم (قدس سره) في حاشية كتابه «مطالع الأنوار: ج 1»: «اعلم: أنّه اتّفق لي في سنة مائتين وخمس عشرة بعد الألف الارتحال من أصبهان إلى بلدة قم، ومكثت فيها أربعة أشهر أو أكثر، وكنت مشتغلًا بكتابة هذا المجلّد من الشرح، إلخ».

العاليات»(1)، فكتب له الميرزا (قدس سره) إجازة مبسوطة مضبوطة كان يراها غنيمة ذلك السَّفر المبارك.

ثمّ سافر بعدها إلى كاشان، فحضر على المولى محمّد مهدي النراقيّ (قدس سره) وتلمذ عليه مدّة قليلة(2).

نُقل عن بعض المشايخ أنّه بعد وروده إلى أصفهان لم يكن يملك شيئًا من الكتب إلّا مجلّدًا واحدًا من المدارك، كما لم يكن يملك من الأموال، ولا من الأثاث والأغراض إلّا منديلًا لمحلّ الخبز، ويسمّى بالفارسيّة: سفره(3).

وسكن في مدرسة السلطان -المفتوح بابه إلى چهارباغ العبّاسيّ- المعروفة في أصفهان بمدرسة چهارباغ، فاجتمع الطلّاب والمشتغلون عنده للتحصيل والتعليم، فأخرجه المدرّس من المدرسة عنادًا وصدًّا فلم يعارضه(4).

وبعد برهة من الزمن اجتمع حوله أهل العلم والمحصّلون، وانتقلت إليه رئاسة الإماميّة في أغلب الأقطار بعد رحيل المشايخ (رحمهم الله) فصار مرجعًا للفتوى، وأقبلت عليه الدنيا فانتهت إليه الرئاسة الدينيّة والدنيويّة.

وكان الباعث على ترويج أمره في أصفهان وفي غيره من البلاد، العالم الربّانيّ والمحقّق الصمدانيّ الميرزا أبو القاسم الجيلانيّ القمّيّ (قدس سره) المقبول قوله عند العوام والخواص وعند السلطان والرعيّة.

ص: 12


1- ينظر روضات الجنّات: 2/ 100.
2- الروضة البهيّة في الإجازة الشفيعيّة: 19.
3- المصدر نفسه.
4- ينظر طرائف المقال: 2/377.

وأيضًا تقديم العالم الزعيم الحاج الشيخ محمّد إبراهيم الكرباسيّ (قدس سره) إيّاه في المشي والحكم وغيرهما، فكلّ هذه الأمور كانت ترفع شأنه، إلّا أنّ يده تعالى فوق الأيدي، ترفع وتضع طبق المصالح الربّانيّة(1).

وكانت بينه وبين الشيخ الكرباسي المذكور صِلة متينة وصداقة تامّة من بدء أمرهما، فقد كانا زميلين كريمين في النجف، تجمع بينهما معاهد العلم، وشاء الله أن تنمو هذه المودّة شيئًا فشيئًا، ويبلغ كلّ منهما في الزعامة مبلغًا لم يكن يحدث له في البال، وأن يسكنا معًا بلدة أصفهان، ويتزعّما بها في وقت واحد، ولم تكن الرئاسة لتكدّر صفو ذلك الودّ الخالص، أو تؤثّر مثقال ذرّة، فكلّما زادت سطوة أحدهما زاد اتّصالًا ورغبة بصاحبه.

حجّ بيت الله الحرام في سنة 1231 ﻫ(2) من طريق البحر، وكان ذلك أيّام محمّد عليّ باشا المصريّ، وكانت له زيارة خاصّة له، فأخذ منه «فدك» وكفل بها سادات المدينة(3)، وكذلك حدّد المطاف على مذهب الشيعة للمسلمين في مكّة المكرّمة(4).

ص: 13


1- الكرام البررة: 1/ 194.
2- صرّح بذلك نفسه (قدس سره) في مناسكه (مناسك الحجّ: مخطوط، الصفحة 56).
3- قصص العلماء: 145؛ وقد أشار بذلك الميرزا حبيب الله نيّر (قدس سره) ضمن مرثيّته للمترجم (قدس سره) (معادن الجواهر: 1/ 23) بقوله: ميراث أولاد الزهراء استردّ لهم *** من غاصبي فدك في طوفه الحرما
4- تاريخ أصفهان: 97.

وفي سنة 1243ﻫ(1) أخذ في بناء المسجد الأعظم بأصبهان(2) وأنفق عليه ما يقرب من مائة ألف دينار شرعيّ تقريبًا من أمواله الخالصة، ومالَ بقبلته إلى يمين قبلة سائر المساجد يسيرًا، وجعل له مدارس وحجرات للطلبة، وأسّس أساسًا لم يعهد مثله من أحد من العلماء والمجتهدين، وبنى فيه قبّة لمدفنه، وهي الآن بمنزلة مشهد من مشاهد الأنبياء والأئمّة (علیه السلام) مطاف للخلائق في أوقات الصلوات الخمس.

إطراء العلماء عليه

1 - الفقيه المحقّق ميرزا أبو القاسم القمّي (قدس سره)

وهو من أساتذته ومشايخه، قال في إجازته الكبيرة له: «... فقد استجازني الولد الأعزّ الأمجد، والخلّ الأسعد الأرشد، العالم العامل الزكيّ الذكيّ، والفاضل الكامل الألمعيّ اللوذعيّ، بل المحقّق المدقّق التقيّ النقيّ، ابن المرحوم المبرور السيّد محمّد نقي، محمّد باقر الموسويّ الجيلانيّ، أسبل الله عليه نواله، وكثّر في الفرقة الناجية أمثاله»(3).

2 - الحكيم المولى عليّ النوري (قدس سره)

وهو من أساتذته، قد أطرى عليه بقوله: «علّامة العهد، فقيه العصر، حجّة

ص: 14


1- صرّح بهذا التاريخ معاصره الأديب الفاضل الميرزا محمّد عليّ الطباطبائيّ الزوّاريّ، المتخلّص بوفا (المتوفّى سنة 1248 ﻫ) في تذكرته الموسومة بالمآثر الباقريّة: ص 232، الّتي جمع فيها بعض من القصائد والمقطّعات الّتي أنشدها الشعراء في مدح حجّة الإسلام (قدس سره) ووصف مسجده الأعظم.
2- أنشأه في محلّة «بيد آباد»، وهي من محلّات أصفهان العظيمة.
3- بيان المفاخر: 2/ 7.

الطائفة المحقّة، قبلة الكرام البررة، الفريد الدهريّ، والوحيد العصريّ، مطاع، واجب الاتّباع، معظّم، مجموعة المناقب والمفاخر، آقا سيّد محمّد باقر، دامت بركات فضائله الإنسيّة وشمائله القدسيّة»(1).

3 - العلّامة الفقيه الحاج محمّد إبراهيم الكرباسيّ (قدس سره)

أطرى على صاحب الترجمة بقوله: «... لكون السيّد - ضاعف الله فضله عليه - من أركان المحقّقين، وأساطين الفقهاء الراسخين، فضلًا عن مجرّد كونه من المجتهدين الّذين يجب إطاعة أمرهم وإمضاء حكمهم... والسيّد الباقر - دام تأييده - فوق ذلك ومن أعلام الطائفة وأركانها»(2).

4 - العلّامة السيّد محمّد شفيع الجابلقيّ (قدس سره)

قد وصفه في كتابه «الروضة البهيّة في الطرق الشفيعيّة» بقوله:

«السيّد السند، والركن المعتمد، الإمام الأجلّ الأعظم، النحرير الذاخر، والسحاب الماطر، الفائق على الأوائل والأواخر، الحاج السيّد محمّد باقر بن محمّد نقيّ الرشتيّ الشفتيّ... وكان أزهد أهل زمانه وأعبدهم وأسماهم؛ فلذا أقبلت له الدنيا بحيث انتهت الرئاسة الدينيّة والدنيويّة إليه»(3).

زهده وعبادته

قال المحدّث القمّي (قدس سره) في الفوائد الرضويّة، نقلًا عن صاحب التكملة: «حجّة

ص: 15


1- رسالة في أحكام القناة للمترجم له: مخطوط، الصفحة 81.
2- المصدر نفسه: 90.
3- الروضة البهيّة في الإجازة الشفيعيّة: 19.

الإسلام السيّد محمّد باقر، كان عالمًا ربّانيًّا روحانيًّا، ممّن عرف حلال آل محمّد (علیه السلام) وحرامهم، وشيّد أحكامهم، وخالف هواه، واتّبع أمر مولاه، كان دائم المراقبة لربّه، لا يشغله شيء عن الحضور والمراقبة. وقال: حدّثني والدي (قدس سره) أنّ آماق عين السيّد كانت مجروحة من كثرة بكائه في تهجّده.

وحدّثني بعض خواصّه، قال: خرجت معه إلى بعض قراه، فبتنا في الطريق، فقال لي: ألا تنام؟! فأخذت مضجعي فظنّ أنّي نمت، فقام يصلّي، فو الله إنّي رأيت فرائصه وأعضاءه ترتعد بحيث كان يكرّر الكلمة مرارًا من شدّة حركة فكّيه وأعضائه حتّى ينطق بها صحيحة»(1).

إقامته الحدود الشرعيّة

يعتقد السيّد حجّة الإسلام أنّ إقامة الحدود واجبة على الفقيه الجامع لشرائط الفتوى في عصر الغيبة عند التمكّن من الإقامة والأمن من مضرّة أهل الفساد، وألّف (قدس سره) في إثبات هذا الاعتقاد رسالة؛ وبهذا كان يقيم الحدود الشرعيّة ويجريها بيده أو يد من يأمره بلا خشية ولا خوف (2).

مشايخ روايته

يروي عن عدّة من أعلام الأمّة، وإليك سرد ما نصّ عليه (قدس سره) في بعض إجازاته أو نبّه عليه غيره:

ص: 16


1- الفوائد الرضويّة: 2/ 429.
2- روضات الجنّات: 2/ 101.

1 - الأمير السيّد عليّ الطباطبائيّ الحائريّ (المتوفّى سنة 1231 ﻫ).

2 - الميرزا أبو القاسم الجيلانيّ القمّيّ (المتوفّى سنة 1231 ﻫ)(1).

3 - الشيخ سليمان بن معتوق العامليّ (المتوفّى سنة 1227 ﻫ).

4 - السيّد محسن الأعرجيّ البغداديّ (المتوفّى سنة 1227 ﻫ).

5 - الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء (المتوفّى سنة 1227 ﻫ).

6 - الميرزا محمّد مهدي الموسويّ الشهرستانيّ (المتوفّى سنة 1216 ﻫ).

تلامذته

قد تخرّج من مجلس تدريسه أكثر من مائة وخمسين مجتهد، لا يسع المقام لاستقصائهم، فنقتصر على ذكر بعضٍ من أكابرهم وأعاظمهم:

1 - السيّد آقا بزرك الحسينيّ القاضي عسكر الأصفهانيّ.

2 - الحاج محمّد جعفر بن محمّد صفي الآبادهاي.

3 - الملّا أحمد بن عليّ أكبر التربتي.

4 - المولى عليّ أكبر بن إبراهيم الخوانساريّ.

5 - الحاج ملّا عبد الباقي الكاشانيّ.

6 - المولى عبدالوهّاب الشريف القزوينيّ.

ص: 17


1- هي إجازة كبيرة مبسوطة، تاريخها: ليلة عيد الفطر سنة 1215 ﻫ، أوّلها بعد البسملة: (الحمد لله والصلاة على رسول الله وعلى آله أولياء الله). طبعت مصوّرتها بتمامها في «فهرست كتب خطّي كتابخانه هاي أصفهان: 1/ 401». وينظر روضات الجنّات: 2/ 100، وبيان المفاخر: 2/ 7.

7 - الحاج محمّد إبراهيم القزوينيّ.

8 - السيّد محمّد باقر الموسويّ الأصفهانيّ (صاحب روضات الجنّات).

9 - الحاج آقا محمّد بن محمّد إبراهيم الكرباسيّ.

10 - المولى محمّد بن محمّد مهدي المازندرانيّ الشهير بالحاج الأشرفي.

وغيرهم من الأعلام لم نذكرهم رومًا للاختصار، ومَن أراد أن يطّلع على أسمائهم وترجمتهم فليراجع الجزء الأوّل من كتاب: «بيان المفاخر» للمحقّق المرحوم السيّد مصلح الدّين المهدويّ، وغيره من كتب التراجم والسير.

أولاده

له (قدس سره) أولاد متعدّدون، كلّهم علماء أجلّاء، وسادة فضلاء، انتهت إليهم الرئاسة الدينيّة والعلميّة بعد أبيهم في أصفهان، وهم:

1 - السيّد أسد الله (1228- 1290 ﻫ)(1).

ص: 18


1- وردت ترجمته في: روضات الجنّات: 2/ 103 (ذيل ترجمة أبيه)، أعيان الشيعة: 11/109، بيان المفاخر: 2/245- 351، الكنى والألقاب: 2/ 156، الفوائد الرضويّة: 1/ 42، أحسن الوديعة: 1/ 78، المآثر والآثار: 138، الروضة البهيّة في الإجازة الشفيعيّة: 22، ماضي النجف وحاضرها: 1/ 133، معارف الرجال: 1/ 94، مكارم الآثار: 3/ 836، لباب الألقاب: 71، ريحانة الأدب: 2/ 26، قصص العلماء: 122، الكرام البررة: 1/124، نجوم السماء: 332، بغية الراغبين (المطبوع ضمن موسوعة الإمام شرف الدين): 7/ 2950، تكملة أمل الآمل: 2/ 165، مرآة الشرق: 1/ 146، رجال ومشاهير أصفهان: 153، تاريخ أصفهان ورى: 262، تاريخ أصفهان: 305، دانشمندان وبزرگان أصفهان: 1/ 253، أعلام أصفهان: 1/519، منتخب التواريخ: 718، ناسخ التواريخ: (تاريخ قاجار) 3/ 103، علماي معاصرين: 331، روضة الصفا: 10/ 458.

قال الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين في ترجمة والده (قدس سره): «وخَلَفَه ولده الأبرّ الأغرّ، الفقيه الأصولي، المحقّق البحّاثة، العلّامة السيّد أسد الله، كان (رحمة الله) على شاكلة أبيه في العلم والعمل والجهاد لنفسه والمراقبة عليها آناء الليل، وأطراف النهار. وقد انتهت إليه رئاسة الدين في إيران، وانقادت لأمره عامّة الناس وخاصّتها حتّى السلطان ناصرالدين شاه...»(1).

2 - السيّد محمّد مهدي(2).

3 - السيّد محمّد عليّ(حدود 1227 - 1282 ﻫ)(3).

4 - السيّد مؤمن(1294 ﻫ)(4).

5 - السيّد محمّد جعفر (المتوفّى في عاشوراء 1320 ﻫ)(5).

ص: 19


1- بغية الراغبين (المطبوع ضمن موسوعة الإمام شرف الدين): 7/ 2950.
2- وردت ترجمته في: رجال أصفهان: 146، تذكرة القبور: 81، بيان المفاخر: 2/ 161، دانشمندان وبزرگان أصفهان: 1/ 381.
3- وردت ترجمته في غرقاب: 222، الكرام البررة (القسم الثالث): 119، تذكرة القبور: 81، بيان المفاخر: 2/ 159- 160، مكارم الآثار: 7/ 2490 - 2487، بزرگان ودانشمندان أصفهان: 1/ 379.
4- وردت ترجمته في تذكرة القبور: 81، بيان المفاخر: 2/ 160، دانشمندان وبزرگان أصفهان: 1/ 380، رجال أصفهان: 147، تكملة أمل الآمل: 6/ 96، المآثر والآثار: 184، تكملة نجوم السماء: 1/ 400.
5- وردت ترجمته في بيان المفاخر: 2/ 155- 157، نقباء البشر: 1/279، دانشمندان وبزرگان أصفهان: 1/377، تاريخ أصفهان: 324، المآثر والآثار: 1/ 249، معجم رجال الفكر والأدب: 1/ 398، أعلام أصفهان: 2/ 288.

6 - السيّد زين العابدين(المتوفّى قبل 1290 ﻫ)(1).

7 - السيّد أبو القاسم (المتوفّى 1262 ﻫ)(2)

8 - السيّد هاشم (المتوفّى قبل 1293 ﻫ)(3)

مؤلّفاته القيّمة
اشارة

له مؤلّفات كثيرة، ورسائل متعدّدة، كلّها تفصح عن تضلّعه في شتّى العلوم المختلفة خصوصًا الفقه والرجال، وتظهر منها جامعيّته من المعقول والمنقول، وإليك أسماء بعضها:

«الكتب والرسائل الفقهيّة»

1- مطالع الأنوار المقتبسة من آثار الأئمّة الأطهار (علیه السلام)

شرح لكتاب شرائع الإسلام، لم يخرج منه غير مقاصد كتاب الصلاة إلى آخر أحكام صلاة الأموات في ستّة مجلّدات، إلّا أنّه مشتمل على أغلب قواعد الفقه وضوابطه الكلّيّة، بل يحتوي على معظم المسائل المتفرّقة من الطهارة إلى الديّات.

ص: 20


1- وردت ترجمته في بيان المفاخر: 2/ 157 و158، الكرام البررة: 2/ 589، دانشمندان وبزرگان أصفهان: 1/378، تكملة نجوم السماء: 1/ 368، المآثر والآثار: 1/ 221، تذكرة القبور: 146، أعلام أصفهان: 3/ 261.
2- وردت ترجمته في دانشمندان وبزرگان أصفهان: 1/ 376، الكرام البررة: 1/ 51، بيان المفاخر: 2/ 154، مكارم الآثار: 5/ 1619.
3- وردت ترجمته في بيان المفاخر: 2/ 162، آثار ملّي أصفهان: 193.

طبع سنة 1408 ﻫ بالطبع الأفست، وقد قامت بطبعه مكتبة مسجد السيّد حجّة الإسلام الشفتيّ (قدس سره) بأصفهان.

2 - تحفة الأبرار الملتقط من آثار الأئمّة الأطهار لتنوير قلوب الأخيار

رسالة فارسيّة مبسوطة، يتعرّض فيها للأدلّة غالبًا، وهي في خصوص الصلاة، مرتّبة على مقدّمة في مسائل الاجتهاد والتقليد، وأبواب ثلاثة ذات مباحث، وخاتمة في الخلل وأحكام الشكوك، والخاتمة رسالة كبيرة جدًّا، سيأتي الكلام عنها(1).

طبعت دون خاتمتها سنة (1409 ﻫ) في مجلّدين كبيرين بتحقيق الحجّة الحاج السيّد مهدي الرجائيّ -دامت بركاته- قامت بطبعها مكتبة مسجد السيّد حجّة الإسلام (قدس سره) بأصفهان.

3 - المصباح الشارقة

قال مؤلّفه في مفتتح المجلّد الأوّل من كتابه: «مطالع الأنوار» بعد نقل حديث في فضل الصلاة، ما لفظه:

«وقد تكلّمنا في هذا الحديث في المصباح الشارقة بما قد بلغ التطويل والإطناب في الغاية، وأبرزنا فيه كثيرًا من الإشكالات المتوجّهة إليه وعقّبنا كلًّا منها بما يزيله»(2).

4 - السؤال والجواب

فارسيّ وعربيّ، وهو أجوبة مسائله المعروفة في مجلّدين كبيرين، تشتمل على

ص: 21


1- ينظر: صفحة 24، تسلسل 17 من هذا الكتاب.
2- مطالع الأنوار: 1/ 4.

أربعين كتابًا من الكتب الفقهيّة، ورسائل متعدّدة في مسائل متبدّدة، منها: «رسالة في الأوقاف» ومنها: «رسالة في إقامة الحدود في زمن الغيبة»، إلى غير ذلك من الرسائل الّتي نذكر كلًّا منها بعنوان مستقلّ.

5 - كتاب القضاء والشهادات

قال عنه صاحب الروضات (قدس سره): «ومن تصنيفاته الفائقة أيضًا كتاب ألّفه في القضاء والشهادات بطريق الاستدلال التامّ زمن قراءته في تلك المباحث على شيخه السيّد محسن المرحوم»(1).

6 - مناسك الحجّ

فارسي، ذكر فيه واجبات الحجّ ومستحبّاته، ورتّبه على مقدّمة وثلاثة مقاصد وخاتمة؛ صرّح في أواسطه بأنّه ألّفه سنة (1231 ﻫ) حين توجّهه إلى بيت الله الحرام من طريق البحر.

7 - رسالة في آداب صلاة الليل وفضلها

مدرجة في كتابه المتقدّم: «السؤال والجواب»(2).

8 - رسالة في إبراء الوليّ مدّة المتعة عن المولّى عليه

قال صاحب الذريعة (رحمة الله): «رسالة في هبة الولي مدّة الزوجة المنقطعة للمولّى عليه، ثلاثة: إحداها للسيّد محمّد باقر بن محمّد نقي الشفتيّ

ص: 22


1- روضات الجنّات: 2/ 101.
2- بيان المفاخر: 2/ 17.

الأصفهانيّ، اختار فيها الجواز»(1).

9 - رسالة في حرمة محارم الموطوء على الواطي

هي رسالة متوسّطة مدرجة في كتابه المتقدّم: «السؤال والجواب»؛ أوّلها بعد البسملة: «الحمد لمن أبدع السماوات والأرضين».

10 - الردّ على رسالة تعيين السلام الأخير في النوافل

كتبه في الردّ على رسالة المولى عليّ أكبر الإيجهيّ الأصفهانيّ(المتوفّى 1232 ﻫ).

11 - الردّ على ردّ المولى الإيجهيّ

كتبه ثانيًا بعد ردّ المولى الإيجهيّ (رحمة الله) على الردّ الأوّل.

12 - إقامة الحدود في زمن الغيبة

هي رسالة كبيرة استدلاليّة، مدرجة في كتابه المتقدّم: «السؤال والجواب». طبعت سنة 1425ﻫ بتحقيق حفيده حجّة الإسلام والمسلمين الحاجّ السيّد مهدي الشفتيّ (دام ظله) قامت بطبعها أنّ الإضمار أوجز وأخصرمكتبة مسجد السيّد حجّة الإسلام (قدس سره) بأصفهان.

13 - رسالة في اشتراط القبض في الوقف

هي رسالة استدلاليّة مفصّلة، مدرجة في كتابه: «السؤال والجواب»، كتبها في الردّ على المولى أحمد النراقيّ (قدس سره) (2). طبعت سنة 1379ش بتحقيق الحجّة الدكتور

ص: 23


1- الذريعة: 52/ 159، الرقم 53- 55.
2- وألّف الميرزا أبو القاسم بن محمّد مهدي النراقيّ (رحمة الله) (المتوفّى 1256 ﻫ): «ملخّص المقال في دفع القيل والقال»، في الردّ على هذه الرسالة إجابة لسؤال أخيه المولى أحمد المذكور. والنسخة المخطوطة منه موجودة في المكتبة المرعشيّة برقم 3136، مذكورة في فهرسها: 8/ 365.

السيّد أحمد التويسركاني - دامت بركاته - تحت عنوان: «رسالة وقف».

14 - رسالة في أحكام الغسالة

ذكرها ولده العلّامة الحاج السيّد أسد الله (قدس سره) في شرحه الكبير على شرائع الإسلام حيث قال: «وقد كتب - روحي فداه - رسالة في مسألة الغسالة»(1).

15 - رسالة في تطهير العجين بتخبيزه وعدمه

ذكرها العلّامة السيّد محمّد صادق الچهارسوقي (قدس سره) وعبّر عنها بالقدريّة(2).

16 - رسالة في الأراضي الخراجيّة

هي رسالة استدلاليّة كبيرة، كتبها في جواب مسألة سُئِل عنها، توجد نسخة خطيّة منها ضمن مجموعة في المكتبة الخاصّة للدكتور السيّد أحمد التويسركاني

-دامت بركاته- وقد قدّم لنا مصوّرة فيها مشكورًا.

17 - رسالة في أحكام الشكّ والسهو في الصلاة

رسالة كبيرة جدًّا، حسنة الوضع والتفريع، جعلها تتمّة لكتابه: «تحفة الأبرار». ذكرها صاحب الذريعة، وعبّر عنها بالشكيّات(3).

طبعت سنة 1394 ش بتحقيق حفيده حجّة الإسلام والمسلمين الحاجّ السيّد مهدي الشفتيّ (دام ظله) قامت بطبعها مكتبة مسجد السيّد حجّة الإسلام بأصفهان.

ص: 24


1- شرح شرائع الإسلام: كتاب الطهارة، مخطوط.
2- نقله عنه في بيان المفاخر: 2/ 54.
3- الذريعة: 14/ 218، الرقم 2268.

18 - رسالة في طهارة عرق الجنب من الحرام

نسبها إليه ولده العلّامة السيّد أسد الله (قدس سره) في شرحه الكبير على الشرائع(1).

19 - رسالة في صلاة الجمعة

صرّح بها في كتابه: «مطالع الأنوار»(2)؛ اختار فيها وجوبها التخييريّ.

20 - رسالة في العقد على أخت الزوجة المطلّقة

كتبها في جواب سائل سأله عن ذلك، مدرجة في كتابه: «السؤال والجواب». قد طبعت هذه الرسالة سنة 1383 ش ضمن «ميراث حوزة أصفهان»(3)، بتحقيق حفيده حجّة الإسلام والمسلمين الحاجّ السيّد مهدي الشفتيّ (دام ظله).

21 - رسالة في حكم صلح حقّ الرجوع في الطلاق الرجعي

مدرجة في كتابه: «السؤال والجواب»، كتبها في جواب مسألة سُئِل عنها، فرغ منها في مزرعة تندران من مزارع كرون من محالّ أصفهان في يوم الاثنين السابع من جمادى الآخرة سنة 1235 ﻫ، قد طبعت هذه الرسالة سنة 1383 ش ضمن «ميراث حوزة أصفهان»(4) بتحقيق حفيده حجّة الإسلام والمسلمين الحاجّ السيّد مهدي الشفتيّ (دام ظله).

22 - رسالة في جواز الاتّكال بقول النساء في انتفاء موانع النكاح فيها

صرّح بها المؤلّف (قدس سره) في مطالع أنواره بقوله: «... والظاهر وثاقته كما

ص: 25


1- شرح شرائع الإسلام: كتاب الطهارة، مخطوط، الصفحة: 156.
2- مطالع الأنوار: 4/ 148.
3- ميراث حوزة أصفهان: 1/ 297 - 322.
4- المصدر نفسه: 1/ 279 - 296.

حقّقناه في رسالتنا الموضوعة في جواز الاتّكال بقول المرأة في خلوّها عن موانع النكاح»(1).

وذكرها كلّ من العَلَمَين الشيخ الطهرانيّ والسيّد الأمين قدّس سرّهما(2).

23 - رسالة في حكم الصلاة في جلد الميتة المدبوغ

هي رسالة كبيرة استدلاليّة كتبها في جواب السؤال عن حكم الصلاة في جلد الميتة المدبوغ، مدرجة في كتابه الكبير «السؤال والجواب».

24 - رسالة في ثبوت الزنا واللواط بالإقرار

مدرجة في كتابه: «السؤال والجواب»، كتبها في جواب مسألة سئل عنها.

25 - رسالة في شرح جواب المحقّق القمّي

شَرَح فيها جوابه عن مسألة في الطلاق، في حياته وحسب أمره، يذكر فيها جوابه، ثمّ إيضاح الجواب(3).

26 - رسالة في عدم جواز التقليد للمجتهد الميّت

أوجب فيها العدول إلى المجتهد الحيّ بمجرّد موت المجتهد، ولمّا رآها الميرزا عبد الوهّاب القزوينيّ(4) (قدس سره) كتب في ردّها رسالة: «هداية المسترشدين في حكم

ص: 26


1- مطالع الأنوار: 6/ 518.
2- الذريعة: 5/ 241، الرقم 1153، وأعيان الشيعة: 44/ 112.
3- ينظر الذريعة: 31/ 179، الرقم 600.
4- هو الميرزا عبد الوهّاب الشريف ابن محمّد عليّ القزوينيّ، من أكابر تلامذته والمجازين منه بإجازة كبيرة مبسوطة، ذكر في كتابه «هداية المسترشدين» أنّه ألّف أوّلًا رسالة فارسيّة مختصرة، وأخرى عربيّة في مسائل التقليد، ثمّ بعد ما رأى رسالة حجّة الإسلام في التقليد وإيجابه على المقلّد العدول إلى المجتهد الحيّ بعد موت من كان يقلّده، كتب هذه الرسالة ناقلًا لعين عبارات حجّة الإسلام ثمّ الردّ عليه (ينظر الذريعة: 25/193، الرقم 217).

التقليد للعوام»(1).

27 - رسالة في أحكام القناة

هي رسالة فارسيّة كتبها في جواب مسائل بعض أهالي يزد، مدرجة في كتابه الكبير: «السؤال والجواب».

28 - رسالة في ولاية الحاكم على البالغة غير الرشيدة

كتبها في جواب مَن سأله عن المسألة، مدرجة في كتابه: «السؤال والجواب». وطبعت هذه الرسالة سنة 1386 ش ضمن «ميراث حوزة أصفهان»(2) بتحقيق حفيده حجّة الإسلام والمسلمين الحاجّ السيّد مهدي الشفتيّ (دام ظله).

29 - رسالة في حكم الصلاة عن الميّت

كتبها في جواب مسألة سئل عنها، مدرجة في كتابه: «السؤال والجواب».

30 - رسالة في تحديد آية الكرسيّ

رسالة في جواب مَن سأل عن تحديد هذه الآية، مدرجة في السؤال والجواب.

ص: 27


1- الذريعة: 4/ 389، والكرام البررة: 2/ 810.
2- ميراث حوزة أصفهان: 3/ 125- 171.

قد طبعت هذه الرسالة سنة 1386 ش ضمن «ميراث حوزة أصفهان»(1) بتحقيق حفيده حجّة الإسلام والمسلمين الحاجّ السيّد مهدي الشفتيّ (دام ظله).

31 - رسالة في زيارة عاشوراء وكيفيّتها

مدرجة في كتابه: «السؤال والجواب»، كتبها في جواب مَن سأله عن كيفيّة الزيارة وصلاتها، فأدرج في الجواب: أنّ صلاتها ركعتان، لا أكثر، تفعلهما بعد الفراغ من اللعن والسلام والدعاء والسجدة.

طبعت هذه الرسالة سنة 1394 ش ضمن «فقه نينوا»، قامت بطبعها مكتبة مسجد السيّد حجّة الإسلام بأصفهان.

32 - رسالة في صيغ النكاح

هي رسالة فارسيّة في بيان أنحاء إجراء الصيغة وأنواع تغييراته، ذكر فيها أربع عشرة صورة لصيغة النكاح.

«الكتب والرسائل الحديثيّة»

33 - الحاشية على الكافي

هي حواشٍ قليلة على كتاب الفروع من الكافي، من الطهارة إلى الحجّ.

34 - الحاشية على الوافي

نصّ عليها المؤلّف (قدس سره) في كتابه: «مطالع الأنوار»(2).

ص: 28


1- ميراث حوزة أصفهان: 3/ 96- 125.
2- مطالع الأنوار: 5/ 27.
«الكتب والرسائل الأصوليّة»

35 - الزهرة البارقة لمعرفة أحوال المجاز والحقيقة

وهو الكتاب الّذي بين يديك، وسيأتي الكلام عنه مفصّلًا تحت عنوان: «بين يدي الكتاب».

36 - رسالة في الاستصحاب

نصّ عليها المؤلّف (قدس سره) في مطالع الأنوار(1).

37 - الحاشية على تهذيب الوصول

هي حاشية علميّة مفصّلة على كتاب: «تهذيب الوصول إلى علم الأصول» من تأليف آية الله العلّامة الحلّي (قدس سره)، ذكرها المؤلّف (قدس سره) في كتابه الّذي بين يديك.

38 - الحاشية على أصول معالم الدين

هي تعليقات مدوّنة بمنزلة شرح مبسوط على كتاب «معالم الدين في الأصول» للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني -قدّس سرّهما- ذكرها في كتابه: «مطالع الأنوار»(2)، وفي هذا الكتاب أيضًا.

«الكتب الرجاليّة»

39 - الرسائل الرجاليّة

تنيف على اثنتين وعشرين رسالة في أحوال عشرين رجلًا من الرواة(3).

ص: 29


1- مطالع الأنوار: 1/ 136.
2- مطالع الأنوار: 5/ 393، وفيه: «... مضافًا إلى الوجوه الّتي أبرزناها في مقام ترجيح أقرب المجازات على غيره فيما علّقناه في أصول المعالم في مباحث المجمل والمبيّن».
3- الذريعة: 10/ 246، الرقم 789.

طبعت هذه الرسائل في مجلّد واحد سنة 1417 ﻫ بتحقيق الحجّة الحاج السيّد مهدي الرجائيّ - دامت بركاته - قامت بطبعها مكتبة مسجد السيّد حجّة الإسلام الشفتىّ بأصفهان.

40 - الحاشية على الرجال

هي تعليقات مختصرة على كتاب«الرجال» لشيخ الطائفة الطوسيّ (رحمة الله).

41 - الحاشية على الفهرست

تعليقات مختصرة غير مدوّنة على كتاب: «الفهرست» لشيخ الطائفة (رحمة الله).

42 - الحاشية على خلاصة الأقوال

صرّح بها في حاشية المجلّد الثاني من كتابه «مطالع الأنوار».

«الكتب والرسائل المتفرّقة»

43 - رسالة في أصول الدين

فارسيّة، في عدّة أبواب(1).

44 - سؤال وجواب

عن بعض عقائد الشيخيّة، بالفارسيّة، طبع أوّلًا بعد وفاته سنة 1261 ﻫ، كما ذكره صاحب الذريعة(2)، وقد طبع ثانيًا سنة 1388 ش طباعة حروفيّة محقّقة، قامت بتحقيقه وطبعه مكتبة مسجد السيّد.

ص: 30


1- فهرس مخطوطات مكتبة كليّة الإلهيّات في طهران: 1/ 11، ش 335.
2- الذريعة: 12/ 243، الرقم 1594.

45 - الحلية اللامعة للبهجة المرضيّة

عبارة عن تعليقات مدوّنة بمنزلة شرح مبسوط على شرح الفاضل السيوطيّ على ألفيّة النحو(1). طُبع سنة 1393 ش، قامت بطبعه مكتبة مسجد السيّد بأصفهان.

وفاته ومرقده

عاش -قدّس الله نفسه الزكيّة- ثمانين سنة تقريبًا، ثمّ أجاب الدعوة الإلهيّة في عصيرة يوم الأحد، الثاني من شهر ربيع الثاني سنة 1260 ﻫ(2) على أصحّ الأقوال؛ ودفن بعد ثلاثة أيّام من وفاته في البقعة الّتي بناها لنفسه في جانب مسجده الكبير بأصبهان، وهي الآن مشهد معروف ومزار متبرّك.

قال المحقّق الچهارسوقي (قدس سره) في الروضات: «ولم يرَ مثل يوم وفاته، يوم عظيم، ملأت زقاق البلد من أفواج الأنام رجالًا ونساءً، يبكون عليه بكاء الفاقد والده الرحيم ومشفقه الكريم، بحيث كانت همهمة الخلائق تسمع من وراء البلد، وغسّل في بيته الشريف، ثمّ أُتي به إلى المسجد، فصلّى عليه ولده الأفضل وخلفه الأسعد الأرشد والفقيه الأوحد والحبر المؤيّد... مولانا وسيّدنا السيّد أسد الله....

ص: 31


1- ينظر الذريعة: 7/ 82.
2- هذا التاريخ مطابق لما كتبه صاحب الروضات (رحمة الله) في بياضه (ينظر مقدّمة النهريّة: 20)، وكذا مطابق لما كتبه العلّامة الشيخ محمّد جعفر بن محمّد إبراهيم الكرباسيّ (المتوفّى 1292ق) في ظهر كتابه: منهج الرشاد في شرح إرشاد الأذهان (ينظر فهرس مخطوطات مكتبة مركز إحياء التراث الإسلاميّ: 6/79، الرقم 90). وضبطه كذلك العالم الفاضل الشاعر رضا قليخان هما الشيرازيّ (المتوفّى 1290 ق) فقال في «ديوانه: ص 104» في تاريخ وفاته: در أول حمل ودويم ربيع دويم *** زدامگاه جهان شد بسوى دار سلام بلفظ تازى تاريخ رحلتش گفتم *** و بشمرى مأتين است وألف وستّين عام

إلى أن قال:

وقد أنشدت قصيدة طويلة في مرثيّته بالعربيّة، ومطلعها كما يمرّ بالنظر الفاتر:

لمن العزاء وهذه الزفرات ما هي في الزمر *** تبكي السماء وفي الأرض الفساد به ظهر

وجرت عيون الدمع من صمّ الجبال وحاولت *** زول وانشقّت جيوب الصبر واشتمل الضرر

واغبرّت الآفاق واختلّ السياق بأسره *** وتغيّرت شمس المشارق منه وانخسف القمر

ما أكثر الحزن الجديد وأكبر الهول الشديد *** وأعظم الرزء المفخّم في الخلائق للبشر

من فقد سيّدنا الإمام الباقر العلم الّذي *** جلّت عن العدّ المحامد منه والكرامات الكبر

بكّاء جوف الليل من خوف الإله ومقتدى *** طول النهار على نيابته الإمام المنتظر

إلى تمام ثمانين بيتًا تقريبًا، ويقول في آخرها مؤرّخًا لوفاته:

وسألت طبعي القرم عن تاريخ رحلته *** فجرّ ذيلًا وقال: «الله أنزله كريم المستقر»(1)

(1260)

ص: 32


1- روضات الجنّات: 2/ 104.

بين يدي الكتاب

اشارة

كتابنا الحاضر هو: «الزهرة البارقة لمعرفة أحوال المجاز والحقيقة»، مشتمل على جمّ غفير من المسائل الأصوليّة والعربيّة، ومباحث الألفاظ والمبادئ اللغويّة.

قال المؤلّف (قدس سره) في أوّله بعد خطبة مختصرة:

«هذه مقالة أرادها منّي بعض من كنت أعتني بصلاح حاله وأهتمّ بإنجاح مقاله وسؤاله، قد بيّنت فيها- بإعانة الله سبحانه - مباحث الحقيقة والمجاز بما لم يبيّن إلى الآن في رسالة ولا كتاب، وأوضحت الأمر فيها بحيث يصل إلى حقيقة الحال كلّ من له أدنى دربة بلا ارتياب».

قال صاحب الروضات (رحمة الله) عند ذكر مصنّفات أستاذه حجّة الإسلام (قدس سره) ما هذا لفظه:

«ومنها كتاب سمّاه: الزهرة البارقة في أحوال المجاز والحقيقة، يشتمل على جمّ غفير من المسائل الأصوليّة والعربيّة ومباحث الألفاظ والمبادئ اللغويّة في نحو من ثمانية آلاف بيت» (1).

وقال المحقّق الطهرانيّ (قدس سره) في موضع من ذريعته:

«الزهرة البارقة، وفي نسخة: الباهرة، في الحقيقة والمجاز، في ثمانية آلاف بيت، مشتمل على كثير من مباحث علم الأصول، للسيّد حجّة الإسلام محمّد باقر بن محمّد تقي(2) الموسويّ الجيلانيّ الشفتيّ الأصفهانيّ المتوفّى 1260، ذكره في

ص: 33


1- روضات الجنّات: 2/ 101.
2- كذا، والصواب: محمّد نقي.

الروضات، وطبع بعد وفاته بأمر تلميذه وصهره الآقا محمّد مهدي ابن الحاج الكلباسيّ. مرتّب على مقدّمة وأبواب وخاتمة» (1).

وقال في موضع آخر: «الطراز في الحقيقة والمجاز، أو الحقيقة والمجاز، كما مرّ في 7: 51، للسيّد محمّد باقر حجّة الإسلام الرشتيّ، كما في نسخة ميرزا محمّد طاهر التنكابنيّ المعاصر بطهران» (2).

لكنّ الصحيح في اسم الكتاب هو ما ذكرناه: الزُهَرَة البَارِقَةِ لمعرفة أحوال المجاز والحقيقة، كما سمّاه به مصنّفه -أعلى الله مقامه- في المقدّمة صريحًا.

فهرست ما في الكتاب

رتّب المصنّف (رحمة الله) كتابه هذا على مقدّمة وأبواب وخاتمة كما ذكر في أوّله، لكنّ الموجود من نسخة الأصل ينتهي إلى الباب الرابع وليس فيها الخاتمة.

المقدّمة: في بيان ماهيّة الحقيقة والمجاز.

والباب الأوّل: في تحقيق العلاقة.

والباب الثاني: في الأمارات الّتي بها يحصل الامتياز بين الحقيقة والمجاز.

والباب الثالث: في تحقّق الواسطة في الألفاظ بين المجاز والحقيقة وتعارض الأحوال وغيرهما.

والباب الرابع: في تقسيم الحقيقة والمجاز إلى الأقسام المعروفة، وما يتعلّق بها من الأمور المهمّة.

ص: 34


1- الذريعة: 12/ 72، الرقم 506.
2- المصدر نفسه: 15/ 157، الرقم 1034.
تأريخ تصنيف الكتاب

لم يذكر المؤلّف (قدس سره) تاريخ التأليف، لكن يبدو من دعائه لأستاذه العلّامة المحقّق السيّد محمّد مهديّ الطباطبائيّ النجفيّ المعروف ببحر العلوم (قدس سره) أنّه ألّفه قبل سنة (1212 ﻫ) حيث توفّي أستاذه فيها، حيث قال ما هذا نصّ كلامه رفع مقامه:

«ولهذا ادّعى سيّد الأواخر والأوائل، ومفخر الأماثل والأفاضل، الّذي قد انتهت إليه مراتب الفضيلة والسعادة، وحاوت عليه السعادة الدنيويّة والأخرويّة، أستاذنا بل أستاذ البريّة في عصره أدام الله إفادته وإفاضته».

ص: 35

عملنا في التحقيق

النسخ المعتمدة

للكتاب نسخ كثيرة جدًّا في مختلف المكتبات، إلّا أنّا اعتمدنا في تحقيقه على ثلاث نسخ خطّيّة، وهي كالآتي:

1.النسخة الأصليّة بخطّ المؤلّف (قدس سره) الموجودة في المكتبة المرعشيّة في قم المقدّسة برقم 5420، المذكورة في فهرس مخطوطاتها: 14/ 204. وهي واضحة الخطّ مقروءة، إلّا أنّ المصنّف جعل فيها تغييرات وزيادات، وحذف بعض العبارات ثمّ كتبها مرّة أخرى، كما أنّ بعض الأوراق منها مخطوط بخطّ يغاير الأصل؛ تقع في 169 ورقة بحجم 5/ 21 × 16 سم، مختلفة الأسطر، ناقصة من آخرها صفحة؛ قد أشرنا إليها بنسخة الأصل.

2.النسخة الخطّيّة المحفوظة في المكتبة الرضويّة في مشهد المقدّسة تحت رقم 6867، وهي بخطّ النسخ، مجهولة الكاتب، تقع في 174 ورقة بحجم 15 × 21 سم، مختلفة الأسطر، وقد رمزنا لها بالحرف: «ق».

3.النسخة الخطّيّة المحفوظة في مكتبة مجلس الشورى الإسلاميّ في طهران برقم 7661، المذكورة في فهرس مخطوطاتها: 29/ 154. وهي بخطّ النسخ، مجهولة الكاتب، تقع في 171 ورقة بحجم 5/ 14× 5/ 20 سم، وكلّ ورقة تحتوي على 22 سطرًا، وقد رمزنا لها بالحرف: «ج».

ص: 36

منهجنا في التحقيق

1.مقابلة النسخ الخطّيّة وضبط الاختلافات الواردة بينها، وترجيح نسخة الأصل على غيرها عند الاختلاف، إلّا إذا ثبت خطؤها، فرجّحنا غيرها مع الإشارة إلى ذلك في الهامش.

2.تثبيت الزيادات الّتي انفردت بها بعض النسخ دون بعض، والإشارة إليها في الهامش.

3.استخراج المصادر والمآخذ من الآيات القرآنيّة الكريمة، والأحاديث الشريفة، والأقوال الواردة، والشواهد الشعريّة، على قدر المستطاع.

4.إيضاح المواضع المشكلة والعبارات المبهمة، وشرح بعض اللغات الغريبة الواردة في المتن مع الاستعانة بكتب اللغة ومعاجم العربيّة.

5.إضافة العناوين الفرعيّة في المتن بين قوسين معقوفين كي يسهّل الوصول إلى تفاصيل الموضوع.

ولقد بذلنا قصارى جهدنا في تحقيق هذا السفر القيّم وإخراجه إلى عالم النور، فما وجد فيه من خلل أو خطأ فهو عن قصور لا تقصير، ونسأل الله تعالى أن يتقبّل منّا هذا القليل بقبول حسن، ونسأله -سبحانه- أن يوفّقنا لإحياء سائر آثار المؤلّف -أعلى الله مقامه- جزاءً لجزيل خدماته المباركة في إحياء الشريعة الغرّاء.

كلمة شكر وثناء

وفي الختام نتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل إلى الأستاذ المحقّق الحجّة الشيخ حسين حلبيان الأصفهانيّ -حفظه الله ورعاه- لمساعدته في مقابلة الكتاب

ص: 37

مع النسخ الخطّيّة وتخريج بعض المصادر، فقد بذل في هذا السبيل كلّ وسعه، فللّه درّه وعليه أجره.

وأَحْمدُ اللهَ وأشكرُهُ كثیرًا أنْ وفّقَني إلى إنجازِ هذا العملِ، وأرى من الواجبِ أن أَتقدّمَ بجزیلِ شكري وعظیِمِ امتناني إلى العتبةِ العبّاسیّةِ المقدّسةِ، وإلى سماحةِ المتولِّي الشَّرعيِّ السَّيِّدِ أحمدَ الصافي-دامَ عزُّهُ-، وإلى السّيّد محمّد الأُشيقر أمینِها العامِّ، وإلى سماحةِ الشّيخِ عمّارٍ الهلاليِّ رئيسِ قسمِ شؤونِ المعارفِ الإسلاميّةِ والإنسانيّةِ؛ لاهتمامِهم بنشْرِ آثارِ السَّلَفِ الصَّالحِ من أساطینِ علمائِنا الأَعاظمِ، ولا سيّما لمساعدتِهم في طَبْعِ هذا الأثرِ النّفیسِ وإخراجِهِ بهذهِ الحُلَّةِ القشیبةِ، راجینَ لهم دوامَ التوفیقِ لمثلِ هذهِ المشاریعِ المهمّةِ.

وأتقدّمُ بخالصِ شكري لكلِّ من أسهمَ أو نَصحَ وأرشدَ من أجلِ إخراجِ هذا السِّفْرِ القيِّمِ إلى النورِ، شكر اللهُ مساعیَهم الجمیلةَ، ووفّقَهم لما یحبُّ ویرضى، مع أصدقِ الدعواتِ بدوامِ الصِّحّةِ والعافیةِ والتوفیقِ لخدمةِ العِلْمِ وأهلِهِ.

وآخرُ دعوانا أنِ الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمینَ والصَّلاةُ والسَّلامُ علی محمّدٍ وآلهِ الطیّبینَ الطَّاهرینَ.

المحقّق

السیّدُ محمّد رضا، ابن السيّد مهديّ، ابن السيّد محمّد رضا الثاني، ابن السيِّد محمّد باقر الثاني، ابن السيّد أسد الله، ابن الحاج السيّد محمّد باقر الشفتيّ المعروف بحجّةِ الإسلامِ

27 صفر المظفّر سنة 1442ﻫ.

ص: 38

نماذج من النسخ المعتمدة

ص: 39

الصفحة الأولى من نسخة الأصل

ص: 40

الصفحة الأخيرة من نسخة الأصل

ص: 41

الصفحة الأولى من نسخة (ج)

ص: 42

الصفحة الأخيرة من نسخة (ج)

ص: 43

الصفحة الأولى من نسخة (ق)

ص: 44

الصفحة الأخيرة من نسخة (ق)

ص: 45

ص: 46

غلاف

ص: 47

ص: 48

بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين(1)

الحمد لله الّذي تنزّهت حقيقته عن مجازيّة العقول القادسة، وتكبّرت صفاته عن صحّة السلب والمجاورة والمشابهة، واطّردت آلاؤه إلى عباده بالمبادرة والمسارعة، والصلاة والسلام على سيّد رسله وأفضل أنبيائه الزاكية وعترته الأماجد الفاخرة، سيّما ابن عمّه ووصيّه الّذي به ختمت علائق الفضيلة والسعادة.

وبعد، يقول أحوج العباد إلى غفران ربّه الغافر ابن محمّد نقي الموسويّ محمّد باقر: هذه مقالة أرادها منّي بعض من كنت أعتني بصلاح حاله وأهتمّ بإنجاح مقاله وسؤاله، قد بيّنت فيها بإعانة الله سبحانه مباحث الحقيقة والمجاز بما لم يبيّن إلى الآن في رسالة ولا كتاب، وأوضحت الأمر فيها بحيث يصل إلى حقيقة الحال كلّ من له أدنى دربة بلا ارتياب.

وأرجو منه ومن سائر الإخوان الدعاء عند استيلاء الخلائق بالمنام، والصفح عن زلّاتي لاعترافي بأنّني من أضعف الأنام.

وسمّيتها بالزُهَرَة البَارِقَة لمعرفة أحوال المجاز والحقيقة، ورتّبتها على مقدّمة وأبواب وخاتمة.

ص: 49


1- في «ق»: وبه ثقتي.

ص: 50

المقدّمة في بيان ماهيّتهما

في بيان ماهيّة الحقيقة

اعلم: أنّ الحقيقة فعيلة من حقّ الأمر إذا ثبت، أو من حقّقتُ الأمرَ إذا أثبتُّه؛ وعلى الأوّل يكون للفاعل، فمعناها الثابتة، وعلى الثاني يجوز أن يكون للمفعول أيضًا(1)، فمعناها على هذا المثبِتة أو المثبَتة(2).

ولا يخفى أنّ صيغة «فعيل» إذا كانت للفاعل سواء كانت من اللازم أو المتعدّي، يجب فيها مراعاة التذكير والتأنيث؛ وأمّا إذا كانت للمفعول وجرت على موصوفها يستوي فيه الأمران(3)، بخلاف ما إذا لم تكن جارية عليه، فكالأوّل دفعًا للالتباس، كقولك: قتيل فلان وقتيلته.

فعلى هذا إذا قلت: الكلمة الحقيقة، فلا شبهة في صحّته من حيث الصناعة فيما إذا كانت للفاعل، ويكون معناه بناءً على الاشتقاق من اللازم: الكلمة الثابتة؛

ص: 51


1- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي كما جاز أن يكون للفاعل، جاز أن يكون بمعنى المفعول، لكن معنى الفاعل هنا يختلف مع الأوّل، كما يظهر ممّا ذكرنا. منه.
2- ينظر الإيضاح: 275.
3- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): إن قيل: ما السرّ في تسوية المذكّر والمؤنّث في «فعيل» إذا كان للمفعول بخلاف ما إذا كان للفاعل؟ أُجيب بأنّه: لعلّ السرّ في ذلك هو أنّ مع الأقرب معاملة الفعل، بخلاف الأبعد؛ ليحصل الفرق بينهما. منه.

لثبوتها في محلّها الأصليّ والموضوعة له؛ وبناءً على الاشتقاق من المتعدّيّ: الكلمة المثبتة؛ لإثباتها المدّعى والمدلول.

وأمّا إذا كانت للمفعول فصحّته مشكلة، لما عرفت من التسوية بين الذكور والنسوة، إلّا أن يمنع أصل الاستعمال، أو يدّعى أنّ مرادهم من التسوية بينهما أنّه لا يعتبر فيها حينئذٍ إلحاق العلامة كما في الأوّل، لا أنّ المعتبر عدم الإلحاق، فإلحاقها حينئذٍ غير مضرّ ويكون معنى قولك: «الكلمة الحقيقة» حينئذٍ: الكلمة المثبتة في محلّها الأصليّ؛ وأمّا إذا قلت: «اللفظ الحقيقة»، فينبغي أن لا يصحّ مطلقًا؛ لأنّ الموصوف مذكّر، فيجب التجريد من علامة التأنيث في جميع الحالات إلّا إذا أوّل اللفظ بالكلمة فكما مرّ.

هذا كلّه فيما إذا كانت محمولة على المعنى اللغويّ، وأمّا إذا كان المراد منها المعنى الاصطلاحيّ فالاستعمال صحيح في جميع الصور المتصوّرة؛ لأنّ التاء حينئذٍ ليست للتأنيث، بل للنقل من الوصفيّة إلى الاسميّة، والاسم من قبيل الجوامد، فلا يجب المطابقة.

عقد وحلّ

قيل(1): معنى كون التاء للنقل من الوصفيّة إلى الاسميّة أنّ اللفظ إذا صار بنفسه اسمًا(2) لغلبة الاستعمال بعد ما كان وصفًا كانت(3) اسميّته فرعًا لوصفيّته، فيشبّه

ص: 52


1- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): والقائل جماعة، منهم: الچلبيّ في حواشي المطوّل. منه.
2- في المصدر: اسمًا بنفسه.
3- في المصدر: كان.

بالمؤنّث؛ لأنّ المؤنّث فرعٌ للمذكّر(1)، فيجعل التاء علامة للفرعيّة، كما جعل علامة في: «رجلٌ علّامة» لكثرة العلم، بناءً على أنّ كثرة الشيء فرع تحقّق أصله(2)، انتهى.

وفيه تأمّل؛ لأنّ الظاهر من قولك: «أنّ التاء للنقل»، أنّ فائدتها نقل اللفظ من الوصفيّة إلى الاسميّة، فتحقّق النقل حينئذٍ متوقّف على إلحاق التاء؛ ومقتضى ما ذكره هذا القائل حيث قال: «إنّ الاسم(3) إذا صار» إلخ: أنّ إلحاقها متوقّفٌ على تحقّق النقل، فنقول: إنّ تحقّق النقل موقوفٌ على إلحاق التاء، كما هو الظاهر من قولهم: «إنّ التاء للنقل»، وإلحاقها موقوفٌ على تحقّق النقل على ما ذكره، فينتج: إنّ تحقّق النقل موقوفٌ على تحقّق النقل، فيلزم الدور.

وعلى تقدير الإغماض عن ذلك الظاهر وقلنا: إنّ معنى قولهم: «إنّها للنقل»: أنّ الاسم المنقول بعد تحقّق النقل ألحق فيه التاء، نقول: إنّ الدور حينئذٍ وإن كان مندفعًا، لكنّه خلاف الواقع(4)؛ إذ اللفظ المصحوب بالتاء صار لغلبة الاستعمال اسمًا، فحينئذٍ لا يصدق أنّ التاء لأجل تحقّق النقل؛ لوجودها قبله أيضًا.

ص: 53


1- في المصدر: المذكّر.
2- حاشية المطوّل، للچلبيّ: 509، وينظر نهاية الوصول: 1/ 236، وغاية الوصول: 1/ 151.
3- كذا في الأصل، والأولى كما في «ق»: اللفظ.
4- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): ولا يخفى أنّ دعوى مخالفة الواقع إنّما تتوجّه إذا كان التعبير على ما تقدّم في كلام القائل، ويمكن التعبير بحيث لم يتوجّه عليه ذلك بأن يقال: إنّ اللفظ إذا نقل إلى معنى بعد ما كان وصفًا، كانت اسميّته فرعًا لوصفيّته، إلى آخر ما تقدّم، فيكون النقل على وجه التعيين وحينئذٍ لا يتوجّه عليه إلّا ما ذكر أخيرًا من اقتضائه لحوق التاء في كلّ وصف نقل إلى معنى كالكافي والشافي والوافي وأمثالها مع أنّه خلاف الواقع، فتأمّل. منه.

وأيضًا أنّ ما ذكره يقتضي إلحاق التاء في لفظ «الفاعل» و«المفعول» ونحوهما ممّا صارت الاسميّة فيه غالبة على الوصفيّة، بل(1) وفي كلّ ما كان فرعًا لشيء، فكان اللازم إلحاقها في المعرفة؛ لكونها فرعًا للنكرة وغيرها مع أنّ الأمر ليس كذلك قطعًا.

ويمكن أن يقال: إنّ التاء في الوصف وإن كانت موجودة قبل الغلبة، لكنّها لم تكن لازمة في تلك الحالة، بل كان اللازم إزالتها إذا كان الوصف جاريًا على المذكّر، وأمّا بعد بلوغه إلى حدّ الغلبة فهي لازمة مطلقًا، ولهذا يقال: الكلمة الحقيقة واللفظ الحقيقة، فعلى هذا معنى قولهم: «إنّ التاء للنقل» إلخ، أنّ وجودها دائمًا أو لزومها لذلك(2).

لكن بقي الكلام في سرّ لزوم التاء حينئذٍ، ويمكن أن يقال: لعلّ وجهه أنّ الوصف بعد بلوغه إلى حدّ الاسميّة صار مشابهًا للأعلام، وهي غير متغيّرة لما بيّن في محلّه، فمشابهها أيضًا كذلك(3).

في بيان ماهيّة المجاز

وأمّا المجاز، فهو إمّا مصدر ميميّ، أو اسم للمكان من الجواز، وأيّ منهما كان

ص: 54


1- «بل» لم ترد في «ق» و«ج».
2- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): ويؤيّد ذلك أنّ التمسّك بتلك المقالة -أي كون التاء للنقل- إنّما هو في ما إذا قدّر الموصوف مذكّرًا، كما يقال: هذا كتاب كافية أو شافية، فيتوهّم أنّ اللازم تجريد الوصف من التاء، فيقال: إنّ وجود التاء حينئذٍ لكون الاسم منقولًا عن معناه الوصفيّ. منه.
3- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): فيكون التاء حينئذٍ من قبيل الدال في «زيد»، فكما لا يسقط ذلك أبدًا، كذلك التاء. منه.

أصله: «مَجْوَز» بفتح العين؛ لأنّ المصدر الميميّ من الثلاثيّ المجرّد قياسه فتح العين كالمقتَل والمشرَب، وأمّا كسرها كالمَرْجِع، فقليل إلّا فيما كان فاؤه واوًا، فالأكثر فيه الكسر كالموضِع.

وأمّا اسم المكان فإنّه إذا كان من الفعل الّذي مضارعه مفتوح العين أو مضمومها ولم يكن من باب المثال، فالقياس فيه أيضًا كذلك على ما بيّن في محلّه، ولمّا كان ما قبل الواو حرفًا صحيحًا وساكنًا، نقلت فتحته إليه، فقلبت بالألف، فصار مجازًا.

إذا عرفت ذلك، ظهر لك أنّ إطلاق الحقيقة على اللفظ المستعمل في الموضوع له مجاز، والعلاقة المشابهة، وقد ظهرت ممّا تقدّم، فيكون استعارة، وأمّا إطلاق المجاز على المستعمل في غير الموضوع له فكذلك؛ لما عرفت من أنّه مشتقٌّ من الجواز، وهو إمّا بمعنى العبور والتعدّي، تقول: جاز المكان يجوزه جوازًا إذا تعدّاه(1)، أو بمعنى الإمكان قسيم للواجب والحرام، تقول: جاز الشيء يجوز جوازًا، أي: ليس في تركه ولا في فعله عقاب.

وعلى التقديرين إمّا أن يكون مصدرًا ميميًّا، أو من أسماء المكان، فهنا احتمالات أربعة:

الأوّل: أن يكون المجاز مصدرًا ميميًّا من الجواز الّذي بمعنى العبور، ولا شبهة أنّ العبور من خواصّ الأجسام، فتكون نسبته إلى غيرها مجازًا لا محالة، فإطلاقه على اللفظ المخصوص مجازٌ والعلاقة المشابهة؛ لأنّ اللفظ المستعمل في غير الموضوع له قد تعدّ عن معناه الأصليّ، فكأنّه جاز مكانه الحقيقيّ، فيكون استعارة،

ص: 55


1- ينظر النهاية: 1/ 314، ولسان العرب: 5/ 328.

ولا يخفى أنّ المصدر حينئذٍ بمعنى الفاعل.

والثاني: أن يكون اسمًا للمكان من الجواز بمعنى العبور أيضًا، ومعناه الحقيقيّ حينئذٍ: المكان الّذي هو محلّ العبور، فإذا أُطلق وأُريد منه اللفظ المخصوص يكون مجازًا؛ والعلاقة المشابهة أيضًا؛ إذ المتكلّم لمّا استعمله في غير الموضوع له كأنّه محلّ جاز المتكلّم فيه عن المعنى الأصليّ.

والثالث: أن يكون مصدرًا ميميًّا من الجواز الّذي بمعنى الإمكان، وهو إنّما يكون حقيقة إذا أُريد منه هذا المعنى، فإطلاقه على الكلمة المخصوصة مجاز، ويمكن التكلّف في تحقّق العلاقة بأنّه من قبيل إطلاق اسم المسبّب على السبب؛ لأنّ الكلمة صارت سببًا لاستعمالها في غير معناها الأصليّ؛ إذ لو لم يكن لما أمكن ذلك، فيكون المجاز مرسلًا.

والرابع: أن يكون اسمًا للمكان منه أيضًا؛ وربما يقال: إنّه حينئذٍ حقيقة؛ لأنّ الجواز بهذا المعنى كما يمكن حصوله للأجسام كذا يمكن حصوله في الأعراض، فاللفظ يكون موضعًا لذلك الجواز؛ لأنّه موضع لجواز أن يستعمل في غير معناه الأصليّ.

ثمّ لا يخفى أنّ كون الحقيقة والمجاز مجازين في اللفظين المخصوصين إنّما هو بحسب أصل اللغة، وبالجملة: هما مجازان لغويّان في اللفظين المخصوصين، وأمّا في الاصطلاح فحقيقتان، فإذا استعملهما المخاطب بالاصطلاح في معناهما اللغويّ يكونان مجازيّين بحسب الاصطلاح.

ومن هنا يعلم الجواب عمّا لو سئل: أيّ حقيقة يكون مجازًا وحقيقة؟ وأيّ مجاز يكون حقيقة ومجازًا؟ فإنّ لفظ «الحقيقة» إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في

ص: 56

المعنى اللغويّ واللفظ المخصوص يكون حقيقة في الأوّل ومجازًا في الثاني، وكذا إذا استعمل لفظ «المجاز» في المعنيين، فإنّه يكون حقيقة في اللغويّ ومجازًا في الاصطلاحيّ، وأمّا إذا استعمله المخاطب بعرف الاصطلاح، فيتعاكس الأمران.

في تحقيق معنى الحقيقة والمجاز بحسب الاصطلاح

هذا معناهما اللغويّ، وأمّا الاصطلاحيّ فقد اختلف في ذلك، فقيل: إنّ الحقيقة لفظ مستعمل فيما وضع له، ويعرف المجاز بالمقايسة(1).

وفيه نظر؛ لاستلزامه انتقاض كلّ من الحقيقة والمجاز بالآخر؛ بيان ذلك: هو أنّ اللفظ إذا كان موضوعًا عند طائفة لمعنى وعند أخرى لآخر، كلفظ «الفعل» مثلًا، فإنّه موضوع في اللغة للحدث المعلوم، وعند النحاة للكلمة المخصوصة، فإذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في الحدث يكون حقيقة لا محالة، مع أنّه يصدق عليه أنّه لفظٌ مستعملٌ في غير الموضوع له، وإذا استعمله في الكلمة يكون مجازًا كذلك مع أنّه يصدق عليه أنّه مستعملٌ في الموضوع له، فانتقض حدّ المجاز بالحقيقة وبالعكس.

وكذا الكلام فيما إذا استعمله المخاطب بعرف النحاة في الحدث والكلمة المخصوصة؛ ولهذا قيّد جماعة من الأعلام الحدّين المذكورين باصطلاح به التخاطب، فقالوا: الحقيقةُ لفظٌ مستعملٌ فيما وضع له في اصطلاح به التخاطب(2).

ص: 57


1- ينظر قوانين الأصول: 1/ 54.
2- ينظر مبادئ الوصول: 70، ونهاية الوصول: 1/ 240، ومنية اللبيب: 1/ 198، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 112، والمطوّل: 565.

وكذلك الكلام في حدّ المجاز، فَتُوُهِّمَ أنّه حينئذٍ يندفع النقض المذكور؛ لأنّ لفظ «الفعل» مثلًا إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في الحدث لا يصدق عليه إلّا حدّ الحقيقة؛ إذ ليس هو إلّا الموضوع له بذلك الاصطلاح، فلا يصدق عليه حينئذٍ أنّه مستعملٌ في غير ما وضع له بذلك الاصطلاح وإن كان مستعملًا في غير ما وضع له باصطلاح آخر.

وكذا إذا استعمله في الكلمة المخصوصة، فإنّه لا يصدق عليه حدّ الحقيقة، إذ لم يصدق عليه أنّه مستعملٌ في الموضوع له بهذا الاصطلاح وإن كان موضوعًا له باصطلاح آخر؛ وهكذا فيما إذا استعمله المخاطب بعرف النحاة فيهما.

قيد «اصطلاح التخاطب» لا يكفي لدفع الانتقاض

وفيه نظر؛ لأنّا لا نسلّم سلامة الحدّين عن الانتقاض بزيادة القيد المذكور، أمّا إذا كان القيد متعلّقًا ب- «استعمل» فواضح، إذ المعنى حينئذٍ هكذا: الحقيقة اللفظ المستعمل في اصطلاح به التخاطب في موضوع له، وهو لا يستلزم أن يكون ذلك موضوعًا له في ذلك الاصطلاح؛ لصدقه ولو لم يكن ذلك موضوعًا له بذلك الاصطلاح، بل كان موضوعًا له باصطلاح آخر.

وأمّا إذا كان متعلّقًا بالموضوع له، أو بما وضع له -كما هو الظاهر والظاهر أنّ بناء الدفع عليه- فلبقاء الانتقاض أيضًا في مواضع:

في اللفظ المشترك

الأوّل: في اللفظ المشترك إذا استعمل في أحد معانيه لأجل المناسبة بينه وبين معنى آخر منها.

ص: 58

توضيح ذلك: هو أنّ اللفظ المشترك يمكن استعماله من وجهين، أحدهما: استعماله في الموضوع له لملاحظة الوضع، وهو ظاهر؛ والثاني: استعماله في بعض معانيه لا لذلك، بل لتحقّق المناسبة بينه وبين معنى آخر من معانيه.

ولا شكّ أنّه يصدق عليه في الصورتين أنّه استعمل في ما وضع له في اصطلاح به التخاطب، فيلزم أن يكون حقيقة فيهما، مع أنّه في الصورة الثانية مجاز قطعًا، فقيد «اصطلاح التخاطب» لا يجدي نفعًا.

في النقل التعيّنيّ

والثاني: في النقل التعيّنيّ، وهو أن يستعمل اللفظ في غير الموضوع له مجازًا، ثمّ كثر استعماله فيه إلى أن صار حقيقة فيه وهُجر المعنى الأوّل؛ ولا شكّ أنّ هذا اللفظ حقيقة في هذا المعنى بعد الغلبة مع أنّه يصدق عليه أنّه استعمل في غير الموضوع له في اصطلاح التخاطب، ومجاز قبل الغلبة مع أنّه يصدق عليه أنّه استعمل في الموضوع له في اصطلاح التخاطب في الجملة.

في النقل التعيينيّ

والثالث: في النقل التعيينيّ، وهو أن يخصّص اللفظ في أوّل الأمر لغير معناه الموضوع له مع ملاحظة المناسبة بينهما؛ وهذا اللفظ عند المخاطب بعرف الناقل، سواء استعمل في المعنى المنقول منه، ثمّ في المنقول إليه، أو بالعكس، يصدق عليه أنّه استعمل في غير ما وضع له، أو فيه في اصطلاح التخاطب.

ولو فرض الاستعمال فيهما(1) مع تعدّد المستعمل واتّحاد زمان الاستعمال، كان

ص: 59


1- جاء في حاشية الأصل: أي المنقول إليه ومنه.

الانتقاض أظهر؛ لعدم ورود دعوى ظهور المشتقّ في الحال حينئذٍ، كما عند اتّحاد المستعمل وتعدّد زمان الاستعمال، مع أنّ المعرّفين بأجمعهم لم يأتوا بصيغة المشتقّ الّذي يمكن دعوى ظهور الحال فيه، بل بعضهم أتى بصيغة الماضي(1).

ثمّ الفرق بين الصورة الثانية والثالثة مع اشتراكهما في أصل النقل: اعتبار وحدة المعنى في الأولى وتعدّده في الثانية، ولهذا فرّقنا بينهما وإن أمكن إدخالهما في عنوان واحد.

والرابع: فيما إذا كان اللفظ موضوعًا عند طائفة لمعنى وكان عندهم له معنى مجازيّ، فإنّه إذا استعمل في المعنى الحقيقيّ، ثمّ في المجازيّ، أو بالعكس، يصدق عليه حال استعماله في المعنى المجازيّ حدّ الحقيقة وفي المعنى الحقيقيّ حدّ المجاز ولو مع القيد المذكور، ولو فرضت الاستعمال هنا أيضًا مع تعدّد المستعمل واتّحاد زمان الاستعمال، كان الانتقاض أظهر لما مرّ.

وبالجملة: ذلك القيد لا يسلّم الانتقاض ولم يحصل بسببه الامتياز؛ ولهذا ترى أنّ جملة من الأعلام لم يلتفتوا إلى هذا القيد، بل اختاروا الحدّ المذكور للحقيقة والمجاز وأجابوا عن انتقاض كلّ منهما بالآخر باعتبار قيد «الحيثيّة»، بناءً على أنّ الأمور الّتي تختلف بالاعتبار يعتبر في تعاريفها التقييد بالحيثيّة وإن لم يصرّح بها؛ لانسباق الذهن إليها.

فعلى هذا يقال: إنّ لفظ «الفعل» مثلًا لو استعمله المخاطب بعرف اللغة في

ص: 60


1- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: وبناءً على قول هذا البعض يكون الانتقاض أظهر، إذ ظاهره: اللفظ إن استعمل في زمان سابق في الموضوع له فحقيقة، وهو صادق حقيقة على اللفظ حال الاستعمال في المعنى المجازيّ كما لا يخفى، منه (دام ظله) العالي.

الكلمة المخصوصة، لم يصدق عليه حدّ الحقيقة؛ لوضوح أنّه لم يستعمل في الموضوع له من حيث هو كذلك.

وفيه نظر أيضًا؛ لأنّا لا نعرف فرقًا بين القيدين.

قيد «الحيثيّة» لا يدفع الانتقاض

إذ نقول: إن أريد بعدم صدق حدّ الحقيقة المقيّد بالحيثيّة على لفظ «الفعل» في المثال المفروض، عدمُ الصدق بالنظر إلى مجرّد هذا الاستعمال فقط، فهو مسلّم، لكن نقول: الحدّ المقيّد باصطلاح التخاطب أيضًا كذلك، ضرورة أنّه لا يصدق على ذلك اللفظ حينئذٍ بالنسبة إلى ذلك الاستعمال أنّه مستعملٌ في ما وضع له في اصطلاح به التخاطب، وكيف؟! مع أنّه غير الموضوع له بذلك الاصطلاح.

وإن أريد بعدم الصدق عدمه مطلقًا وإن كان مع قطع النظر عن خصوصيّة هذا الاستعمال، فهو ممنوعٌ، وكيف لا؟ مع أنّ المفروض أنّ هذا اللفظ قبل هذا الاستعمال أو معه قد استعمل في الموضوع له من حيث هو موضوع له، فيصدق عليه أنّه استعمل في الموضوع له من حيث هو موضوع له في الجملة، فيلزم أن يكون حقيقة في هذا الاستعمال مع أنّه مجاز، فيرد الانتقاض في جميع ما تقدّم من المواضع المذكورة، فلا فرق بين الحدّ المقيّد باصطلاح التخاطب أو الحيثيّة.

ويمكن أن يقال: إنّ عدم الفرق بين الحدّ المقيّد بالقيدين إنّما يسلّم إذا كان المراد ثاني شقّي الترديد، وأمّا إذا كان المراد أوّلهما، فعدم الفرق في غير استعمال المشترك من المواضع المذكورة مسلّم(1)، وأمّا فيه فلا، بل يندفع النقض به أيضًا مع قيد «الحيثيّة»

ص: 61


1- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: بمعنى أنّه كما يندفع الانتقاض بقيد «اصطلاح به التخاطب»، كذا يندفع بقيد الحيثيّة أيضًا، منه (دام ظله) العالي.

ويبقى مع «اصطلاح التخاطب» كما لا يخفى، فقيد «الحيثيّة» لذلك أولى منه.

لكن يمكن المناقشة بأنّا نرى كلمات المُكتفين بالحيثيّة مختلفة، فبعضهم قال: اللفظ إن استعمل فيما وضع له فحقيقة، وإلّا فمجاز؛ وبعضهم قال: المجاز اللفظ المستعمل في غير الموضوع له(1).

وبعد ملاحظة الحيثيّة يكون التقرير في الأوّل: وإن لم يستعمل اللفظ فيما وضع له من حيث إنّه الموضوع له فمجاز؛ وفي الثاني: المجاز اللفظ المستعمل في غير الموضوع له من حيث إنّه غير الموضوع له.

والأخير غير صادق بالنسبة إلى استعمال المشترك في الفرض المذكور؛ لعدم استعماله في غير الموضوع له، كما لا يصدق عليه حدّ الحقيقة لما مرّ، فيلزم أن لا يكون حقيقة ولا مجازًا، وفساده ظاهر.

أمّا الأوّل: فهو وإن كان صادقًا عليه؛ لوضوح أنّه يصدق على المشترك حينئذٍ أنّه لم يستعمل في الموضوع له من حيث هو موضوع له، لكن ينتقض طرد الحدّ حينئذٍ بالألفاظ المهملة والمستعملة في غير معانيها غلطًا، كقولك: «خذ هذا الكتاب»، مشيرًا إلى فرس، وكذا الألفاظ الموضوعة الغير المستعملة لا في معانيها الحقيقيّة ولا في غيرها؛ لصدقه على الجميع مع عدم كونه من أفراد المحدود.

وبالجملة: حدّ المجاز بناءً على الأوّل وإن كان منعكسًا، لكنّه ليس بمطّرد لما عرفت، وأمّا على الثاني فليس بمطّرد ولا منعكس.

ص: 62


1- ينظر قوانين الأصول: 1/54، ومفاتيح الأصول: 29، وتهذيب الوصول: 75، وأنيس المجتهدين: 1/ 51، والمطوّل: 565، والمحصول، للفخر الرازي: 1/295.

أمّا الأوّل فلدخول الألفاظ المستعملة في غير معانيها غلطًا تحت الحدّ حينئذٍ، إذ يصدق عليها أنّها استعملت في غير الموضوع له من حيث إنّه كذلك، فتأمّل.

وأمّا الثاني: فلما عرفت من عدم صدق الحدّ حينئذٍ على المشترك في الفرض المتقدّم، بل نقول: إنّه على هذا لم يصدق على شيء من المجازات الصحيحة؛ لوضوح أنّها لم تستعمل في غير الموضوع له من حيث إنّه غير الموضوع له، بل استعملت في غير الموضوع له من حيث وجدان العلاقة بينه وبين الموضوع له.

مع أنّا نقول: إنّ الحيثيّة المذكورة في حدّ المجاز إمّا تعليليّة كما هي في حدّ الحقيقة كذلك، أو تقييديّة؛ وكلاهما غير ممكن.

أمّا الأوّل: فلما عرفت من أنّ المصحّح للاستعمال المجازيّ ليس عدم الوضع، بل تحقّق العلاقة بين المعنى المجازي وبين الموضوع له.

وأمّا الثاني: فلما عرفت أيضًا من الانتقاض، إلّا أن يقال(1): إنّ المراد غير الموضوع له الّذي يكون بينه وبين الموضوع له علاقة.

والحاصل: أنّ قيد «الحيثيّة» وإن أسلم حدّ الحقيقة عن الانتقاض، لكن لم يسلم حدّ المجاز، وأمّا «اصطلاح التخاطب» فمجرّده في حدّ المجاز غير كافٍ أيضًا، بل لا بدّ أن يقال: إنّه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح به التخاطب، لعلاقة بينه وبين الموضوع له، أو نحو ذلك ممّا يؤدّي مؤدّاه، وإلّا لانتقض بالألفاظ المستعملة في غير معانيها غلطًا.

ص: 63


1- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: هذا بناءً على اختيار الشقّ الأوّل من الترديد المذكور، وأمّا بناءً على الشقّ الثاني فالانتقاض بالنسبة إلى حدّ الحقيقة أيضًا متحقّق، منه (دام ظله) العالي.

حدّ آخر للحقيقة والمجاز

وقال جمع من الأعلام: إنّ الحقيقةَ اللفظُ المستعمل في وضع أوّل، والمجاز في غيره لعلاقة، أي اللفظ المستعمل في غير وضع أوّل لعلاقة(1).

ولا يخفى أنّ هؤلاء الجماعة إمّا أن يجعلوا لفظ «الوضع» هنا بمعنى الموضوع وكلمة «في» صلة للاستعمال، فيكون الحاصل: أنّ الحقيقة اللفظ المستعمل في الموضوع له الأوّلي، فيرد عليهم جميع ما تقدّم.

مضافًا إلى أنّ قيد «أوّل» هنا لا ثمرة له، بل هو مخلّ على ما سيأتي، فيحتاج لتصحيح الحدّ إمّا إلى قيد «الحيثيّة» أو «اصطلاح التخاطب»، وقد عرفت حالهما؛ أو يبقونه على ظاهره ويجعلون كلمة «في» للسببيّة كما صرّح به الشارح العضديّ(2)، فيكون الحاصل على هذا: أنّ الحقيقة لفظ مستعمل بسبب وضع أوّل، وهو مع عدم مأنوسيّته منظور فيه من وجوه:

أمّا أوّلًا: فلأنّ طرده منقوض بالمجاز، إذ هو أيضًا مسبّب للوضع؛ لوضوح أنّه لو لم يتحقّق الوضع لم يتحقّق المجاز، وهو ظاهر.

وربّما دُفع ذلك بإرادة السبب القريب من السببيّة، وهو غير متحقّق إلّا في الحقيقة؛ إذ الوضع وإن كان سببًا لاستعمال اللفظ في المعنى المجازيّ، إلّا أنّه سبب بعيد، والسبب القريب فيه وجودُ العلاقة.

ص: 64


1- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 505، وزبدة الأصول: 75، ومفاتيح الأصول: 30.
2- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 505. وهو عبد الرحمن بن ركن الدين أحمد بن عبد الغفّار البكريّ القاضي عضد الدين الإيجي الحنفيّ، له الكثير من التصانيف، ت سنة 756ﻫ. ينظر: هديّة العارفين: 1/527.

والتحقيق أن يقال: إنّ الوضع في الحقيقة بانفراده ليس سببًا قريبًا تامًّا، وكذا وجود العلاقة في المجاز، بل لا بدّ من انضمام الإرادة القريبة من المستعمل إليهما، فالسبب القريب التامّ في الأوّل الوضعُ وإرادة المستعمل، وفي الثاني وجودُ العلاقة مع إرادته.

وأمّا ثانيًا: فلانتقاض عكسه بالمشترك عند استعماله في الموضوع له الثانوي فصاعدًا(1)، إذ لم يصدق عليه حينئذٍ أنّه استعمل بسبب وضع أوّل، بل بسبب الثاني مثلًا.

ويمكن دفع ذلك أيضًا بأنّه يمكن أن يكون مرادهم بالوضع الأوّل ما لم يلاحظ فيه الوضع الآخر، سواء تحقّق للّفظ وضع آخر كما في المشترك، أو لا كما في الألفاظ الّتي لم يتحقّق لها إلّا وضع واحد؛ فعلى هذا يصدق على كلّ معنى من معاني المشترك أنّه وضع أوّل.

لكن هذا التوجيه وإن أسلم عكس الحدّ بالنسبة إلى الألفاظ المشتركة، لكنّه يفسد عكسه بالنسبة إلى الألفاظ المنقولة، تخصيصيًّا كان النقل أو تخصّصيًّا؛ لوضوح أنّ ملاحظة الوضع الأوّل فيه معتبرة عند علماء الأصول.

ص: 65


1- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: ولا يخفى أنّ هذا الانتقاض إنّما هو إذا كان وضع المشترك من واضع؛ وتوضيح ذلك: أنّ تحقّق المشترك يمكن أن يكون من وجهين، الأوّل: أن يضع واضع لفظًا لمعنى وآخر يضعه لمعنى آخر، وهذا اللفظ وإن لم يكن عند كلّ واحد من الواضعين مشتركًا، لكنّه عند غيرهما مشترك فيما إذا وصل الوضعان إليه. والثاني: أن يضع واضع واحد لفظًا لأكثر من معنى وهذا اللفظ مشترك مطلقًا، سواء كان عند الواضع أو غيره ممّن يطّلع على الوضع، ولا يرد النقض بالنسبة إلى الأوّل؛ لصدق أنّ كلّ وضع هناك أوّل، بل يرد بالنسبة إلى الثاني، فيجاب بما يأتي، مع ما فيه، منه (دام ظله) العالي.

ويمكن التخلّص عن ذلك بتكلّف، وهو أنّ المراد بالوضع الآخر المنفي ملاحظته في حدّ الحقيقة هو الوضع الّذي يكون باقيًا على حاله، وليس الأمر في المنقولات كذلك؛ لأنّها قد هجرت عن المعاني الأوّليّة وصارت مجازات فيها وحقائق في غيرها، فعلى هذا يكون المراد بالوضع الأوّل الوضع الذي لم يلاحظ فيه الوضع الآخر الّذي يكون باقيًا على حاله.

لكن يبقى الكلام في أنّه لا شكّ أنّه يجوز للواضع بعد وضعه اللفظ لمعنى أن يلاحظه، فيضعه لمعنى آخر مناسب للمعنى الأوّل مع بقاء المعنيين على حالهما، فيكون اللفظ مشتركًا بينهما، إذ لم يعتبر في المشترك لزوم عدم الملاحظة.

وأمّا ثالثًا: فلما ذكرنا سابقًا من الانتقاض بالمشترك عند استعماله في أحد معانيه، لا لكونه موضوعًا له على ما مرّ، وبالنقل مطلقًا وغيره؛ لأنّه يصدق على كلّ منها أنّه لفظ استعمل بسبب وضع أوّل في الجملة، فيحتاج إلى أحد القيدين المذكورين وقد عرفت حالهما.

وأمّا رابعًا: فلأنّ كلمة «في» في الحدّ على ما تقدّم سببيّة، فيكون معنى الحدّ في المجاز على هذا: لفظ استعمل بسبب غير وضع أوّل لعلاقة، وسخافته ظاهرة؛ لما عرفت من أنّ المراد بالسبب هو العلاقة، وحاصله حينئذٍ أنّه لفظ استعمل بسبب العلاقة للعلاقة.

ويمكن دفع ذلك بتكلّف، وهو أن يقال: إنّ قولهم: «المجاز لفظ استعمل في غيره لعلاقة» أنّ كلمة «في» فيه صلة للاستعمال، لا للسببيّة، وإن كان في حدّ الحقيقة لها، وأنّ الضمير في «غيره» وإن كان عائدًا إلى الوضع الّذي في قولهم: «الحقيقة لفظ استعمل في وضع أوّل»، لكنّ المراد به هنا الموضوع له من باب

ص: 66

الاستخدام، فيكون المعنى على هذا: المجاز لفظ استعمل في غير الموضوع له لعلاقة بينه وبين الموضوع له؛ وهو وإن كان صحيحًا في نفسه، لكن عكسه منقوض باستعمال المشترك في الفرض المتقدّم.

ويمكن أن يدفع ذلك بجعل كلمة «في» للظرفيّة وإبقاء الوضع الّذي هو المرجع لضمير في «غيره» على معناه، إذ المعنى على هذا: أنّ المجاز اللفظ المستعمل في غير وضع أوّل بعلاقة؛ وصدقه على المشترك في الاستعمال المفروض وغيره من المجازات الصحيحة ظاهر.

ويمكن اختيار الحدّ المذكور سابقًا، لكن مع اعتبار قيد «الحيثيّة»(1)وذكر «العلاقة» في حدّ المجاز، فالحقيقة: اللفظ المستعمل في الموضوع له من حيث إنّه موضوع له؛ والمجاز: اللفظ المستعمل في غير الموضوع له من حيث هو كذلك لعلاقة بينهما، لكن بعد إرادة الاستعمال الحالي من الاستعمال واعتبار صدق كلّ من الحدّين بالنسبة إلى معنى واحد.

وحينئذٍ لا يرد شيء ممّا تقدّم، أمّا عدم ورود الانتقاض بالنقل مطلقًا؛ فلأنّ الناقل إذا استعمل اللفظ في المعنى المنقول منه، ثمّ في المنقول إليه، أو بالعكس، ففي حال استعماله في المنقول إليه لم يصدق عليه إلّا حدّ الحقيقة؛ لأنّه في هذا الاستعمال لم يستعمل إلّا في الموضوع له وإن استعمل قبله أو بعده في غيره.

وكذا في حال استعماله في المنقول منه لم يصدق عليه إلّا حدّ المجاز؛ لأنّه لم يستعمل في هذا الاستعمال إلّا في غير الموضوع له وإن استعمل قبله أو بعده في

ص: 67


1- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: لكنّ «الحيثيّة» في المجاز تقييديّة وإن جاز أن تكون في الحقيقة تعليليّة أيضًا، منه (دام ظله) العالي.

الموضوع له، فإرادة الاستعمال الحالي من الاستعمال في الحدّين يسلم انتقاض كلّ منهما بالآخر فيما ذكر.

إن قيل: عدم الانتقاض مطلقًا ممنوعٌ ولو مع إرادة الاستعمال الحالي من الاستعمال؛ لأنّ اللفظ حين استعماله في المنقول إليه كما يصدق عليه أنّه مستعمل في الموضوع له، يصدق عليه أنّه استعمل في غير الموضوع له أيضًا في تلك الحالة؛ إذ هو غير الموضوع له لغة.

وبالجملة، هو موضوع له في اصطلاح به وقعت المخاطبة وغيره في غيره، والمفروض أنّ قيد «اصطلاح التخاطب»(1) غير ملحوظ.

قلت: حدّ المجاز على ما ذكرنا هو اللفظ المستعمل في غير الموضوع له من حيث إنّه غير الموضوع له، واللفظ المفروض في ذلك الاستعمال وإن كان يصدق عليه أنّه استعمل في غير الموضوع له، لكن لا من حيث إنّه غير الموضوع له، بل استعمل فيه من حيث إنّه موضوع له، فلا انتقاض.

ثمّ إنّ هذا كلّه فيما إذا كان زمان الاستعمال في المنقول إليه مغايرًا لزمان الاستعمال في المنقول منه، وأمّا إذا فرض اتّحاد زمان الاستعمالين بأن يكون الاستعمالان من شخصين في آن واحد، فحينئذٍ وإن كان حدّ كلّ واحد منهما صادقًا على الآخر، إلّا أنّه لمّا اعتبرنا صدق كلّ من الحدّين بالنسبة إلى معنى واحد، يدفع الانتقاض أيضًا(2).

ص: 68


1- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: ولا يخفى أنّ قيد «اصطلاح التخاطب» وإن كان مشتركًا مع الحيثيّة فيدفع النقض في غير المشترك، إلّا أنّه لمّا لم يندفع به النقض به أيضًا، فلذا تركه واختار الحيثيّة، منه (دام ظله) العالي.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: لأنّه بالنسبة إلى استعماله في المعنى المنقول إليه حينئذٍ حقيقة يصدق عليه حدّها ولا يصدق عليه حدّ المجاز بالنسبة إلى ذلك المعنى في تلك الحالة وإن يصدق عليه حدّه بالنسبة إلى المنقول منه فيها، وكذا الكلام بالنسبة إلى استعماله في المنقول منه؛ فإنّه لا يصدق بالنسبة إلى ذلك المعنى حدّ الحقيقة وإن يصدق عليه حدّها في تلك الحالة بالنسبة إلى المعنى المنقول إليه، منه (دام ظله) العالي.

وأمّا عدم ورود الانتقاض باللفظ الّذي له مجاز، فلمثل ما ذكرنا، سواء اتّحد المستعمل واختلف زمان الاستعمال، أو العكس.

وأمّا النقض بالاشتراك، فدفعه بالنسبة إلى حدّ الحقيقة ظاهر؛ لأنّه عند استعماله في أحد معانيه، لا لكونه موضوعًا له - بل لأجل العلاقة - لا يصدق عليه أنّه استعمل في الموضوع له من حيث إنّه الموضوع له، بل استعمل في الموضوع له من حيث العلاقة.

وأمّا بالنسبة إلى حدّ المجاز فمشكل؛ لأنّ حدّه على ما ذكر: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له من حيث هو كذلك لعلاقة، وهو غير صادق بالنسبة إليه حينئذٍ؛ لاستعماله في الموضوع له لأجل العلاقة(1).

فلو قيل: المجاز اللفظ المستعمل للعلاقة(2)، يسلم من هذا أيضًا؛ لأنّ المفروض أنّه استعمل في الموضوع له لأجل العلاقة بينه وبين المعنى الآخر.

ص: 69


1- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: إلّا أن يدّعى أنّ معنى المشترك حين ملاحظة العلاقة بينه وبين معنى آخر يصدق عليه أنّه غير الموضوع له، لكنّه مشكل، منه (دام ظله) العالي.
2- جاء في حاشية الأصل: لكن بعد مراعاة ما تقدّم من إرادة الاستعمال الحالي من الاستعمال واعتبار صدق الحدّ بالنسبة إلى معنى واحد. منه.

أخذ «اللفظ» في حدّ الحقيقة والمجاز أولى من أخذ «الكلمة»

إرشاد رشاد

اعلم: أنّ اختيار «اللفظ» المتناول للمفرد والمرّكب في حدّي الحقيقة والمجاز كما أطبقت عليه ألسنة أئمّة الأصول(1)، دون «الكلمة» الظاهرة في المفرد على ما ذهب إليه أكثر علماء البيان(2)؛ لئلّا يتوهّم اختصاص الانقسام إليهما بالمفردات؛ لأنّه كما تتّصف المفردات بهما تتّصف المركّبات أيضًا؛ إذ المصحّح للاتّصاف بهما الوضع، وهو كما يتحقّق في المفردات يتحقّق في المركّبات أيضًا على ما سيأتي.

في بيان تحقّق الوضع في المركّبات

فما توهّمه بعض الأعلام من اختصاص الانقسام إليهما بالمفردات، فيرجّح بذلك «الكلمة» على «اللفظ» في الاختيار(3)؛ ففساده لا يحتاج إلى البيان؛ لأنّ منشأ هذا التوهّم إمّا تخصيص الوضع المعتبر في الحدّين وجودًا وعدمًا بالشخصيّ، أو توهّم انتفاء مطلق الوضع في المركّبات ولو كان نوعيًّا.

وكلاهما فاسد، أمّا الأوّل: فلاستلزامه عدم اتّصاف كثير من الألفاظ المفردة كالأفعال والصفات والمثنّى والمجموع والمصغّر والمنسوب بالحقيقة؛ لأنّ الوضع

ص: 70


1- ينظر الذريعة إلى أصول الشريعة: 1/ 10، ونهاية الوصول: 1/ 240، وغاية الوصول: 1/ 151، والمعتمد: 1/ 11، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 112، ومنية اللبيب: 1/ 198.
2- ينظر الإيضاح: 272، والمطوّل: 348، ومختصر المعاني: 215، وحاشية الدسوقيّ على المختصر: 2/ 321.
3- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 2، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 552، والمطوّل: 349.

المتحقّق فيها نوعيّ، فلا وجه لتخصيص الإخراج بالمركّبات.

وأمّا الثاني: فلوجوه:

أمّا أوّلًا: فلأنّ أئمّة الأصول والبيان اتّفقوا في بحث المجاز على تقسيمه إلى المجاز في المفرد والمجاز في المركّب(1)، كما لا يخفى على من له أدنى اطّلاع على كتبهم، فلو لم يثبت الوضع في المركّبات أصلًا، لما كان لهذا التقسيم وجه؛ لأنّ المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له.

وأمّا ثانيًا: فلأنّه لو انتفى الوضع في المركّبات مطلقًا، لزم تحقّق الواسطة في الألفاظ المستعملة بالاستعمال الصحيح بين المجاز والحقيقة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الشرطيّة؛ فلأنّ الألفاظ المركّبة المستعملة في المعاني المستفادة منها عند انتفاء الوضع فيها لا يكون حقيقة ولا مجازًا؛ أمّا الأوّل فظاهر، وأمّا الثاني فلأنّ المجاز فرع الوضع؛ إذ هو اللفظ المستعمل في غير الموضوع له لعلاقة بينه وبين الموضوع له، والمفروض انتفائه.

وأمّا بطلان التالي؛ فلاتّفاقهم على أنّ الاستعمال الصحيح منحصرٌ فيهما.

وأمّا ثالثًا: فلأنّ الوضع في المركّبات لو كان منتفيًا أصلًا، لزم عدم استفادة المعاني منها، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

ص: 71


1- ينظر المحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 321، ونهاية الوصول: 1/ 272، وتهذيب الوصول: 70، ومنية اللبيب: 1/ 224، ومختصر المعاني: 218، وحاشية الدسوقيّ على المختصر: 2/ 334.

أمّا الملازمة؛ فلاتّفاقهم على أنّ الدلالة اللفظيّة الوضعيّة منحصرةٌ في الحقائق والمجازات، وعلى تقدير عدم اتّصاف المركّبات بشيء منهما يلزم انتفاء الاستفادة.

وأمّا بطلان التالي، فمعلوم بالوجدان ومشاهد بالعيان.

وأمّا رابعًا: فلأنّ المستفاد من المركّبات معنى واحد عند اتّحاد الهيئة ولو مع اختلاف المادّة، ومعانٍ مختلفة عند اختلاف الهيئة ولو مع وحدة المادّة.

أمّا الأوّل: فلأنّ المستفاد من الهيئة الإسناديّة في التركيب الإسناديّ في: زيدٌ قائمٌ، هو المستفاد في: عمرو شاعر، وخالد كاتب، وبكر فاضل، ونحوها، وكذا المستفاد من الهيئة الإضافيّة في الإضافيّ في نحو: غلامُ زيدٍ، هو المستفاد في: مالُ بكرٍ، وبيتُ خالدٍ، وابن وليد، ونحوها، وكذا الكلام في التوصيفيّ في: زيد الغلام، وعمرو الشاعر، وخالد الكاتب، وهكذا.

وأمّا الثاني: فلأنّ المستفاد من: «زيد غلام»، غير ما هو المستفاد من: «زيد الغلام»، والمستفاد منهما خلاف ما هو المستفاد من: «غلام زيد»، والمادّة في الجميع واحدة، والمعاني المستفادة منها مختلفة باختلاف الهيئة، ووحدة المعنى عند اتّحاد الهيئة ولو مع اختلاف المادّة واختلافه عند اختلافها ولو مع اتّحاد المادّة أمارةٌ ظاهرة وقرينةٌ لائحة على أنّه ليس إلّا لأجل تعيين الواضع كلًّا من تلك الهيئات بإزاء معنى خاصّ، وليس القصد من وضع المركّبات إلّا ذلك، وسيجيء لك مزيد توضيح في ذلك.

ص: 72

في أنّ «الوضع» المأخوذ في حدّي الحقيقة والمجاز هل هو شخصيّ أو نوعيّ أو أعمّ منهما؟

تعقيد وتفكيك

اعلم: أنّ «الوضع» المأخوذ في حدّ الحقيقة والمجاز إمّا شخصيّ فقط، أو نوعيّ كذلك، أو أعمّ؛ والجميع فاسد.

أمّا الأوّل: فلاستلزامه انتقاض عكس الحدّ في الحقيقة بخروج الأفعال والصفات والمركّبات وما ضاهاها ممّا يكون الوضع فيه نوعيًّا، وطرد الحدّ في المجاز بدخول ما ذكر فيه كما لا يخفى.

وأمّا الثاني: فلاستلزامه انتقاض عكس الحدّ في الحقيقة بخروج نحو: إنسان وزيد ونحوهما ممّا يكون الوضع فيه شخصيًّا، وطرده بدخول المجازات كلّها، لقولهم: إنّ المجازات موضوعة بالوضع النوعيّ(1)، وطرد حدّ المجاز بدخول ما كان الوضع فيه شخصيًّا عند استعمالها في معانيها الأصليّة، وعكسه بخروج المجازات، بل لا يبقى لحدّ المجاز مصداق؛ لما مرّ من أنّ المجازات موضوعة بالوضع النوعيّ، فلا يصدق أنّها مستعملة في غير ما وضعت له.

وأمّا الثالث: فلاستلزامه انتقاض طرد الحدّ في الحقيقة بدخول المجازات كلّها، وعكس الحدّ في المجاز بخروج المجازات، بل لا يبقى للحدّ مصداق وللمحدود أفراد.

والجواب عنه: هو أنّ لكلّ من الوضع والوضع النوعيّ عندهم إطلاقين، تحقيق

ص: 73


1- ينظر إشارات الأصول: 1/ 72، وبدائع الأفكار: 1/ 50.

المقام وتوضيح المرام يقتضي البسط في الكلام، فأقول: إنّ الوضع بالنسبة إلى الموضوع ينقسم إلى الوضع الشخصىّ والنوعيّ.

بيان ذلك: هو أنّه لا شبهة في امتناع تحقّق الوضع من غير أن يتصوّر الموضوع، فالموضوع المتصوّر حين الوضع إمّا ملحوظ بحسب الهيئة والمادّة، كالإنسان وزيد والفرس والحيوان وأمثالها، فإنّ الواضع لاحظها بالاعتبارين المذكورين، ثمّ عيّنها لمعانيها المعلومة، أو ملحوظ بحسب الهيئة دون المادّة، كالأفعال والصفات والمثنّى والمجموع وما ضاهاها، فإنّ الملحوظ فيها هيئاتها دون الموادّ على ما سيأتي.

والأوّل: يسمّى الوضع فيه شخصيًّا؛ لتشخّص الموضوع الحاصل بهيئة(1) مخصوصة في ضمن مادّة معيّنة.

والثاني: يسمّى نوعيًّا؛ إذ المعتبر فيه نوع الهيئة لا شخصها المتشخّص في ضمن مادّة مخصوصة(2).

ص: 74


1- في «ق»: لهيئة.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: والحاصل أن ليس المراد بالوضع الشخصيّ ما يكون الموضوع فيه جزئيًّا حقيقيًّا لا يتكثّر بتكثّر الاستعمالات، ضرورة أنّ الإنسان وزيد ونحوهما من الأسماء الّتي يكون الوضع فيها شخصيًّا يتعدّد بتعدّد المستعملين ويتكرّر بتكرّر الاستعمالات، فلكلّ منها أفراد متكثّرة كهيئة المشتقّ، بل المراد بالوضع الشخصيّ ما تكون المادّة والهيئة فيه ملحوظتين مع بقاء الترتيب بين الحروف حال الوضع، وبالجملة: ما لا يختلف اختلافًا راجعًا إلى أصل اللفظ وجوهر الكلمة وإن تكثّرت أفراده المتمايزة باعتبار الأمور الخارجة عن اللفظ، كاختلاف المستعمل أو الزمان، والمراد بالوضع النوعيّ ما يقابل هذا المعنى، أي يكون التمايز بين أفراده راجعًا إلى أصل اللفظ وجوهر الكلمة أيضًا، منه (دام ظله) العالي.

وبالجملة: اللفظ الّذي عيّنه الواضع للإفادة إمّا أن يكون(1) جهة التعيين فيه مستندة إلى كلّ من الهيئة والمادّة، أو إلى الأوّل دون الثاني، أو بالعكس، أو لا إلى شيء منهما، فههنا أربعة احتمالات.

واللازم في الأوّل: مراعاة الأمرين، إذ الإخلال بأيّ منهما كان موجبًا للإخلال بالإفادة؛ لاستنادها بتعيين الواضع إلى مجموعهما، فالمعتبر فيه شخص ذلك اللفظ، لكن بحيث يبقى(2) الهيئة والمادّة مع ترتيب الحروف الّذي حالَ الوضع(3)، فتعدّد المستعملين والاستعمال مع بقاء الترتيب غير مضرّ، وبقاء الهيئة والمادّة مع الإخلال به مخلّ؛ ولذا يقال: الوضع فيه شخصيّ.

وفي الثاني: مراعاة الهيئة فقط؛ إذ الإفادة دائرة مدارها، فلا دخل لشيء من الموادّ في إفادته، فالإخلال بموادّ مخصوصة غير مضرّ، إلّا أنّ أصل المادّة ممّا لا بدّ منه، لا لاستناد الإفادة إليه، بل لتحقّق الهيئة؛ ضرورة افتقار العرض إلى محلّ يقوم به، فالمعتبر في الإفادة حينئذٍ نوع تلك الهيئة ولذا يقال: الوضع فيه نوعيّ.

وكذا الأمر في الثالث، لكن بالنسبة إلى المادّة، فالإخلال بالهيئة فيه غير مخلّ للإفادة؛ لاستنادها إلى المادّة، فيجب تحقّقها مع أيّ هيئة صاحبتها المادّة، فيكون الوضع فيه أيضًا نوعيًّا لما تقدّم، ويمكن التمثيل لهذا القسم بالمصادر، فإنّ دلالتها على الأحداث ثابتة، سواء وجدت مع هيئة الفعل أو الوصف، أو لا، فتأمّل(4).

ص: 75


1- كذا في الأصل، والصواب: أن تكون.
2- كذا في الأصل، والصواب: تبقى.
3- أي الّذي هو ثابتٌ حال الوضع.
4- جاء في حاشية الأصل: الأمر بالتأمّل هنا إشارة إلى أنّه ليس المراد من كون المادّة فيه ملحوظة دون الهيئة أنّ الهيئة فيه غير ملحوظة أصلًا؛ لوضوح أنّ الإخلال بترتيب الحروف فيه مخلّ للإفادة، فالهيئة فيه مرعيّة ولو في الجملة، لا مطلقًا. منه.

وأمّا القسم الرابع: فيترآى في بادي النظر أنّه غير متصوّر؛ لامتناع تعيين اللفظ للإفادة، ولا تكون جهة التعيين فيه مستندة إلى شيء منهما من المادّة والهيئة، لكنّ الأمر ليس كذلك، بل المجازات كلّها من هذا القبيل، فإنّها قد عُيّنت للدلالة على المعاني المجازيّة مع عدم استناد الإفادة إلى شيء من مادّة اللفظ وهيئته؛ لكون المعتبر فيها نوع العلاقة في [ضمن] معنى أيّ لفظ تحقّق، من غير اعتبار هيئة دون أخرى ومادّة دون غيرها، ولا خصوص لفظ دون غيره، فتأمّل، وسيجيء لك زيادة توضيح في هذا المطلب.

كشفُ إجمال لتوضيح مقال

اعلم: أنّ كيفيّه صدور النوعين المذكورين للوضع من الواضع إمّا في الشخصيّ، فهي أنّ الواضع يتصوّر لفظًا متشخّصًا بمادّة وهيئة مخصوصة، ثمّ يعيّنه لمعنى مخصوص ليستعمله المُسْتَعْمِل فيه حتّى ينتقل إليه كلّ من له اطّلاع على وضعه، فالمعتبر في وضعه حينئذٍ تلك المادّة والهيئة مع الترتيب، دون شيء آخر من صدوره في زمان دون آخر ومن مستعمل دون غيره، فكلّ مخاطب باصطلاحه إذا استعمله في ذلك المعنى في أيّ زمان كان يصدق عليه أنّه ذلك اللفظ الموضوع.

فحينئذٍ لا يتوهّم أنّ اللفظ المذكور لو استعمله غير الواضع مثلًا ينبغي أن لا يكون حقيقة، إذ من جملة مشخّصاته صدوره من الواضع مثلًا في زمان مخصوص؛ ومعلوم أنّ المتشخّص ينتفي بزوال تشخّصه، فحينئذٍ لا يصدق عليه أنّه ذلك

ص: 76

اللفظ الموضوع، وعلى تقدير اعتبار المادّة والهيئة في الوضع دون غيرهما، لا يكون الوضع فيه شخصيًّا؛ لتحقّقها في ضمن أفراد متكثّرة.

أمّا اندفاع التوهّم الأوّل فظاهر، وأمّا الثاني فلأنّ المراد بتشخّص الموضوع في المقام بالنسبة إلى خصوصيّته مادّة وهيئة بمقابلة ما سيأتي، فلا يضرّ تعدّد الأفراد.

وإمّا في الوضع النوعيّ، فهي أن يلاحظ الواضع حال الوضع نوع الهيئة، كهيئة المشتقّ مثلًا.

تحقيق في الوضع النوعيّ

اشارة

تنقيحه يحتاج إلى بسط الكلام في مقامين:

المقام الأوّل

الأوّل: أنّ النوع أمر مبهم، والشيء ما لم يتشخّص لم يوجد، لا في الخارج ولا في الذهن، وكيف يتصوّر تعقّل النوع؟

وجوابه: أنّ تعقّله يكون بأحد الوجهين، إمّا بأن يتعقّل الهيئة المتحصّلة من الحروف الّتي يكون أوّلها مفتوحًا وثانيها ألفًا وثالثها مكسورًا ورابعها منوّنًا؛ أو بأن يتعقّله في ضمن مادّة مخصوصة بأن يتعقّل الهيئة الّتي على زنة «فاعل» مثلًا.

المقام الثاني

والمقام الثاني: في أنّ الموضوع في الوضع النوعيّ، هل يكون النوع المتعقّل نفسه بأن يقول الواضع: إنّي قد عيّنت الهيئة المتحصّلة من الحروف على النهج المذكور مثلًا للدلالة على ذات ما ثبت له المبدء المقترن بها، أو يكون الموضوع أفراد النوع المتعقّل بأن يقول: إنّي وضعت كلّ فرد من أفراد تلك الهيئة للدلالة، إلخ؟

ص: 77

والفرق بين الاعتبارين: هو أنّ الموضوع في الأوّل نفس النوع، وفي الثاني أمر مغاير له، بل النوع حينئذٍ عنوان للموضوع وآلة لملاحظته؛ لكون الموضوع أفرادًا له.

والافتقار إلى تعقّل النوع أمّا في الصورة الأولى فظاهر(1)، وأمّا في الصورة الثانية فلأنّ الجزئيّات لعدم انضباطها وانحصارها لا يمكن تعقّلها مفصّلًا، فيلزم تعقّلها مجملًا في ضمن النوع؛ لامتناع تحقّق الوضع من دون تعقّل الموضوع، لا مفصّلًا ولا مجملًا؛ وكون الوضع نوعيًّا في هذا القسم بناءً على الأوّل ظاهر، وأمّا على الثاني فلكون الموضوع متصوّرًا بنوعه لا بشخصه.

لا يقال: في القسم الأوّل أيضًا كذلك، ضرورة أنّ لفظ «الإنسان» يتكرّر بتكرّر الاستعمال، فتكون تلك الألفاظ المتكرّرة أفرادًا، فالوضع إمّا أن يتعلّق بالنوع، أو بالأفراد، وأيًّا ما كان يكون الوضع فيه كالثاني.

لأنّا نقول: قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ التشخّص في هذا القسم باعتبار تشخّص المادّة والهيئة جميعًا، وليس الأمر في القسم الثاني كذلك قطعًا.

هذا، والتحقيق أن يكون متعلّق الوضع في النوعيّ أفراد النوع المتعقّل، لا النوع نفسه؛ إذ لو كان متعلّقه النوع لا الأفراد لزم أن لا تكون جزئيّات الهيئات المستعملة كالضارب والقاتل والآكل وأمثالها بخصوصيّاتها حقيقة مطلقًا، ولو عند استعمالها في المعاني المعلومة.

أمّا على القول بعدم وجود الكليّ الطبيعيّ في الخارج فظاهر؛ إذ الموضوع وهو النوع ليس بموجود في الخارج حينئذٍ، والموجود في الخارج -[و] هو الأفراد- غير الموضوع، والموضوع -وهو النوع- غير موجود، فيلزم عدم اتّصاف شيء من

ص: 78


1- جاء في حاشية الأصل: لما عرفت من امتناع تحقّق الوضع من دون تعقّل الموضوع. منه.

الألفاظ الّتي يكون الوضع فيها نوعيًّا بالحقيقة.

وأمّا على القول بوجوده فيه، فإنّه وإن كان النوع في الخارج موجودًا، إلّا أنّه في ضمن الأشخاص، فمع ملاحظة خصوصيّات الجزئيّات يكون المجموع غير الموضوع، فيلزم عدم اتّصاف تلك الجزئيّات بوصف الحقيقة؛ إذ الحقيقة: اللفظ الموضوع المستعمل في الموضوع له، وجزئيّات النوع وأفراده على هذا التقدير ليست بموضوعة.

وهو خلاف الإنصاف، بل خلاف الوفاق، بل يلزم عدم اتّصافها بوصف المجازيّة أيضًا؛ إذ المجاز: اللفظ الموضوع المستعمل في غير ما وضع له، وفيما نحن فيه قد استعمل الغير الموضوع فيما وضع له، فيلزم الواسطة في الألفاظ المستعملة بالاستعمال الصحيح بين الحقيقة والمجاز، وهو بيّن الفساد؛ لإطباقهم على انحصار اللفظ المستعمل بالاستعمال الصحيح فيهما.

إذا تحقّق ذلك نقول: إنّ الوضع المتحقّق في الأفعال والصفات والمثنّى والمجموع والمصغّر والمنسوب كلّها من هذا القبيل، وكذا المركّبات على ما عرفت.

معنى آخر للوضع النوعيّ

وللوضع النوعيّ معنى آخر، وهو مختصّ بالمجازات، وهو ثبوت الرخصة من الواضع بأنّ كلّ لفظ يكون بين معناه ومعنى آخر إحدى العلائق الآتية، يجوز استعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى مع إقامة القرينة الدالّة على ذلك وإطلاق الوضع النوعيّ على ذلك.

أمّا الوضع؛ فلأنّه لمّا ثبتت الرخصة من الواضع في استعمالها في تلك المعاني بشرط القرينة، فكأنّه قد عيّنها للدلالة عليها واستعمالها فيها بشرطها، وأمّا

ص: 79

النوعيّ؛ فلأنّ المعتبر فيه نوع العلاقة والمناسبة، فأينما تحقّق جاز الاستعمال من دون مدخليّة فيه لخصوص لفظ دون آخر.

الفرق بين هذين القسمين للوضع النوعيّ

والفرق بين هذين القسمين للوضع النوعيّ من وجهين:

الأوّل: أنّ الوضع النوعي الّذي في المجازات غير كافٍ في دلالة اللفظ على المعنى، بل لا بدّ من الاقتران بالقرينة كما عرفت، بخلاف الّذي تقدّم، فإنّه كافٍ في الدلالة من غير افتقار إلى قرينته(1).

والثاني: هو أنّ المعتبر في الوضع النوعيّ بالمعنى المتقدّم إمّا هيئة اللفظ أو مادّته النوعيّتان، بخلاف هذا القسم، فإنّه لم يعتبر فيه خصوصيّة هيئة دون أخرى ومادّة دون غيرها، بل المعتبر فيه نوع العلاقة في ضمن معنى أيّ لفظ اتّفق، بأيّة هيئة ومادّة.

ألا ترى أنّ من جملة العلاقة: الكلّيّة والجزئيّة، فأينما تحقّقت يجوز إطلاق لفظ الموضوع للكلّ على الجزء كما في قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾، إلى قوله تعالى: ﴿وَأَيْدِيكُمْ﴾(2)؛ وكذا قوله تعالى: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ﴾(3)، حيث أطلق لفظ «اليد» الموضوع للعضو المخصوص من المنكب إلى الأشاجع(4) على

ص: 80


1- كذا في الأصل، وفي «ج وق»: قرينة.
2- سورة النساء: 43.
3- سورة البقرة: 19.
4- جاء في حاشية الأصل: اعلم: أنّ الأشاجع على ما في القاموس وغيره: أصول الأصابع الّتي تتّصل بعصب ظاهر الكفّ [القاموس المحيط: 3/ 43، ومجمع البحرين: 4/ 352]، والمراد بها في المقام الأصابع تسميةً للكلّ باسم جزئه، ومع ذلك لا بدّ من تقدير مضاف أيضًا، ففي العبارة مجاز حذف في كلمة، والتقدير: من المنكب إلى أطراف الأصابع. منه.

جزئه، وهو الزند إلى التمام؛ وأطلق لفظ «الأصابع» الموضوع للمعنى المعلوم على جزئه، وهو الأنامل، فلا يعتبر خصوص هيئة ومادّة دون أخرى، ولا خصوص لفظ دون غيره.

وكذا الكلام في الجزئيّة والكلّيّة كما في قوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾(2)، حيث أطلق لفظ «الرقبة» الموضوع للجزء على الكلّ، و«الركوع» الموضوع لجزء الصلاة عليها، بناءً على بعض الوجوه.

ويمكن أن يقال: إنّ تسميته بالنوعيّ لأنّ المعتبر فيه نوع اللفظ؛ لما عرفت أنّ مرجع الوضع هنا إلى أنّ كلّ لفظ إذا وجد بين معناه وغيره إحدى العلائق الآتية جاز استعماله فيه.

إن قلت: قد تقدّم أنّ جهة التعيين في هذا القسم غير راجعة إلى شيء من الهيئة والمادّة، فلو كان المعتبر فيه نوع اللفظ لزم استنادها إمّا إلى الهيئة والمادّة معًا، أو [إلى] إحداهما فقط، وأيّ ما كان لا يخرج عن الأقسام المذكورة، فلا يكون مقابلًا لها.

قلنا: فرقٌ بين النوع في هذا المقام وفيما تقدّم، إذ النوع هناك سواء كان هيئة أو مادّة، كان المراد منه ما كان مصطلحًا بين أئمّة الميزان، كهيئة «فاعل» ومادّة «ضرب» مثلًا، بخلاف النوع فيما نحن فيه، فإنّ المراد منه ما هو الجنس عندهم.

ص: 81


1- سورة النساء: 92.
2- سورة البقرة: 43.

والحاصل: أنّ جهة التعيين في هذا القسم وإن استندت إلى مادّة اللفظ وهيئته كما في القسم الأوّل، لكنّهما هناك كانتا ملحوظتين تفصيلًا وهنا إجمالًا؛ لوضوح أنّ اللفظ الّذي استعمل في المعنى المجازيّ كانت هيئته ومادّته معتبرتين قطعًا.

فالفرق بينه وبين الأقسام الثلاثة: هو أنّ في الأوّل يكون كلّ من الهيئة والمادّة ملحوظة تفصيلًا، كالهيئة في الثاني والمادّة في الثالث، وفيما نحن فيه لا تكون المادّة والهيئة معًا ملحوظتين ولا إحداهما كذلك، وهو لا ينافي كونهما ملحوظتين إجمالًا، فكأنّه قيل: إنّ الملحوظ حين الوضع إمّا المادّة والهيئة تفصيلًا، أو إحداهما كذلك، أو لا يكون شيء منهما ملحوظًا كذلك، فحينئذٍ لا يلزم انتفاء الملحوظيّة مطلقًا، ضرورة أنّ نفي الأخصّ غير مستلزم لنفي الأعمّ.

الوضع المأخوذ في الحدّين أعمّ من الشخصي والنوعيّ

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى المطلوب، فنقول: إنّ المراد بالوضع المأخوذ في الحدّين وجودًا وعدمًا ما بُيّن في الشقّ الثالث من الترديد، أي المراد أعمّ من الشخصيّ والنوعيّ، لكن بالمعنى الأوّل، ولا يلزم انتقاض طرد حدّ الحقيقة بدخول المجازات، ولا عدم بقاء المصداق لحدّ المجاز؛ لأنّ الوضع الثابت فيها(1) النوعيّ بالمعنى الثاني، لا الأوّل.

فالحقيقة: اللفظ المستعمل في ما وضع له بالوضع الشخصىّ أو النوعيّ، لكن بالمعنى الأوّل؛ والمجاز: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له بالوضع الشخصيّ أو النوعيّ بذلك المعنى أيضًا، فلا منافاة بينه وبين ثبوت الوضع النوعيّ بالمعنى

ص: 82


1- أي في المجازات.

الآخر -وهو المعنى الثاني- فيه.

والحاصل: أنّ للوضع إطلاقين: خاصّ، وهو تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه؛ وعامّ، وهو تعيين اللفظ للدلالة على المعنى مطلقًا، أعمّ من أن يكون بنفسه أو بالقرينة؛ والمعتبر في الحدّين وجودًا في حدّ الحقيقة وعدمًا في حدّ المجاز هو المعنى الخاصّ، فلا يلزم انتفاء مطلق الوضع في المجازات.

وبما ذكرنا ظهر الجواب عن توهّم التناقض في كلامهم حيث قالوا: «إنّ المجازات موضوعة بالوضع النوعيّ»، مع قولهم: «إنّ المجاز لفظ مستعمل في غير الموضوع له»، حيث ظهر أنّ الوضع المنفيّ في المجاز هو الوضع بالمعنى الخاصّ، والثابت فيه الوضع بالمعنى العامّ، فلا يلزم المنافاة.

شبهة في أنّ الألفاظ المشتركة عند استعمالها في معانيها يلزم أن يكون مجازًا لا حقيقة، مع الجواب عنها

إشكالات وتفصّيات

الإشكال الأوّل
اشارة

الإشكال الأوّل هو أن يقال: لو كان الوضع المعتبر في حدّي الحقيقة والمجاز وجودًا وعدمًا الوضع بالمعنى الأوّل، لزم أن لا تكون الألفاظ المشتركة عند استعمالها في معانيها حقيقة، بل مجاز، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: هو أنّ الوضع المعتبر في حدّ الحقيقة حينئذٍ هو تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه، ومعلوم أنّ الألفاظ المشتركة غير دالّة على شيء من معانيها إلّا بالقرينة، فيلزم خروجها عن حدّ الحقيقة ودخولها في حدّ المجاز؛ وأمّا

ص: 83

بطلان التالي فبالاتّفاق(1).

الجواب عن الإشكال الأوّل

والجواب عنه: هو أنّا لا نسلّم انتفاء الوضع بهذا المعنى في الألفاظ المشتركة، وافتقارها في الدلالة على شيء من معانيها بعينه غير مستلزم لذلك؛ لجواز أن تكون معيّنة للدلالة على كلّ من معانيها بأنفسها، لكن لم تحصل الدلالة لمانع الاشتراك، بل الظاهر أنّ الأمر كذلك.

نعم، كان الاعتراض متوجّهًا لو كان المأخوذ في الحدّ الدلالة على المعنى بالنفس، وأين هذا من تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه؟!

والحاصل: أنّ هنا فعلًا وغاية؛ غاية ما هناك انتفاء الغاية، أي دلالة اللفظ على المعنى بنفسه، وظاهرٌ أنّ انتفاء الغاية غير مستلزم لانتفاء الفعل الّذي لأجلها، وربّ فعل لا يترتّب عليه غايته لمانع، فنقول: الظاهر بل لا شبهة في انّ الواضع في بادي الأمر إنّما عيّن المشترك للدلالة على المعنى بنفسه، وهذه الغاية كانت لا محالة مترتّبة عليه لو لم يعرض الاشتراك، وأمّا بعد عروضه فلا.

لكن هذا الجواب ممّا لا شبهة فيه عند تعدّد الواضع للمشترك(2)، وأمّا عند

ص: 84


1- جاء في حاشية الأصل: هذا بناءً على انحصار الاستعمال الصحيح في الحقيقة والمجاز، وحيث قد انتفى الأوّل تعيّن الثاني، وإلّا يمكن دعوى عدم المجازيّة في الألفاظ المشتركة مطلقًا ولو عند استعمالها في غير ما وضعت لها، بناءً على أنّ الكلام على تسليم أنّ المعتبر في الحقيقة الوضع بالمعنى المذكور، والمفروض انتفاؤه في الألفاظ المشتركة، ومعلوم أنّ المجاز يتوقّف على ذلك الوضع، فيلزم من انتفاء الموقوف عليه انتفاء الموقوف كما لا يخفى. منه.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: بناءً على أنّ كلّ واحد من الواضعين قد عيّن اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه، وكانت الغاية مترتّبة عليه عند كلّ واحد منهما، لكن لمّا وصل إلى ثالث عرض الاشتراك، فمنع من ترتّب الغاية، فحينئذٍ قد حصل الوضع بالمعنى المذكور مع افتقار الدلالة إلى شيء من المعنيين بعينه إلى قرينة، منه (دام ظله) العالي.

وحدته فمشكل، بناءً على أنّه كيف يتصوّر من عاقل صدور فعل لأجل غاية مع علمه بعدم ترتّبها عليه حين الصدور، بل مع صدور ما يمنع عن ترتّبه عليه منه(1).

ولا شكّ أنّ مثل هذا الشخص مقبوح عند العقلاء ومعدود في زمرة السفهاء؛ للزوم أن تكون غاية فعل كلّ فاعل عاقل ممكنة الحصول عنده ومرجوّة الوقوع لديه، لاسيّما بالنسبة إلى الواضع، لاسيّما إذا كان الله سبحانه.

والحاصل: نحن نقول: إنّ صدور الفعل وعدم ترتّب الغاية وإن لم يكن محالًا، بل جائز وواقع كما مرّ، إلّا أنّه فيما إذا لم يعلم الفاعل حين الفعل ذلك، لاسيّما إذا كان المانع من الترتّب(2) منه، وأمّا معه فلا كما لا يخفى، وما نحن فيه من هذا القبيل(3).

فالحقّ في الجواب أن يمنع انتفاء الدلالة في المشترك وتوقّفها على القرينة؛ لأنّه لا شبهة أنّ العالِم بالوضع والموضوع له إذا سمع اللفظ المنفرد، كما ينتقل ذهنه إلى

ص: 85


1- جاء في حاشية الأصل: وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ الاشتراك الّذي هو المانع من قبل الواضع. منه.
2- في «ق»: الترتيب.
3- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: لا يقال: إنّ هذا إنّما يتوجّه إذا كان قصد الواضع في أوّل الأمر الاشتراك، وهو ليس بلازم؛ لجواز أن يضع اللفظ أوّلًا لمعنى ولم يكن قصده وضعه للآخر، وحينئذٍ قد ترتّبت عليه غايته، ثمّ بعد ذلك وضعه لمعنى آخر، فقد حصل الاشتراك؛ لأنّا نقول: يجري الكلام حينئذٍ في الوضع الثاني، فنقول: إنّه ليس بجائز، منه (دام ظله) العالي.

معناه، ينبغي أن يكون بالنسبة إلى اللفظ المشترك أيضًا كذلك؛ لأنّا نقطع بأنّ المقتضي للدلالة في الأوّل هو اللفظ المعلوم الوضع، وهو متحقّق فيما نحن فيه أيضًا، فيجب حصول الدلالة أيضًا.

غاية ما في الباب: أنّ المعنى هناك كان منفردًا وههنا متعدّد، والضرورة قاضية بأنّ تعدّده لا يوجب فقدان ثمرة الوضع، وهو الانتقال إلى الموضوع له.

وقصارى ما يتخيّل في المقام أنّه بناءً على المذهب الحقّ من عدم جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد، يبقى متردّدًا في أنّ مراد المستعمل أيّ من المعاني المدلول عليها بالمشترك، فلا بدّ من الاقتران بالقرينة ليعيّن ذلك، فافتقار المشترك إلى القرينة إنّما هو لتعيين المراد بين المعاني المدلول عليها، لا لإثبات الدلالة(1).

توضيح وتكميل

اعلم: أنّ من الأمور الظاهرة أنّ المقتضي للدلالة هو اللفظ المعلوم الوضع، فإذا صدر من المستعمل باستعمال صحيح وكان منفردًا، كما ينتقل السامع منه إلى معناه، كذا يظهر عليه أنّ مراده ذلك المعنى، فيصل إلى المقصود، فلا حاجة له إلى قرينة أصلًا، لا لإثبات الدلالة ولا لتعيين المقصود.

وأمّا اللفظ المشترك، فعند استماعه وإن يفهم معناه أيضًا، لكن لمّا كان متعدّدًا ولم يجز استعماله في الجميع، يزاحم المعنى المقصود غيره، فلم يظهر المراد بعينه، فلا بدّ على المستعمل أن يقارنه بالقرينة؛ لتكون دافعة للمزاحمة ومعيّنة للإرادة، فالقرينة فيه لدفع المزاحمة، لا لإثبات الدلالة؛ لتحقّقها مع انتفائها أيضًا.

ص: 86


1- ينظر معالم الأصول: 125.
في الفرق بين القرينة الّتي في المشترك والّتي في المجاز

ومنه يعلم الفرق بين القرينة المفتقر إليها في المشترك والمجاز، بأنّها في المشترك لدفع المزاحمة وتعيين المدلول، لا لإثبات أصل الدلالة، وظاهرٌ أنّها في المجاز معتبرة في نفس الدلالة، ولذا لا تحصل بالنسبة إلى المعنى المجازيّ إلّا بها، فلا يلزم أن يكون المشترك عند استعماله في معناه مجازًا.

والحاصل: أنّ المشترك عند تجرّده دلالتُهُ ثابتةٌ، وإنّما المنتفي العلم بالمراد؛ والإرادة ليست عين الدلالة ولا مستلزمة لها حتّى يلزم من انتفائها انتفاؤها، والافتقار إلى القرينة إنّما هو في الإرادة، لا الدلالة(1).

اعتبار الإرادة في معنى الدلالة لا وجه له

نعم، الاعتراض إنّما يكون وجيهًا لو اعتبرنا الإرادة في الدلالة بأن يقال: إنّ معنى دلالة اللفظ كونه بحيث يفهم منه المعنى على أنّه مراد للمتكلّم -كما ذهب إليه بعض من لا تحقيق له(2)- فإنّه مع انتفاء العلم بالإرادة لم يوجد(3) الدلالة.

ص: 87


1- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: إن قيل: إنّ اللفظ إنّما يدلّ على المعنى المستعمل فيه، ولا شبهة في مجهوليّته في المشترك عند التجرّد، والجهل به يستلزم انتفاء الدلالة وإلّا كان معلومًا، مع أنّ الواقع خلافه. قلنا: إن أريد بالمستعمل فيه ما يمكن أن يكون مستعملًا فيه من غير واسطة، أي الموضوع له، فالملازمة مسلّمة وبطلان التالي ممنوع؛ لما تقدّم من أنّ الدلالة بالنسبة إلى جميع المعاني ثابتة؛ وإن أريد خصوص مراد المستعمل في ذلك الاستعمال، بمعنى أن يعلم من اللفظ مراد المتكلّم بعينه، فالملازمة ممنوعة؛ لما عرفت من الفرق وستعرف أيضًا بنحو أوضح، منه (دام ظله) العالي.
2- لم نعثر عليه.
3- كذا في الأصل، والصواب: لم توجد.

لكنّه فاسد، إذ لو كانت الإرادة معتبرة في الدلالة، يلزم انتفاؤها عند انتفاء العلم بالمراد، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

وأمّا الملازمة فبيّنة، وأمّا بطلان التالي فلأنّا كثيرًا ما نقطع بانتفاء الإرادة من المستعمل مع تحقّق الدلالة، كالألفاظ الموضوعة الصادرة من النائم والساهي والهاذل، فإنّه لا شبهة في الانتقال منها إلى معانيها مع العلم بانتفاء الإرادة.

وكذا الكلام في الاستعارات، فإنّها دالّة على معانيها بواسطة دلالتها على معانيها الحقيقيّة الغير المقصودة، فإنّ «أسدًا» في قولنا: «رأيت أسدًا يرمي» لمّا دلّ على معناه الموضوع له ودلّت القرينة على عدم إرادته، انتقل الذهن عنه إلى أنّ المراد ما يشبهه ويشاركه في أخصّ صفاته وأظهرها، وهو الرجل الشجاع، بل المجازات كلّها من هذا القبيل، فإنّه مع العلم بعدم إرادة الموضوع له للقرينة الصارفة ينتقل الذهن منها إليه(1).

وكذا الكلام في الألفاظ الصادرة عمّن لا اطّلاع له بأوضاعها، كاللغات الغريبة وغيرها.

وهكذا الأمر في الألفاظ الّتي لها معانٍ عند اصطلاح وراء المعاني الّتي لها عند اصطلاح آخر، فإنّ المتبادر عند أهل كلّ اصطلاح هو المعنى الّذي اصطلحوا عليه وإن كان المستعمل من أهل اصطلاح آخر، فإنّ خصوصيّة المستعمل وإن كانت صارفة عن المعنى الّذي عند غيره، إلّا أنّها إنّما تصرف عن الحمل على المتبادر، لا عن أصل الفهم والتبادر، ففي جميع هذه الأمثلة تحقّقت الدلالة الوضعيّة منفكّة

ص: 88


1- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: فإنّ قولنا: «اعتق رقبة مؤمنة» مع دلالة العتق والإيمان على عدم كون المراد من الرقبة معناها، ينتقل الذهن منها إليه أيضًا، منه (دام ظله) العالي.

عن الإرادة، فاعتبار الإرادة في معنى الدلالة لا وجه له.

الدلالة لم تكن مشروطة بالإرادة

وأضعف من ذلك(1) ما ذهب إليه بعض آخر، وهو أنّ الإرادة وإن لم تؤخذ في معنى الدلالة، لكنّها ممّا اشترط في الدلالة وتوقّفت عليه(2).

لأنّا نقول: إنّ الدلالة لو كانت مشروطة بالإرادة؛ لما وجدت بدونها، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، والشرطيّة ظاهرة، وبطلان التالي قد ظهر مفصّلًا.

وأيضًا المراد من اشتراط الدلالة بالإرادة إمّا أن يكون أنّها مشروطة بالإرادة النفس الأمريّة، أو بالعلم بها؛ وكلاهما فاسد.

أمّا الأوّل: فلعدم الارتباط والعلاقة بين الدلالة والإرادة الواقعيّة، فلا وجه لجعلها شرطًا لها.

وأمّا الثاني: فلاستلزامه الدور أو التسلسل؛ لأنّ المفروض أنّ دلالة اللفظ موقوفة على العلم بالإرادة، والعلم بالإرادة إن كان من دلالة اللفظ بعينه، فذلك دور ظاهر، وإن كان من لفظ آخر ننقل الكلام إلى دلالته، فيلزم الدور أو التسلسل، فيلزم انسداد باب الإفادة والاستفادة.

إن قيل: نختار الثاني ونمنع لزوم المحذور، لإمكان العلم بالإرادة من

ص: 89


1- جاء في حاشية الأصل: ولا يخفى أنّ الاعتراض المذكور بناءً على هذا القول كان متوجّهًا أيضًا كما لا يخفى. منه.
2- قال السيّد المجاهد في المفاتيح: حُكي عن الشيخ الرئيس القول بالتوقّف عليها (مفاتيح الأصول: 4).

القرينة الحاليّة.

قلنا: هذا فاسد، أمّا أوّلًا: فلاستلزامه انسداد باب الإفادة والاستفادة من جهة الألفاظ، والضرورة قاضية ببطلانه.

وأمّا ثانيًا: فلورود الاعتراض المذكور بالنسبة إلى جميع الألفاظ وإن كانت متّحدة المعاني، فيكون تفسير الوضع بتعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه فاسدًا كما لا يخفى، فيلزم أن تكون جميع الحقائق مجازات ولا مدفع له.

وأمّا ثالثًا: فلأنّه لا وجه لنسبة الدلالة إلى اللفظ؛ لاستقلال تلك القرينة حينئذٍ بها.

الإشكال الثاني
اشارة

والإشكال الثاني: هو أنّ المعتبر في الحقيقة والمجاز لو كان الوضع بالمعنى المذكور، لزم أن لا تكون الألفاظ الّتي يكون الوضع فيها عامًّا والموضوع له خاصًّا -كالمضمرات والموصولات وأسماء الإشارة- عند استعمالها في المعاني الجزئيّة حقيقة ولا مجازًا؛ والتالي باطل لما تقدّم من انحصار الألفاظ المستعملة بالاستعمال الصحيح فيهما، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: أمّا بالنسبة إلى الحقيقة؛ فلأنّ دلالة «هو» في قولك: «جاءني زيد وهو عالم» على أنّ المراد به «زيد»، يتوقّف على تقدّم «زيد» عليه، وكذا «هذا» في قولك: «هذا زيد»، فإنّ دلالته على أنّ المشار إليه هو «زيد» موقوفة على الإشارة إليه؛ والّذي في قولك: «جاءني الّذي هو ابن عمرو»، فإنّ دلالته على أنّ المراد به «ابن عمرو» يتوقّف على الصلة، وهكذا الكلام في أمثالها، فلا تكون الدلالة على شيء من هذه الألفاظ بالنسبة إلى تلك المعاني بأنفسها، فلا تكون حقيقة.

ص: 90

وأمّا بالنسبة إلى المجاز؛ فلأنّه اللفظ المستعمل في غير الموضوع له، وهذه الألفاظ قد استعملت في المعاني الموضوعة له؛ لأنّ المفروض أنّها قد وضعت لكلّ من تلك المعاني الجزئيّة(1).

إن قلت: إنّ الوضع بالمعنى المذكور يشتمل على فعل وغاية كما تقدّم، وغاية ما هناك انتفاء الغاية، وهو غير مستلزم لانتفاء الفعل، بل نقول: إنّها موضوعة للدلالة على المعاني بأنفسها، لكن لمّا وضعت لكلّ من تلك المعاني بخصوصيّاتها فزاحم كلّ منها صاحبها في الدلالة؛ فلأجل تلك المزاحمة انتفت الدلالة مع تحقّق التعيين لها، فالتعيين للدلالة على المعاني فيها متحقّق، لكنّها قد انتفت لأجل المانع المذكور.

قلنا: قد عرفت الجواب عن ذلك ممّا ذكرناه، بيانه: هو أنّ غاية فعل كلّ عاقل لا بدّ أن تكون ممكنة الحصول عنده ومرجوّة الوقوع لديه في حال الفعل، وإلّا يقبح عند العقلاء ويعدّ في زمرة السفهاء، لاسيّما إذا كان المانع منه كما فيما نحن فيه؛ إذ المانع هو الوضع لكلّ واحد من تلك المعاني، وهو إنّما نشأ من الواضع للمعاني.

الجواب عن الإشكال الثاني

فالحقّ في الجواب أن يقال: إنّا لا نسلّم انتفاء مطلق الدلالة في الألفاظ المذكورة، للقطع بأنّ الإنسان حين استماع لفظة «هو» ينتقل ذهنه إلى أنّ المراد به

ص: 91


1- جاء في حاشية الأصل: هذا عند استعمالها فيما وضعت تلك الألفاظ لها، ويمكن الاستدلال على عدم صدق المجازيّة بالنسبة إليها مطلقًا ولو عند استعمالها في غير ما وضعت لها، بناءً على أنّ صدق المجازيّة متوقّف على الوضع بذلك المعنى المذكور على ما هو المفروض، والمفروض انتفاؤه، فيلزم عدم صدق المجازيّة مطلقًا؛ لوضوح أنّ انتفاء الموقوف عليه يستلزم انتفاء الموقوف. منه.

واحد من المفرد المذكّر الغائب، وعند استماع «هذا» ينتقل ذهنه إلى أنّ المراد به فرد من الأفراد المشار إليه القريب، وتحيّره ليس إلّا لأجل تعيين فرد من تلك الأفراد، فالافتقار إلى القرينة إنّما هو لتعيين المدلول، لا لإثبات الدلالة.

والحاصل: أنّ المنتفي في تلك الألفاظ الدلالة التفصيليّة والافتقار إلى القرينة لتحصيلها، وأمّا الإجماليّة فتحقّقه فيها بأنفسها؛ وقولهم: «الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى لذاته» أعمّ من التفصيليّة والإجماليّة.

الإشكال الثالث
اشارة

والإشكال الثالث: هو أنّ الوضع المعتبر في حدّ الحقيقة لو كان بالمعنى المذكور، لزم أن لا تكون المنقولات التعينيّة -وهي أكثر المصطلحات العرفيّة عند استعمالها في المعاني المنقول إليها- حقيقة؛ لأنّها غير معيّنة للدلالة على معانيها المنقولة إليها بأنفسها، بل استعملت فيها على سبيل المجاز، ثمّ شاع الاستعمال فيها إلى أن هجرت المعاني الأصليّة واستفيدت تلك المعاني منها من غير قرينة، فالمتحقّق فيها الدلالة على المعاني المنقول إليها بأنفسها من غير تعيين.

وبالجملة: قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ الوضع بالمعنى المذكور يشتمل على فعل وغاية، والنقض في الألفاظ المشتركة بالنسبة إلى انتفاء الغاية مع تحقّق الفعل فيها، والأمر ههنا بالعكس، إذ الغاية - وهي الدلالة على المعنى بالنفس - متحقّقة فيها، والمنتفي الفعل، وهو التعيين لما عرفت.

وأمّا بطلان التالي؛ فلاتّفاقهم على تقسيم الحقيقة إلى اللغويّة والشرعيّة والعرفيّة، سواء كانت تعيينيّة أو تعيّنيّة، ولتحقّق خواصّ الحقيقة فيها.

ص: 92

الجواب عن الإشكال الثالث
اشارة

والجواب عنه يمكن من وجهين:

الوجه الأوّل

الأوّل: أنّا لا نسلّم انتفاء مطلق التعيين فيها، بل المنتفي تعيين خاصّ، وأمّا الثابت فيها فهو الّذي منشؤه شيوع الاستعمال وكثرته، فيقال: إنّ كثرة استعمال تلك الألفاظ في تلك المعاني معيّنة إيّاها للدلالة عليها بأنفسها.

غاية ما في الباب أنّ المتبادر من تعيين شيء لشيء آخر، جعل الأوّل للثاني بالقصد والإرادة، وحيثما وجدت القرينة على عدم إرادة هذا الظاهر، وجب العمل بمقتضاها، والقرينة في المقام هو ما تقدّم من اتّفاقهم على أنّ من أقسام الحقيقة: العرفيّة ولو كانت تعيّنيّة، فاتّفاقهم قرينة على عدم إمكان إرادة المعنى المتبادر من لفظ «التعيين» في تفسير الوضع.

وحملُ اللفظ على خلاف ظاهره عند وجدان القرينة ليس بمتروك في كلمات العرب ولا بمهجور عند أئمّة الأدب، لكن وجب حمل اللفظ في المقام على المعنى العامّ الشامل للمعنى المتبادر وغيره، لا على كلّ واحد منهما حتّى لا يلزم استعمال اللفظ في استعمال واحد في المعنى الحقيقيّ والمجازيّ.

الوجه الثاني

والثاني: هو أن يحمل التعيين على التعيّن، فيكون المعنى: أنّ الوضع تعيّن اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه، ولا شبهة في تحقّقه في جميع الحقائق منقولًا كان أو غيره، تعيينيًّا كان الأوّل أو تعيّنيًّا، إلّا أنّه لمّا كان التعيّن والتعيين من الأمور المتضايفة، فلا

ص: 93

ينفك أحدهما عن الآخر لا محالة، فالمتعيّن يفتقر إلى معيّن البتّة، وهو في المنقولات التعيّنيّة إمّا كثرة الاستعمال وشيوعه أو المستعملين؛ لكون الاستعمال من فعلهم.

وأيّ منهما كان، إطلاق التعيين عليه إطلاق اللفظ على خلاف ظاهره، أمّا على الأوّل فظاهر، وأمّا على الثاني فلما عرفت من أنّ الظاهر من التعيين جعل شيء لآخر بالقصد والإرادة، والمستعملون وإن كانوا من أهل القصد والإرادة، لكنّهم لم يقصدوا من استعمالهم اللفظ فيما نحن فيه تعيّنه للإفادة بنفسه كما لا يخفى، بل إنّما هو أمر نشأ من غلبة الاستعمال، إلّا أنّ انقسام النقل إلى التعيينيّ والتعيّنيّ والتخصيصيّ والتخصّصيّ ممّا يوجب المصير إلى أحد الحملين المذكورين.

نعم، بقي في المقام شيء، وهو أنّ الجوابين المذكورين يوجبان إطلاق الواضع على الكثرة أو المستعملين للألفاظ المنقولة الّتي كلامنا فيها مع عدم قصدهم التعيين، لكنّا نلتزم ذلك(1) ونقول: ليس ذلك إلّا استعمال اللفظ وإرادة خلاف ظاهره مع قيام القرينة على ما تقدّمت إليه الإشارة، فلا تغفل.

الإشكال الرابع
اشارة

والإشكال الرابع: هو أنّ اعتبار الوضع بالمعنى المذكور في الحقيقة يستلزم عدم اتّصاف شيء من الحروف بها ولو عند استعمالها في معانيها؛ لأنّ الحقيقة على ما تقدّم: اللفظ المستعمل في الموضوع له بالوضع الّذي هو تعيين اللفظ للدلالة على المعنى لذاته؛ ودلالة الحروف على معانيها الإفراديّة ليست بأنفسها، بل موقوفة

ص: 94


1- جاء في حاشية الأصل: بأنّ الجواب الأوّل يوجب إطلاق الواضع على الكثرة، والثاني يوجب إطلاقه على الثاني. منه.

على انضمام المتعلّق إليها، لحكم النحاة: «أنّ الحرف ما يدلّ على معنى في غيره»، أي بواسطة غيره، وهو المتعلّق.

وأمّا بطلان التالي؛ فللقطع بأنّه كما تنقسم الأسماء والأفعال إلى الحقيقة والمجاز، كذلك الحروف، وتصريحهم في كثير من الحروف بأنّها حقيقة في بعض المعاني ومجاز في الآخر، شاهد صدق على ذلك.

الجواب عن الإشكال الرابع

والجواب عنه يستدعي التكلّم في كلام النحاة، ثمّ الإشارة إلى ما هو الحقّ في المقام عند فحول المحقّقين من الأعلام، فأقول أوّلًا: إنّ التقييد بأنّ الحرف غير مستقلّ في الدلالة على المعنى الإفراديّ ليس لأجل استقلاله بالدلالة على المعنى التركيبيّ، بل لاشتراك كلّ من الاسم والفعل والحرف في عدم الاستقلال بالنسبة إلى دلالة المعاني التركيبيّة، والمراد بالمعنى الإفراديّ ما فهم من اللفظ حال الإفراد، ومن التركيبيّ ما يتّصف اللفظ به حال التركيب، كالفاعليّة والمفعوليّة والابتدائيّة والخبريّة وهكذا.

وظاهرٌ أنّ دلالة «زيد» في قولنا: «ضرب زيد» على الفاعليّة و«ضربت زيدًا» على المفعوليّة موقوفة على انضمام الفعل في الموضعين إليه، وكذا دلالة «ضرب» في قولنا: «زيد ضرب» على الخبريّة موقوفة على انضمام «زيد» إليه، فامتياز الحرف عن أخويه بالنسبة إلى الدلالة على المعاني الإفراديّة حيث يستقلّان(1) في ذلك دونه، ولذا يقال: إنّ الحرف غير مستقلّ في الدلالة على المعنى الإفراديّ وإن كان معناه

ص: 95


1- كذا في «ق»، وفي الأصل و«ج»: يستقلّ هما.

غير مختلف في حالة التركيب والإفراد.

تعريف الاسم والحرف عند النحاة
اشارة

ثمّ إنّ النحاة على ما رأينا منهم عرّفوا الاسم والحرف بما حاصله: أنّ الأوّل: لفظ دالّ على معنى في نفسه، إلى آخر ما ذكروا؛ والثاني: لفظ دالّ على معنى في غيره(1).

والضمير في «نفسه» و«غيره» لا محالة يفتقر إلى مرجع، وهو إمّا الاسم مثلًا، أو اللفظ، أو المعنى؛ وعلى التقادير إمّا أن تكون كلمة «في» في الموضعين للظرفيّة أو السببيّة، وعلى التقادير الستّة الظرف إمّا لغو أو مستقرّ، وعلى تقدير الاستقرار إمّا صفة لمعنى أو حال من ضمير «دلّ»، فالأقسام ثمانية عشر(2).

لكن جعل الاسم مرجعًا فاسد؛ لاستلزامه أخذ المحدود في الحدّ، فبطل(3) من الأقسام ستّة، وبقي اثنا عشر:

القسم الأوّل

الأوّل: أن يكون المرجع في الموضعين لفظة «معنى»، وكلمة «في» للسببيّة، والمتعلّق الفعل المذكور، والمعنى في الأوّل: أنّ الاسم ما دلّ على معنى باعتبار نفس ذلك المعنى لا باعتبار غيره، وفي الثاني: انّ الحرف ما دلّ على معنى باعتبار غير

ص: 96


1- ينظر الإيضاح في علل النحو: 54، وشرح جمل الزجّاجيّ: 86.
2- جاء في حاشية الأصل: وهذه الاحتمالات الثمانية عشر إنّما هي في صورة التوافق في المرجع، وكلمة «في» في الحدّين وإن لاحظت التخالف فيهما أو في أحدهما بأن يحمل كلمة «في» في حدّ الاسم على الظرفيّة، وفي حدّ الحرف على السببيّة، أو بالعكس، وكلّ ذلك مع التوافق في المرجع والتخالف زادت الأقسام جدًّا. منه.
3- في «ق»: فيبطل.

ذلك المعنى، أي المتعلّق.

القسم الثاني

والثاني: كالأوّل، إلّا أنّ المتعلّق محذوف، والمعنى: الاسم ما دلّ على معنى حاصل في ذهن المتكلّم باعتبار نفسه؛ والحرف ما دلّ على معنى حاصل في ذهنه(1) لا باعتبار نفسه، بل باعتبار غيره.

وكلام ابن الحاجب(2) في الإيضاح على ما حكاه المحقّق الشريف(3) عنه يحتملهما، لكن مع ظهور الكلام المنقول في حدّ الاسم في المعنى الأوّل، وفي حدّ الحرف في الثاني؛ لأنّه(4) قال:

قال في الإيضاح: الضمير في «ما دلّ على معنى في نفسه» يرجع إلى «معنى»، أي ما دلّ على معنى باعتباره في نفسه وبالنظر إليه في نفسه، لا باعتبار أمر خارج عنها(5)؛ ولذلك قيل: الحرف(6) ما دلّ على معنى في غيره، أي حاصل في غيره، أي

ص: 97


1- في «ق وج»: في ذهن المتكلّم.
2- عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس المحقّق جمال الدين أبو عمرو ابن الحاجب الكرديّ الدوينيّ الأصل الإسنائيّ المولد المقرئ النحويّ الأصوليّ الفقيه المالكيّ صاحب التصانيف، ت سنة 646ﻫ. ينظر: الوافي بالوفيات: 19/322.
3- المير سيّد علي بن محمّد بن علي الشريف الحسينيّ الحنفيّ الاسترآباديّ، كان متكلّمًا بارعًا، كثير التحقيق، ماهرًا في الحكمة والعربية، صاحب المصنّفات والحواشي والشروح المعروفة منها: حاشيته على أول تفسير الكشاف وعلى المطول، وعلى شرح الكافية. ينظر: الكنى والألقاب: 2/358.
4- جاء في حاشية الأصل: المحقّق الشريف. منه.
5- في المصدر: عنه.
6- في المصدر: قيل في الحرف.

باعتبار متعلّقه لا باعتباره في نفسه(1)، انتهى.

لكنّ المذكور في بعض نسخ الإيضاح على ما رأينا، غير مطابق لذلك.

القسم الثالث

والثالث: كالأوّل إلّا أنّ «في» للظرفيّة، وظاهره فاسد، سواء كان في حدّ الاسم أو الحرف.

أمّا في الأوّل: فلأنّ المعنى حينئذٍ: أنّ الاسم ما دلّ على معنى، وتلك الدلالة في نفس ذلك المعنى، والدلالة منسوبة إلى اللفظ وصفة له وقائمة به، فانتسابها إلى المعنى فاسد، إلّا أن يوجّه بأنّه لمّا كان المعنى مستقلًّا، فاستقلاله سبب لدلالة اللفظ عليه بانفراده، ولهذا(2) نسبت الدلالة إليه.

وأمّا في الثاني: فلأنّ المعنى حينئذٍ: أنّ الحرف ما دلّ على معنى(3)، وتلك الدلالة في غير ذلك المعنى؛ وفساده إنّما هو إذا أريد من غير المعنى المتعلّق، ووجه الفساد يظهر ممّا ذكر آنفًا، وأمّا إذا أريد منه نفس الحرف، فصحّته ظاهرة، لكنّ التكلّف فيه ظاهر.

القسم الرابع

والرابع: كالثاني إلّا في «في» فكالثالث؛ وظاهره في حدّ الاسم لا معنى له، وأمّا في الحرف(4) فالمعنى أنّه ما دلّ على معنى حاصل في غير ذلك المعنى، وذلك الغير

ص: 98


1- الإيضاح في شرح المفصّل: 31.
2- في «ق»: ولذا.
3- في «ق»: المعنى.
4- في «ق»: الحروف.

إمّا في ذهن المتكلّم(1) أو متعلّقه، وسيظهر لك ذلك عن قريب.

القسم الخامس

والخامس: كالأوّل أيضًا، إلّا أنّ المرجع فيه اللفظ، والمعنى في حدّ الاسم أنّه لفظ دالّ على معنى باعتبار نفس ذلك اللفظ، لا باعتبار غيره، وفي حدّ الحرف أنّه لفظ دالّ على معنى باعتبار غير ذلك اللفظ، لا باعتبار نفسه.

القسم السادس

والسادس: كالثاني إلّا في المرجع فكالخامس، والمعنى في الأوّل: أنّ الاسم لفظ دالّ على معنى حاصل في ذهن المتكلّم باعتبار نفس ذلك اللفظ، لا باعتبار غيره، وفي الثاني: أنّ الحرف لفظ دالّ على معنى حاصل باعتبار غير ذلك اللفظ، لا باعتبار نفسه.

القسم السابع

والسابع: كالثالث إلّا في المرجع فكالخامس؛ والمعنى في الأوّل: أنّ الاسم لفظ دالّ على معنى في نفس ذلك اللفظ؛ وفي الثاني: أنّ الحرف لفظ دالّ على معنى في غير ذلك اللفظ؛ وهذا بظاهره هنا وإن كان فاسدًا، لكنّه في الأوّل لا بأس به.

القسم الثامن

والثامن: كالرابع إلّا في المرجع فكالسابع، والمعنى في الأوّل: الاسم لفظ دالّ على معنى ثابت في نفس ذلك اللفظ، وفي الثاني: أنّ الحرف لفظ دالّ على معنى

ص: 99


1- جاء في حاشية الأصل: لا يخفى أنّ الاسم أيضًا يدلّ على معنى حاصل في ذهن المتكلّم. منه.

ثابت في غير ذلك اللفظ.

وأنت بعد الإحاطة بما ذكر متمكّن من استخراج بقيّة الأقسام.

الجواب عن الإشكال الرابع
اشارة

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ الجواب عن الاعتراض المذكور يمكن من وجوه:

الجواب الأوّل

الأوّل: أنّه يمكن أن يكون مقصود النحاة من قولهم: «الحرف ما دلّ(1) على معنى في غيره»(2)، هو المعنى الثامن، فالاعتراض حينئذٍ مندفع؛ لأنّ معنى الحدّ حينئذٍ -على ما عرفت- أنّه يدلّ على معنى ثابت في غير ذلك اللفظ، ولا يدلّ على أنّ ذلك الغير شرط في الدلالة حتّى لا تكون دلالة الحرف على المعنى بنفسه، فيلزم انتفاء الوضع فيه، فلا يتّصف بالحقيقة والمجاز.

لكنّ هذا الجواب لا شبهة فيه إن صحّت إرادة هذا المعنى في المقام، فاللازم صرف العنان إلى بيان ذلك، فنقول: هذا المعنى هو الّذي ارتضاه نجم الأئمّة وبنى عليه حمل كلامهم وتصدّى لبيانه وأطال فيه الكلام، فلا بأس بذكر مقالته في المقام، ثمّ التعرّض بما يتوجّه عليه من النقض والإبرام، فاعلم أنّه (قدس سره) قال:

معنى الكلام على ما اخترناه -أعني جعل «في نفسه» صفة ل-«معنى»، والضمير

ص: 100


1- في «ق»: ما دلّ.
2- ينظر شرح الرضيّ على الكافية: 1/ 136، و4/ 259، والإيضاح في علل النحو: 54، وشرح جمل الزجّاجيّ: 86.

ل-«ما»- أنّ(1) الاسم كلمة دلّت على معنى ثابت في نفس تلك الكلمة، والحرف كلمة دلّت على معنى ثابت في لفظ غيرها، ف-«غير» صفة ل-«لفظ».

وقد يكون اللفظ الّذي فيه معنى الحرف مفردًا كالمعرّف باللّام والمنكّر بتنوين التنكير، وقد يكون جملة كما في: «هل زيد قائم؟»؛ لأنّ الاستفهام معنى في الجملة، إذ قيام «زيد» مستفهم عنه، وكذا النفي في نحو(2): «ما قام زيد»، إذ قيام زيد منفيّ، فالحرف موجد لمعناه في لفظ غيره، إمّا مقدّم عليه كما في نحو: «بصريّ»، أو مؤخّر عنه كما في «الرجل».

والأكثر أن يكون معنى الحرف مضمون ذلك اللفظ، فيكون متضمّنًا للمعنى الّذي أحدث فيه الحرف مع دلالته على معناه الأصليّ، إلّا أنّ هذا تضمّن معنى لم يدلّ عليه لفظ المتضمّن، كما كان لفظ «البيت» متضمّنًا لمعنى الجدار ودالًّا عليه، بل الدالّ على المضمون فيما نحن فيه لفظ آخر مقترن بالمتضمّن، فرجل في قولك: «الرجل»، متضمّن لمعنى التعريف الّذي أحدث فيه اللام المقترن به، وكذا «ضرب زيد» في: «هل ضرب زيد؟»، متضمّن لمعنى الاستفهام، إذ «ضرب زيد» مستفهم عنه، ولا بدّ في المستفهم عنه من معنى الاستفهام، وموجده فيه: «هل».

وقد يكون معنى الحرف ما دلّ عليه غيره مطابقة وذلك إذا كان ذلك الغير لازم الإضمار، كما دلّت همزة «اضرب» ونون «نضرب» على معنى الضميرين اللازم إضمارهما.

ص: 101


1- «أنّ» لم ترد في المصدر.
2- «نحو» لم ترد في المصدر.

وقد يكون الحرف دالًّا على معنيين كلّ منهما في كلمة، كحروف المضارعة الدالّة على معنى في الفعل ومعنى في الفاعل.

والأغلب في معنى الحرف أن يكون معنى الأسماء الدالّة على المعاني دون الأعيان، وقد تكون دالّة على العين أيضًا، كالهمزة في «اضرب» ونون «نضرب» وتاء «تضرب» في خطاب المذكّر، فإنّها تفيد معاني الفاعلين بعد الأفعال.

ثمّ نقول: إنّ معنى «من» الابتداء، فمعنى «من» ومعنى لفظ «الابتداء» سواء، إلّا أنّ الفرق بينهما أنّ لفظ «الابتداء» ليس مدلوله مضمون لفظ آخر، بل مدلوله معناه الّذي في نفسه مطابقة، ومعنى «من» مضمون لفظ آخر يضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ الأصليّ، فلهذا جاز الإخبار عن لفظ «الابتداء» نحو: الابتداء خير من الانتهاء، ولم يجز الإخبار عن «من»؛ لأنّ الابتداء الّذي هو مدلولها في لفظ آخر، فكيف يخبر عن لفظ ليس معناه فيه؟!، بل في لفظ غيره؛ وإنّما يخبر عن الشيء باعتبار المعنى الّذي في نفسه مطابقة.

فالحرف وحده لامعنى له أصلًا، إذ هو كالمنصوب(1) بجنب شيء ليدلّ على أنّ في ذلك الشيء فائدة ما(2)، فإذا أفرد(3) عن ذلك الشيء بقي غير دالّ على معنى أصلًا؛ فظهر بهذا أنّ المعنى الإفراديّ للاسم والفعل في أنفسهما وللحرف في غيره.

ولا يصحّ الاعتراض على حدّ الحرف بالصفات؛ وذلك بأن يقال: إنّ

ص: 102


1- في المصدر: كالعَلَم المنصوب.
2- «ما» لم ترد في المصدر.
3- في المصدر: انفرد.

«طويل»(1) مثلًا في: «جاءني رجل طويل»، موجد لمعناه، أي الطول في موصوفه حتّى صار الموصوف متضمّنًا له؛ وذلك أنّ معنى «طويل» ذو طول، فهو دالّ على معنيين أحدهما قائم بالآخر، إذ الطول قائم بذي طول(2)، فمعناه الطول وصاحبه، لا مجرّد الطول الّذي في «رجل»، وإنّما ذكر الموصوف قبله ليعيّن ذلك الصاحب الّذي دلّ عليه «طويل» وقام به الطول، لا ليقوم به الطول.

وأمّا قولهم: «النعت دالّ على معنى في متبوعه»، فلكون المتبوع معيّنًا لذلك الّذي قام به المعنى ومخصّصًا له وكونه إيّاه، بل المصدر في قولك: «ضرب زيد»، مفيد لمعنى في لفظ غيره، أعني ضاربيّة زيد، لكنّهم احترزوا عن مثله بقولهم: «دلّ»، أي دلّ بالوضع، ولم يوضع المصدر ليفيد في لفظ غيره معنى، إذ يصحّ أن يقول: «الضرب شديد»، ولا يذكر الضارب، ولا يخرج بذلك عن الوضع.

ويصحّ أن يعترض عليه بالأفعال، فإنّ «ضَرَبَ» موضوع(3) ليدلّ على ضاربيّة ما ارتفع به، ولا يندفع هذا الاعتراض إلّا بما قال بعضهم: «الحرف ما لا يدلّ إلّا على معنى في غيره»(4)، فإنّ «ضرب» مفيد في نفسه الإخبار عن وقوع ضرب وفي فاعله عن ضاربيّته، بخلاف «مِن»، فإنّه لا يفيد إلّا معنى الابتداء(5) في غيره(6)، انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

ص: 103


1- في المصدر: لفظ طويل.
2- كذا في الأصل، وفي «ق»: بذو طول.
3- في المصدر: وضع.
4- تقدّم تخريجه ص: 96.
5- في المصدر: الابتداء.
6- شرح الرضي على الكافية: 1/ 36 - 38.

وفيه نظر؛ لأنّ ثبوت معنى الكلمة في نفسها، أو في لفظ غيرها، ممّا لا نفهم له معنى.

أمّا في الأوّل: فلأنّ كثيرًا من الأسماء يكون المعاني المدلول عليها بها جواهر، كزيد مثلًا، إذ معناه الذات المسمّى، وهو غير ثابت في لفظ «زيد»؛ وكيف؟! مع أنّ ثبوته وقيامه به يستلزم قيام الجوهر بالعرض، وهو ممّا لا يكاد يشكّ في فساده.

وأمّا الأسماء الّتي تكون المعاني المستفادة منها أعراضًا، كالأكل والشرب والضرب والقتل وأمثالها، فإنّه وإن لم يكن فيها تلك المفسدة، إذ قيام العرض بالعرض غير عزيز، كقيام السرعة والبطئ في الحركة وغيره على ما بيّن في محلّه(1)، لكنّا نقطع بانتفاء كون الأمر في الواقع كذلك.

وأيضًا مقتضى قيام العرض بالعرض عدم انفكاك الأوّل عن الثاني في الوجود وإن أمكن انفكاك الثاني عنه؛ وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك؛ لوضوح أنّه كثيرًا ما يتحقّق معنى الضرب في الخارج مع عدم التلفّظ به، فتأمّل.

وأمّا في الثاني: أي دلالة الحرف على معنى ثابت في لفظ غيره فهو أيضًا ممّا لا ريب في فساده، إذ معنى «مِن» و«إلى» الابتداء والانتهاء، وكيف يقال: إنّهما ثابتان في لفظ «البصرة» و«الكوفة» في قولك: «سرت من البصرة إلى الكوفة»؟!

وأيضًا قد عرفت أنّ مقتضى قيام العرض بالآخر هو ما تقدّم، فيرد عليه ما قد سبق ذكره، وأيضًا لو كان معنى همزة «اضرب» مثلًا العين، فيلزم من ثبوته وقيامه في لفظ آخر قيام الجوهر بالعرض كما لا يخفى؛ وما ذكره من ثبوت التعريف في لفظ «الرجل»، والاستفهام في لفظ: «أزيد قائم؟»، وغيرهما، معلوم البطلان.

ص: 104


1- شرح الإلهيّات: 2/ 730.

هذا إن حمل الكلام على ظاهره، ولو حمل على خلاف الظاهر بأن يقدّر مضاف في العبارة بأن يقال: إنّ المراد إنّ الحرف يدلّ على معنى ثابت في معنى لفظ غيره، وقوله: «قد يكون اللفظ الّذي فيه معنى الحرف»، أي في معناه معنى الحرف، ففيه أيضًا أنّه يلزم على هذا أن يكون معنى الكلام في حدّ الاسم أنّه دالّ على معنى ثابت في معنى نفسه، فيلزم ظرفيّة الشيء لنفسه(1).

وأيضًا على هذا التقدير ينبغي إرجاع الضمير في «نفسه» إلى المعنى حتّى لا يلزم منه تقدير مضاف، ثمّ بناءً على هذا المعنى يشاهد الاختلاف بين الحروف في تحقّق هذا المعنى فيه، إذ كلمة «في» ونحوها ممّا لا بأس به؛ إذ هي للظرفيّة، وثبوتها في الكوز وقيامها به في قولك: «الماء في الكوز» ظاهر، وفي قولك: «زيد كعمرو»، إذ المثليّة الّتي [هي] مدلول الكاف ثابتة في معنى أحد اللفظين.

وكذا الكلام في مثل: «الجلّ للفرس» وأمثالها، إلّا أنّ مثل: لعلّ وليت وهل ومن وإلى في مثل قولك: لعلّ زيدًا قائم، وليت الشباب يعود، وهل زيد قائم، وسرت من البصرة إلى الكوفة، ونحوها، تحقّق المعنى المذكور فيه مشكل؛ لأنّ كلًا من الترجّي والتمنّي والاستفهام والابتداء والانتهاء ثابت في المتكلّم، لا في معنى الجمل المذكورة بعدها.

لا يقال: إنّ الابتداء والانتهاء في قولك: «سرت من البصرة إلى الكوفة» ثابتان في البصرة والكوفة، ضرورة تحقّق ابتداء كلّ شيء وكذا انتهائه فيه.

لأنّا نقول: ليس المراد من قولهم: إنّ «مِن» للابتداء و«إلى» للانتهاء، أنّهما للابتداء والانتهاء الّذين لمدخولهما، بل المراد أنّ «من» تفيد أنّ أوّل زمان تلبّس

ص: 105


1- ينظر همع الهوامع: 1/ 7.

الفاعل بالفعل المذكور قبل «مِن» فيما بعدها، وأنّ «إلى» مفادها أنّ انتهاء تلبّسه بذلك الفعل فيما بعدها، ولهذا يصحّ أن يقال: «سرت من البصرة إلى الكوفة» مع ابتداء السير من وسط البصرة، بل وآخرها، وانتهائه في(1) أوّل الكوفة.

نعم، كلّ من الترجّي والتمنّي والاستفهام ونحوها متعلّق بمعاني الجمل المذكورة بعدها، لا أنّها ثابتة فيها، وإرادة هذا المعنى من الثبوت فيها(2) يستلزم انتقاض طرد حدّ الحرف بدخول هذه الأسماء -أي التمنّي والترجّي ونحوهما من الأسماء الدالّة على المعاني المتعلّقة بمعاني غيرها- فيه.

وأيضًا إذا كان معنى همزة «اضرب» ونون «نضرب» وتاء «تضرب» عين ما دلّت عليه «أنا» و«نحن» و«أنت»، كيف يكون معنى الحرف غير مستقلّ بالمفهوميّة، وكيف يحكم بحرفيّة بعضها واسميّة الآخر مع اشتراكهما في المفهوم؟!

ثمّ على تقدير تسليم الجميع، حملُ الكلام عليه غير مجد لدفع الاعتراض؛ لتصريحه (قدس سره) بأنّ الحرف وحده لا معنى له أصلًا، فقال: «إذا أفرد عن متعلّقه بقي غير دالّ على معنى أصلًا»(3)، فتكون دلالته على معناه موقوفة على ذكر المتعلّق، فلا تكون دلالته بنفسه، وهو عين الاعتراض.

إلّا أن يقال: إنّ هذا مأخوذ في وضع الحرف، فإذا أفرد عن المتعلّق لم يكن مستعملًا فيما وضع له، فاستعماله فيما وضع له إنّما يكون إذا ذكر مع المتعلّق.

ص: 106


1- في «ق»: من.
2- أي في معاني الجمل المذكورة.
3- شرح الرضيّ على الكافية: 1/ 38، وفيه: «فإذا انفرد عن ذلك الشيء بقي غير دالّ على معنى أصلًا».

لكنّا نقول: هذا لا معنى له؛ لأنّ الموضوع له للفظ هو ما عيّن اللفظ بإزائه، والاقتران بالمتعلّق لا يجعل غير الموضوع له موضوعًا له.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الواضع جعل الاقتران بالمتعلّق شرطًا للدلالة على الموضوع له، فإذا أفرد عنه انتفت الدلالة؛ لانتفاء شرطها على ما ذهب إليه بعضهم(1).

لكن بناءً الكلام عليه غير حاسم للإشكال على ما هو غنيّ عن البيان، مع أنّه يرد عليه: أنّ معنى الحرف الّذي اشترط ذكر المتعلّق في دلالته عليه لا يخلو إمّا أن يمكن دلالة الحرف عليه من دون أن يذكر المتعلّق، أم لا؛ وكلاهما فاسد، أمّا الأوّل: فلأنّه إنّما يكون إذا كان(2) الحروف موضوعة للنسب المطلقة الّتي يعبّر عنها بلفظ «الاسم»، كالابتداء والانتهاء والغرض(3) ونحوها، فيلزم اتّحاد المعنى الحرفيّ والاسميّ، فتكون معاني الحروف مستقلّة، فحينئذٍ يصحّ وقوعه محكومًا عليه وبه، فيبطل(4) اتّفاقهم على عدمه.

وأيضًا لو كانت المعاني الحرفيّة ما ذكر، يلزم من اشتراط الدلالة بذكر المتعلّق إمّا خروج الشرط عن كونه شرطًا، أو تخلّف المعلول عن علّته التامّة، والتالي بشقّيه باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الشرطيّة فلأنّا نقول: إنّه لو استعمل الحرف من غير ذكر المتعلّق، إمّا أن

ص: 107


1- لم نعثر عليه في مظانّه.
2- كذا في الأصل، والصواب: كانت.
3- كذا في الأصل، وفي «ج»: والعرض.
4- في «ق»: فيبطله.

يكون دالًّا على معناه حينئذٍ وينتقل المخاطب منه إليه، أو لا؛ وعلى الأوّل يلزم الأوّل؛ لأنّ المفروض أنّ ذكر المتعلّق شرط في تحقّق الدلالة وقد تحقّقت مع انتفائه، وعلى الثاني الثاني؛ إذ وضع اللفظ لمعنى مستقلّ مع علم المخاطب بوضعه له علّة تامّة لدلالته عليه وانتقاله منه إليه والمفروض تحقّقه مع انتفاء الدلالة، فيلزم التخلّف، وأمّا بطلان التالي فظاهر.

وأيضًا لو كانت المعاني الحرفيّة ما ذكر، يمكن الاستغناء في الدلالة عليها عن الاشتراط كما في الأسماء، فالاشتراط مع إمكان الاستغناء عنه لغوٌ بحتٌ لا يصار إليه.

وأمّا الثاني: -أي ما إذا لم تكن دلالة الحرف على المعنى إلّا بذكر المتعلّق، وذلك إنّما يكون إذا كان المعنى النسب المخصوصة- فلأنّ ذكر المتعلّق حينئذٍ ضروريّ يحكم به العقل؛ لوضوح أنّ النسبة لا تتعيّن إلّا بالمنسوب إليه، فما لم يذكر متعلّق الحرف لا يتحصّل معناه لا في العقل ولا في الخارج على ما سيجيء تحقيقه، فلا افتقار إلى اشتراط الواضع(1).

الجواب الثاني عن الإشكال الرابع

والجواب الثاني عن الاعتراض: ما ذكره بعضهم(2)، حاصله: أنّ الاعتراض مبنيّ على حمل الدلالة بنفسه المأخوذ في حدّ الوضع على أن تكون(3) الدلالة

ص: 108


1- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 7.
2- لم نعثر عليه في مظانّه.
3- في «ج»: لا يكون.

مستندة إلى نفس اللفظ الموضوع من غير افتقار إلى غيره مطلقًا؛ وهو ليس بلازم؛ لجواز أن يكون المراد من الدلالة بنفسه أن لا يكون بواسطة قرينة مانعة عن المعنى الأصليّ، فلا يضرّ الافتقار في الدلالة إلى ما لم يكن كذلك، فحينئذٍ نقول: إنّ الحرف وإن كان دالًّا على المعنى بواسطة المتعلّق، لكنّه ليس مانعًا عن المعنى الأصليّ في الحرف كما لا يخفى.

وهذا الجواب كأنّه مبنيّ على حمل كلمة «في» في الحدّ على السببيّة وجعل الظرف لغوًا.

وفيه أيضًا نظر، أمّا أوّلًا: فلأنّ المراد بالمعنى الأصليّ إمّا الموضوع له، أو غيره، وكلاهما فاسد، أمّا الأوّل فلاستلزامه الدور؛ لأنّه في قوّة أخذ الوضع في تعريفه، وأمّا الثاني: فلأنّه غير معلوم، فيلزم جهالة الشيء المأخوذ في الحدّ، وهي غير جائزة؛ لأنّ التحديد إنّما هو لتحصيل المعنى المحدود، وهو مع الجهل بالحدّ غير معقول.

وقد أجيب عن ذلك: بأنّ المراد بالمعنى الأصليّ ما لا يستعمل اللفظ باعتباره إلّا فيه، أو فيما يناسبه، فلا يلزم جهالة المأخوذ في الحدّ كما لا يخفى، ولا الدور؛ لأنّ تصوّر المعنى الأصليّ بهذا الوجه غير متوقّف على معرفة الوضع قطعًا.

وفيه نظر؛ لأنّ الضمير في «باعتباره» إمّا راجع إلى الوضع، أو إلى المعنى، لا سبيل إلى الثاني؛ لأنّ استعمال اللفظ في المعنى ليس باعتباره، ألا ترى أنّه لو لم يتحقّق الوضع له، لا يمكن استعماله فيه أبدًا، بل السبب لصحّة استعمال اللفظ في المعنى إنّما هو الوضع، فتعيّن الأوّل، فيلزم الدور لما مرّ.

وأيضًا الانحصار المذكور إنّما يصحّ في الألفاظ المفردة، وأمّا في الألفاظ المشتركة فلا؛ لأنّه كما يصحّ استعمال اللفظ المشترك باعتبار الوضع لمعنى فيه وفيما

ص: 109

يناسبه، كذلك يصحّ استعماله باعتباره أيضًا في غيره، وهو المعنى الآخر له وما يناسبه، فتأمّل.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ الظاهر من دلالة اللفظ لذاته أو لنفسه، استقلاله في الدلالة وعدم توقّفه على شيء أصلًا، لا على القرينة المانعة عن المعنى الأصليّ ولا على غيرها، فحمله على المعنى المذكور لما فيه من شدّة المخالفة لظاهر اللفظ لا يصار إليه في مقام الحدود والتعاريف.

وأمّا ثالثًا: فلأنّه يقتضي ثبوت الوضع بالمعنى المذكور في الكناية؛ لأنّ القرينة فيها ليست مانعة عن إرادة المعنى الأصلي، فيلزم أن تكون الكناية حقيقة؛ لاتّفاقهم على انحصار الوضع بالمعنى المذكور في الحقائق، وهو فاسد كما لا يخفى.

وربّما أجيب عن الإشكال: بأنّ المراد من دلالة اللفظ بنفسه أن لا تكون دلالته على المعنى بواسطة قرينة مانعة عن غيره.

وهذا الجواب وإن كان يفترق عن الجواب المذكور بسلامته عن الاعتراض الأوّل، لكن يشترك معه في الاعتراضين الأخيرين كما لا يخفى، إذ هما في المآل متقاربان، ولهذا أدرجناه في ضمنه.

الجواب الثالث عن الإشكال الرابع

والجواب الثالث عن الاعتراض: ما اختاره جمع من المحقّقين(1)، حاصله: أنّا لا نسلّم انتفاء الوضع بالمعنى المذكور في الحروف؛ وما اشتهر في ألسنة النحاة من نسبة

ص: 110


1- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 659 و662.

الحرف(1) إلى عدم الاستقلال إمّا يكون منافيًا لذلك إذا كان مرادهم عدم الاستقلال في الدلالة؛ وهو غير مسلّم؛ لتصريحهم بأنّ المراد عدم الاستقلال بحسب المفهوم، بناءً على أنّ معنى الحرف أمر نسبيّ، والنسبة لا تتعيّن ولا تتحصّل إلّا بتعيّن(2) المنسوب إليه وتحصّله.

فالمعنى الحرفيّ لقصوره في نفسه ونقصانه في حدّ ذاته لكونه تعلّقيًّا، لا يمكن أن يتعقّل إلّا بذكر متعلّقه، ولا أن يتحصّل إلّا بتحصّله، فعدم الاستقلال إمّا هو لذلك، وكذا الافتقار إلى ذكر المتعلّق.

فتكون المعاني الحرفيّة في الأذهان كالأعراض الموجودة في الأعيان، وكما أنّ تحصّل الأعراض وتحقّقها في الخارج لا يمكن إلّا بموضوع تقوم به ومحلّ تتحصّل بتحصّله، كذلك المعنى الحرفيّ لنقصانه في ذاته لا يمكن أن يتحصّل في الذهن إلّا بتحصّل متعلّقه، فما لم يوجد المتعلّق في الذهن ولم يعقل لا يمكن وجود المعنى الحرفيّ فيه وتعقّله؛ لكونه حالته، فلا يكون ذكر المتعلّق لافتقار الحرف في الدلالة إليه واشتراطها به.

فعلى هذا نقول: إنّ الوضع بالمعنى المذكور متحقّق في الحروف، وهي مستقلّة في الدلالة على معانيها وإن لم يكن وجودها كافيًا لوجود المدلول لنقصانه.

وذلك كما يقال: إنّ الباري تعالى قادر على أشدّ أنحاء القدرة ومستقلّ فيها بأكمل وجوه الاستقلال، ومع ذلك لا يُوْجد الممتنع كشريك الباري واجتماع النقيضين؛ لكون نفسه آبية عن الوجود وناقصة عن التحصّل، وكما أنّ نقصان ذاته

ص: 111


1- في «ق»: الحروف.
2- في «ق»: بتعيين.

عن التحصّل وإباء نفسه عن الموجوديّة لا يصير دليلًا على ضعف قدرة القادر وعدم استقلاله فيها، كذلك نقصان المعنى الحرفيّ في ذاته وإبائه عن التعقّل منفكًّا عن المتعلّق لا يصير دليلًا على ضعف دلالة الدالّ وعدم استقلاله فيها.

إن قيل: إنّ الدلالة على ما عرّفها الجمهور: كون الشيء بحيث يحصل من العلم به العلم بشيء آخر، وهو المدلول(1)، واستقلال الحرف فيها مع عدم العلم بالمدلول منافٍ لذلك.

قلنا: العلم بالدالّ إنّما يستلزم العلم بالمفهوم إذا أمكن العلم به بمجرّد ذلك العلم، أي عند انتفاء المانع، وقد عرفت المانع.

على أنّا نقول: إنّ اللازم من التفسير المذكور للدلالة أنّ العلم بالدلالة يستلزم العلم بالمدلول، والعلم بها في الحروف إنّما هو عند اقترانها بالمتعلّق، فحينئذٍ يحصل العلم بالمفهوم، وأمّا عند عدمه فلا؛ لما عرفت.

فإن قلت: إذا كان استقلال الحرف في الدلالة غير كافٍ لحصول المفهوم وتعقّله، بل لا بدّ في ذلك من ذكر المتعلّق، فالحكم باستقلاله فيها وعدم اشتراطها بذكر المتعلّق مع عدم حصولها إلّا به تحكّم ظاهر.

قلنا: لمّا رأيناهم مطبقين على اتّصاف الحروف بالحقيقة وأنّها غير منفكّة عن الوضع بالمعنى المذكور، لزمنا الحكم بذلك؛ وإنّما المقصود في هذا المقام التنبيه على أنّ ما اشتهر بينهم من عدم استقلال الحروف بحسب المفهوم غير منافٍ لذلك لما مرّ.

ص: 112


1- ينظر الحاشية على تهذيب المنطق: 23 و188، وتحرير القواعد المنطقيّة: 83، وكتاب التعريفات: 46، وشرح مطالع الأنوار: 1/ 103.

وكذا قولهم: «الحرف ما دلّ على معنى في غيره» غير منافٍ أيضًا؛ لجواز أن يكون كلمة «في» للسببيّة والظرف مستقرًّا صفة، فيكون المعنى: الحرف ما دلّ على معنى حاصل بسبب غيره على ما تقدّم، والّذي يلزم من ذلك حصول المعنى الحرفيّ بسبب الغير، وهو ممّا لا ريب فيه كما عرفت، لا أن تكون دلالته بالغير حتّى يلزم(1) عدم الاستقلال في الدلالة.

وكيف مع أنّه لو كان المراد ذلك، ينتقض طرد حدّ الحرف بدخول المجازات بأسرها فيه، لكن يمكن دفع ذلك بأنّ المراد بالغير في تفسير الحرف متعلّق المعنى الحرفيّ كما صرّحوا به، والّذي يكون لأجله دلالة المجازات على المعاني المجازيّة هو القرينة، لا متعلّق المعنى.

وممّا يدلّ على هذا المعنى ما وقع من صاحب التسهيل في تعريف الكلمة حيث قال:

إنّها لفظ مستقلّ دالّ بالوضع، إلى آخره(2).

ومعلوم أنّ الكلمة منقسمة إلى الاسم والفعل والحرف، فلا بدّ أن يكون الحدّ شاملًا لكلّ من أقسام المحدود كما لا يخفى، فيجب أن يكون الحرف أيضًا مستقلًّا دالًا بالوضع، والاستقلال إمّا بحسب المفهوم أو الدلالة، وحيث قد عرفت عدم جواز إرادة المعنى الأوّل، فقد تعيّنت إرادة الثاني، وهو المطلوب، فلا حاجة إلى ما حملنا الكلام عليه في «الحلية اللامعة»(3).

ص: 113


1- في «ق»: تلزم.
2- تسهيل الفوائد: 3.
3- الحلية اللامعة، للمصنّف (قدس سره): 1/ 170.

وأيضًا يجب صدق الدالّيّة بالوضع بالنسبة إلى جميع الأقسام، وحيث قد كانت الدلالة في أخويه على سبيل الاستقلال، ينبغي أن تكون بالنسبة إليه أيضًا كذلك؛ مضافًا إلى أنّه الظاهر المتبادر من قولك: الدالّ بالوضع، كما لا يخفى.

وإرادة الدلالة الاستقلاليّة بالنسبة إلى الاسم والفعل وغيرها بالنسبة إلى الحرف يستلزم الجمع بين المعنى الراجح والمرجوح، بل الحقيقة والمجاز، وهو غير جائز في نفسه، سيّما في مقام الحدود والتعاريف، كما لا يخفى.

وإن أردت تكميل المرام بتوضيح المقام، فاعلم: أنّ المعاني الحرفيّة والاسميّة متّحدة بالذات ومختلفة بالاعتبار، وتتّصف(1) بالاستقلال وعدمه باختلاف المقاصد والأغراض، فإذا لوحظت قصدًا وبالذات تكون معاني اسميّة مستقلّة؛ وإذا لوحظت لا من هذه(2) الحيثيّة، بل آلة لملاحظة حال الغير ووصلة لتعرّف حاله، تكون معاني حرفيّة غير مستقلّة.

فالابتداء مثلًا معنى متعلّق بالغير وحالة له إذا لاحظه العقل بذاته ويكون المقصود من تعقّله ذاته، لا أن يكون آلة لتعرّف حال متعلّقه، يكون معنى مستقلًّا في نفسه ملحوظًا في ذاته صالحًا لأن يحكم عليه وبه بأن يقال: الابتداء خير من الانتهاء مثلًا، ويلزمه تعقّل متعلّقه إجمالًا وتبعًا، ضرورة أنّ الابتداء لا ينفك عمّا له الابتداء، وهو بهذا الاعتبار مدلول لفظ «الابتداء».

وإذا لاحظه من حيث إنّه آلة لتعرّف حال الغير، كما إذا لاحظه من حيث هو حالة بين السير والبصرة، وجعله آلة لتعرّف حالهما بأن يكون السير منها لا من

ص: 114


1- في «ق»: ويتّصف.
2- في «ق»: هذا.

غيرها، كان معنى غير مستقلّ بنفسه، لا يصلح أن يحكم عليه وبه؛ لأنّ الحكم على الشيء أو به إنّما يمكن إذا كان ملحوظًا قصدًا ليمكن اعتبار النسبة بينه وبين غيره، وهو بهذا الاعتبار مدلول لفظة «مِن».

وإن كنت في تحيّر في تصوير ذلك وريب في الفرق بين المعاني الاسميّة والحرفيّة، فاعلم: أنّ المدركات بالقوى الباطنة كالمحسوسات بالقوى الظاهرة، فكما أنّك تنظر تارةً إلى المرآة ويكون الداعي إلى ذلك اختبار حال الصورة، فلا شكّ أنّ لك حينئذٍ مبصَرَين: الصورة والمرآة، لكن لا شبهة في أنّ المشاهد ذاتًا وقصدًا الصورة، وإنّما تكون المرآة مشاهدة بتبعيّتها؛ لأنّك جعلتها آلة لملاحظتها ووصلة لتعرّف حالها، ولا ريب أنّ الصورة حينئذٍ بحيث نقدر أن نحكم عليها بالحسن أو القبح، وأمّا المرآة فإنّها ليست بمشاهدتها على هذا الوجه بحيث نقدر أن نحكم عليها.

وأخرى يتعاكس الأمر بأن تنظر إلى المرآة ويكون الداعي اختبار حالها(1)، فلا شكّ أنّ لك حينئذٍ مبصَرَين أيضًا: المرآة والصورة، والكلام في الملحوظ قصدًا وتبعًا ظاهر، ولا شبهة أنّ المرآة حينئذٍ بحيث تقدر أن تحكم عليها، وأمّا الصورة(2) فلا.

وهكذا الأمر في اللمس والذوق والشمّ والسمع، فإنّك قد تلمس أو تذوق أو تشمّ أو تسمع شيئًا ويكون الداعي اختبار حال الملموس والمذوق والمشموم

ص: 115


1- جاء في حاشية الأصل: وفيه تأمّل، والأولى على محاذاة ما سيأتي أن يقال: إنّك قد تنظر إلى شيء ويكون الداعي اختبار حال المبصر، فحينئذٍ يكون المبصر ملحوظًا قصدًا، يكون بحيث تقدر أن تحكم عليه، ويكون البصر في تلك الحالة ملحوظًا تبعًا وآلة لتعرف حاله؛ وقد يكون الداعي إلى النظر اختبار حال البصر، فحينئذٍ يكون البصر ملحوظًا قصدًا يصلح أن يحكم عليه، والمبصر الملحوظ تبعًا وآلة غير صالح لذلك كما لا يخفى. منه.
2- في «ق»: في الصورة.

والمسموع، ولا شبهة أنّ هذه الأشياء في تلك الحالة مقصودة قصدًا يمكن أن يحكم عليها أو بها؛ وأمّا الحواسّ المذكورة فإنّما جعلت آلة لملاحظة حالها ووصلة لتعرف أحوالها وملحوظة تبعًا، فلا ريب أنّها حينئذٍ ليست بحيث تقدر أن تحكم عليها أو بها.

وقد يكون الداعي إلى الإحساس اختبار حال الحواسّ، فإنّها حينئذٍ ملحوظة قصدًا، والأمور المذكورة من المذوق والمشموم ونحوها ملحوظة تبعًا وجعلت آلة لتعرف حالها عكس ما في الأوّل، والحال في صلاحيّة الحكم والعدم كذلك.

وكذلك الحال في المدركات بالقوى الباطنة، فإنّ معنى واحدًا كالابتداء مثلًا قد يدرك ملحوظًا قصدًا ويكون الداعي إلى الإدراك ملاحظة نفسه، لا أن يجعل آلة لملاحظة غيره، فإنّه حينئذٍ يكون معنى اسميًّا مستقلًّا يصلح أن يحكم عليه أو به، وقد يدرك لا قصدًا، بل تبعًا وآلة لملاحظة غيره ووصلة لتعرف حاله، فحينئذٍ يكون معنى حرفيًّا غير مستقلّ لا يصلح لأن يحكم عليه أو به.

وكذا الكلام في النسبة الّتي في: «زيد كاتب»، وقولك: نسبة الكتابة إلى زيد، فإنّها في الأوّل مدركة من حيث إنّها حالة بين «زيد» و«كاتب» وآلة لتعرف حالهما، فكأنّها مرآة تشاهدهما بها مرتبطًا أحدهما بالآخر، فيكون معنى حرفيًّا غير مستقلّ بالمفهوميّة، فلا يمكن أن يحكم عليها أو بها ما دامت مدركة على هذا الوجه، وفي الثاني ملحوظة في ذاتها مدركة بنفسها من غير أن يجعل آلة لملاحظة الغير ووصلة لتعرف حاله، فيكون معنًا اسميًّا مستقلًّا بالمفهوميّة صالحًا لأن يحكم عليه أو به.

وكذا الكلام في الظرفيّة والغرض(1) والتمنّي والترجّي ونحوها، ولهذا يقال:

ص: 116


1- كذا في الأصل، وفي «ق»: والعرض.

إنّ لفظة «مِن» مثلًا موضوعة لكلّ واحد من جزئيّات الابتداء المخصوصة المتعقّلة من حيث إنّها حالات لمتعلّقاتها وآلات لتعرف أحوالها(1).

إذا علمت المعنى الحرفيّ، ظهر لك أنّه لو لم يذكر متعلّقه لا يتحصّل معناه، لا في العقل ولا في الخارج، وإنّما يتحصّل بتحصّله ويتعقّل بتعقّله، فذكر المتعلّق إنّما هو ممّا حكم به العقل وقضى به الفطرة في تحصّل معناه، لا أنّه ممّا يشترط به الواضع في دلالة الحرف حتّى يلزم عدم الاستقلال فيها كما تقدّم.

الجواب الرابع عن الإشكال الرابع

والجواب الرابع: هو أنّه إن كان المراد بالدلالة التفصيليّة، فانتفاؤها في الحروف وإن كان مسلّمًا، لكن لا نسلّم اعتبارها في حدّ الوضع، وكيف؟! مع أنّه لا اختصاص له بالحروف، إذ كثير من الأسماء كذلك، كما عرفت في الألفاظ المشتركة وغيرها.

وإن كان المراد أعمّ، فاعتبارها في تعريف الوضع وإن كان مسلّمًا، لكن لا نسلّم انتفاء الدلالة الإجماليّة في الحروف؛ لظهور انتقال الذهن حين استماع لفظة «مِن» إلى واحد من الابتداءات الجزئيّة الربطيّة، كما لا يخفى، وكذا الحال في «إلى» و«في» وغيرهما، وهو ظاهر، والافتقار إلى ذكر المتعلّق إنّما هو للدلالة التفصيليّة، كالقرينة في المشترك، فالدلالة الإجماليّة في الحروف ذاتيّة، وهو يكفي لدفع المحذور.

ص: 117


1- جاء في حاشية الأصل: والحاصل: أنّ الوضع في الحرف وإن كان عامًّا، لكن الموضوع له خاصّ، إذ الحروف موضوعة باعتبار معنى عامّ، وهو نوع من النسبة كالابتداء مثلًا لكلّ ابتداء معيّن بخصوصه، إذ لو كان الموضوع له أيضًا تلك النسب المطلقة تكون معاني الحروف مستقلّة. منه.

ويمكن الجواب أيضًا بعد تسليم انتفاء الدلالة الذاتيّة في الحروف، بأنّ انتفاء الدلالة الذاتيّة فيها لا ينافي ثبوت الوضع بالمعنى المذكور فيها؛ لما تقدّم سابقًا من أنّ الوضع بالمعنى المذكور يشتمل على فعل وغاية، وغاية ما يلزم بعد تسليم انتفاء الدلالة الذاتيّة انتفاء الغاية، وهو غير مستلزم لانتفاء الفعل، إذ ربّ فعل لا يترتّب عليه غايته، فحينئذٍ نقول: يجوز أن يكون الوضع بالمعنى المذكور فيها متحقّقًا، ومع ذلك تكون الدلالة متوقّفة على الغير، فالإيراد إنّما يكون متوجّهًا إذا اعتبرت الدلالة الذاتيّة في الحقيقة أو الوضع، لكنّ الأمر ليس كذلك.

إن قيل: ثبوت الوضع بالمعنى المذكور ينبغي أن يكون مستلزمًا لتحقّق الغاية، وكذا انتفائها ينبغي أن يكون مستلزمًا لانتفاء الوضع، وإلّا يلزم خلوّ الوضع عن الفائدة، وهو فاسد؛ لأنّ الفاعل المختار لا ينفك فعله عن الفائدة كما حقّق(1) في محلّه.

قلنا: المعتبر في الفاعل المختار اعتقاد الفائدة وكون الفعل لأجلها، وأمّا مطابقة هذا الاعتقاد للواقع فلا، كما لا يخفى، واللازم على تقدير انتفاء الدلالة الذاتيّة فيما نحن فيه عدم مطابقته للواقع، لا عدم الاعتقاد، فاللازم غير محذور والمحذور غير لازم.

نعم، يتوجّه حينئذٍ ما سبق إليه الإشارة من أنّ تحقّق الفعل وانتفاء الغاية وإن لم يكن ممتنعًا، لكن ذلك إنّما يكون إذا لم يكن الفاعل حال الفعل عالمًا بعدم ترتّبها عليه، وأمّا معه فلا، إذ الفعل مع العلم بعدم ترتّب الفائدة كالفعل مع عدم الاعتقاد بها أو اعتقاد عدمها.

ص: 118


1- في «ق»: تحقّق.

ويمكن الجواب عنه بأنّ المعاني على قسمين: مستقلّة وغير مستقلّة، والمحوج إلى وضع اللفظ للقسم الأوّل محوج إلى وضعه للقسم الثاني أيضًا، إذ كما أنّ الحاجة داعية إلى التعبير عن القسم الأوّل، كذلك داعية إلى التعبير عن القسم الثاني أيضًا، فكما يجب وضع اللفظ لذاك يجب وضعه لذا أيضًا.

إن قلت: سلّمنا ذلك، لكنّ الكلام في التعيين للدلالة الذاتيّة أو لا، فيمكن وضع اللفظ له وتجعل دلالته مشروطة بالغير.

قلنا: القدر المتيقّن في المقام توقّف حصول المعنى فيما نحن فيه بالغير كما سبق مشروحًا، وكذا توقّف الدلالة على التسليم، وأمّا كون الاشتراط فيها(1) من الواضع حتّى يلزم انتفاء الوضع بالمعنى المذكور في الحروف، فغير معلوم وغير مسلّم، فتأمّل جدًّا.

في أنّ الفعل لا يلزم أن يكون حقيقة ولا مجازًا مع الجواب عنه

الإشكال الخامس
اشارة

والإشكال الخامس، هو أنّه لو كان الوضع المعتبر في الحقيقة والمجاز الوضع بالمعنى المذكور، يلزم أن لا تكون الأفعال حقيقة ولا مجازًا، واللازم باطل لما عرفت مرارًا، فالملزوم مثله.

أمّا الملازمة؛ فلأنّهم ذكروا أنّ الأفعال موضوعة للحدث والزمان والنسبة إلى فاعل معيّن، ومعلوم أنّه لو لم يذكر الفاعل المعيّن لا يدلّ على النسبة، فلا تحصل دلالته على المعنى الموضوع له؛ لأنّ توقّف دلالته على الجزء على الغير يستلزم

ص: 119


1- أي في الدلالة.

توقّف الدلالة على الكلّ عليه، فثبت أنّ الفعل لا يدلّ على المعنى الموضوع له بنفسه، ولمّا كان المعتبر في الوضع المعتبر في الحقيقة الدلالة النفسيّة، فلا يكون الفعل عند استعماله فيما وضع له حقيقة.

وأمّا عدم كونه مجازًا؛ فلأنّ المجاز اللفظ المستعمل في غير الموضوع له بذلك المعنى، فيتوقّف تحقّقه على ثبوت الوضع بذلك المعنى، وقد عرفت انتفاءه، ومن البيّن أنّ انتفاء الموقوف عليه يستلزم انتفاء الموقوف، فيلزم أن لا تتّصف الأفعال بالحقيقة ولو عند استعمالها فيما وضعت له، ولا بالمجازيّة ولو عند استعمالها في غيره.

الجواب عن الإشكال الخامس
اشارة

ويمكن الجواب عنه من وجوه:

الجواب الأوّل

الأوّل: هو ما تقدّم في الحرف(1)، حاصله: أنّ الافتقار إلى الغير إنّما هو لقصور المعنى ونقصه، بناءً على أنّ النسبة لمّا كانت مأخوذة في معنى الفعل، ومعلوم أنّها لا تعقل إلّا بتعقّل طرفيه، فما لم يذكر الفاعل لا يتحصّل معناه، فلا يمكن تعقّله، فالافتقار إلى ذكر الفاعل لذلك، لا لعدم استقلال الفعل في الدلالة حتّى يلزم انتفاء الدلالة الذاتيّة فيه، فيرد الانتقاض به.

الجواب الثاني

والثاني: هو الجواب الرابع في الحروف، فتدبّر حتّى يظهر لك الحال، فلا افتقار إلى تفصيل المقال.

ص: 120


1- في «ق»: الحروف.
الجواب الثالث

والثالث: هو أنّ الفعل له مدلول مطابقيّ، وهو الحدث والزمان مع نسبة الأوّل إلى فاعل معيّن، ومدلول تضمّنيّ، وهو كلّ من الحدث والزمان، وانتفاء الدلالة الذاتيّة إنّما هو بالنسبة إلى المدلول المطابقيّ، وأمّا بالنسبة إلى الدلالة التضمّنيّة فثابتة؛ لوضوح أنّ الفعل بالنسبة إلى الدلالة على الحدث مثلًا لا يتوقّف على انضمام ضميمة إليه.

فحينئذٍ نقول: إنّ قولهم في تفسير الوضع: أنّه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى لذاته(1)، أعمّ من أن يكون المعنى مطابقيًّا أو تضمّنيًّا، فالدلالة الذاتيّة بالنسبة إلى أيّ منهما كانت كافية لتحقّق الوضع، وإنّما ينتفي بانتفائها ولو بالنسبة إلى الدلالة التضمّنيّة، فتأمّل(2).

فعلم من ذلك أنّ الفعل له معنى غير مستقلّ، وهو المدلول المطابقيّ، ومعنى مستقلّ، وهو المدلول التضمّنيّ، وانتفاء الدلالة الذاتيّة إنّما هو بالنسبة إلى الأوّل دون الثاني.

لكن يرد هنا إشكال، وهو أنّ الدلالة التضمّنيّة دلالة اللفظ على الجزء في ضمن دلالته على الكلّ، أي المدلول المطابقيّ، فلا يمكن انفكاكها عنها، فكيف يمكن أن تكون الدلالة التضمّنيّة لذاته مع كونها متوقّفة على الدلالة

ص: 121


1- ينظر قوانين الأصول: 2/ 19.
2- جاء في حاشية الأصل: وجهه أنّ الظاهر من المعنى هو المعنى المطابقيّ، كما هو المراد بالنسبة إلى غير الفعل، فإرادة المعنى التضمّنيّ يستلزم الجمع بين المعنى الظاهر وغيره في لفظ واحد بإرادة واحدة، وهو غير مرضيّ عند المحقّقين. منه.

المطابقيّة المتوقّفة دلالتها على الغير؟!

الجواب الرابع

والجواب الرابع: وهو التحقيق أن يقال: إنّ ذلك مبنيّ على أن تكون النسبة إلى فاعل معيّن مأخوذةً في وضع الفعل، وهو غير صحيح، بل الحقّ وفاقًا لبعض المحقّقين أنّه موضوع للحدث والزمان مع نسبة الأوّل إلى فاعل ما(1).

فعلى هذا نقول: إنّه لا يحتاج في الدلالة على هذا المعنى إلى ضميمة، ضرورة أنّه عند استماع لفظة «ضرب» ينتقل الذهن إلى الحدث والزمان المخصوص ونسبة الحدث إلى فاعل ما، فلو كانت النسبة إلى فاعل معيّن معتبرة في وضعه، لكان معناه المطابقيّ: الحدث والزمان ونسبته إلى فاعل معيّن، فما لم يذكر الفاعل المعيّن لم يتحصّل المعنى المطابقيّ، فيلزمه عدم تحصّل المعنى التضمّنيّ أيضًا لما عرفت.

والضرورة قاضية بفساده، إذ يلزم منه أنّ «ضرب» مثلًا حين التجرّد من الفاعل المعيّن لا يفهم منه الحدث أيضًا، أو يلزم تحقّق الدلالة التضمّنيّة من دون الدلالة المطابقيّة، وهو ينافي اتّفاق أئمّة الميزان(2) على عدم تحقّق التضمّن بدون المطابقة، فيكون الفعل مستقلًّا في الدلالة، فاندفع الانتقاض بإعانة المؤيّد الفيّاض، فتأمّل.

ص: 122


1- لم نعثر عليه في مظانّه.
2- حاشية ملّا محمّد صادق على شرح الكاتي على متن ايساغوجي: 48، وتحرير القواعد المنطقيّة: 94 -95.
لِمّ عدم وقوع الفعل مسندًا ووقوع الاسم مسندًا ومسندًا إليه

لِمّ عدم وقوع الفعل مسندًا(1) ووقوع الاسم مسندًا ومسندًا إليه

ذِكْرُ تعليلٍ لحكمٍ مشهورٍ

اعلم: أنّه قد ظهر ممّا ذكرنا سرّ ما اشتهر من وقوع الفعل مسندًا وعدم وقوعه مسندًا إليه؛ إذ قد عرفت أنّه موضوع للحدث مع نسبته إلى الفاعل، فالمسنديّة مأخوذة في وضعه، فوقوعه مسندًا إليه يستلزم خروجه عن وضعه، وأمّا الاسم فلمّا كان موضوعًا لمعنى مستقلّ من غير أن يعتبر نسبته إلى غيره أو نسبة الغير إليه، فلهذا قد يلاحظ على النحو الأوّل، فيقع مسندًا، وقد يلاحظ على الثاني، فيقع مسندًا إليه.

في الفرق بين اسم الفاعل والفعل

دفع إيهام لتتميم مقام

إن قلت: إنّ ما ذكر من كون الفعل موضوعًا للحدث والنسبة إلى فاعل ما، يقتضي أن يكون اسم الفاعل فعلًا؛ لكونه أيضًا للحدث ونسبته إلى ذات ما، فيردّ عليه شيئان، الأوّل: ما ذكر، والثاني: عدم وقوعه إلّا محكومًا به كالفعل؛ وهما خلاف الوفاق.

قلنا: إنّ الزمان جزء من مفهوم الفعل كما تقدّم، واسم الفاعل لم يكن كذلك؛ لأنّه موضوع للذات المتّصفة بالمبدأ، فالفرق(2) بينهما من وجهين، الأوّل: أنّ الزمان جزء من مفهوم الفعل، بخلاف اسم الفاعل، فإنّه لا مدخليّة للزمان في معناه بحسب الوضع، والثاني: هو أنّ الفعل موضوع للحدث المنسوب إلى

ص: 123


1- كذا في الأصل، والصواب كما في «ج»: مسندًا إليه.
2- في «ق»: والفرق.

الذات، واسم الفاعل موضوع للذات المنسوب إليها الحدث، أي المتّصفة به.

إن قلت: كيف لا يكون الزمان داخلًا في مفهوم اسم الفاعل مع أنّ تقسيم النحاة إيّاه إلى الماضي والحال والاستقبال مشهور بينهم، وخلاف أئمّة الأصول في حقيقته في الحال فقط أو في الماضي أيضًا معروف فيما بينهم؟

قلت: ليس مرادهم من ذلك أنّ الزمان جزء من مدلوله، بل مرادهم إطلاق اسم الفاعل على الذات المتّصفة بالمبدأ في الحال أو في الماضي أو في الاستقبال، لا أن يكون ذلك الزمان جزءًا من مفهومه كما لا يخفى.

لا يقال: إنّه يلزم على هذا أن لا يكون اسم الفاعل إلّا مسندًا إليه مع أنّه خلاف الواقع؛ لأنّ اللزوم ممنوع، إذ حاصل ما ذكر أنّ اسم الفاعل موضوع للدلالة على الذات المتّصفة بالحدث المدلول عليه بمادّته، فتلك الذات المتّصفة بذلك الحدث المدلول عليها باسم الفاعل مبهمة، إذ ليس معنى اسم الفاعل كضارب -مثلًا على ما ذكر إلّا- ذا ضرب.

وقد يكون المقصود تعيين تلك الذات، فيقال: زيد ضارب مثلًا، أي زيد نفس تلك الذات المتّصفة بالمبدأ، فيكون اسم الفاعل حينئذٍ مسندًا؛ وقد لا يكون المقصود من ذكر اسم الفاعل ذلك، بل المقصود إثبات حكم لتلك الذات المتّصفة بالمبدأ.

وبعبارة أخرى: إثبات حكم لما صدق عليه تلك الذات، كما في قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾(1)، وكذا قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾(2) ونحوهما، فحينئذٍ يكون اسم الفاعل مسندًا إليه.

ص: 124


1- سورة المائدة: 38.
2- سورة النور: 2.

الباب الأوّل

ص: 125

ص: 126

الباب الأوّل: في تحقيق العلاقة

اشارة

لمّا كان المأخوذ في حدّ المجاز لفظ «العلاقة»، توقّفت معرفته على معرفتها، فلهذا قدّمنا الكلام في بيانها على المباحث الآتية، فنقول: تحقيق الحال فيها يقتضي التكلّم في مباحث:

الأوّل: في وجه اعتبار العلاقة في المجازات.

والثاني: في تحديدها وبيان أنواعها(1).

والثالث: في أنّه هل تكتفي في التجوّز بوجدان العلاقة، أو لا بدّ نقل الآحاد عن أهل اللغة؟

ص: 127


1- جاء في حاشية الأصل: الأنسب تأخير التكلّم في المقام الأوّل عن التكلّم في المقام الثاني. منه.

المبحث الأوّل: في وجه اعتبار العلاقة في المجازات

اشارة

فنقول: وجه اعتبارها في المجازات هو أنّ أمر اللغات توقيفيّ، والتخطّي في الأمور التوقيفيّة يجب أن يكون على قدر ما حصلت فيه الرخصة والّذي علم الإذن فيه من الواضع(1) في استعمال اللفظ في غير ما وضع له عند تحقّق العلاقة.

وأيضًا استعمال اللفظ في غير ما وضع له ارتكاب لما خالف الأصل؛ لأنّ اللفظ إنّما وضع للدلالة على الموضوع له، فاستعماله في غيره إخراج للشيء عن محلّه إلى غيره، والواجب في مخالفة الأصل الاقتصار على القدر الّذي علم الأمن بفساده، وهو فيما نحن فيه إنّما يكون مع تحقّق العلاقة بين الموضوع له وغيره.

وجه اشتراط العلاقة في المعاني المجازيّة

وأيضًا قد عرفت أنّ المجاز: اللفظ المستعمل في غير الموضوع له، ومعلوم أنّ المعاني الغير الموضوع لها غير محصورة ولا متناهية، فلا يمكن استعماله في الجميع كما لا يخفى، فعُيّن(2) بعضها الّذي تحقّقت المناسبة بينه وبين الموضوع له لذلك؛ لئلّا يلزم الترجيح من غير مرجّح.

وأيضًا دلالة المجاز على معناه المجازيّ دلالة للفظ على غير معناه الموضوع له، فلو لم يشترط فيه العلاقة يكون(3) دلالته على بعض المعاني دون غيره تخصيصًا من

ص: 128


1- في «ق وج»: من الواضع بالنسبة إلى استعمال.
2- في «ق وج»: فتعيّن.
3- كذا في الأصل، والصواب: تكون.

غير مخصّص؛ لأنّ نسبة ذلك البعض إلى اللفظ الموضوع كنسبة غيره إليه.

وأيضًا إنّ دلالة المجاز بالنسبة إلى المعنى المجازيّ إمّا من الدلالة الوضعيّة كما عليه علماء الميزان، أو العقليّة كما عليه أئمّة البيان(1)؛ وأيّ منهما كان يستلزم المطلوب.

أمّا الوضعيّة؛ فللانتساب إلى الوضع، فلو لم يكن بين المستعمل له(2) والموضوع له مناسبة، لما كان لهذه النسبة وجه.

وأمّا الثاني: فلأنّه إنّما سمّي بذلك لانتقال العقل من الموضوع له إلى غيره، إمّا على الفور، أو بعد التأمّل في القرائن؛ وذلك إنّما يكون لأجل المناسبة والعلاقة بينهما، حيث يستبق الذهن إلى المعنى الموضوع له، لكن لمّا قامت القرينة على عدم إرادته، ينتقل منه إلى ما يناسبه.

وأيضًا لو لم يعتبر(3) العلاقة في المجاز، لكان المجاز إمّا موضوعًا جديدًا، أو غير مفيد؛ والتالي بشقّيه باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة: هو أنّ المعنى المستعمل فيه إمّا أن يكون قد عيّن ذلك اللفظ له، أو لا، وعلى الأوّل يلزم الأوّل، وهو ظاهر، وعلى الثاني يلزم الثاني؛ لأنّ الدلالة ليست صفة ذاتيّة للفظ حتّى لا يمكن انفكاكها عنه(4)، بل يحتاج في ثبوتها له إلى واسطة، وهو تعيين الواضع إيّاه لشيء، وحيث قد انتفى التعيين كما هو المفروض،

ص: 129


1- ينظر كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 1/ 790 -791.
2- الصحيح كما في «ق»: المستعمل فيه.
3- كذا في الأصل، والصواب: لم تعتبر.
4- المفروض: انفكاكها عنه.

ينتفي(1) الدلالة ضرورة انتفاء المعلول بانتفاء العلّة.

لا يقال: هذا مشترك الورود؛ لوضوح انتفاء التعيين بالنسبة إلى المعنى المجازي في صورة وجدان العلاقة أيضًا.

لأنّا نقول: التعيين وإن كان منتفيًا في تلك الصورة أيضًا، لكن لمّا تحقّقت المناسبة بينه وبين ما عيّن اللفظ له ووجدت القرينة على عدم إرادته، يمكن انتقال الذهن من ذلك اللفظ بمعونة المناسبة والقرينة إلى المعنى المناسب للموضوع له، فتتحقّق الدلالة، وأمّا في صورة فقدان العلاقة، فقد انتفى التعيين والمناسبة، فلا سبيل للإفادة.

وأمّا بطلان الشقّ الأوّل من التالي فظاهر، وأمّا الشقّ الثاني؛ فلأنّ وضع الألفاظ للإفادة والاستفادة.

إن قلت: لا نسلّم انتفاء الإفادة عند انتفاء المناسبة؛ لوضوح أنّ المخاطب بقولك: «خذ الكتاب» مشيرًا إلى الفرس، ينتقل ذهنه إلى أنّ المراد الفرس، فتحقّقت الإفادة مع فقدان المناسبة.

قلنا: الانتقال وإن كان متحقّقًا، لكنّه ليس لأجل إفادة اللفظ، بل من الإشارة الّتي يستلزم تعيّن المشار إليه، فوجود اللفظ وعدمه بالنسبة إلى ذلك الانتقال سيّان.

إن قيل: إنّ التكلّم بالكلام لإفادة المرام، وحيث قد حصلت ينبغي أن يكون صحيحًا، سواء كانت مستندة إلى اللفظ أو القرينة، فلا يضرّ انتفاء العلاقة مع تحصّل الغاية للاستعمال والمحاورة.

ص: 130


1- كذا في الأصل، والصواب: تنتفي.

قلت: فمن البيّن(1) أنّه لا يلزم أن تكون القرينة في المجازات إشارة، وحيث كانت غيرها لم يحصل الغاية، وعلى تقدير أن تكون إيّاها نقول: إنّها مستقلّة في الدلالة ولا مدخليّة للفظ في ذلك أصلًا، فلا فائدة لذكره، فيكون لغوًا، فينبغي أن لا يكون صحيحًا، سيّما إذا كان ذكره محتملًا للإخلال، بل ظاهرًا فيه.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لوضوح أنّه لو لم يذكر لفظ «الكتاب» في المثال المذكور واكتفى بالإشارة، ينتقل المخاطب إلى المشار إليه، وأمّا مع ذكره فيبقى متردّدًا من حيث الإشارة وعدم المناسبة بين المشار إليه ولفظ «الكتاب»، فيقرب تارةً من المقصود ويبعد عنه أخرى، وقد اتّفقوا على أنّ الدالّ على المراد في المجازات هو اللفظ بشرط القرينة أو مجموعهما، وكيف يكون الدالّ على الشيء موجبًا للإخلال به؟!

واتّضح اعتبار العلاقة في المجازات بتأييد المؤيّد للخيرات والموفّق للحسنات.

والتحقيق أنّ الدالّ في المجازات اللفظ بشرط القرينة لا مجموعهما

تعليق جميل

اعلم: أنّه حيث قد(2) أنجرّ الكلام إلى أنّ الدالّ على المراد في المجازات هو اللفظ بشرط القرينة أو مجموعهما، فبالحريّ أن نعطف العنان إلى إظهار الحقّ في ذلك المرام، فإنّي إلى الآن ما رأيت أحدًا منهم قد أبان الحقّ فيه.

فنقول: معنى قولنا: «الدالّ اللفظ بشرط القرينة»، هو أنّ السامع حين استماع

ص: 131


1- في «ق»: من البيّن.
2- «قد» لم ترد في «ق».

اللفظ ينتقل ذهنه إلى الموضوع له، وانتقاله إلى أنّ المراد منه غيره متوقّف على قيام القرينة الصارفة عن الموضوع له، فعند انتفاء القرينة يكون الدالّ موجودًا، لكن وصف الدلالة بالنسبة إلى المعنى المجازيّ غير ثابت، فالقرينةُ مثبتةٌ له الدلالة.

وأمّا إذا كان الدالّ هو المجموع، فعند انتفائها وإن انتقل الذهن إلى الموضوع له وأنّه يتوقّف الانتقال إلى غيره على وجودها، لكن الدالّ ليس بموجود عند انتفائها، بل جزؤه.

رأي المؤلّف (قدس سره)

والتحقيق هو الأوّل، أمّا أوّلًا؛ فلأنّ للوضع عندهم إطلاقين كما تقدّم: عامّ وخاصّ؛ وظاهرهم الاتّفاق على ثبوت الوضع بالمعنى العامّ في المجازات، وهو تعيين اللفظ للدلالة على المعنى، سواء كان بنفسه أو بواسطة غيره، والمراد باللفظ هو المجاز، فتعيّن أن يكون هو الدالّ في المجازات، لا مجموع اللفظ والقرينة.

إن قيل: لا نسلّم منافاة ثبوت الوضع بالمعنى العامّ في المجازات، للقول بأنّ الدالّ مجموع اللفظ والقرينة؛ لجواز أن يكون المراد من «اللفظ» في قولهم: «تعيين اللفظ» ما يشمل القرينة أيضًا، ففي قولك: «رأيت أسدًا في الحمّام»، نقول: إنّه قد عيّن مجموع لفظي «الأسد» و«في الحمّام» للدلالة على المعنى المجازيّ.

قلنا: هذا فاسد، أمّا أوّلًا: فلأنّ القرينة لا يلزم أن تكون لفظًا دائمًا، بل يجوز أن تكون غيره أيضًا، فحينئذٍ لا يمكن أن يطلق اللفظ على مجموع القرينة وذيها كما لا يخفى.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ المفروض ثبوت الوضع بالمعنى المذكور في المجازات، فلو كان المراد من اللفظ ما ذكر يلزم أن يكون المجاز عبارة عن مجموع القرينة وذيها؛

ص: 132

وفساده لا يحتاج إلى البيان.

وأمّا ثالثًا: فلأنّ الوضع الثابت في المجاز هو تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بواسطة غيره، والمراد بالغير القرينة، فلا يجوز أن يكون المراد من اللفظ ما يشمل القرينة؛ لعدم كونها مغايرة اللّفظ المعيّن.

ويمكن الجواب عنه: بثبوت المغايرة بين الجزء والكلّ، فيمكن أن يكون مجموع اللفظ دالًا بواسطة جزئه، لكن لا يخفى ما فيه من التعسّف والتكلّف.

إن قيل: ما المانع عند كون المراد هو اللفظ المجازيّ مع كون الدالّ هو المجموع؟

قلنا: لو كان الدالّ المجموع، لكان اللفظ في المجازات جزءًا للمعيّن والدالّ، فلا يصحّ استناد التعيين والدلالة إليه حقيقة.

وجعله من قبيل تسمية الجزء باسم الكلّ وإن كان ممكنًا، لكنّه مع ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر الّذي يحترز عنه في الحدود، لا يساعده مقابلة هذا المعنى للوضع بالمعنى الخاصّ له المختصّ بالحقيقة، وهو تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه، حيث إنّ المعيّن والدالّ هناك نفس اللفظ من غير افتقار إلى القرينة، فينبغي أن يكون في مقابله أيضًا نفس اللفظ، لكن أعمّ من أن يكون بنفسه أو بغيره.

وأيضًا قد اتّفقوا على ثبوت الوضع بالمعنى العامّ في الحقائق أيضًا، ولا شبهة أنّ الدالّ هناك نفس اللفظ، فينبغي أن يكون فيما نحن فيه أيضًا ذلك.

وأمّا ثانيًا؛ فلأنّه قد تقدّم أنّ الدلالة ليست وصفًا ذاتيًّا للّفظ، بل فيما نحن فيه بمعونة الوضع، وحينئذٍ نقول: إذا أطلق اللفظ يفهم منه العالم بالوضع المعنى الموضوع له لتعيينه الواضع لأجله، وحيث ما وجدت القرينة الصارفة عن ذلك المعنى نقول: إنّ نسبة ذلك اللفظ إلى المعنى المناسب لِمَا عيّن له أولى من نسبته إلى غيره.

ص: 133

وكذا نسبة ذلك المعنى المناسب من بين المعاني إلى ذلك اللفظ أولى من نسبة غيره إليه، فلأجل ذلك ينتقل الذهن منه إليه، وهو معنى دلالة اللفظ على ذلك المعنى، لكن لمّا كان هذا الانتقال متوقّفًا على وجود تلك القرينة على ما تقدّم، قلنا: إنّ الدالّ على المعاني المجازيّة هو اللفظ بشرطها، ولا يمكن انتساب الدلالة على ذلك المعنى إلى القرينة، سواء كانت على سبيل الاستقلال، أو جزءًا للدالّ؛ لأنّ ذلك المعنى لم يكن موضوعًا لتلك القرينة، ولا يلزم أن يكون مناسبًا لما وضعت له أيضًا.

أمّا الأوّل: فظاهر، إذ الكلام على تقديره، وإلّا لم تكن قرينة ولا ممّا يكون الكلام فيه.

وأمّا الثاني: فلأنّه لم يشترط أحدٌ العلاقة بين المعنى المجازيّ ومعنى لفظ «القرينة»، بل العلاقة المعتبرة في المجازات - على ما تقدّم وسيجيء الكلام في تحقيقها - عبارة عن المناسبة بين المعنى المستعمل فيه اللفظ وبين ما وضع له ذلك اللفظ، لا بينه وبين ما وضع له لفظ آخر؛ فلو كان الدالّ في المجازات مجموع اللفظ والقرينة، لزم اعتبار العلاقة بين المعنى المجازيّ وبين المعنى الحقيقيّ لكلا اللفظين، والتالي باطل؛ لما عرفت من عدم اشتراط أحد ذلك، فالمقدّم مثله، والملازمة ظاهرة ممّا ذكرناه.

إن قلت: إنّ المجاز يفتقر إلى قرينتين: صارفة ومعيّنة، والقرينة المعيّنة هي ما عيّنت معنى واحدًا من بين المعاني للفظ، فلو لم تكن القرينة دالّة على المعنى المجازيّ لما أمكن تعيينه.

قلنا: لا نسلّم افتقار المجاز على سبيل الإطلاق إلى قرينتين، بل اللازم فيه الصارفة، وأمّا المعيّنة فلا.

ص: 134

تحقيقه: إنّ المعنى المجازيّ للّفظ إمّا أن يكون واحدًا أو متعدّدًا.

وعلى الأوّل اللازم على المستعمل لذلك اللفظ في المعنى المجازيّ أن يقارنه بالقرينة المانعة عن إرادة المعنى الحقيقيّ، وهي المسمّاة بالقرينة الصارفة، ولا حاجة له حينئذٍ إلى القرينة المعيّنة، بل لا معنى لها أيضًا؛ لتعيّن المعنى المجازيّ في نفسه.

وعلى الثاني نقول: إنّ تلك المعاني المجازيّة(1) إمّا أن يكون لبعضها رجحان بأيّ رجحان كان على غيره، أم لا، وعلى الأوّل إمّا أن يكون البعض الراجح واحدًا أو متعدّدًا، وعلى تقدير التعدّد في الراجح إمّا أن تكون المعاني الراجحة متساوية في الرجحان، أو متفاوتة بالشدّة والضعف.

وكيف كان، والقدر اللازم على المتجوّز عند وحدة الراجح أو الأرجح إذا لم يكن مراده غير الراجح أو الأرجح، هو إقامة القرينة الصارفة لا غيره، إذ الرجحان أو الأرجحيّة يوجب المصير إليهما(2)، فلا حاجة أيضًا إلى المعيّنة(3).

ولا شبهة في حصول الدلالة على المعاني المجازيّة في الصور المفروضة، فنقول: حيث قد ثبتت الدلالة مع عدم مدخليّة للقرينة فيها(4)، -أمّا للصارفة فلما

ص: 135


1- في «ق»: المجازي.
2- جاء في حاشية الأصل: لا يقال: إنّ وحدة المعنى في الأوّل معيّنة له، والراجحيّة والأرجحيّة كذلك في الثاني، فلا يصحّ أن يقال: قد ثبتت الدلالة مع انتفاء القرينة المعيّنة؛ لأنّا نقول: لم يعهد منهم إطلاق القرينة على مثل ذلك، على أنّا نقول: إنّ دلالة المجاز من الدلالة اللفظيّة، وبناءً على الاحتمال المذكور لم يكن الأمر كذلك؛ لكون المركّب من الداخل والخارج خارجًا، فتأمّل جدًّا. منه.
3- جاء في حاشية الأصل: أي كما لا حاجة في صورة وحدة المعنى المجازيّ، لا حاجة إليها عند التعدّد في تلك الصور. منه.
4- جاء في حاشية الأصل: أي على أنّها دالّة، وإلّا التوقّف والاشتراط ممّا لا شبهة فيه كما تقدّم. منه.

تقدّم(1)، وأمّا للمعيّنة فلأنّ المفروض عدمها-، علم أن ليس الدالّ مجموع اللفظ والقرينة، وحيث كان هذا الانتقال متوقّفًا على القرينة(2)، ثبت المدّعى بتمامه.

وأمّا في صورة التعدّد مع انتفاء الراجح والأرجح، فحينئذٍ وإن كان اللازم إقامة القرينتين أو واحدة ذات جهتين، لكنّا نقول: لا يجوز أن يقال: إنّ القرينة المعيّنة حينئذٍ دالّة أو جزءًا للدالّ؛ لانتفاء القول بالفصل؛ ولأنّها لو كانت كذلك لزم انتفاء الدلالة عند انتفائها، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، والملازمة بيّنة، وأمّا بطلان التالي فلما عرفت من تحقّق الدلالة في الصور المتقدّمة مع انتفاء المعيّنة.

غاية ما في الباب أنّا نقول: إنّ الدلالة في الصور السابقة مشروطة بقرينة واحدة، وههنا(3) مشروطة بقرينتين أو ذات جهتين.

على أنّا نقول: يمكن منع الاشتراط أيضًا في المقام بأن يقال: إنّ القرينة المعيّنة في المعاني المجازيّة كالقرينة في الألفاظ المشتركة؛ وحيث قد عرفت أنّها فيها لتعيين

ص: 136


1- جاء في حاشية الأصل: من عدم الوضع والمناسبة. منه.
2- جاء في حاشية الأصل: إذ الدعوى عدميّ ووجوديّ، أمّا العدميّ فهو أنّ الدالّ على المعاني المجازيّة ليس مجموع اللفظ والقرينة، وأمّا الوجوديّ فهو أنّ الدالّ اللفظ بشرطها. منه.
3- جاء في حاشية الأصل: إن قيل: كما أنّ عدم توقّف الدلالة في تلك الصورة على القرينة المعيّنة غير منافٍ لتوقّفها عليها في هذه الصورة، فليكن كذلك فيما إذا كانت جزءًا للدالّ بأن لم يكن عدم الجزئيّة في ذلك المقام منافيًا للجزئيّة ههنا. قلنا: اشتراط شيء بشيء في وقت وبشيئين في آخر ممكن لا شبهة فيه، كما أنّ جزئيّة شيء لشيء في وقت وشيئين له في آخر كذلك، إلّا أنّ عدم الجزئيّة في تلك الصورة مستلزم لعدمها ههنا؛ لأنّ اللفظ هناك كان دالًا لأجل المناسبة والقرينة، فليكن هنا كذلك. منه.

المدلول لا لإثبات الدلالة، نقول: إنّها في المقام أيضًا كذلك بأنّ اللفظ عند قيام القرينة الصارفة عن حمله على الموضوع له، ينتقل الذهن منه إلى جميع المعاني المناسبة له لما تقدّم؛ ولمّا لم يجز استعماله في الجميع، يبقى متردّدًا في أنّ مراد المستعمل أيّ معنى من تلك المعاني المناسبة المدلول عليها بلفظ المجاز المقترن بالقرينة الصارفة، فيحتاج إلى قرينة معيّنة لذلك المعنى من بين تلك المعاني، فالافتقار إلى القرينة المعيّنة حينئذٍ لتعيين المراد والمدلول، لا لإثبات الدلالة، كما سبق تحقيقه في المشترك.

لا يقال: إنّ هذا منافٍ لما سبق في الفرق بين القرينة في المجاز والمشترك من أنّ القرينة في الأوّل لإثبات الدلالة، وفي الثاني لتعيين المدلول ودفع المزاحمة.

لأنّا نقول: الفرق المذكور إنّما كان بالنسبة إلى القرينة الصارفة في المجازات، وأمّا بالنسبة إلى المعيّنة فيها فكلّا، بل هي في المجازات كالقرينة في المشتركات بعينها، فلا فرق بينهما من تلك الجهة أصلًا.

نعم، الفرق بينهما من جهة أخرى، وهي أنّها في المجازات معيّنة لمعنى من المعاني المجازيّة، وهناك معيّنة لمعنى من الحقيقيّة.

ص: 137

في تحقيق العلاقة وبيان أنواعها

المبحث الثاني: في تحقيق العلاقة وبيان أنواعها

اشارة

اعلم: أنّ العلاقة قد فسّرت بأنّها اتّصال ما للمعنى المستعمل فيه بالمعنى الموضوع له(1)، والطرق المنضبطة لتحقّقها خمس وعشرون(2):

الأوّل والثاني: الجزئيّة والكلّية
اشارة

الأوّل والثاني: الجزئيّة والكلّيّة، فيطلق الاسم الموضوع للكلّ على الجزء،

ص: 138


1- ينظر مفاتيح الأصول: 56، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 517 و520. قال الدسوقي: (والعَلاقة بفتح العين سواء كانت في المعاني كعلاقة المجاز والحبّ القائم بالقلب، أو المحسوسات كعلاقة السيف والسوط، وقيل: إنّها بالفتح في المعاني وبالكسر في الحسّيّات( «الحاشية على شرح التلخيص 2/ 337».
2- قال المحقّق القزوينيّ (رحمة الله) في تعليقته على معالم الأصول: اختلفت كلمتهم في ضبط أنواع العلاقة من حيث العدد، إذ أنّ بعضهم ردّها إلى اثنين: المشابهة وغيرها كما في بعض كتب البيان، وفي مختصر الحاجبيّ عدّ منها أربعة: المشابهة في الشكل أو في الوصف الظاهر، والكون، والأول، والمجاورة [كن عن العضديّ في «شرح مختصر المنتهى: 1/ 517» أنّها تتصوّر من وجوه خمسة]، وعن الآمديّ أنّها تتصوّر من وجوه خمسة [الإحكام: 1/ 54]، وفي شرح المنهاج عدّ منها تسعة، ومن أجلّة المعاصرين من عدّ منها عشرة، وفي تهذيب العلّامة أحد عشر [تهذيب الوصول: 70]، وفي نهايته كما عن الفخر والبيضاويّ اثنا عشر، وفي زبدة شيخنا البهائيّ أنّها محصورة في خمسة وعشرين، ناسبًا إلى القدماء [زبدة الأصول: 76]، وعزي أيضًا إلى المشهور كما عن شرحها للفاضل، وعن بعضهم أنّها ستّة وعشرون كما نقله في المفاتيح، وعن الصفي الهندي: الّذي يحضرنا من أنواعها أحد وثلاثون، وفي المفاتيح عن أستاذه أنّها غير محصورة، انتهى (تعليقة على معالم الأصول: 1/317).

ومصحّح الاستعمال جزئيّة المستعمل فيه، كما في قوله تعالى: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾(1)، فأطلق الأصابع على الأنامل؛ لأنّ الموضوع في الأذن الأنملة الّتي هي جزء من الأصابع، والغرض منه(2) المبالغة، كأنّهم جعلوا جميع الإصبع في الأذن حتّى لا يسمعوا شيئًا من الصاعقة(3).

ويمكن المناقشة في مجازيّة الآية الشريفة بأن يقال: إنّ الإصبع كما يطلق على الأصابع إلى الأشاجع(4)، كذا يطلق على بعضه.

ويمكن أن يقال: إنّ هذا الإطلاق ليس بمجازيّ؛ لعدم صحّة السلب؛ ألا ترى أنّ من أدخل(5) أنامله في شيء، لم يصحّ أن يقال: إنّه ما أدخل إصبعه فيه؛ وأيضًا إذا حلف أحد أن لا يدخل أصابعه في شيء، والظاهر أنّه يلزمه الحنث بدخول الأنامل، فلو كان الإطلاق مجازيًّا لم يكن الأمر كذلك.

ولك أن تقول: إنّ ذلك وإن كان مسلّمًا، لكنّ اللازم منه حقيقيّة الإضافة، أي جعل الإصبع في الأذن، ولا يلزم منه حقيقيّة المضاف إليه، والكلام إنّما هو في ذلك كما في «عمل يوم»، فإنّ هذه الإضافة وإن كانت حقيقة فيما إذا كان العمل في بعض النهار مثلًا، لكن حمل «اليوم» عليه مجاز، وكذلك «ضرب زيد» حقيقة مع

ص: 139


1- سورة البقرة: 19.
2- في «ق»: منهم.
3- ينظر قوانين الأصول: 1/ 138، ومفاتيح الأصول: 56، وشرح مختصر المنتهى (حاشية التفتازانيّ): 1/522، ومختصر المعاني: 220، والمطوّل: 356.
4- الأشاجع على ما في القاموس وغيره: أصول الأصابع الّتي تتّصل بعصب ظاهر الكفّ (القاموس المحيط: 3/ 43، ومجمع البحرين: 4/ 352).
5- في «ق وج»: دخل.

كون الضرب واقعًا على بعض أجزائه، ولا شبهة في أنّ استعمال «زيد» على ذلك الجزء مجاز؛ هذا.

وكذا يطلق الاسم الموضوع للجزء على الكلّ، والمصحّح كلّيّة المستعمل فيه للموضوع له، كما في: «أعتق رقبة مؤمنة»، حيث أطلق لفظ «الرقبة» الموضوع للعضو المخصوص على صاحبه.

يشترط في إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكلّ أمران
اشارة

اعلم: أنّه قد اشترط العلماء في إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكلّ أمرين، أحدهما راجع إلى الجزء، والثاني إلى الكلّ.

الأمر الأوّل
اشارة

أمّا الأوّل: فهو أن يكون ذلك الجزء ممتازًا من(1) بين سائر الأجزاء بأن يكون ممّا يلزم من انتفائه انتفاء الكلّ، فلا يصحّ الإطلاق بالنسبة إلى الجزء الّذي لم يكن الأمر فيه كذلك، فلا يصحّ إطلاق الأنامل ولا الأصابع ولا الأذن وأمثالها على الإنسان؛ لعدم لزوم انتفائه بانتفائها.

إن قيل: كيف يصحّ منك هذه المقالة مع أنّ الحكم بأنّ المركّب ينتفي بانتفاء الجزء من الأمور المشهورة المسلّمة، ولا تقييد في ذلك بجزء دون آخر.

قلنا: كما اشتهرت هذه المقالة الّتي مقتضى إطلاقها لزوم(2) انتفاء المركّب بانتفاء أيّ جزء كان، كذا اشتهرت تلك المقالة الدالّة على عدم إرادة الإطلاق من هذه

ص: 140


1- «من» لم ترد في «ق».
2- في «ق»: لزوم إطلاقها.

المقدّمة أيضًا.

فالتحقيق أن يقال: إنّ الجزء إذا لوحظ بالنسبة إلى المركّب إمّا أن يكون له دخل في قوامه، أو لا، بل له دخل في كماله، لا في قوامه، والمراد من قولهم: «إنّ المركّب ينتفي بانتفاء الجزء»، هو الجزء الّذي يكون من قبيل الأوّل، فلا شبهة في صحّة الكلام حينئذٍ، وأمّا الجزء الّذي لا يكون الأمر فيه كذلك، بل له مدخليّة في كماله، فاللازم من انتفائه انتفاء الكمال، لا انتفاء الأصل.

والمراد من الاشتراط في هذا المقام أن لا يكون الجزء الّذي يطلق لفظه على الكلّ من هذا القبيل، بل يكون من قبيل(1) الأوّل، فلا تنافي بين الكلامين.

سرّ الاشتراط المذكور

نعم، بقي الكلام في سرّ الاشتراط المذكور، ووجه عدم جواز الإطلاق إذا كان الجزء من قبيل(2) الثاني، فنقول في بيانه: قد عرفت مرارًا أنّ أمر اللغات توقيفيّ وأنّه قد منع التصرّف في الأمور التوقيفيّة إلّا على القدر الّذي علم أو ظنّ فيه الرخصة، و(3) أنّ استعمال اللفظ في غير الموضوع له خلاف الأصل، والواجب فيما خالف الأصل الاقتصار على المقدار(4) المتيقّن.

والّذي ثبت فيه الرخصة من الواضع بالنسبة إلى استعمال اللفظ الموضوع

ص: 141


1- في «ق وج»: قبيل.
2- في «ق وج»: قبيل.
3- في «ق»: أو.
4- الأولى: القدر، كما في باقي النسخ.

للجزء في الكلّ، هو ما إذا كان الأمر كذلك دون غيره، وعدم ثبوت الإذن كافٍ لعدم جواز الاستعمال؛ لعدم تصريح الواضع بأنّ كلّ جزء يصحّ إطلاق لفظه على كلّه، لا على سبيل العموم ولا على سبيل الإطلاق.

على أنّ كفاية الإطلاق في أمثال المقام محلّ كلام، بل ظهر بالتصفّح في كلمات البلغاء والتتبّع في محاورات الفصحاء تجويزهم استعمال لفظ الجزء في كلّه، لكنّ الواجب الاقتصار على أفراد النوع الّذي هو مورد استعمالاتهم ومحلّ مخاطباتهم، وهو ما إذا كان الجزء متّصفًا بالصفة المذكورة دون غيره.

الأمر الثاني
اشارة

والأمر الثاني الراجع إلى الكلّ هو ما كان للكلّ تركّب حقيقيّ حسّيّ(1) كالإنسان؛ والسرّ في الاشتراط هنا هو ما ذكرنا آنفًا، فلا يحتاج إلى الذكر.

وأمّا في إطلاق الكلّ على الجزء، فقد احتملنا في بعض تعليقاتنا(2) اعتبار الأمرين المذكورين فيه أيضًا، لكن لم يظهر منهم اشتراطه بما ذكر، وكأنّه قد ظهر لهم أنّ موارد الاستعمال فيه أعمّ من ذلك.

ص: 142


1- جاء في حاشية الأصل: «ولا يخفى عليك أن ليس المراد من التركّب الحقيقىّ الحسّي أن تكون الأجزاء مجتمعة في الوجود ومحيطة بالكلّ هيئة محسوسة كالسكنجبين مثلًا؛ لشيوع إطلاق جزء الصلاة عليها كالركوع مثلًا، كما في قوله تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ سورة البقرة: 43 [وقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾ [سورة المرسلات: 48]، مع أنّه ليس الأمر فيها كذلك كما لا يخفى، بل المراد أعمّ من ذلك، فيشمل مثل الصلاة الّتي تكون أجزاؤها محسوسة حال اشتغال المصلّي بها، فتأمّل». منه.
2- تعليقته على معالم الدين، مخطوط: الصفحة 85.
الكلام في اندراج هاتين العلاقتين تحت الحدّ المذكور للعلاقة

ثمّ اندراج هاتين العلاقتين تحت الحدّ المذكور للعلاقة ممّا لا شبهة فيه؛ لوضوح اتّصال الجزء بكلّه وكذا العكس.

لكن يرد: أنّ تعريف العلاقة المعتبرة في المجاز بما ذكر تعريفٌ بالأعمّ؛ لوضوح تحقّق الاتّصال بين الكلّ وجزئه مطلقًا وإن لم يكن الكلّ ولا الجزء متّصفًا بالصفة المذكورة، فقولك: «العلاقة عبارة عن اتّصال ما بين المستعمل فيه والموضوع له» يقتضي جواز إطلاق اسم الكلّ على الأذن مثلًا، مع أنّ الأمر ليس كذلك، فالحدّ غير مطّرد.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ الأمر وإن كان كذلك(1)، لكنّ التعريف المذكور ليس للعلاقة المعتبرة في المجاز، بل لمطلق العلاقة، فتأمّل.

الثالث من أنواع العلاقة: المشابهة في الشكل والصفة
اشارة

والثالث من الطرق المذكورة: المشابهة، أي مشابهة المستعمل فيه لما وضع له، وتلك الشباهة إمّا في الشكل، كإطلاق الإنسان والفرس على المنقوش في الجدار؛ أو في الصفة، كإطلاق الأسد على الشجاع؛ لمشابهته إيّاه في وصف الشجاعة(2).

إن قيل: كما أنّ الرجل الشجاع شابه الأسد في الشجاعة، فقد شابهه الأسد أيضًا، كما جاز استعمال لفظ «الأسد» فيه ينبغي أن يجوز العكس أيضًا، وكذا الكلام في الشكل والمتشكّل.

ص: 143


1- جاء في حاشية الأصل: أي صادقًا لما ذكر أيضًا. منه.
2- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 517.

قلت: إنّ «الأسد» أصل في تلك الصفة، وإنّ الصفة صفته حقيقة، و«الرجل» متطفّل عليه وفرع له، ولهذا صار الأوّل مشبّهًا به والثاني مشبّهًا، وجاز استعمال لفظ «الأسد» فيه دون العكس، وهكذا الأمر في الشكل والمتشكّل.

ثمّ لمّا كان الشكل لكلّ متشكّل أمرًا واحدًا؛ لأنّه عبارة عن الهيئة المحيطة به، ومعلوم أنّه لا تعدّد فيها(1) ولا اختلاف، لم يشترط فيه شكل دون آخر؛ ولمّا كان هو أمرًا محسوسًا من كلّ متشكّل، فلا محالة يكون ظاهر الثبوت له، فلا يحتاج إلى اشتراط الظهور أيضًا.

وأمّا الصفة فلمّا لم يكن الأمر فيها كذلك؛ لوضوح أنّه يجوز أن يكون لموصوف واحد صفات متعدّدة مختلفة بالظهور والخفاء ولم يكن الاشتراك في أيّ صفة، كانت مصحّحًا، لم يكتفوا في جواز التجوّز بمطلق الاشتراك في الصفة، بل اشترطوا الاشتراك في صفة ظاهرة.

وذلك(2) لأنّ استعمال اللفظ في غير معناه لا بدّ أن يكون بحيث يمكن للسامع بسهولة الانتقال إلى سرّه(3)، وإذا كانت الصفة ظاهرة الثبوت بالنسبة إلى المعنى الحقيقيّ للّفظ نقول: إنّه كما ينتقل السامع إلى المعنى الموضوع له عند استعماله فيه، ينتقل إلى تلك الصفة أيضًا لظهورها بالنسبة إليه، فإذا استعمل في غيره، سواء عيّن ذلك الغير بالقرينة المعيّنة أم لا، يمكن للسامع التنبّه إلى سرّ ذلك الاستعمال بأن يقول: إنّ تلك الصفة كانت ثابتة للمعنى الحقيقيّ لهذا اللفظ، واستعماله في غيره لعلّه لثبوت تلك الصفة له، فيظهر له وجه الاستعمال.

ص: 144


1- أي في الهيئة المحيطة به.
2- جاء في حاشية الأصل: أي عدم كفاية الاشتراك في مطلق الصفة لصحّة التجوّز. منه.
3- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي سرّ ذلك الاستعمال.

وأمّا إذا لم يكن(1) الصفة كذلك(2)، فيمكن أن لا ينتقل إليها عند استعماله فيه، فعند(3) استعماله في غيره لا يظهر سرّ الاستعمال، فيفوت ما يوجد في البلاغة من الأسرار.

وأيضًا قد عرفت مرارًا أنّ أمر اللغات توقيفيّ، والتصرّف في الأمور التوقيفيّة يجب أن يكون على قدر ثبتت فيه الرخصة، والقدر الثابت في استعمال اللفظ في غير معناه الموضوع له لأجل الشباهة إنّما هو إذا كانت الشباهة في شكل، أو في صفة ظاهرة، وعدم الثبوت كافٍ لعدم الجواز في أمثال المقام.

وأيضًا أنّ استعمال اللفظ في غير ما وضع له مخالف للأصل، والواجب فيما خالف الأصل الاقتصار على القدر المتيقّن، وهو ما تقدّم دون غيره.

وأيضًا قد عرفت أنّ التحقيق الدالّ في المجازات هو اللفظ بشرط القرينة، وأنّ دلالته عليها إنّما هو لأجل المناسبة بين المعاني المجازيّة والموضوع له؛ والمناسبة فيما نحن فيه لأجل الاشتراك في صفة، فإذا لم تكن الصفة ظاهرة لم تظهر المناسبة، فلا تتحقّق الدلالة، هذا.

ص: 145


1- الصواب كما في «ق»: لم تكن.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي ظاهرة الثبوت بالنسبة إلى المعنى الحقيقيّ.
3- جاء في حاشية الأصل: لا يقال: إنّ هذا إنّما يتمّ إذا لم يقترن المجاز بالقرينة المعيّنة، وأمّا عند اقترانه بها فلا؛ لأنّا نقول: إنّ القرينة المعيّنة إنّما تعيّن المعنى المجازيّ، لا الجهة المشابهة بينه وبين المعنى الحقيقيّ، وعلى تقدير تعيينها إيّاها أيضًا نقول: إنّ تلك الصفة لا تخلو إمّا أن تكون ظاهرة الثبوت بالنسبة إلى المعنى المجازيّ فيكون ذلك المعنى أصلًا فيها، أو إلى المعنى الحقيقيّ فيخرج عمّا نحن فيه وإن كانت حقيقة بالنسبة إليه، والمفروض أنّها كذلك بالنسبة إلى المعنى الحقيقيّ أيضًا، فلا تتحقّق الأصالة والفرعيّة، فتأمّل. منه.
الكلام في اندراج هذه العلاقة تحت حدّها المتقدّم

بقي الكلام في صدق الحدّ المذكور للعلاقة على هذا النوع الّذي كلامنا فيه، فنقول: أمّا بالنسبة إلى الشكل، فإذا كان هو المستعمل فيه اللفظ المجازيّ، فصدق الحدّ حينئذٍ ظاهر؛ إذ لا شبهة في اتّصال كلّ شكل بمتشكّله، لكنّ الأمر ليس كذلك، بل المستعمل فيه والمعنى المجازيّ هو ما حلّت فيه الصورة، وهو ظاهر.

ويرشدك إلى ذلك التوجّه(1) إلى المراد، إذ المقصود أنّ العلاقة تتحقّق باشتراك في الشكل أو الصفة، أي اشتراك المستعمل فيه للموضوع له في الشكل كما في الصفة، وحينئذٍ يشكل الأمر؛ لانتفاء الاتّصال بين المستعمل فيه الّذي هو المحلّ للصورة وبين الموضوع له كما لا يخفى.

وأمّا بالنسبة إلى الصفة فكذلك؛ لوضوح أنّ المستعمل فيه في قولنا: «رأيت أسدًا في الحمّام»، هو الرجل الشجاع، وعدم اتّصاله بالحيوان المفترس الّذي هو الموضوع له للفظ «الأسد» ممّا لاريب فيه؛ وحمل الاتّصال بالموضوع له على الاتّصال بشكله في الأوّل وبصفته في الثاني وإن كان ممكنًا في نفس الأمر، لكن ارتكاب مثله في الحدود مهجور وفي الرسوم متروك.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ الاتّصال أعمّ من أن يكون في الأعيان أو في الأذهان، ولا نسلّم انتفاء مطلق الاتّصال في المقام، بل القدر المسلّم انتفاء الاتّصال الخارجيّ، ولا يلزم منه انتفاء المطلق؛ لعدم استلزام انتفاء الخاصّ لانتفاء العامّ، فنقول: إنّ الاتّصال الذهنيّ متحقّقٌ في المقام؛ لوضوح انتقال السامع عند إطلاق

ص: 146


1- في «ج»: التوجيه.

«الفرس» على المشابه لشكله إلى المعنى المستعمل فيه والموضوع له كليهما، وكذا عند إطلاق «الأسد» على الرجل الشجاع.

لكن فيه نظر؛ لأنّه قد تقدّم أنّ الدلالة في المجازات لأجل المناسبة والعلاقة، وهي مفسّرة باتّصال المعنيين، فلو كان المراد بالاتّصال الاتّصال الذهنيّ الّذي عبارة عن حصول المعنيين فيه مجتمعًا(1)، لزم الدور؛ لأنّ الدلالة على المعنى المجازيّ وفهمه من اللفظ الّذي عبارة عن حصوله في الذهن موقوف -بناءً على مرّ- على العلاقة الّتي مفسّرة(2) باتّصال المعنيين كما تقدّم.

فلو كان المراد باتّصالهما الاتّصال الذهنيّ، يكون الاتّصال موقوفًا على الحصول في الذهن، وهو دور ظاهر؛ لأنّ حصول المعنى المجازيّ في الذهن موقوف على دلالة اللفظ عليه، ودلالة اللفظ عليه موقوفة على اتّصاله بالموضوع له، واتّصاله به موقوف على حصوله في الذهن، فينتج: أنّ حصول المعنى المجازيّ في الذهن موقوف على حصوله في الذهن.

والجواب عنه: أنّا لا نسلّم أنّ حصول المعنى المجازيّ في الذهن موقوف على دلالة اللفظ عليه، بل الأمر بالعكس؛ لأنّ معنى اللفظ حقيقيًّا كان أو مجازيًّا لو لم يظهر للسامع ولم يعلم وضع اللفظ له، لم يمكن فهمه منه كما لا يخفى.

نعم، فهم المعنى(3) على أنّه مراد للمتكلّم(4) دون غيره موقوفٌ على دلالة اللفظ

ص: 147


1- كذا في الأصل، وفي هامشه: مجتمعين خ ل؛ وهو الصواب.
2- كذا في الأصل؛ والصواب: الّتي هي مفسّرة.
3- في «ق»: المعنى منه.
4- في «ق»: المتكلّم.

عليه، وذلك بالنسبة إلى المعنى المجازيّ فيما نحن فيه متوقّف على اتّصاله بالمعنى الموضوع له في الذهن، وذلك يتوقّف على حصول سابق للمعنيين فيه والعلم بوضع ذلك اللفظ لذلك المعنى واتّصال المعنى المجازيّ له، فلا يلزم دور ولا فساد آخر.

على أنّه يمكن التوجيه بحمل الاتّصال بالموضوع له على مطلق التعلّق به والمناسبة له، سواء كان على سبيل الاتّصال كما في الكلّيّة والجزئيّة ونحوهما، أو لا كما فيما نحن فيه ومثله، لا سيّما بعد ملاحظة التعميم المستفاد من «ما» في قوله: «اتّصال ما»، وهذا المقدار كافٍ في المقام، فيصحّح به سقم الكلام.

النوع الرابع من العلاقة: كون المستعمل فيه على صفة
اشارة

الرابع من تلك الطرق: كون المستعمل فيه على صفة.

تحقيق المقام يقتضي أن يقال: إنّ الموصوف قد يتّصف بصفات متعدّدة، لكن لا على سبيل التعاقب، بل اجتماعها فيه ممكن، كاتّصاف «زيد» بالمشي والأكل والنظر ونحوها، وليس الكلام في مثل ذلك، بل إطلاق الكلّ على ذلك الموصوف على سبيل الحقيقة(1)، فيقال له: ماشٍ وآكلٌ وناظرٌ حقيقةً.

وقد يتّصف بصفات متعدّدة على سبيل التعاقب، بمعنى أنّ اتّصافه باللاحقة يستلزم زوال السابقة، كالحريّة والرقّية والبلوغيّة والصغريّة(2) ونحوها.

ص: 148


1- جاء في حاشية الأصل: يعني يكون لذلك الموصوف بإزاء كلّ صفة لفظ يكون إطلاق ذلك اللفظ على ذلك الموصوف عند الاتّصاف حقيقة، كالماشي حال الاتّصاف بالمشي، والآكل حال الاتّصاف بالأكل وهكذا. منه.
2- في «ج»: الصغاريّة.

وكلامنا في هذا المقام فيما ينتظم بهذا النظام، فالمراد أنّ اللفظ الّذي يطلق على ذلك الموصوف حقيقة عند اتّصافه بالصفة السابقة يجوز إطلاقه عليه مجازًا عند اتّصافه باللاحقة الموجبة لزوالها حينئذٍ؛ لاتّصافه بها سابقًا، كإطلاق «العبد» على المعتق ونحوه، فتكون هذه العلاقة عكس العلاقة السابقة، إذ المعتبر هناك تعدّد الذات ووحدة الصفة، وفيما نحن فيه وحدة الذات وتعدّد الصفة.

إن قيل: إنّ ذلك اللفظ كالعبد مثلًا لا يخلو إمّا كان موضوعًا للذات وحدها، أو صفتها السابقة كذلك، أو لهما معًا، وأيّ منها كان لا يستقيم الكلام، أمّا الأوّل: فلوضوح بقاء الذات في كلا الحالين، فينبغي أن يكون الاستعمال في الحالة الثانية أيضًا على سبيل الحقيقة؛ لكونه استعمالًا للّفظ في الموضوع له.

وأمّا الثاني: فللقطع بعدم كون لفظ «العبد» مثلًا موضوعًا لوصف الرقّيّة فقط، وعلى فرض تسليم ذلك يكون ذلك من إطلاق لفظ الحال على المحلّ، فيندرج تحت تلك العلاقة، فلا وجه لإفراده عنها الموجبِ للكلامِ الإطالةَ.

وأيضًا لو كان «العبد» مثلًا موضوعًا لتلك الصفة، يكون لفظ «المعتق» أيضًا موضوعًا لصفة(1) الحرّيّة؛ لعدم الفرق بينهما، فالتفرقة تحكّم، وحينئذٍ يفسد الكلام؛ لظهور أنّ وصف الحرّيّة لم يكن على صفة الرقّيّة، بل الموصوف به.

لا يقال: لا نسلّم استلزام كون الموضوع له للفظ «المعتق» وصف الحرّيّة كون المستعمل فيه للفظ «العبد» ذلك حتّى يلزم المحذور؛ لجواز أن يكون المستعمل فيه له الموصوف بتلك الصفة، مع كون الموضوع له للفظ«المعتق» إيّاها(2)، وحينئذٍ لا

ص: 149


1- في «ق»: للصفة.
2- أي تلك الصفة.

يلزم المحذور؛ لوضوح اتّصاف الموصوف بوصف الرقّيّة سابقًا، وليس المراد من الكون على الصفة إلّا ذلك.

لأنّا نقول: هذا خلاف الإنصاف؛ لأنّ ظاهرهم أنّ المعنى الّذي يكون لفظ «المعتق» حقيقة فيه إذا استعمل لفظ «العبد» فيه يكون مجازًا والعلاقة ما تقدّم، فإذا كان الموضوع له الوصف المذكور، يلزم ما تقدّم من المحذور.

وأمّا الثالث: فلأنّه لو كان الموضوع له مجموع الصفة والموصوف، يكون إطلاق لفظ «العبد» على الذات حينئذٍ إطلاقًا لاسم الموضوع للكلّ على جزئه، فالعلاقة حينئذٍ الجزئيّة، فينبغي الاكتفاء عن ذكر هذه العلاقة بذكر تلك.

قلت: نختار الأوّل، فنقول: إنّ الموضوع له هو الذات في حالة اتّصافه بتلك الصفة، فالموضوع له للفظ «العبد» مثلًا هو الذات المعلومة، لكن لا مطلقًا، بل بشرط ثبوت وصف الرقّيّة وفي حالة ثبوته له، وإنّما يكون حقيقة عند استعماله في تلك الذات في حالة اتّصافها بها، فإذا استعمل فيها عند زوالها واتّصافها بصفة أخرى مضادّة لها، يكون ذلك استعمالًا له في غير الموضوع له، ولا نعني بالمجاز إلّا ذلك.

فنقول: إنّ تلك الذات حينئذٍ لها ثلاثة ألفاظ مثلًا، اثنان منها بشرط شيء، وهما: العبد والمعتق، فإنّ الأوّل موضوع لها بشرط اتّصافها بالرقيّة، والثاني موضوع لها بشرط زوالها واتّصافها بالحريّة، فإذا استعمل الأوّل فيها في الحالة الأولى والثاني في الحالة الثانية، يكون استعمالًا للّفظ في الموضوع له، وأمّا في غيرها، فيكون استعمالًا له في غيره، وواحد منها لا بشرط شيء كالإنسان، أو الاسم الّذي لقّب به، ولهذا يكون إطلاقه عليها في كلتا الحالتين على سبيل الحقيقة.

ص: 150

الإشكال في أنّ حكمهم بمجازيّة اللفظ باعتبار ما كان، ينافي حكمهم: أنّ إطلاق المشتقّ على الذات لا يتوقّف على بقاء المبدأ، مع الجواب عنه

بحث وتخليص

اعلم: إنّ في المقام إشكالًا، وهو أنّهم قد اختلفوا في أنّ صدق المشتقّ على الذات حقيقة، هل يكون متوقّفًا على بقاء المبدأ، أو لا؟ والمنقول من المعتزلة والإماميّة: الثاني(1).

وهو منافٍ لما اتّفقوا عليه في بحث المجاز من أنّ بعض أقسامه: اللفظ المطلق على المستعمل فيه باعتبار ما كان عليه، فإنّ مقتضى المقالة الأولى: أنّ لفظ «الضارب» مثلًا إذا أطلق على ذات باعتبار صدور المبدأ منها مع عدم البقاء، يكون حقيقة، ومقتضى المقالة الثانية: أنّه مجاز، فيلزم أن يكون اللفظ الواحد بالنسبة إلى معنى واحد في حالة واحدة حقيقة ومجازًا، ولا شبهة في استحالته.

الجواب عن الإشكال
اشارة

ويمكن الجواب عنه من وجهين:

الجواب الأوّل

الأوّل: أن يقال: إنّ مبنى الإشكال إنّما هو على إبقاء المقالتين على ظاهريهما، وهو غير لازم؛ لجواز أن يكون مرادهم ممّا قالوا في المشتقّ فيما لم يكن زوال ذلك

ص: 151


1- ينظر مبادئ الوصول: 67، ونهاية الوصول: 1/ 194، وزبدة الأصول: 61، ومفاتيح الأصول: 13.

المبدأ عن الذات فيه باعتبار طريان صفة لا يمكن العود إليه(1)، كالكتابة مثلًا، فإنّ اتّصافها بها إنّما هو بتحريك الأصابع، وزوالها بانتفاء ذلك التحريك، وكذا الضرب، فإنّ اتّصافها به إنّما هو عند الاتّصاف بالهيئة المعلومة وزواله بزوالها، لكن بحيث لو أراد يمكن الاتّصاف بكلّ منهما ثانيًا.

والمراد ممّا قالوا في هذا المقام فيما يكون زوال تلك الصفة فيه بطريان صفة لا يمكن العود إليها أبدًا كالرقّيّة مثلًا، فإنّ زوالها بطريان وصف العتقيّة الّتي لا يمكن بعدها العود إليها أبدًا، والصغريّة فإنّ زوالها بطريان وصف البلوغيّة الّتي لا يمكن بعدها العود إليها كذلك.

هذا على القول بتعميم محلّ النزاع في مسألة المشتقّ، سواء طرأ على المحلّ وصف وجوديّ يناقض الأوّل أو يضادّه، أم لا، وأمّا على القول بتخصيصه بغير الأوّل، تكون دائرة المجاز لعلاقة الكون عليه أوسع، إذ حينئذٍ لا يعتبر في المجازيّة عدم إمكان العود إلى الوصف الأوّل كما لا يخفى، فتضيق دائرة الحقيقة في المشتقّ وينعكس الأمر على تقدير التعميم.

الجواب الثاني

والثاني: هو أنّ التنافي إنّما يكون إذا كان الحكمان واردين على موضوع واحد، وهو غير مسلّم؛ لأنّ مرادهم ممّا قالوا: «إنّ صدق المشتقّ حقيقة لا يقتضي بقاء المبدأ»، ليس المشتقّ مطلقًا، بل اسم الفاعل والصفة المشبّهة على ما صرّح به بعضهم.

ص: 152


1- أي المبدأ.

ويكون المراد ممّا قالوا في المجاز ما إذا لم يكن اللفظ ممّا ذكر، سواء كان مشتقًّا لكن لم يكن ممّا ذكر، أو لم يكن مشتقًّا أصلًا كالحجر المنقلب من الماء، فإنّه يجوز إطلاق الماء عليه باعتبار ما كان.

لكن فيه نظر؛ لأنّ كلًّا من «العبد» و«اليتيم» من الصفات المشبّهة، مع أنّهم مصرّحون بالمجازيّة فيهما.

ثمّ اندراج هذا النوع من العلاقة تحت الحدّ المذكور لها بعد التوجيه المذكور ظاهر.

النوع الخامس من العلاقة: إطلاق اللفظ على ما يؤول إلى ما وضع ذلك اللفظ له
اشارة

الخامس من الطرق المذكورة: إطلاق اللفظ على ما يؤول إلى ما وضع ذلك اللفظ له، كما في قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾(1).

تحقيق ذلك يقتضي أن يقال: إنّ هذا النوع من العلاقة يشترك مع السابقة في اعتبار وحدة الذات وتعدّد الصفة، وفي أنّه وُضع لتلك الذات بإزاء كلّ من تلك الصفة لفظ خاصّ، كالشارب والسكران مثلًا، فإنّ الأوّل وضع باعتبار وصف الشرب، والثاني باعتبار وصف آخر.

وكذلك العصير(2) والخمر ونحوهما، إلّا أنّه يفترق عنها باعتبار أنّ المجازيّة كانت هناك في حالة الاتّصاف بالصفة اللاحقة باعتبار الصفة السابقة على ما تقدّم تحقيقه؛ وهنا(3) يكون الأمر بالعكس، أي المجازيّة في حالة اتّصافها بالصفة

ص: 153


1- سورة يوسف: 36.
2- في «ق»: العصر.
3- في «ق»: وههنا.

السابقة باعتبار اللاحقة، فيطلق اللفظ الّذي كان للذات عند اتّصافها بالصفة اللاحقة في حالة اتّصافها بالصفة السابقة؛ لاتّصافها بها فيما بعد.

وبما ذكرنا ظهر لك أنّ قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ لو فسّر بأنّي أستخرج عصيرًا، يكون من هذا القبيل؛ لكون العصير آيلًا إلى الخمر، وأمّا لو فسّر بأنّي أعصر عنبًا، فالظاهر أنّه لا يكون كذلك؛ لعدم بقاء الذات في الحالين، بل يكون من قبيل إطلاق اسم الشيء على علّته المادّيّة، وسيجيء الكلام في تحقيقه.

وهمٌ وإزاحةٌ

لا يقال: إنّ في كلام الأصوليّين تكرارًا؛ لأنّهم ذكروا في بحث المشتقّ أنّ إطلاقه على الذات في حالة تلبّسه بالمبدأ حقيقة اتّفاقًا، وفيما لم يتلبّس به بعد - بل سوف يتلبّس به - مجاز كذلك؛ وهذا هو الّذي ذكروه في مبحث المجاز في هذا المقام الّذي كلامنا فيه، وذكره في أحد الموضعين كان مغنيًا عن الذكر في الآخر، فما وجه التكرار؟

لأنّا نقول: يمكن الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ لزوم التكرار ممنوع؛ لأنّ المراد ممّا ذكروا في مبحث المشتقّ هو أنّ إطلاق المشتقّ متى يكون على سبيل الحقيقة ومتى يكون على سبيل المجاز، وما ذكروا في بحث المجاز بيانٌ لما يصحّح المجازيّة، وأين هذا من ذاك؟! إذ بينهما غاية الخلاف، فمِن أين التكرار؟!

والثاني: هو أنّ ما ذكروه في بحث المجاز لا اختصاص له بالمشتقّ، إذ المقصود أنّه يصحّ إطلاق كلّ لفظ على ما يؤول إلى ما وضع ذلك اللفظ له، أعمّ من أن يكون مشتقًّا أو غيره، كإطلاق الحجر على الماء الّذي ينقلب إليه، والهواء على الماء

ص: 154

الّذي ينقلب إليه، ونحوهما.

ثمّ اعلم: إنّ تقييد الوصف في العلاقة المتقدّمة بما لا يمكن بعده العود إلى السابقة غير مرعيّ في هذه العلاقة، فيعمّ الحكم ولو كان الوصف ممّا يمكن بعده العود إلى السابقة أيضًا.

النوع السادس من العلاقة: المجاورة
اشارة

السادس من الطرق المنضبطة: المجاورة، أي كون الشيء مجاورًا لما وضع له اللفظ، فيصحّ إطلاق ذلك اللفظ على ذلك الشيء المجاور.

عقدٌ وحلٌّ

إن قيل: إنّ مجاورة الشيء لآخر لو كان مصحّحًا لإطلاق لفظه عليه، لجاز إطلاق لفظ «المسجد» على البيت الّذي بجواره وبالعكس، أو إطلاق «بيت الخلاء» على البيت وبالعكس، و«الحمّام» عليها وبالعكس، وإطلاق «الإنسان» على الفُرُش المبسوطة في بيته وبالعكس، وإطلاق «القمّل» على الإنسان وبالعكس، وهكذا الكلام في كثير من الأشياء، بل جميعها، إذ ما من شيء إلّا وله مجاور، والتالي باطل؛ لانّا نقطع بعدم الجواز في كثير منها، فالمقدّم مثله، والملازمة بيّنة.

في تحقيق المجاورة وبيان أقسامها

قلنا: تحقيق المقام يقتضي أن يقال: إنّ مجاورة شيء لآخر على أقسام:

الأوّل: أن لا يكون على سبيل الاتّصال به(1) والانضمام معه، كما يقال: فلان

ص: 155


1- «به» لم ترد في «ج».

يرجو في مجاورة الإمام الاستخلاص من العقاب والتوصّل إلى الآمال والثواب، وكما يقال: نعم البيت بيت فلان؛ لأنّه في مجاورة النهر والمسجد والحمّام والسوق، مع أنّه لم يتّصل بشيء منها.

والثاني: أن يكون على سبيل الاتّصال، لكن لا على حدّ الغلبة أو الدوام(1) بحيث أن يكون(2) ملحوظة في الأنظار ومعهودة في الأوهام، كالشبكة والصيد وغيرهما ممّا ينتظم بهذا النظام.

والثالث: أن يكون الاتّصال على سبيل الشيوع أو الدوام، لكن بحيث أن لا يكون ذلك معهودًا في الأنظار ومركوزًا في الخاطر والخيال، كالبيوت المتّصلة بالمساجد ونحوها.

والرابع: أن يكون الاتّصال على النهج المذكور، لكن بحيث يكون ذلك معهودًا في الأنظار ومركوزًا في الخاطر والخيال وملحوظًا ومعمولًا بين الناس، حتّى لو استعمل اللفظ في معناه الموضوع له ينتقل الذهن إلى مجاوره، أو يقرب من ذلك، كالمياه بالنسبة إلى الأنهار والميزاب والعيون ونحوها.

والمصحّح للاستعمال هو القسم الرابع، فلو كان شيء مجاورًا لآخر على النحو المذكور يجوز استعمال لفظه فيه، كقولك: جرى الميزاب وجرت الأنهار.

ومن هذا القبيل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾(3)، بناءً على أنّه جمع للميزان

ص: 156


1- في «ج»: والدوام.
2- كذا في الأصل، والصواب: أن تكون.
3- سورة الأعراف: 8، و سورة المؤمنون: 102.

الّذي [هو] عبارة عمّا يوزن به، والمراد منه في المقام الموزون، ومثله الكلام في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾(1)، وكذا قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا﴾(2)، أي: ماء يشرب منه(3).

وأمّا الأقسام الأُوَل فلا يتصحّح بها الاستعمال؛ لما تقدّم مرارًا من توقيفيّة أمر اللغات، وأنّ التصرّف في الأمور التوقيفيّة لا يجوز إلّا على(4) ما ثبت فيه الرخصة، وأنّ استعمال اللفظ في غير الموضوع له مخالف للأصل، واللازم فيما خالف الأصل الاقتصار على القدر المتيقّن.

وأيضًا المقصود من الاستعمال انتقال السامع إلى المراد، فلو كان المستعمل فيه معناه الموضوع له يتحصّل الغاية للعلم بالوضع، وكذا إذا كان الشيء مجاورًا مع كون المجاورة على النحو الّذي مرّت إليه الإشارة؛ لوجود القرينة الصارفة عن المعنى الموضوع له، فينتقل الذهن إلى مجاوره، وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلك، فليس فيه الأمن من انتفاء الغاية، فتأمّل.

ص: 157


1- سورة المؤمنون: 103.
2- سورة الإنسان: 6، وسورة المطفّفين: 28.
3- جاء في حاشية الأصل: إشارة إلى أنّ الباء في «بها» بمعنى «من» التبعيضيّة. منه.
4- «على» لم ترد في «ق».
الكلام في اندراج هذه العلاقة تحت حدّها المتقدّم

بقي الكلام في اندراج هذه العلاقة تحت حدّها المتقدّم، فنقول: لا شبهة في ذلك، سواء أُبقي على ظاهره، أو يحمل(1) على خلافه على ما تقدّم.

لكن على التقديرين لا يخفى ما فيه.

أمّا على الأوّل: فلاستلزامه انتقاض عكس الحدّ بخروج كثير من أنواع العلاقات المعتبرة على ما مرّت إليه الإشارة، وطرده بدخول القسم الثاني والثالث من الأقسام المذكورة للمجاورة، وأمّا على الثاني: فلأنّ عكس الحدّ وإن كان سالمًا، لكن طرده منقوض بجميع الأقسام الثلاثة الأُوَل للمجاورة.

والجواب: أنّا نختار الثاني وندفع انتقاض الطرد، إمّا على نحو تقدّمت إليه الإشارة، أو نقول: إنّ المراد بالمستعمل فيه المأخوذ في الحدّ المذكور هو ما كان مستعملًا فيه من أهل اللغة، وبالجملة: الموارد المتتبّع فيها، ولا شبهة أنّ الموارد الّتي من أقسام المجاورة مقصورة في القسم الرابع منها(2) على ما مرّت في الأمثلة(3) المذكورة، وأمّا الأقسام الثلاثة الأُوَل فهي وإن كانت أقسامًا لمطلق المجاورة، لكنّها ليست ممّا علم الاستعمال من أهل اللغة لأجلها، فتأمّل.

النوع السابع والثامن من العلاقة: الحالّيّة والمحلّيّة
اشارة

السابع والثامن: الحالّيّة والمحلّيّة، فيجوز إطلاق اسم المحلّ على

ص: 158


1- كذا في الأصل، والأولى: حُمِلَ.
2- أي من أقسام المجاورة.
3- في «ق»: المسألة.

الحالّ وبالعكس.

أمّا الأوّل: فقد اشتهر التمثيل له بقوله تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾(1)، إذ النادي عبارة عن المجلس، والمراد به في الآية الشريفة أهله الحالّ فيه.

وربما جعل منه أيضًا قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾(2)، إذ المراد بالقرية أهلها الحالّ فيها.

ومن هذا القبيل أيضًا قوله تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾(3)، إذ المهلك والمجيء عليهم العذاب أهل القرية، لا نفسها.

وأمّا الثاني: فقد اشتهر التمثيل له أيضًا بقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله﴾(4)، إذ المراد بها الجنّة الّتي تحلّ فيها الرحمة.

تحقيق المقام يستدعي بيان أمور
اشارة

تحقيق المقام وتنقيح المرام يقتضي التكلّم في بيان أمور:

الأوّل: في معنى الحلول وتقسيمه إلى القسمين.

والثاني: في أنّ المصحّح في المجازيّة هل هو قسم واحد منهما، أو هما معًا؟

والثالث: في الفرق بين الحالّ والمحلّ، فبين(5) الجزئيّة والكلّيّة، والظرفيّة

ص: 159


1- سورة العلق: 17.
2- سورة يوسف: 82.
3- سورة الأعراف: 4.
4- سورة آل عمران: 107.
5- في «ق وج»: وبين.

والمظروفيّة، وبينهما وبين المجاورة؛ والتنبيه على عدم صحّة التمثيل بالآيات المذكورة لما نحن فيه.

الأمر الأوّل: في معنى الحلول وتقسيمه إلى القسمين
اشارة

أمّا الأوّل: فقد اختلفت مقالة أرباب العقول في ذلك، فقال بعضهم: إنّ الحلول اختصاص شيء بشيء بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر، كالبياض في الجسم مثلًا، فإنّ الإشارة إليه عين الإشارة إلى الجسم وبالعكس، وكذا الكلام في السواد والحمرة والخضرة والزرقة، فإنّ الإشارة إليها عين الإشارة إلى ما كانت فيها(1).

أورد عليه(2) بانتقاض عكس الحدّ بخروج الصور العلميّة الحالّة في محالّها والأصوات الحالّة في الهواء، وكذلك الأطراف، فإنّ النقطة حالّة في الخطّ والخطّ في السطح، فإنّ الإشارة المأخوذ في الحدّ إمّا عقليّة، أو حسّيّة، لا سبيل إلى الأوّل؛ لوضوح حكم العقل بالمغايرة بين كلّ حال ومحلّ(3)، فلا تكون الإشارة العقليّة بالنسبة إلى أيّ حال كان عين(4) الإشارة إلى محلّه وبالعكس، فتعيّن الثاني.

وحينئذٍ نقول: أمّا خروج الصور العلميّة؛ فلأنّها ليست ممّا تقبل الإشارة الحسّيّة كما لا يخفى، وكذلك الكلام بالنسبة إلى الأصوات، وأمّا خروج الأطراف؛

ص: 160


1- ينظر نهاية المرام: 1/ 293، وإشراق هياكل النور: 75 -76، وشرح عيون الحكمة: 3/ 10، وشرح الهداية الأثيريّة: 33، وكشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 1/ 707.
2- ينظر شرح الهداية الأثيريّة: 33، وكشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 1/ 706-707.
3- في «ج»: والمحلّ.
4- في «ج»: العين.

فلأنّها وإن كانت ممّا تقبل الإشارة الحسّيّة، لكنّ الإشارة إلى الخطّ ليست عين الإشارة إلى النقطة ولا بالعكس؛ وكذا الكلام بالنسبة إلى الخطّ والسطح.

وبانتقاض طرده بحصول الجسم في المكان وبالسرعة بالنسبة إلى الجسم.

أمّا الأوّل: فلأنّ المكان إمّا عبارة عن البعد(1)، أو السطح المحويّ من الجسم الحاوي المماسّ للسطح الظاهر من الجسم المحويّ، وعلى الأوّل قيل: صدق الحدّ عليه ظاهرٌ، وعلى الثاني؛ لأنّ الإشارة إلى الجسم إشارة إلى سطحه وبالعكس، والإشارة إلى سطحه إشارة إلى السطح الّذي هو مكانه؛ لانطباقه عليه.

وأمّا الثاني: فلأنّ السرعة تكون في الجسم بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما عين الإشارة إلى الآخر.

وأجيب: أمّا عن الانتقاض بالصور العلميّة والأصوات(2)، فبأنّ الإشارة الحسّيّة أعمّ من أن تكون تحقيقيّة أو تقديريّة، بمعنى أنّه لو كان الشيء مشارًا إليه بالإشارة الحسّيّة، لكانت الإشارة إليه عين الإشارة إلى الآخر، فحينئذٍ نقول: إنّ الصوت لو كان مشارًا إليه بالإشارة الحسّيّة، لكان الإشارة إليه عين الإشارة إلى محلّه وبالعكس، وأنّ الصور العلميّة حالّة في النفس، فلو كان شيء منهما قابلًا للإشارة الحسّيّة، لكان الأمر فيه على ما ذكر.

وأمّا عن الانتقاض بالأطراف، فبعدم تسليم عدم صدق الحدّ عليها؛ لأنّ الإشارة إلى الخطّ مثلًا قد تكون بخروج النقطة الموهومة من البصر نحو المشار إليه

ص: 161


1- في «ق»: البعد المجرّد.
2- جاء في حاشية الأصل: مع أنّه يمكن منع صدق الحلول بالنسبة إلى الصور العلميّة والأصوات، فتأمّل. منه.

المرتسمة لخطّ موهوم ممتدّ بامتداد المسافة الواقعة بين المشير والمشار إليه، وينتهي طرفه على نقطة منه(1)، فحينئذٍ تكون الإشارة إلى الخطّ عين الإشارة إلى النقطة، وقد يكون بخروج الخطّ الموهوم المرتسم للسطح الموهوم المنطبق طرفه الّذي هو الخطّ على الخطّ المشار إليه، فحينئذٍ تكون(2) الإشارة إلى الخطّ عين الإشارة إلى النقطة أيضًا.

وكذا الكلام بالنسبة إلى الخطّ والسطح، فإنّ الإشارة إلى السطح قد تكون بامتداد خطّيّ واقعًا طرفه على نقطة منه، وقد يكون بامتداد سطحيّ ينطبق طرفه على خطّ منه، وقد يكون بامتداد جسميّ ينطبق السطح الّذي هو طرفه عليه.

وفيه نظر؛ لأنّ ما ذكر إنّما يقتضي أن تكون الإشارة إلى النقطة عين الإشارة إلى الخطّ وبالعكس إذا كانت الإشارة إلى الخطّ بالنحو الثاني، وأمّا إذا كانت بالنحو الأوّل فلا؛ لوضوح أنّه يمكن الإشارة حينئذٍ بحيث لم يقع طرف الخطّ الموهوم على أحد طرفيه الّذي(3) يكون الكلام فيهما(4)، فحينئذٍ قد تحقّقت الإشارة إلى الخطّ دون الإشارة إلى تلك النقطتين اللّتين أورد الاعتراض(5) بالنسبة إليهما وإن كانت إشارة(6) إلى نقطة موهومة غيرهما.

ص: 162


1- أي من المشار إليه.
2- في «ق»: تكون.
3- في «ق»: الّذي.
4- في «ق»: فيه.
5- في «ج»: اعتراض.
6- في «ج»: الإشارة.

وأيضًا قد تكون الإشارة إلى الخطّ بحيث ينطبق طرف ذلك الخطّ على إحدى النقطتين وليست إشارة إلى النقطة الأخرى، ففي الصورتين قد تحقّقت الإشارة إلى المحلّ مع انتفاء الإشارة إلى الحالّ.

وكذا الكلام في السطح؛ فإنّ الإشارة إلى الخطّ وإن كانت إشارة إلى السطح على فرض التسليم، لكنّ الإشارة إلى السطح لا يلزم أن تكون إشارة إلى ذلك الخطّ؛ لجواز أن تتحقّق الإشارة إلى السطح بالإشارة إلى الخطّ الّذي في الطرف للآخر(1)، فحينئذٍ تتحقّق الإشارة إلى المحلّ مع انفكاكها عن الحالّ.

الحلول على قسمين

فالحقّ في الجواب أن يقال: إنّ الحلول على قسمين: سريانيّ، وهو أن لا يكون شيء من أجزاء المحلّ فارقًا عن الحالّ بأن يكون بإزاء كلّ جزء منه جزء من الحالّ؛ وطريانيّ، وهو أن لا يكون الأمر فيه كذلك، والحدّ المذكور للقسم الأوّل منه، والحلول الّذي في الأطراف من القسم الثاني، فلا يضرّ عدم صدق الحدّ بالنسبة إليها.

وأمّا عن الانتقاض بالطرد، فبعدم تسليم شمول الحدّ- أمّا بالنسبة إلى السرعة والجسم فظاهر؛ لأنّ السرعة غير قابلة للإشارة الحسّيّة، بل المشار إليه هو السريع، وعلى فرض التسليم نقول: إنّ السرعة ليست وصفًا للجسم حقيقة وبالذات، بل وصف للحركة كذلك، وبواسطتها يتّصف الجسم بها، فلا يشمله اختصاص شيء بشيء؛ لأنّ المتبادر منه ما يكون من غير واسطة.

ص: 163


1- كذا في الأصل، وفي «ق»: الآخر، وفي «ج»: الأخرى.

وأمّا بالنسبة إلى المكان؛ فلأنّ المراد من اختصاص شيء بشيء هو أن يكون الشيء الأوّل وصفًا للشيء الثاني، كالبياض بالنسبة إلى الجسم؛ وليس الجسم بالنسبة إلى المكان كذلك، وإلّا يلزم امتناع مفارقة الجسم عن المكان؛ لامتناع مفارقة الصفة عن الموصوف مع بقاء الصفة بحالها، نعم، يجوز زوال الصفة وانعدامها.

تعريف آخر للحلول

وقال بعض آخر:

الحلول هو الاختصاص الناعت، أي التعلّق الخاصّ الّذي يصير به أحد المتعلّقين نعتًا للآخر والآخر منعوتًا به، والأوّل -أعني النعت- حال، والثاني -أعني المنعوت- محلّ(1).

ولا يخفى أنّ المراد إمكان اشتقاق اسم من ذلك وجعله نعتًا للآخر كالبياض مثلًا، فإنّه يمكن أن يشتقّ منه أبيض، فيقال: «الجسم الأبيض»، لكن يرد على طرده نحو: «زيد متموّل» و«الجسم متمكّن» وأمثالهما، إلّا أن يدفع ذلك بمثل ما تقدّم، فيرجع إلى التعريف الأوّل.

وربما قيل في تفسيره شيء آخر، إلّا أنّه يرجع في المآل إلى الأوّل أيضًا، فلا يحتاج إلى الذكر.

ص: 164


1- ينظر المحاكمات بين شرحي الإشارات: 2/ 103، وإشراق هياكل النور: 76، وشرح الهداية الأثيريّة: 33، والحكمة المتعالية: 1/ 231، وكشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 1/ 716 -717.
الأمر الثاني: في أنّ المصحّح للتجوّز هو القسم الأوّل منهما فقط

وأمّا الكلام في الأمر الثاني، فاعلم: أنّك قد عرفت أنّ الحلول على قسمين، والظاهر أنّ المصحّح للتجوّز هو القسم الأوّل منهما، لا القسمان معًا، لما عرفت مرارًا أنّ أمر اللغات توقيفيّ، والتصرّف في الأمور التوقيفيّة إنّما يكون على وفق ما ثبت فيه الرخصة، والقدر الثابت فيما نحن فيه هو ما كان الحلول سريانيًّا لا مطلقًا. وأيضًا استعمال اللفظ في غير ما وضع له خلاف الأصل، واللازم فيما خالف الأصل الاقتصار على القدر المتيقّن.

الأمر الثالث: في الفرق بين الحالّ والمحلّ والكلّيّة والجزئيّة والظرف والمظروف والمجاورة
اشارة

وأمّا الكلام في الأمر الثالث، فنقول: إنّ الفرق بين الحالّ والمحلّ وبين الكلّ والجزء من وجوه بعضها مطّرد بخلاف الآخر.

أمّا الأوّل: فهو أنّ الجزء هو الّذي له مدخل في قوام الكلّ، بخلاف الحالّ، فإنّ الأمر فيه ليس كذلك، والكلّ هو الّذي يتقوّم بالجزء وينتفي بانتفائه، بخلاف المحلّ.

وأيضًا الجزء هو الّذي له تقدّم بالطبع على الكلّ، وهو الّذي له تأخّر كذلك عن الجزء، بخلاف الحالّ والمحلّ، فإنّ الأمر فيهما متعاكس، إذ المحلّ له تقدّم على الحالّ.

إن قيل: إنّ الكلّ على قسمين، أحدهما: يوجد(1) أجزاؤه في الخارج على

ص: 165


1- كذا في الأصل، والصواب: توجد.

الانفراد، ثمّ بالاجتماع يتحصّل الكلّ؛ والثاني: ليس الأمر فيه كذلك، كالإنسان مثلًا، بأنّ الرقبة(1) ليس لها تقدّمٌ عليه في الخارج(2).

قلنا: الحالّ والمحلّ أيضًا كذلك، إذ قد يكون للمحلّ وجود في الخارج منفردًا عن الحالّ، كالثياب المصبوغة مثلًا، وقد لا يكون كذلك، كالجسم الأبيض ونحوه، ولكن لمّا لوحظت جهة التوقّف والافتقار، حكم بتقدّم الجزء على الكلّ مطلقًا والمحلّ على الحالّ كذلك.

وأمّا الثاني: فهو أنّ الإشارة إلى الجزء ليست(3) عين الإشارة إلى الكلّ ولا العكس، فإنّ الإشارة إلى الرقبة تغاير الإشارة إلى الإنسان وبالعكس، بخلاف الحالّ والمحلّ، فإنّ الأمر فيه على ما عرفت.

وإنّما حكمنا بعدم اطّراده؛ لأنّ الجزء قد لا يبقى بحيث يمكن الإشارة الحسّيّة إليه، كالخلّ مثلًا بالنسبة إلى السكنجبين.

الفرق بين الحالّ والمحلّ وبين الظرف والمظروف

وأمّا الفرق بينهما وبين الظرف والمظروف، فهو أنّ الحال والمحلّ هما اللّذان موجودان بوجود واحد كالسواد ومحلّه، بخلاف الظرف والمظروف، فإنّهما موجودان بوجودين.

وأيضًا أنّ وجود المحلّ موقوف عليه لوجود الحالّ، بخلاف الظرف بالنسبة إلى

ص: 166


1- في «ج»: الرقبة.
2- حقّ العبارة هكذا: فإنّ الرقبة ليس لها تقدّم عليه في الخارج.
3- في «ق»: ليست.

المظروف، فإنّ وجوده لم يتوقّف على وجوده.

الفرق بين الحالّ والمحلّ وبين المتجاورين

وأمّا الفرق بينهما وبين المتجاورين، فكالفرق بينهما وبين الظرف والمظروف وقد عرفت.

الفرق بين الظرف والمظروف وبين المتجاورين

بقي الكلام في الفرق بين الظرف والمظروف وبين المتجاورين، فنقول: إنّ الظرف والمظروف(1) هما اللّذان يكون وضع أحدهما(2) لتقرّر الآخر فيه، بخلاف المتجاورين، فإنّ الأمر فيهما ليس كذلك.

وبالجملة: المجاورة بالنظر إلى معناها اللغويّ وإن كان أعمّ، فتكون النسبة بين الظرف والمظروف والمتجاورين عموم(3) مطلقًا؛ لأنّ كلّ ظرف ومظروف يصدق عليهما أنّهما متجاوران(4)، وبعض المتجاورين لا يصدق عليهما أنّهما ذلك، فيكون

ص: 167


1- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): ليس المقصود تعريف الظرف والمظروف بما ذكر، فإنّ الماء متقرّر في الحياض والآبار ونحوهما، مع أنّ شيئًا منها لا تسمّى ظرفًا؛ وكذا الجنازة، فإنّها اسم للشيء المعلوم الّذي يحمل به الميّت ولا يسمّى ظرفًا أيضًا، وإن أردت تعريف الظرف قلت: إنّه عبارة عمّا كان على هيئة مهيّئة لتقرّر الآخر فيه، وذلك الآخر يسمّى مظروفًا.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي الظرف.
3- كذا في الأصل، والصواب: عمومًا.
4- جاء في حاشية الأصل: يمكن المناقشة في إطلاق المجاورة على الظرف والمظروف في العرف والعادة، بل الظاهر عدم إطلاقهم المجاورة على المشتمل والمشتمل فيه والمحيط والمحاط، بل يطلقون ذلك على الشيء الخارج المتّصل بالشيء، أو القريب منه. منه.

ذكر المجاورة مغنيًا عن ذلك.

ولعلّه لهذا لم يتعرّض جميعهم في بيان العلائق المصحّحة للتجوّز للظرف والمظروف، لكن بالنظر(1) إلى الأمثلة المتقدّمة يمكن الافتراق(2) بينهما بما ذكر، فتأمّل.

التنبيه على عدم صحّة التمثيل بالآيات المذكورة لما نحن فيه

وأمّا التمثيل في الآية(3) الأولى وكذا الثانية والثالثة لإطلاق اسم المحلّ على الحالّ، فغير صحيح، بناءً على ما عرفت من معنى الحلول، إذ ليس أهل المجلس حالًّا فيه ولا أهل القرية حالًّا فيها، إلّا أن يقال: إنّ ذلك بحسب الدقائق الحكميّة، ومعنى الحلول بحسب العرف والعادة أعمّ منه، وابتناء القواعد اللفظيّة على الدقائق الحكميّة ممّا لا وجه له.

لكن لا شبهة في عدم إطلاق الحلول في العرف على أهل المجلس بالنسبة إليه ولا على أهل القرية بالنسبة إليها، فلا يقال: أهل المجلس حالّ فيه، ولا أهل القرية حالّ فيها، فالتمثيل بالآيات المذكورة لتسمية الحالّ باسم المحلّ غير مطابق، بل الظاهر أنّها من باب الإضمار والحذف، فالتقدير في الآية الأولى: فليدع أهل ناديه، وفي الثانية: واسأل أهل القرية، وفي الثالثة: وكم من قرية أهلكنا أهلها فجاء أهلها بأسنا، أو: وكم من أهل قرية أهلكناهم فجاءهم بأسنا.

ص: 168


1- في «ق»: النظر.
2- كذا في الأصل، والأولى: التفرقة.
3- كذا في الأصل، والصواب كما في باقي النسخ: بالآية.

إن قيل: يجب الرجوع في القواعد اللفظيّة إلى العرف والعادة، ولا ريب في أعميّة المحلّ عندهم ممّا تقدّم، ألا ترى أنّهم يشيرون إلى مكان معيّن(1) ويقولون:

هذا محلّ فلان، وكذا محلّ فلان في بغداد، أو بلد كذا، أو قرية كذا، أو سوق كذا، وأمثالها.

وأيضًا يفسّرون المذبح بمحلّ الذبح، والمخرج بمحلّ الخروج، والمقتل بمحلّ القتل، وهكذا، مع أنّه ليس شيء من هذه الأشياء حالًّا ومحلًّا بالمعنى المتقدّم، فيعلم من ذلك أعميّة المحلّ عندهم، ويتصحّح بذلك كلام مَنْ جعل الآيات المذكورة من باب تسمية الحالّ باسم المحلّ، فيندفع الإيراد.

قلنا: أمّا تفسير أسماء المكان بمحلّ الذبح مثلًا، فغير مسلّم، بل إنّها مفسّرة بمكان الذبح ومكان الخروج وهكذا، ويؤيّد ذلك قول أئمّة الصرف حيث سمّوها بأسماء المكان، لا المحلّ؛ وعلى تقدير التسليم لا يجدي نفعًا لما يأتي.

وأمّا إطلاق المحلّ في قولهم: هذا محلّ فلان ونحوه، فهو وإن كان مسلّمًا، لكنّه بانفراده غير حاسم للإشكال؛ إذ لا بدّ من إطلاق الحالّ على الأشياء الواقعة فيها أيضًا حتّى يصدق إطلاق اسم المحلّ على الحالّ، وهو بديهيّ الفساد، إذ لا شبهة في استنكاف قول من قال: فلان حالّ في هذا المكان، أو الذبح حالّ في ذلك المكان، ونحوهما.

لا يقال: إنّ جواز إطلاق المحلّ في المواضع المذكورة يستلزم جواز إطلاق الحالّ على الأمور الواقعة فيها، إذ المحلّ اسم لما وقع عليه الحلول.

ص: 169


1- «معيّن» لم ترد في «ج».

لأنّا نمنع الملازمة، بل نقول: إنّ ذلك مبنيٌّ على بقاء ذلك الاسم على معناه الوصفيّ، وهو غير مسلّم؛ لجواز كونه من باب غلبة الاسميّة على الوصفيّة، بل الظاهر ذلك، إذ لو كان ذلك باقيًا على معناه الوصفيّ؛ لما كان إطلاق لفظ الحالّ على الأمور الواقعة فيها مستكرهًا، والتالي باطل، ضرورة استحسان الإنكار على القائل بأنّ أهل القرية حالّ فيها ونحوه، فالمقدّم مثله، والملازمة بيّنة، فذلك قرينة ظاهرة على عدم بقاء المحلّ على معناه الوصفيّ.

فيعلم من ذلك أنّ للفظ «المحلّ» عندهم إطلاقين:

أحدهما: هو ما تقدّم، كأبيض مثلًا، وهو يستلزم جواز إطلاق الحالّ على البياض.

والثاني: مرادفة المكان، لكن لم يثبت استعمال لفظ «الحالّ» بمعنى الكائن و«الحلول» بمعنى الكون، فلا يكون للفظ «الحالّ» إلّا معنى واحد، ولمّا كان الكلام في تسمية الحالّ باسم المحلّ، يجب أن يكون ذلك فيما يصدق الحاليّة والمحلّيّة؛ وقد عرفت أنّه إنّما يكون بالمعنى المتقدّم دون غيره، وعدم الثبوت كافٍ في أمثال المقام.

وأمّا التمثيل بآية الرحمة لتسمية المحلّ باسم الحالّ، فغير مطابق أيضًا، إذ الرحمة غير حالّة في الجنّة، حتّى يقال: إنّه من باب إطلاق اسم الحالّ على المحلّ، بل الرحمة واردة في الجنّة على الساكنين فيها، وإنّما تكون الجنّة(1) حينئذٍ مكانًا لورود الرحمة على عباده الّذين يرجون رحمة ربّهم، لا محلًّا لحلول الرحمة فيها، والقدر الثابت في إطلاق اسم الحالّ على المحلّ هو أن يكون من هذا الباب كما عرفت.

ص: 170


1- «الجنّة» لم ترد في «ق».
رفع إبهام لتتميم مرام

إن قلت: إن لم تكن الآية الشريفة من باب تسمية المحلّ باسم الحالّ، فما [هو] مصحّح إطلاق لفظ «الرحمة» على الجنّة؟

قلت: يمكن أن تكون تلك المشابهة، فيكون الكلام من باب الاستعارة للمبالغة في مدح الجنّة حتّى كأنّها نفس الرحمة، فنحن وإن كنّا موافقين معهم في أصل المعنى الّذي ذكروه في بيان الآية الشريفة. لكنّا معرضون عمّا ذكروا في تصحيح الاستعمال فيها.

على أنّه يمكن المناقشة في ارتكاب أصل التجوّز في الآية الشريفة.

بيان ذلك هو أن يقال: إنّ «الرحمة» في اللغة رقّة القلب وانعطاف يقتضي التفضّل والإحسان(1)، لكن إذا نسبت إلى الله تعالى يراد بها برّه وإحسانه؛ لأنّ أسماءه تعالى تؤخذ باعتبار الغايات الّتي هي الأفعال، دون المبادئ الّتي هي الانفعالات - كما فصّلنا في «الحلية اللامعة»(2)، من أراد الاطّلاع فليطلب إليه المراجعة - وإليه الإشارة بقول أهل العرفان: «خذ الغايات واترك المبادي»(3).

فعلى هذا نقول: إنّ أصل الجنّة رحمة الله سبحانه؛ لكونها برّه(4) وإحسانه تعالى على عباده، فلا حاجة إلى ارتكاب الحاليّة والمحليّة، ولا إلى المشابهة والاستعارة بالوجه الّذي مرّت إليه الإشارة.

ص: 171


1- ينظر: الصحاح: 5/ 1929 «رحم»، ولسان العرب: 12/ 231، والفروق اللغويّة: 251.
2- الحلية اللامعة، للمصنّف (قدس سره): 1/ 108- 109.
3- ينظر أسرار الحكم: 52.
4- «لكونها برّه» لم ترد في «ق».

نعم، يمكن حمل الكلام على المبالغة بوجه آخر، وهو أن يقال: إنّ الجنّة على هذا تكون فردًا من أفراد رحمته سبحانه، وإطلاق «الرحمة» عليه(1) حينئذٍ على سبيل الإطلاق، إمّا للمبالغة على عِظَمِ نفسها وجلالة شأنها، أو لاستلزامها التشرّف بأنواع رحمة الله سبحانه وأقسام نِعَم الله عزّ شأنه، حتّى كأنّها نفس الكلّ.

اللّهمّ اجعل ختامنا بمشارفة فردوسك، كما اختتم كلامنا بوصف جنّتك، وأزل حلول معاصيك عن نفوسنا، كما أزلنا القول الموهم(2) لسلب(3) الرحمة عن جنّتك، وافرق بيننا وبين أعدائك كما افترقنا المغايرة بين رحمتك وجنّتك بمحمّد وآله الحالّين في طاعتك، بل المحلّين لها.

الاشتراك في المحلّ لا يكون مصحّحًا للتجوّز
تنبيه تفريعيّ

اعلم: أنّ الفاضل العضديّ قال عند تعميم المجاورة:

وهذا يعمّ ما يكون أحدهما في الآخر.

إلى أن قال:

وما لا يكون كذلك، بل هما في محلّ واحد، أو في محلّين، أو حيّزين

ص: 172


1- كذا في الأصل، والصواب: عليها.
2- جاء في حاشية الأصل: لأنّ القول بأنّ قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله﴾ [سورة آل عمران: 107] من إطلاق «الرحمة» على الجنّة وأنّه من باب إطلاق الحالّ، ظاهره يوهم أنّ نفس الجنّة ليست من رحمة الله سبحانه. منه.
3- في «ق»: لسبب.

متقاربين(1)، انتهى.

ولا يخفى أنّ المرجع لضمير التثنية في كلامه المعنى الحقيقيّ والمجازيّ، يعني أن يكون المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في محلّ واحد، إلخ.

تحقيق المقام يستدعي بيان أمور
اشارة

تحقيق المقام يقتضي التكلّم في كلّ من الأمور الثلاثة، فأقول:

الأمر الأوّل: في كون المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في محلّ واحد

أمّا الأوّل: فقد مثّل له بتسمية الإيمان أو العلم بالحياة، وبتسمية الكفر أو الجهل بالموت؛ وحمل على ذلك قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾(2).

ونحن نقول: أمّا التمثيل بتسمية العلم أو الإيمان بالحياة، فلا بأس به(3)، وأمّا التمثيل بتسمية الكفر أو الجهل بالموت فغير مطابق؛ لأنّ المدّعى إطلاق لفظ أحد الحالّين في محلّ على الحالّ الآخر منهما، والموت ليس حالًّا في النفس كالجهل أو الكفر، بل هو يتحقّق بقطع علاقتها من البدن العنصريّ، فلا دخل له لما نحن فيه.

ثمّ إنّ العلاقة على هذا العنوان لم تحضر في البال المتعرّض لها من الأعلام، ولم يكن لديّ كتب الأصول عند تدوين هذه الرسالة حتّى تتيسّر المراجعة، لكن عدّة من الكتب الموجودة كانت عنها خالية مع أنّه استقصي في بعضها ذكر أنواع

ص: 173


1- شرح مختصر المنتهى: 1/ 517.
2- سورة الأنعام: 122.
3- جاء في حاشية الأصل: مع إمكان المناقشة فيه أيضًا، لحلول الحياة في جميع البدن بخلاف العلم. منه.

العلائق الخمس والعشرين بأجمعها.

فلهذا نبني الكلام على عدم التعرّض لها، فنقول: عدم تعرّضهم لها إمّا لعدم كون اشتراك الحالّين في محلّ مصحّحًا للتجوّز عندهم، أو لإدراجهم إيّاه تحت بعض آخر من العلائق المذكورة؛ بمعنى أنّ بعضًا ممّا ذكروه كان أعمّ من ذلك، فاستغنوا بذكر العامّ عن ذكر الخاصّ، أو لغفلتهم عنه وعدم تنبّههم له مع كونه مصحّحًا كغيره من أنواع العلائق، أو للمسامحة مع كونه مصحّحًا للتجوّز عندهم وتنبّههم له.

والأخيران بعيدان، أمّا الأوّل: فلأنّهم مع تبحّرهم في العلوم ونهاية اطّلاعهم على استعمالات الفصحاء وغاية مزاولتهم لمخاطبات البلغاء، لو كان ذلك لاطّلعوا عليه وتظافروا به(1)، فالحكم بغفلة الجميع خارج عن الإنصاف ومهجور عن الصواب.

وأمّا الثاني: فلغاية اهتمامهم في ضبط العلوم ونهاية جهدهم في جمع القواعد والرسوم، كما لا يخفى على المطّلع بكتبهم والعارف بسيرتهم.

ومع ذلك احتمال المسامحة في مثل هذه الأمور العظيمة ممّا لا وجه له، فتعيّن أن يكون عدم الذكر إمّا لعدم كونه مصحّحًا للتجوّز عندهم، أو لشمول ما ذكروه له، أمّا الأوّل فلا بأس به، وعلى من ادّعى الثبوت الإثبات، إذ للمانع يكفي الاحتمال، وأمّا الثاني فليس القابل للشمول من العلائق المذكورة غير المشابهة والمجاورة كما لا يخفى على من له أدنى دربة.

وأمّا المشابهة فكذلك أيضًا، إذ لا يلزم أن يكون الحالّان في محلّ بحيث يكون

ص: 174


1- كذا في الأصل، والصواب: وظفروا به.

أحدهما مشابهًا للآخر، فحينئذٍ يكون بين العلاقة المشابهة وما نحن فيه عموم من وجه، والاستغناء بذكر العامّ عن الخاصّ إنّما هو إذا كان العامّ أعمّ مطلقًا والخاصّ أخصّ كذلك كما لا يخفى.

نعم، إنّما يمكن ذلك إذا قيّد الحالّان بما إذا كان أحدهما مشابهًا للآخر، فحينئذٍ يندرج تحت المشابهة ويصحّ التجوّز، لكن لا لأجل الاشتراك في المحلّ كما يوهمه كلام ذلك الفاضل(1)، بل لأجل المشابهة، وعليه يحمل إطلاق «الموت» على الجهل أو الكفر، و«الحياة» على العلم أو الإيمان كما في الآية الشريفة.

وأمّا المجاورة فهي وإن عمّمها ذلك الفاضل بحيث تشمل ما نحن فيه أيضًا بناءً على زعمه، لكنّ التحقيق أنّه ليس كذلك؛ لأنّ الحالّين قد يكونان مثل العلم والحياة والجهل والكفر وأمثالها، والمجاورة غير صادقة في حقّها، كما يظهر عند المراجعة إلى الوجدان وتتبّع العرف والاستعمال.

نعم، قد تكونان مثل البياض والسواد في الجسم الأبلق، وهذا القسم وإن صدقت المجاورة اللغويّة عليه، لكنّه ليس من كون الحالّين في محلّ؛ لثبوت المغايرة بين محلّ كلّ من السواد والبياض، ولا ممّا أظنّ أن يصحّ به التجوّز على ما تقدّم تحقيقه.

وكان الموجب لذلك الفاضل في الحكم بكون الحالّين في محلّ مصحّحًا للتجوّز، هو أنّه رأى في كلمات البلغاء استعمال «الحياة» في العلم و«الموت» في الجهل، ونحوهما، ولم يظهر له شمول ما ذكروه في أنواع العلائق له، أراد أن يعنون لذلك عنوانًا ينضبط به أمره، فقال: أو هما في محلّ(2).

ص: 175


1- المقصود هو الفاضل العضديّ، تمّ تخريجه ص173.
2- شرح مختصر المنتهى: 1/ 517.

ولعلّ وجه عدم شمول المشابهة له عنده هو أنّ ظاهر المشابهة أن يكون هناك ذات متّصفة بصفة وذات أخرى لاتّصافها بها يحصل لها المشابهة، وهذا إنّما يتصوّر في الجواهر ليمكن الاتّصاف بالصفة، وما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى.

أو أنّ مطلق الشباهة غير مصحّح للتجوّز، بل الشباهة في الصفة الظاهرة على ما مرّ الكلام فيه(1)، وهي منتفية هنا، لا مطلق الشباهة.

أو أنّ مقصوده التنبّه على أنّه كما يتصحّح التجوّز بالعلاقات المقرّرة عندهم، يتصحّح أيضًا بكون الحالّين في محلّ مطلقًا وإن انتفت بينهما المشابهة.

وفي الجميع نظر، أمّا في الأوّل: فلأنّه مبنيّ على عدم جواز قيام العرض بالعرض، وهو فاسد كما بيّن في محلّه(2).

وأمّا في الثاني: فلأنّ الشباهة بين العلم والحياة والجهل والموت ليست أخفى(3) من كثير من المواضع الّتي تجوّزوا فيها لتحقّق الشباهة، كما لا يخفى على المطّلع بمباحث البيان وأشعار الفصحاء.

وأمّا في الثالث: فلما تقدّم مرارًا من توقيفيّة أمر اللغات، فعلى من ادّعى ثبوت الرخصة(4) الإثبات: على أنّه لو جاز ذلك؛ لصحّ إطلاق اسم الكفر على الحياة والعلم على الكفر ونحوهما، مع أنّ ثبوت الاستعمال في أمثال ذلك غير واضح، وعدم الثبوت كافٍ في المقام، ولا يكفي مجرّد الاحتمال، والله عالم بحقيقة الحال.

ص: 176


1- تقدّم في ص144.
2- تقدّم في ص104.
3- في «ق»: أخصّ.
4- كصاحب قوانين الأصول: 25.
الأمر الثاني: في كون المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في محلّين

وأمّا الأمر الثاني: أي كون المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في محلّين، فنقول: الظاهر أنّ قوله: «متقاربين»، مأخوذ هنا أيضًا، وإلّا يلزم جواز إطلاق اسم أيّ حالّ كان على الحالّ الآخر، والضرورة قاضية بفساده، فالمقصود أنّ كون الحالّين في محلّين متقاربين يصحّح إطلاق لفظ أحدهما على الآخر، كما يقال لكلام الوزير: إنّه كلام الأمير.

ثمّ إنّه يرد في هذا ما أوردناه فيما قبله من أنّ العلاقة على هذا العنوان لم يحضر في البال(1) المتعرّض لها من الأعلام، وأنّ عدم التعرّض مبنيٌّ على أحد الأمور المتقدّمة وقد علم الكلام فيها، فلا يحتاج إلى الإعادة، إلّا أنّ شمول المجاورة في كلامهم لما نحن فيه أقرب من شمولها لما قبله كما لا يخفى.

لكن يمكن الجواب عنه أيضًا بأنّ المجاورة بين الحالّين في محلّين متقاربين بواسطة التقارب بين محلّيهما، والظاهر من المجاورة ما يكون من غير واسطة، مضافًا إلى ما تقدّم في تحقيق المجاورة، فالحقّ أنّ كون الحالّين في محلّين متقاربين مصحّحًا للتجوّز غير ثابت، وعلى المدّعي للثبوت الإثبات، وأنّ إطلاق كلام الأمير على كلام الوزير مبنيّ على المشابهة.

الأمر الثالث: في كون المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في حيّزين متقاربين

وأمّا الأمر الثالث: أي كون المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في حيّزين متقاربين، فتوضيح الحال فيه يقتضي بيان الفرق بين المحلّ والحيّز، فنقول على سبيل الإجمال:

ص: 177


1- كذا في الأصل، والصواب: بال.

إنّ المحلّ هو ما كان مقوّمًا للحالّ وأنّ الإشارة إليه عين الإشارة إليه، بخلاف الحيّز، فإنّه ليس مقوّمًا للمتحيّز فيه ولا تكون الإشارة إليه عين الإشارة إلى المتحيّز(1)؛ لكونهما موجودين بوجودين متمايزين(2).

ثمّ إن كان المراد منه المجاورة بالمعنى المتقدّم، فلا كلام فيه، وإلّا يكون الأمر فيه كسابقيه، فلا حاجة إلى الذكر والإعادة؛ لكفاية ما مرّت إليه الإشارة.

النوع التاسع والعاشر من العلاقة: العلّيّة والمعلوليّة
اشارة

التاسع والعاشر: العلّيّة والمعلوليّة، فيطلق اسم العلّة على معلولها وبالعكس.

في تعريف العلّة التامّة والناقصة

تحقيق المقام يقتضي التكلّم فيهما وفي أقسامهما، ثمّ الإشارة إلى المطلوب، فنقول: إنّ العلّيّة منقسمة إلى تامّة وناقصة، وعرّف بعضهم الأولى: بأنّها جميع ما يتوقّف عليه وجود شيء، تدخل فيه الشرائط والآلات وعدم الموانع، والثانية: بأنّها بعض ما يتوقّف عليه وجوده(3).

وفيه بحث؛ لأنّ ظاهر هذا التعريف يعطي انحصار العلّة التامّة في المركّب، وهو فاسد؛ لوضوح أنّ العلّة التامّة قد تكون بسيطة، فينتقض عكس الحدّ بخروج العلّة التامّة البسيطة.

ص: 178


1- جاء في حاشية الأصل: فيه أنّ الهيولي محلّ للصورة وليست مقوّمة لها. منه.
2- ينظر كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 1/ 725.
3- ينظر إيضاح المقاصد: 94، ومطالع الأنظار: 68، وحاشية المحاكمات: 287، والإشارات والتنبيهات: 3/11، وشرح مطالع الأنوار: 92، والجوهر النضيد: 206.

إن قيل: لا نسلّم إمكان بساطة العلّة؛ لأنّ ما لا ينفك عنه أيّة علّة فرضت اعتبار إمكان المعلول معها، فيلزم التركيب.

قلنا: هذا ليس بشيء، أمّا أوّلًا: فلأنّ اعتبار إمكان المعلول مع العلّة ليس موقوفًا عليه المعلول؛ إذ الموقوف عليه له إمكانه النفس أمريّ، سواء اعتبره المعتبر أم لا.

وأمّا ثانيًا: فلما قيل: إنّ الإمكان وصف المعلول؛ لأنّه علّة حاجته إلى العلّة، فالشيء ما لم يعتبر متّصفًا به لم يطلب له علّة، فالإمكان مأخوذ في جانب المعلول، فنحن نأخذ شيئًا ممكنًا، ثمّ نطلب له سببًا وعلّة، ولا شكّ أنّه لا يعتبر مع ذلك السبب إمكان المعلول مرّة أخرى.

وأيضًا أنّ المركّب لتحقّق التركيب فيه يكون ممكنًا، وكلّ ممكن يفتقر إلى علّة تامّة، فلا بدّ أن ينتهي إلى علّة بسيطة لبطلان التسلسل، فالحقّ أن يقال: إنّ ما يتوقّف عليه الشيء علّة تامّة إن لم يتوقّف ذلك الشيء على أمر خارج عنه، وناقصة إن توقّف، وبعبارة أخرى: إنّ ما يتوقّف عليه الشيء إن استقلّ في تحقّقه فتامّة، وإلّا فناقصة(1).

في أقسام العلّة الناقصة

ثمّ العلّة الناقصة منقسمة إلى أربعة أقسام: المادّيّة والصوريّة والفاعليّة والغائيّة؛ لأنّها لا تخلو إمّا أن تكون جزءًا للمعلول، أو لا، والأوّل إمّا أن يكون المعلول معه بالقوّة، أو بالفعل.

ص: 179


1- ينظر شرح كتاب القبسات: 164- 165، وكشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 2/ 1209.

والأوّل هو الأوّل، كالخشب بالنسبة إلى السرير، والطين بالنسبة إلى الكوز، والثاني هو الثاني، كصورة السرير، فإنّ وجودها لا ينفكّ عن وجود السرير، فوجوده معها بالفعل، لكن لا بها فقط؛ لأنّ المفروض أنّ العلّة الصوريّة من أقسام العلل الناقصة، بل بها وبسائر أقسام العلل.

إن قيل: إنّ انحصار جزء الماهيّة في المادّة والصورة ممنوع؛ لوضوح أنّ من أجزائها الجنس والفصل، وليس شيء منهما مادّة ولا صورة(1).

قلت: قد أجيب عنه بأنّ هذه القسمة ليست لمطلق أجزاء الماهيّة، بل لأجزائها الخارجيّة، والجنس والفصل ليسا كذلك، بل من الأجزاء العقليّة التحليليّة.

وفيه نظر، فالحقّ أن يجاب بعدم تسليم خروجهما عن المادّة والصورة؛ لما ذكروا من أنّ الجنس إذا أخذ بشرط أن لا يكون معه فصل يكون مادّة، والفصل إذا أخذ بشرط أن لا يكون معه جنس يكون صورة، وإذا أخذ كلّ منهما لا بشرط شيء كان الأوّل جنسًا والثاني فصلًا(2).

لا يقال: المأخوذ لا بشرط شيء جزء للماهيّة، مع أنّه ليس بمادّة ولا صورة، فبطل الانحصار.

ص: 180


1- جاء في حاشية الأصل: ولا يخفى عليك أنّه ليس المراد من المادّة والصورة في المقام ما يخصّ الأجسام من المادّة والصورة الجوهرتين، بل ما يعمّهما وغيرهما من الجواهر والأعراض الّذي يكون الشيء معه بالقوّة أو بالفعل، إذ المراد بالصورة في هذا المقام ما يكون الشيء معه بالفعل، فإن كان لعنصر ذلك الشيء قوام بدونه، تكون تلك الصورة عرضًا، كالصورة الّتي للكوز، وذلك الشيء يسمّى بالموضوع؛ وإن لم يكن له قوام إلّا به - كالنفس الّتي للحيوان - تكون تلك الصورة جوهرًا وصورة باصطلاح آخر، وذلك الشيء يسمّى بالمادّة والهيولى. منه.
2- ينظر المواقف: 1/ 426، وحكمة العين وشرحه: 175.

لأنّا نقول: إنّهم صرّحوا بأنّ الجنس والفصل إن أخذا لا بشرط شيء يمكن أن يحمل كلّ منهما على الماهيّة، فيعلم منه أنّهما بهذا الاعتبار ليسا جزأين؛ لوضوح عدم حمل الجزء على كلّه.

وما يقال من أنّ الجنس جزء للماهيّة وكذا الفصل، فإنّه لم يكن المراد منه ظاهره، بل المراد أنّهما جزءان إذا أخذا باعتبار آخر، أي بشرط لا، لا بهذا الاعتبار الّذي هو لا بشرط شيء، فلا إشكال من هذه الجهة.

نعم، يتوجّه الإشكال من وجه آخر، وهو أنّ حصر المادّة في جزء الماهيّة فاسد؛ لأنّهم ذكروا في أمثلة المادّة «اللوح» للكتابة، و«الوادي»(1) للماء، ونحوهما، مع أنّ «اللوح» ليس جزءًا للكتابة ولا «الماء» للسيلان.

فالحقّ أن يقال في تعريفها ما ذكره بعض المحقّقين، وهو أنّ العلّة المادّيّة ما يكون الشيء معه بالقوّة، أي يكون فيه قوّة قبول المعلول، سواء كان جزءًا له، أو لا كما عرفت؛ ولهذا(2) يسمّى بالعلّة القابلة أيضًا.

والثاني - أي ما لا يكون جزءًا للمعلول، بل كان خارجًا عنه -، لا يخلو إمّا أن يكون منه وجود المعلول، كالنجّار بالنسبة إلى السرير، والفاعل للكوز بالنسبة إليه، فهي العلّة الفاعليّة؛ أو لأجله وجودُه، فهي العلّة الغائيّة(3)، الجلوس على

ص: 181


1- جاء في حاشية الأصل: في قولهم: سال الوادي. منه.
2- جاء في حاشية الأصل: أي: ولأنّ في العلّة المادّيّة قوّة قبول المعلول. منه.
3- جاء في حاشية الأصل: ويسمّى بالغرض بالنسبة إلى الفاعل، فالغرض والعلّة الغائيّة متّحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار، فمن حيث نسبة الجلوس إلى الفاعل يكون غرضًا له، ومن حيث نسبته إلى السرير يكون علّة غائيّة له. منه.

السرير بالنسبة إليه، وهو علّة فاعليّة لعلّيّة الفاعل للمعلول أيضًا؛ لوضوح أنّ النجّار يتصوّر أوّلًا جلوس الأمير على السرير، فيوجب ذلك التصوّر إقدامه على إيجاده في الخارج، ومعلولة أيضًا بالنسبة إلى المعلول، فلها وصف المعلوليّة والعلّيّة الفاعليّة والغائيّة باعتبارات مختلفة.

فالجلوس مثلًا من حيث الوجود الذهنيّ علّة فاعليّة بالنسبّة إلى اتّصاف الفاعل بوصف العلّيّة للسرير، فيتّصف بوصف العلّيّة الفاعليّة، وموجب لإقدامه على إيجاده في الخارج، فيتّصف بوصف العلّيّة الغائيّة، ومن حيث الوجود الخارجيّ معلول للسرير؛ لوضوح أنّ الجلوس في الخارج عليه(1) إنّما يتحقّق بعد وجوده(2)، هذا ملخّص ما ذكروه.

وفيه نظر؛ لأنّه لا شبهة في أنّ الشرط وعدم المانع ممّا توقّف عليه وجود المعلول، فيكون من العلل الناقصة مع عدم الاندراج فيما ذكر من الأقسام؛ لأنّهما وإن كانا من الأمور الخارجة عن المعلول، إلّا أنّهما ليسا ممّا يصدر منه ولا لأجله وجود المعلول، ولهذا ذهب بعض الأعلام إلى تخميس القسمة في المقام، فقال:

إنّ العلّة الناقصة إن كانت داخلة في المعلول، فهي المادّيّة إن كان بها وجود الشيء بالقوّة، وإلّا فالصوريّة، وهي إذا حصلت كان الشيء معه موجودًا بالفعل، وإن كانت خارجة، فهي العلّة الفاعليّة إن كان منها وجود الشيء، والغائيّة إن كان

ص: 182


1- أي على السرير.
2- ينظر إلهيّات المحاكمات مع تعليقات الباغنويّ: 39، والتحصيل: 520، والجوهر النضيد: 206، والحكمة المتعالية: 5/ 267، والشواهد الربوبيّة: 69، وكشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 2/ 1210.

لأجلها الشيء، والشرط إن لم يكن كذلك.

قال: وعدم المانع داخل في الشرط؛ لأنّ المراد من الشرط هنا ما كان موقوفًا عليه شيء وخارجًا عنه، ليس وجوده منه ولا لأجله(1).

لكن بقي في المقام إيراد مشهور، وهو أنّ الشرط جزء للعلّة التامّة؛ لما تقدّم من أنّ المراد بها ما لا يكون الشيء متوقّفًا على الخارج عنه، فلا يتحقّق(2) العلّة التامّة إلّا بعد دخول الشرائط فيها؛ لأنّ الشرط ممّا يتوقّف عليه أيضًا، فحينئذٍ نقول: إنّ من الشرائط عدم المانع، وهو عدميّ، فلا يجوز أن يكون جزءًا من العلّة التامّة، وإلّا لم يكن(3) العلّة التامّة موجودة.

وأجاب عن ذلك بعضهم بأنّ العلّة التامّة لا يجب أن يكون(4) وجوديّة بجميع أجزائها، بل الواجب وجود العلّة الموجودة فيها؛ لكونها مفيدة للوجود، ولا امتناع في توقّف الإيجاد على قيد عدميّ، على أنّا نقول: لا نسلّم أنّ عدم المانع عدميّ مطلقًا، وإنّما يكون كذلك لو كان المانع أمرًا وجوديًّا، لا مطلقًا(5).

ص: 183


1- حكمة العين وشرحه: 116، وينظر أيضًا: كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 2/ 1211.
2- كذا في الأصل، والصواب: فلا تتحقّق.
3- كذا في الأصل، والصواب: لم تكن.
4- كذا في الأصل، والصواب: أن تكون.
5- أجاب عن ذلك في حكمة العين وشرحه: 177، وينظر أيضًا: كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 2/1211.
التنبيه على أمور
اشارة

وينبغي التنبيه هنا على أمور:

الأمر الأوّل

المعلول لا يجب أن يكون له جميع ما ذكر من أقسام العلّة دائمًا

الأوّل: أنّه لا يتوهّمن ممّا ذكر أنّ كلّ معلول يجب أن يكون له جميع الأقسام المذكورة للعلّة الناقصة حتّى تكون علّته التامّة مشتملة على جميعها، فإنّ المعلول المجرّد لا تكون له علّة مادّيّة ولا صوريّة، فتأمّل.

وقد يكون فاعل المعلول غير شاعر لما يصدر عنه، فلا يكون له علّة غائيّة، وقد لا يتوقّف صدور المعلول على وجود أمر ولا عدمه، فلا يكون له شرط؛ ولهذا قيل:

إنّ الّذي لا بدّ في كلّ معلول هو العلّة الفاعليّة، فربما تكون وحدها تامّة كافية في إيجاده، وربما ينضمّ إليها أمر أو أمران من الأمور المذكورة، فيستقلّ معه بالتأثير، وقد ينضاف إليها الجميع، فيتمّ العلّيّة(1)، انتهى.

ولا يخفى أنّه بناءً على ما ذكر من أنّ العلّة الفاعليّة قد تكون وحدها تامّة كافية في إيجاده، فجعل العلّة الفاعليّة على سبيل الإطلاق من أقسام العلّة الناقصة ممّا لا وجه له، فتأمّل(2).

ص: 184


1- لم نعثر عليه.
2- جاء في حاشية الأصل: وجهه: هو أنّه كما أنّه لا يمكن انفكاك المعلول عن العلّة الفاعليّة، كذلك لا يمكن الانفكاك عن الغائيّة إلّا على تقدير كون الفاعل غير شاعر، وهو قليل. منه.
الأمر الثاني: ذكر اختلاف الأعلام في التعبير عن هذه العلاقة

والثاني: قد اختلفت مقالة الأعلام في التعبير عن هذه العلاقة، فبعضهم عبّر عنها بالعلّة والمعلول - كما عبّرنا - وبعضهم بالسبب والمسبّب، والمراد واحد، فعلى هذا ينقسم السبب أيضًا إلى تامّ وناقص، ويحدّ كلّ منهما بما سبق من أنّ السبب التامّ هو ما لم يكن الشيء متوقّفًا على الخارج عنه، والناقص ما كان متوقّفًا عليه وعلى الخارج عنه أيضًا، والناقص ينقسم إلى ما ذكر من الأقسام الأربعة، فيقال: سبب مادّي وصوريّ وفاعليّ وغائيّ.

لكن يرد هنا إشكال، وهو أنّ ما اشتهر في الكتب والألسنة من أنّ السبب هو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، لا يخلو إمّا أن يجعل ذلك حدًّا للسبب التامّ، أو لمطلق السبب.

وفي كليهما نظر، أمّا في الأوّل: فلاستلزامه انتقاض طرد الحدّ بدخول السبب الصوريّ فيه؛ لما عرفت من أنّ وجود المسبّب لا ينفكّ عنه، فيلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، فيلزم أن يكون تامًّا مع أنّه ناقص، وأمّا في الثاني: فلانتقاض عكسه بخروج غير الصوريّ من الأقسام الناقصة للسبب الناقص؛ لأنّها وإن كانت ممّا يلزم من عدمها العدم، لكن لا يلزم من وجودها الوجود كما لا يخفى.

والجواب عنه: هو أنّا نختار الأوّل؛ لأنّه المتبادر عند الإطلاق، ونمنع انتقاض الطرد بما ذكر؛ لأنّ معنى قولنا: «السبب ما يلزم من وجوده الوجود»، هو أن يكون وجوده كافيًا في وجود المسبّب ويكون وجوده منه، ولا شبهة في عدم تحقّقه بالنسبة إلى السبب الصوريّ.

غاية ما هناك أنّ وجود المسبّب لا ينفك عنه، وأين هو من ذلك؟! فعلى هذا

ص: 185

يلزم أن تكون جميع الأقسام المذكورة للسبب الناقص من جملة الشرائط، لما قالوا من أنّ الشرط هو ما لا يلزم من وجوده الوجود، بل يلزم من عدمه العدم، وكلّ من تلك الأقسام كذلك.

ويمكن التزام ذلك، إذ لا مشاحّة في الاصطلاح، إلّا أنّ المتبادر من الشرط الموقوف عليه الخارجيّ، فيشكل بالسبب المادّي والصوريّ؛ لأنّهما من الأجزاء كما لا يخفى.

الأمر الثالث: في أنّ جواز التجوّز في المقام عامّ في جميع الأقسام

والثالث: هو أنّ جواز التجوّز في المقام هل هو عامّ في جميع الأقسام، أو مختصّ بالبعض؟

والظاهر من كلماتهم الأوّل، فينبغي التمثيل لكلّ من الأقسام حتّى يتبيّن(1) الأمر ويظهر المرام، فنقول: أمّا إطلاق السبب الفاعليّ على المسبّب، فكقولك: رعينا الغيث، إذ المراد به النبات، ووجوده ظاهرًا(2) من الغيث، فأطلق عليه.

ومن هذا القبيل إطلاق «اليد» على النعمة، كما في قولك: «كثرت أيادي فلان عندي»، أي نعمه، فالنعمة لمّا كانت غالبًا صادرة من اليد، تكون اليد علّة فاعليّة له.

وربّما مثّل لذلك بقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾(3)، إذ المراد: جاء أمر ربّك؛ وهو

ص: 186


1- في «ق»: تبيّن.
2- جاء في حاشية الأصل: إنّما قال: ظاهرًا؛ لأنّه في الحقيقة من الله تعالى، كما قال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا﴾ [سورة النبأ: 14 -15]، ولا يخفى عليك أنّ في إطلاق العلّة الفاعليّة على غير ذي الشعور خفاء. منه.
3- سورة الفجر: 22.

معلول له تعالى، وهو علّته الفاعليّة.

وفيه نظر؛ لأنّ مقتضى قولنا:

«إنّ الاستعمال من إطلاق السبب على المسبّب»، هو أنّه لو أقيم المسبّب مقامه وعبّر به عنه؛ لاستقام الكلام من غير تجوّز وإبرام، كما في قولنا: «رعينا الغيث»، إذ لو بدّلت الغيث بالنبات وقلت: «رعينا النبات»؛ لاستقام الكلام من غير تجوّز، وليس الأمر في الآية الشريفة كذلك، إذ لو قلت: وجاء أمرك، لم يستقم. وما ذكر من أنّ المراد: جاء أمر ربّك، فهو مسلّم، لكنّه لا دخل له لما نحن فيه، بل من باب الإضمار.

وأمّا إطلاق اسم المسبّب على السبب الفاعليّ، فكقولك: «أمطرت السماء نباتًا»، إذ المراد من النبات الغيث، وقد عرفت أنّه سببٌ فاعليٌّ ظاهرًا للنبات، أي: أمطرت السماء غيثًا.

وأمّا إطلاق السبب المادّي على المسبّب، فقد مثّل له بقولك: «سال الوادي». وفيه تأمّل، إذ معناه: سال الماء، و«الوادي» ليس سببًا مادّيًّا للماء، بل الظاهر أنّه إمّا من إطلاق اسم المحلّ على الحالّ، أو من باب تسمية الشيء باسم مجاوره.

ويمكن توجيه ذلك بما مرّ من أنّ المراد من السبب المادّي: ما فيه قوّة وجود المسبّب، إمّا بصيرورته إيّاه، أو بتحقّقه فيه، كالنقش في اللوح والماء بالنسبة إلى الوادي كذلك.

وكيف كان، فلو مثّلت لذلك بإطلاق الخشب على السرير، كما في قولك:

«جلس الأمير على الخشب»، لكان أظهر.

ص: 187

وأمّا عكسه(1)، فيمكن التمثيل له بقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾(2)، إذا فسّر بقولك: «أعصر عنبًا»، بناءً على أنّ العنب سبب مادّيّ للخمر(3)، فأطلق لفظ «الخمر» عليه.

وأمّا إطلاق السبب الغائيّ على المسبّب، فقد مثّل له جمعٌ بقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾، إذا فسّر(4) على ما تقدّم(5).

وفيه نظر؛ لأنّ الخمر ليست سببًا غائيًّا للعنب، بل لعصره، نعم، يتوجّه ذلك فيما إذا فسّر بأنّي أراني اشتغل بالعصر.

وأمّا إطلاق السبب الصوريّ على المسبّب، فقد قيل:

إنّ إطلاق القدرة على اليد من هذا القبيل، فإنّ القدرة تشابه الصورة لليد من حيث إنّ الأثر الصادر عن اليد لا يكون إلّا بتوسّط القدرة، فكانت كالجسم(6) الّذي لا يؤثّر إلّا بتوسّط صورته، ولحلول القدرة فيها، كحلول الصورة في المادّة(7).

ص: 188


1- أي: إطلاق المسبّب على السبب المادّي.
2- سورة يوسف: 36.
3- جاء في حاشية الأصل: في كون العنب من العلّة المادّيّة خفاء، بناءً على ما مرّ من كون العلّة المادّيّة جزءًا للمعلول، وليس العنب جزءًا للخمر؛ وكونه من ذلك بناءً على ما مرّ من أنّ العلّة المادّيّة ما فيه قوّة وجود المعلول وكون العنب من ذلك، ظاهرٌ. منه.
4- في «ق»: إذا فسّر بقولك: أعصر عنبًا.
5- ينظر تمهيد القواعد: 101، ومفاتيح الأصول: 55- 56.
6- جاء في حاشية الأصل: والمناسب أن يقال: فكانت كالصورة الّتي لا تؤثر اليد إلّا بتوسّطها. منه.
7- منية اللبيب: 1/ 226.

وفيه نظر؛ لأنّ غاية ما يلزم من ذلك شباهة القوّة للصورة، فيصحّح بها إطلاق لفظ «الصورة» على القوّة، ولا يلزم من ذلك كون القدرة صورة لليد، كما هو المراد، والمثال المطابق لا بدّ أن يكون من قبيل إطلاق الصورة الجسميّة على الجسم.

تنبيهٌ

اعلم: أنّ السبب الصوريّ والمادّيّ ومسبّبهما لمّا كان مندرجًا تحت الجزء والكلّ والحالّ والمحلّ، لم يتعرّض جميع العلماء لذكرهما؛ لشمول ما ذكروه لهما، والكلام في صدق الحدّ المذكور للعلاقة على هذه الأقسام للعلّة يظهر بعد الإحاطة بما أسلفنا لك، فلا يحتاج إلى الذكر.

ثمّ إنّ العلماء لمّا تسامحوا في أمر العلاقات وبالغوا في تحقيقها في الإيجاز والاختصار، مع أنّها كانت من الأمور المهمّة؛ لِما يترتّب عليها من الفوائد المتكثّرة، تعرّضنا بإعانة الله سبحانه لكشف الحجاب عن حالها ورفض جلباب الجهل عن فنائها.

لكن لمّا طال الكلام في بيان ما ذكر من الأقسام وأمكن للمطّلع بما ذكرناه تحقيق حال الباقية(1)، اكتفينا بتحقيق الأقسام المذكورة، حذرًا عن كثرة الإطالة الموجبة للملالة والكلالة.

ص: 189


1- كذا في الأصل، والصواب: البقيّة.

نقل آحاد المجاز ليس بشرط في التجوّز

المبحث الثالث: في أنّه هل يكتفي في التجوّز بوجدان العلاقة أو يشترط مع ذلك نقل الآحاد عن أهل اللغة

اشارة

فيه خلاف بين الأعلام، والحقّ وفاقًا للأكثر هو الأوّل(1)، ويدلّ على ذلك وجوه من الأدلّة:

الدليل الأوّل للقول بعدم الاشتراط

الأوّل: هو أنّ وضع الألفاظ للإفادة والاستفادة، وأنّ فتح باب المجازات لتحصيل الأمور المعتبرة في البلاغة والفصاحة، ونعلم أنّ الواضع إنّما اعتبر العلاقة فيها ليحصل(2) الدلالة، فتتحقّق الاستفادة.

توضيح ذلك: هو أنّ دلالة اللفظ على المعنى إمّا هو لوضعه له، فلا يمكن الدلالة بالنسبة إلى ما لم يوضع له؛ لانتفاء مقتضيها، إلّا فيما كان بينه وبين الموضوع له مناسبة، فلأجل تلك المناسبة مع قيام القرينة المانعة عن إرادة الموضوع له ربّما يمكن الانتقال إلى المعنى المناسب، فلذلك اعتبرت المناسبة والعلاقة في المجازات كما تقدّم.

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ وضع الألفاظ واعتبار العلاقة في المجازات لمّا كان

ص: 190


1- كذا في الأصل، والأولى: هو الأوّل، كما في بعض النسخ، ينظر نهاية الوصول: 1/ 278، وأنيس المجتهدين: 1/ 59، وقوانين الأصول: 1/ 73، ومفاتيح الأصول: 54، وغاية الوصول: 1/ 155، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 523، وزبدة الأصول: 82.
2- كذا في الأصل، والصواب: لتحصل.

لذلك، يعلم بالقطع واليقين لا بالظنّ والتخمين أنّ مقصود الواضع اعتبار أصل العلاقة في المعنى المجازيّ من دون مدخليّة فيه لمستعمل دون غيره، ومعنى دون آخر، ولفظ دون سواه، فينبغي أن يجوّز التجوّز بمجرّد وجدان العلاقة ولو لم يصدر الاستعمال من مستعمل قطّ.

لا يقال: إنّه لو كان الأمر كذلك، ينبغي أن لا يشترط نقل نوع العلاقة من الواضع أيضًا، إذ مقتضى ما ذكرت كفاية العلاقة مطلقًا في التجوّز، مع أنّكم لا تقولون بذلك، فيعلم أنّ الأمر ليس على ما ذكرت، فحينئذٍ لا بدّ من الاقتصار في التجوّز على ما نقل من أهل اللغة.

لأنّا نقول: إنّ اشتراط نقل أصل العلاقة من الواضع إنّما هو لتعيين نوع العلاقة الّتي يمكن بسببها حصول الدلالة؛ لعدم الأمن من العلم بذلك لغيره.

الدليل الثاني للقول بعدم الاشتراط

والثاني: هو أنّه لو كان نقل الآحاد شرطًا، اقتصر أهل العربيّة على ما ثبت(1) فيه النقل، والتالي باطل، فالمقدّم مثله(2).

أمّا الملازمة فبيّنة، إذ النقل حينئذٍ شرط في التجوّز، وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط.

وأمّا بطلان التالي؛ فلأنّ من تتبّع استعمالاتهم وتصفّح تفاصيل محاوراتهم في

ص: 191


1- في «ق»: ثبتت.
2- ينظر نهاية الوصول: 1/ 278، ومفاتيح الأصول: 54، ومنية اللبيب: 1/ 229، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 523، وأنيس المجتهدين: 1/ 59.

نظمهم ونثرهم، يعلم بالقطع واليقين لا بالظنّ والتخمين أنّهم لا يقتصرون على ذلك، بل كلّما كان اختراع المجازات فيه أكثر يحكمون بأنّ ذلك أبلغ، وكانت رغبتهم في الرجوع إلى مثل ذلك أشدّ.

إن قيل: إنّ المراد بمن لم يقتصر على الموارد المنقولة إمّا جميع العلماء، أو بعضهم، والأوّل غير ثابت، والثاني غير نافع، أمّا الأوّل فلأنّ المسألة محلّ خلاف، وسيجيء أنّ جماعة منهم لم يجوّزوا التعدّي عن الموارد المنقولة وأوجبوا الجمود عليها، وأمّا الثاني فظاهر.

قلنا: إنّ المراد إطباق أرباب العربيّة، والمخالفة إنّما هي لبعض المدوّنين للكتب وهي غير مضرّة؛ لأنّ حالهم في أمثال ذلك كحالنا.

إن قلت: إنّ الدليل المذكور غير مثبت للمدّعى؛ إذ المدّعى الاكتفاء في التجوّز بتحقّق العلاقة لأيّ مستعمل كان؛ وغاية ما ثبت من ذلك عدم اقتصار علماء العربيّة على الموارد المنقولة من أهل اللغة، ولا يلزم من ذلك جواز التجوّز لأمثالنا ولو مع وجدان العلاقة.

قلنا: إنّ في المسألة قولين: اشتراط نقل الآحاد والعدم، وحيث قد أبطلنا الأوّل، تعيّن الثاني، إذ لا ثالث.

لا يقال: إنّه قد تقدّم مرارًا أنّ أمر اللغات توقيفيّ، والأمور التوقيفيّة يجب الاقتصار فيها على ما حصلت فيه الرخصة، وعلماء العربيّة حالهم في أمثال ذلك كحالنا، فكيف يجوز لهم التعدّي في الأمور التوقيفيّة؟

لأنّا نقول: إنّه لمّا كان اطّلاعهم بسيرة الواضع وطريقته أكثر، وتتبّعهم في مقالاته أشدّ، فحيث قد ظهر علينا عدم اقتصارهم على الموارد المنقولة من تتبّع

ص: 192

كلماتهم وتصفّح مقالاتهم مع ما ذكر، نعلم(1) أنّه ظهر عليهم رضا(2) الواضع في ذلك وأنّ مقصوده اعتبار أصل العلاقة من أيّ مستعمل كان.

الدليل الثالث للقول بعدم الاشتراط

والثالث: هو أنّه لو كان المجاز نقليًّا؛ لما افتقر إلى النظر في العلاقة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، أمّا الملازمة فلأنّه على هذا التقدير كلّما تحقّق فيه النقل صحّ التجوّز، وإلّا فلا، ولو وجدت عدّة علاقات، فالنظر إلى العلاقة(3) وعدمه سيّان(4).

وفيه نظر؛ لأنّ المراد بالافتقار إلى النظر في العلاقة إمّا افتقار الواضع، أو غيره، وعلى الأوّل نقول: إنّ بطلان التالي حينئذٍ وإن كان مسلّمًا لما مرّ مشروحًا من عدم جواز استعمال اللفظ في غير الموضوع له إلّا مع تحقّق العلاقة بينه وبين الموضوع له، وهو موقوف على النظر، لكنّ الملازمة ممنوعة كما لا يخفى، إذ اللازم -بناءً على القول باشتراط نقل الآحاد- عدم جواز التجوّز لغير الواضع إلّا فيما تحقّق فيه النقل، سواء وجدت العلاقة أم لا، لا عدم افتقار الواضع إلى النظر في العلاقة في تجوّزه.

وعلى الثاني نقول: إنّ عدم افتقار غير الواضع إلى النظر في العلاقة إمّا أن يكون

ص: 193


1- في «ق»: فعلم.
2- في «ق»: رضاء.
3- في «ق»: العلاقات.
4- ينظر نهاية الوصول: 1/ 279، ومنية اللبيب: 1/ 228، وتهذيب الوصول: 70، وغاية الوصول: 1/ 156، ومفاتيح الأصول: 55، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 523، وقوانين الأصول: 1/ 73.

فيما نقل من أهل اللغة، أو في غيره، فإن كان الأوّل نقول: إنّ الملازمة حينئذٍ وإن كانت مسلّمة؛ لأنّ النقل من الواضع يستلزم العلاقة، فلا يفتقر غيره إلى النظر فيها، لكن بطلان التالي ممنوع، ودعوى إطباق أهل العربيّة على النظر فيه غير مسلّمة.

وإن كان الثاني نقول: بناءً على القول باشتراط نقل الآحاد لا يجوز التجوّز في غير المنقول، ومعلوم أنّ النظر في العلاقة متفرّع على الجواز، فالملازمة حينئذٍ مسلّمة أيضًا، لكن بطلان التالي ممنوع.

ويمكن الجواب عنه بأن يقال: إنّ المراد أنّه لو كان المجاز نقليًّا لما جاز التجوّز في غير المنقول، ولو لم يجز التجوّز في غير المنقول لما افتقر إلى النظر في العلاقة فيه، لكنّهم أطبقوا على الافتقار إلى النظر في العلاقة، وهو يستلزم إطباقهم على جواز التجوّز؛ لوضوح أنّه عند عدم جواز التجوّز في غير المنقول لا وجه للافتقار إلى النظر في العلاقة، فيكون حاصل الاستدلال: التمسّك بإطباق العربيّة على جواز التجوّز في غير المنقول، وهو يردّ القول باشتراط نقل الآحاد، فيكون هذا الدليل بناءً على هذا التقرير قريبًا من الدليل الثاني.

هذا على اختيار الثاني من شقّيي الترديد، ويمكن الجواب باختيار الأوّل أيضًا بأن يقال: إنّ نقل الآحاد من الواضع يتصوّر على وجهين، أحدهما: أنّه استعمل اللفظ المخصوص في المعنى المخصوص، والثاني: أنّه أذن في استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى.

واستلزامُ النقل تحقّقَ العلاقة مسلّمٌ لو كان من قبيل الثاني، وأمّا لو كان من الأوّل فلا؛ لإمكان أن يكون استعماله فيه على سبيل الغلط فيما(1) إذا كان

ص: 194


1- «فيما» لم ترد في «ق وج».

الواضع ممّن تطرّق إليه هذا الاحتمال، فحينئذٍ يفتقر إلى النظر في العلاقة ليظهر عليه تحقّقها، فتأمّل.

على أنّه يمكن أن يقال بالافتقار مطلقًا ولو كان من القبيل الثاني؛ لأنّ الغالب في أمثال هذا النقل أن يكون بطريق الآحاد، وحينئذٍ لا يحصل العلم بصدقه. نعم، يحصل الظنّ به، والعمل بالظنّ وإن جاز عند انسداد باب العلم، لكن عند إمكان الأقوى يجب تحصيله، ولا شبهة أنّه عند النظر وظهور العلاقة يقوى الظنّ المستفاد من النقل، فينبغي أن يكون افتقار النظر في العلاقة لذلك.

وأيضًا يمكن أن يكون افتقاره إلى النظر في العلاقة لاستخراج جهات حسن المجاز، فيطّلع على الحكمة الموجبة لهجر الحقيقة.

الدليل الرابع للقول بعدم الاشتراط

والرابع: هو أنّه لو كان نقليًّا، لزم أن يكون اعتناؤهم في تدوين المجازات كاعتنائهم في تدوين الحقائق، والتالي باطل كما لا يخفى على المتتبّع في كلماتهم وكتبهم المدوّنة، فالمقدّم مثله.

وأمّا الملازمة؛ فلأنّه بناءً على هذا القول يكون الأمر في المجازات كالحقائق، فالمقتضي لنقلها متحقّق فيها(1).

وفيه نظر؛ لأنّ مقتضى ذلك لزوم نقل الآحاد في الحقائق، وهو ممّا ادّعي الاتّفاق على خلافه(2).

ص: 195


1- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 523، وأنيس المجتهدين: 1/ 59.
2- لم نعثر عليه.

وأيضًا قد عرفت سابقًا أنّ كثيرًا من الألفاظ يكون الوضع فيه نوعيًّا، وكذا قد يكون الوضع عامًّا والموضوع له خاصًّا، وهو ينافي نقل الآحاد.

دليل القائلين بالاشتراط مع الجواب عنه
اشارة

والقول الآخر محكيّ عن جماعة، منهم: الفخر الرازي(1)؛ فاشترطوا في التجوّز نقل الآحاد بأعيانها، واستدلّوا على ذلك بوجوه:

الدليل الأوّل للقول بالاشتراط
اشارة

الأوّل: أنّه لو لم يشترط في التجوّز نقل الآحاد، بل اكتفى فيه بوجود العلاقة، لجاز التجوّز كلّما تحقّقت، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، أمّا الملازمة فبيّنة، وأمّا بطلان التالي فلعدم جواز إطلاق «النخلة» على طويل غير الإنسان مع تحقّق المشابهة، و«شبكة» للصيد مع تحقّق المجاورة، و«الابن» للأب وعكسه مع تحقّق السببيّة والمسببيّة(2).

أجيب عن ذلك(3): بمنع الملازمة، إذ العلاقة ليست علّة تامّة وسببًا تامًّا لصحّة الاستعمال حتّى يمتنع التخلّف، بل مقتضية لها، والتخلّف في المواضع المذكورة

ص: 196


1- المحصول: 1/ 329، وحكاه عنه في قوانين الأصول: 1/ 73، ومنية اللبيب: 1/ 230، وأنيس المجتهدين: 1/ 59.
2- ينظر قوانين الأصول: 1/ 75، وإشارات الأصول: 1/ 20، ونهاية الوصول: 1/ 278، وتهذيب الوصول: 70، ومنية اللبيب: 1/ 230، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 523، وغاية الوصول: 1/ 157، وأنيس المجتهدين: 1/ 59.
3- المجيب هو الحاجبيّ في المختصر والعضديّ في شرحه: 1/ 526، وينظر أيضًا قوانين الأصول: 1/75، ومنية اللبيب: 1/230، وزبدة الأصول: 76، وغاية الوصول: 1/157.

لوجود المانع عن الاستعمال، ووجوده غير مضرّ لمقتضيّته العلاقة؛ لوضوح أنّ عدم المانع ليس جزءًا من المقتضي حتّى يلزم عدم وجوده(1) مع وجوده(2).

وقيل(3): هذا الجواب تبرّع من المجيب، إذ لا حاجة له في الجواب إليه، إذ المقصود أنّه لا حاجة إلى النقل؛ وذلك لا يستدعي كون العلاقة مستقلّة في الاقتضاء، بل يجوز أن يكون المقتضي مركّبًا منها ومن غيرها بكون ذلك الغير غير النقل(4).

وفيه نظر، أمّا أوّلًا: فلأنّ المفروض في الدليل الاكتفاء في التجوّز بمجرّد العلاقة، فلا يكون ذلك إلّا مع كونها مستقلّة في الاقتضاء.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ عمدة الثمرة المترتّبة(5) على القول بعدم اشتراط نقل الآحاد، جواز التجوّز فيما لم يثبت النقل فيه من أهل اللغة، والاحتمال الّذي ذهب إليه هذا القائل يستلزم انتفاؤها؛ لأنّ جواز التجوّز حينئذٍ مشروط بالأمر المركّب الّذي يكون أحد جزأيه العلاقة والجزء الآخر غيرها، وهو مجهول، والجهل بالشرط يستلزم الجهل بالمشروط، فحينئذٍ لا يمكن التجوّز إلّا فيما ثبت فيه النقل، فيلزم انتفاء الثمرة بين القولين، فالجواب المذكور ليس تبرّعًا من المجيب، بل ممّا لا بدّ منه.

وحاصله: أنّ العلاقة مستقلّة في اقتضاء صحّة التجوّز، لكن تخلّفت في الأمثلة

ص: 197


1- أي وجود المقتضي.
2- أي وجود المانع.
3- جاء في حاشية الأصل: ردٌّ على الفاضل الباغنويّ. منه.
4- لم نعثر عليه.
5- في «ق»: المرتّبة.

المذكورة لمانع، وتخلّف المقتضى عن المقتضي لمانع جائز.

ويرد عليه: أنّ جواز التجوّز حينئذٍ مشروط بالعلم بوجود العلاقة وانتفاء المانع، فيلزم انتفاء عمدة الثمرة بين القولين أيضًا؛ لأنّ العلم بعدم المانع لا يكاد يحصل إلّا فيما ثبت فيه النقل.

ويمكن الجواب عنه من وجهين:

الأوّل: أنّ العلاقة مقتضية لصحّة التجوّز، فينبغي صحّته إلّا فيما ثبت فيه المانع، ولا شبهة في عدم ثبوته في كثير من المواضع، فيصحّ فيه التجوّز بناءً على القول بعدم اشتراط نقل الآحاد، بخلافه على القول بالاشتراط، فتأمّل.

والثاني: هو أنّ المراد بالعلم الّذي اعتبر بالنسبة إلى انتفاء المانع إن كان ظاهره، نقول: انتفاؤه في كثير من المواضع وإن كان مسلّمًا، لكن نمنع اعتباره فيما نحن فيه؛ لأنّ المجاز فرع الحقيقة ونحن نكتفي فيها بالظنّ، فلو اعتبرنا القطع في المجاز يلزم مزيّة الفرع على الأصل، وأيضًا اكتفاء الظنّ في الأصل يستلزم الاكتفاء به في الفرع بطريق أولى.

وإن كان المراد منه ما يعمّ الظنّ أيضًا، نسلّم اعتباره، لكن نمنع انتفاءه في كثير من المواضع؛ لأنّ المانع في الأمثلة المذكورة -على ما صرّح به جماعة- منع أهل اللغة، فإذا ثبت منعه بعد التتبّع فهو، وإلّا فيدفع المانع مطلقًا، -سواء كان منع الواضع، أو غيره- بالأصل، فيحصل الظنّ بالعدم، فيصحّ التجوّز.

ص: 198

دفع إيراد لتسديد مقام

وهنا سؤال، وهو أنّه كما تكون العلاقة مقتضية لصحّة الاستعمال يكون الوضع مقتضيًا لها أيضًا، وكما جاز تخلّف المقتضى عن المقتضي في الأوّل على ما مرّ، ينبغي أن يجوز ذلك بالنسبة إلى الثاني أيضًا بأن يتحقّق الوضع المقتضي لصحّة الاستعمال وامتنع الاستعمال.

فعلى هذا ما استدلّ به جماعة من المتأخّرين(1) -ردًّا على قدماء الأعلام حيث ذهبوا إلى أنّ الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات وأمثالها موضوعة للمعنى العامّ، وهو المعنى الكلّيّ الّذي تصوّره الواضع حال الوضع، فيكون كلّ من الوضع والموضوع له فيها عامًّا، بأنّه لو كان كذلك ينبغي أن يصحّ استعمال هذه الألفاظ المخصوصة على تلك المعاني العامّة؛ لوجود المقتضي لصحّة الاستعمال وهو الوضع، مع أنّه غير صحيح؛ للقطع بعدم جواز استعمال «هذا» وإرادة المشار إليه المبهم، و«أنا» وإرادة متكلّم لا بعينه، فيعلم منه فساد مذهبهم- ممّا لا وجه له؛ لما عرفت من أنّ الوضع مقتض لصحّة الاستعمال كالعلاقة، وكما جاز تخلّف المقتضى فيها، ينبغي أن يجوز بالنسبة إلى الوضع أيضًا، فلا يلزم من عدم صحّة الاستعمال عدم الوضع.

الجواب عن الإيراد

والجواب عنه يمكن من وجهين:

الأوّل: أنّ المانع فيما ذكر من النخلة والشبكة ونحوهما -على ما حكاه

ص: 199


1- ينظر إشارات الأصول: 1/ 15 -16.

جماعة(1)- منع أهل اللغة، فلو لم يكن ذلك لصحّ الاستعمال، وهذا المنع غير ثابت بالنسبة إلى تلك الألفاظ، واحتمال وجوده، أو وجود غيره، مدفوعٌ بالأصل.

فحينئذٍ نقول: لو كان الأمر على ما ذهب إليه القدماء من كون الموضوع له للألفاظ المذكورة تلك المعاني العامّة، كان المقتضي لصحّة الاستعمال موجودًا من غير مانع، فيجب ترتّب المقتضي -وهو صحّة الاستعمال- عليه، وحيث لم يصحّ ذلك، يعلم عدم كون الأمر على ما ذهبوا إليه.

والثاني: بثبوت(2) الفرق بين الوضع والعلاقة؛ لأنّ الوضع لمّا كان من فعل الواضع، يعلم من تحقّقه إذنه ورضاه في استعمال اللفظ فيما وضعه له، وأمّا العلاقة، فليس الأمر فيه كذلك؛ لما عرفت من أنّها عبارة عن المناسبة بين المعنيين، فبمجرّد العلم بالمناسبة لا يعلم صحّة الاستعمال، بل مشروطة بثبوت الإذن، فما لم يثبت فيه إذن لم يجز فيه الاستعمال.

فحينئذٍ نقول: إنّه بناءً على ما ذهب إليه القدماء من ثبوت الوضع لتلك الألفاظ في تلك المعاني الكلّيّة، يلزمه العلم برضا الواضع في الاستعمال، فلا بدّ أن يكون صحيحًا، وأمّا الأمر فيما نحن فيه فليس كذلك، فتأمّل.

وبما ذكرنا في هذا المقام يظهر لك أنّه لو ادّعى أحدٌ أنّ الوضع سبب تامّ لصحّة الاستعمال، لم يكن بعيدًا، فحينئذٍ لا يجوز تخلّفها عنه، بخلاف العلاقة.

لا يقال: إنّه منافٍ لما هو المشهور -وسيجيء تحقيقه- من عدم استلزام المجاز

ص: 200


1- حكاه في شرح مختصر المنتهى: 1/ 532، وأنيس المجتهدين: 1/ 59، وقوانين الأصول: 1/ 75.
2- في «ق»: ثبوت.

للحقيقة، وقد ذكروا ألفاظًا مخصوصة قد استعملت في المعاني المجازيّة مع عدم استعمالها فيما وضعت له، كالرحمن والأفعال المنسلخة عن الزمان(1).

لأنّا نقول: إنّ المعتبر في الحقيقة فعليّة الاستعمال، ومعلوم أنّ صحّة الاستعمال لا يستلزمها(2)، وعلى فرض تسليم عدم صحّة الاستعمال فيما ذكر نقول: المراد أنّ الوضع يستلزم الصحّة مع بقائه وعدم مهجوريّته، والألفاظ المذكورة لمّا تحقّق النقل فيها بطل الوضع الأولى(3) وثبت بالنسبة إلى المعاني المستعملة فيها، فقد انتفى الوضع بالنسبة إلى المعاني الأصليّة، ولهذا لم يصحّ الاستعمال لانتفاء مقتضيها أو علّتها.

الردّ على الجواب من دليل القائلين باشتراط نقل الآحاد

وحيث قد فرغنا من دفع هذا الإيراد، وجب العود إلى ما كنّا فيه، فنقول: لا يخفى عليك أنّ الجواب المذكور عن الدليل المذكور للقائلين باشتراط نقل الآحاد مبنيٌّ على منع الملازمة وتسليم تحقّق العلاقة في الأمثلة المذكورة، ويمكن الجواب عنه بعد تسليمها ومنع تحقّقها فيها.

بيان ذلك: هو أنّك قد عرفت مرارًا أنّ أمر اللغات توقيفيّ، وأنّ التعدّي في الأمور التوقيفيّة إنّما يجوز على قدر ما ثبتت فيه الرخصة، وحينئذٍ نقول: نحن ومن

ص: 201


1- ينظر إشارات الأصول: 1/ 15، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم: (مخطوط) الورقة 47، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 553.
2- كذا في الأصل، والصواب: لا تستلزمها.
3- كذا في الأصل، والصواب: الأوّل.

شاركنا في عدم اشتراط نقل الآحاد في المسألة لم ندع أنّ أهل اللغة صرّحوا بجواز إطلاق لفظ كلّ مشابه بأيّة شباهة كانت على مشابهه ولفظ كلّ مجاور بأيّة مجاورة كانت على مجاوره، حتّى يلزم الانتقاض بمثل «النخلة» و«الشبكة»، لعموم اللفظ الدالّ على الإذن أو إطلاقه.

بل نقول: إنّه ظهر لنا بعد التتبّع في مقالاتهم والتصفّح في محاوراتهم، أنّ المعتبر نوع المناسبة بين المعنيين، وهذا أمر معنويّ لا يتّصف بالعموم ولا بالإطلاق، لكن يجب اعتبار كلّ ما وجد بين المعنيين من المناسبة، إلّا ما علم عدم اعتباره في الموارد المتعدّية، يتعدّى في غير مورد استعمالهم بعد اعتبار ما ذكر فيه.

إذا عرفت ذلك نقول: قد وجد في استعمالاتهم إطلاق «النخلة» على الإنسان الطويل، والمشابهة المتحقّقة بينهما في أمور، الأوّل: في الطول، والثاني: في الاضمحلال بعد استيلاء الماء عليهما، والثالث: في الافتقار في ترتّب الثمرة المطلوبة منهما إلى فرد من نوعهما(1)، والرابع: في فسادهما بطريان الانفصال على رأسهما.

والنقض المذكور مبنيٌّ على أنّ المصحّح لاستعمال «النخلة» في الإنسان هو الطول فقط، فيقال: إنّه لو لم يشترط نقل الآحاد، ينبغي أن يجوز استعمالها في كلّ ما له طول، كالجبال والجدار ونحوهما.

ونحن نقول: دعوى انحصار المصحّح في ذلك ممنوعة؛ لجواز أن يكون المجموع من الأمور المذكورة، وعلى المدّعي الإثبات وللمانع يكفي الاحتمال، فحينئذٍ فالقدر اللازم جواز إطلاقها على فرد آخر من الإنسان واجد للأمور

ص: 202


1- في «ق»: نوعها.

المذكورة، وهو مسلّم، لا على الجبال والجدار وغيرهما، فالنقض مندفع.

وأمّا بالنسبة إلى إطلاق «الشبكة» بالنسبة إلى الصيد، فنقول: القدر المعلوم من تصفّح محاوراتهم استعمال أحد المجاورين على الآخر فيما إذا كانت المجاورة بينهما معهودة في الأنظار وملحوظة في خزانة الخيال، كما تقدّم في الأمثلة المتقدّمة، فنقول: بناءً على المختار من عدم اشتراط نقل الآحاد، إذا ظهرت المجاورة بين الشيئين على هذا الحدّ ووجدت المؤانسة بينهما بهذا الطور، جاز التجوّز وإن لم يصدر(1) الاستعمال من أهل اللغة، وليس الأمر في «الشبكة» و«الصيد» كذلك.

وعلى فرض التسليم نقول: بناءً على ما تقدّم من توقيفيّة أمر اللغات، القدر المتيقّن من تتبّع موارد الاستعمالات جواز إطلاق أحد المجاورين على الآخر فيما إذا لم يستنكف أحدهما عن مجاورة الآخر، كما في الأمثلة المتقدّمة، والأمر فيما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى.

أو يقال: إنّ المجاورة مصحّحة للتجوّز فيما إذا كانت المجاورة على النحو المذكور مع اشتراكهما في الشعور أو العدم، وأمّا مع الاختلاف كما فيما نحن فيه فلا.

هذا في الجواب عن النقض بالنخلة والشبكة، وأمّا بالنسبة إلى الابن والأب، فما ساعدني التوفيق الآن لصرف الفكر إلى استكشاف حالهما، ولعلّ الله يوفّقني لذلك فيما بعد.

الدليل الثاني للقول بالاشتراط

والثاني: هو أنّه لو جاز التجوّز بدون النقل، لكان ذلك إمّا قياسًا، أو اختراعًا،

ص: 203


1- كذا في الأصل، والصواب: يُنقل.

والتالي بقسميه باطل، فالمقدّم مثله، أمّا الملازمة فلأنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ الّذي لم ينقل من الواضع، إمّا لعلّة مشتركة بينه وبين ما نقل عنهم، أو لا، وعلى الأوّل يلزم الأوّل، وعلى الثاني الثاني، وأمّا بطلان القسم الأوّل من الثاني، فلما سيجيء من بطلان القياس في اللغات وإن قيل بجوازه في الأحكام، وأمّا الثاني فظاهر(1).

والجواب عنه: هو أنّ بطلان ما ذكر من قسمي التالي وإن كان مسلّمًا، لكن نمنع لزومه؛ لأنّ استعمال اللفظ في المعنى الّذي لم ينقل لعلّة مشتركة إنّما يكون قياسًا إذا كان الاستعمال مستندًا إلى تلك العلّة فقط، ونحن لم نقل بذلك، بل نقول: إنّه ظهر لنا من تتبّع الاستعمالات وتصفّح المحاورات إذن الواضع في الاستعمال عند وجدان العلاقة، فالاستناد إلى إذنه في الاستعمال، فلا يلزم قياس ولا اختراع.

الدليل الثالث للقول بالاشتراط

والثالث: هو أنّه لو لم يشترط النقل في آحاد المجاز، لزم خروج القرآن عن كونه عربيًّا، والتالي باطل، فكذلك المقدّم.

بيان الشرطيّة: هو أنّ العربيّ ما كان منقولًا من العرب، فما لم ينقل من العرب لم يكن عربيًّا، وقد اشتمل القرآن على مجازات متكثّرة، فلو لم يكن(2) هي عربيّة، لما

ص: 204


1- ينظر إشارات الأصول: 1/ 20، ومفاتيح الأصول: 53، ونهاية الوصول: 1/ 278 و280، وأنيس المجتهدين: 1/ 59، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 523، وغاية الوصول: 1/ 157- 158.
2- كذا في الأصل، والصواب: لم تكن.

كان القرآن عربيًّا؛ لأنّ ما بعضه عربيّ ليس كلّه عربيًا، وأمّا بطلان التالي فلقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾(1).

وهذا الاستدلال من عجيب ما وقع لبعض(2) في هذا المقام، إذ يتطرّق إليه وجوه من الأنظار:

الأوّل: أنّا لا نسلّم بطلان التالي، وتحقيقه على ما ينبغي يليق أن يذكر في مباحث الحقيقة الشرعيّة، فالإحالة إلى ما يذكر فيها أنسب وأحرى.

والثاني: هو أنّ ذلك غير مثبت للمدّعى؛ لأنّ المدّعى أنّه لا يجوز التجوّز بلا نقل من الواضع، والدليل المذكور على فرض تماميّته إنّما يدلّ على كون المجازات المذكورة في القرآن عربيّة، لا أنّه لا يجوز التجوّز بلا نقل.

والثالث: هو أنّ المناسب في(3) المجازات الواقعة في القرآن، إمّا أن يتحقّق الاستعمال فيها من أهل اللغة أو لا، وعلى الأوّل لا وجه للتمسّك به كما لا يخفى، و على الثاني يبطل القول بالاشتراط؛ لأنّ المفروض أنّ تلك المجازات لم يصل الاستعمال فيها من أهل اللغة، فلو لم يجز التجوّز إلّا بعد النقل من أهل اللغة؛ لما وقع في القرآن فيما لم ينقل، والمفروض أنّه واقع، فيجوز التجوّز من غير نقل أيضًا، فبطل القول بالاشتراط، فالتمسّك بالدليل المذكور لإبطال القول بالاشتراط

ص: 205


1- سورة يوسف: 2.
2- نقل هذا القول الآمديّ في الإحكام: 1/ 36 من القاضي أبي بكر، وينظر نهاية الوصول: 1/ 280، وتهذيب الوصول: 70، ومنية اللبيب: 1/ 230، وإشارات الأصول: 1/ 29، وقوانين الأصول: 1/ 74.
3- «المناسب في» لم ترد في «ق».

أنسب من التمسّك به لإثباته.

والرابع: هو أنّ ذلك بعد الإغماض عن جميع ما فيه، مبنيّ على توقّف اتّصاف اللفظ بكونه عربيًّا على نقل شخصه من العرب، وهو غير مسلّم، بل نقول: الظاهر أنّه يكفي في اتّصافه بذلك تجويز نوع الاستعمال منهم، وفيما نحن فيه كذلك، كما عرفت مرارًا.

ص: 206

الباب الثانی

ص: 207

ص: 208

الباب الثاني: في الأمارات الّتي بها يحصل الامتياز بين الحقيقة والمجاز

اشارة

وحيث قد علمت سابقًا أنّ الحقيقة: اللفظ المستعمل في الموضوع له، والمجاز: المستعمل في غيره، ظهر لك أنّ الامتياز بينهما متوقّفٌ على معرفة الموضوع له وغيره.

ولمّا لم يمكن استعلام الموضوع له وغيره من الواضع في هذه الأعصار وما ضاهاها ليحصل الامتياز بينهما، وكان فهم المعاني من الكتاب والسنّة، بل كلّما ينخرط في سلك الدلالة اللفظيّة، متوقّفًا عليه، قرّر العلماء -شكر الله مساعيهم- علامات بها يعرف الحقيقة والمجاز، وأسّسوا -جزى الله متاعبهم- أمارات بها يحصل لكلّ واحد منهما عن الآخر الامتياز؛ ليرجع الجاهل بأيّ اصطلاح كان إذا أراد معرفة الحقيقة والمجاز فيه إليها ويعمل بمقتضاها، وأمّا العالم بالوضع والاصطلاح، فلا يحتاج إلى شيء منها إلّا لتعليم الجاهل.

وحيث قد كانت المسألة من أهمّ المسائل الأصوليّة وأحوجه؛ لكون استنباط الأحكام الشرعيّة وغيرها ممّا ينخرط في سلك الدلالة اللفظيّة متوقّفًا على فهم المعاني من المباني المعلومة المتوقّف على الامتياز بين الحقيقة والمجاز المتوقّف على معرفة الأمارات، لزم علينا أن نحقّقها ونوضّحها حتّى يكون بياننا هذا متمّمًا لما ذكروه، وموصلًا إلى ما أغفلوه، ومبيّنًا لما أجملوه، ومبلّغًا إلى ما أبهموه، فنقول: تحقيق الحقّ في ذلك المطلب يقتضي التكلّم في فصول:

ص: 209

ص: 210

الفصل الأوّل: فيما يتوصّل إلى الحقيقة والمجاز من كلمات أهل اللغة

وهو من وجوه:

الأوّل: التصريح باسمهما(1) بأن يقال: هذا اللفظ في هذا المعنى حقيقة، وفي ذلك مجاز.

والثاني: التصريح بحدّهما، كأن يقال: هذا اللفظ في هذا المعنى مستعمل في الموضوع له، وفي ذلك المعنى مستعمل في غير الموضوع له.

والثالث: التصريح بخاصّته، كأن يقال: هذا اسم لهذا المعنى وليس باسم لذلك المعنى، أو هذا اللفظ يتبادر منه هذا المعنى، أو غير متبادر منه ذلك المعنى، أو يصحّ عنه السلب، أو لا يصحّ، أو يفتقر فهم هذا المعنى منه إلى القرينة، أو لا يفتقر إليها، أو هذا اللفظ معناه هذا ولم يكن معناه ذلك، وأمثال ذلك(2).

لكن لا شبهة في قلّة صدور أمثال ذلك من الواضع، نعم، كثيرًا ما تذكر المعاني المتعدّدة في كتب اللغة للّفظ، وهل اقتضى ذلك كونه حقيقة في الجميع، أو مجازًا فيه، أو حقيقة في بعضٍ مجازًا في آخر؟ والأوّل مرجوح لاستلزامه تعدّد الوضع عدد المعاني، وهو غير معلوم، فالأصل عدمه؛ وكذا الثاني؛ لأنّ القول بمجازيّة

ص: 211


1- في «ق»: باسمها.
2- ينظر منية اللبيب: 1/ 219، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 530، وأنيس المجتهدين: 1/ 52، وتهذيب الوصول: 69، ونهاية الوصول: 1/ 292.

الجميع يستلزم وضعًا لغيره، وهو منفيّ بالأصل.

فالتحقيق يقتضي التفصيل بأن يقال: إنّ المعنى الأوّل ينبغي أن يكون من المعاني الحقيقيّة، وبقيّة المعاني معاني مجازيّة بالنسبة إليه إن وجدت العلاقة المعتبرة بينها وبينه، وإن وجدت في بعضها دون الباقي، ينبغي أن يكون ذلك البعض من المعاني المجازيّة؛ لئلّا يلزم تعدّد الوضع المدفوع بالأصل.

وأمّا الباقي فالمعنى الواحد منه لا بدّ أن يكون من المعاني الحقيقيّة، والكلام في غيره كما ذكر، فإن وجدت العلاقة بينه وبين ذلك المعنى الواحد، فيكون من المعاني المجازيّة كلًّا أو بعضًا، وإلّا يكون الأمر كما تقدّم، وهكذا إلى أن ينتهي الأمر.

فعلم من ذلك أنّه قد يكون الجميع من المعاني الحقيقيّة، كما إذا فقدت العلاقة في الجميع بالنسبة إلى المعنى الأوّل وغيره، وقد يكون الجميع من المعاني المجازيّة، كما إذا علم من خارجٍ وضع ذلك اللفظ لغير تلك المعاني ووجدت العلاقة بينها وبينه.

ص: 212

الفصل الثاني: في صحّة السلب وعدمها

اشارة

اعلم: أنّ من الأمارات الموصلة إلى الحقيقة والمجاز: صحّةُ السلب وعدمها، فإنّ الأوّل دليل المجازيّة، والثاني دليل الحقيقة(1).

وكلّ منهما إنّما يتمسّك به: فيما إذا علم أنّ للّفظ معنى حقيقيًّا واستعمل في محلّ وعلم المستعمل فيه، لكن لم يعلم أنّه معنى حقيقيّ له أو مجازيّ، فيستعلم بصحّة سلب ذلك المعنى الحقيقيّ عنه وعدمها، فإن صحّ ذلك يعلم أنّه معنى مجازيّ، وإلّا فحقيقيّ.

كلفظ: «الحمار» و«الإنسان» عند استعمال كلّ منهما في البليد، فإنّ كلًّا منهما له معنى حقيقيّ معلوم واستعمل وعلم المستعمل فيه؛ ولمّا صحّ سلب المعنى الحقيقيّ للحمار عنه، علمنا أنّ مصحّح الاستعمال العلاقة؛ ولمّا لم يصحّ سلب المعنى الحقيقيّ للإنسان عنه، علمنا أنّه من المعاني الحقيقيّة.

أو لم يعلم المعنى الحقيقيّ للّفظ أصلًا وعلم المستعمل فيه، كالجاهل باصطلاح قوم، فإنّه إذا علم بعد النظر إلى محاوراتهم أنّ معنىً معلومًا يكون موردًا لاستعمال

ص: 213


1- ينظر الإحكام: 1/ 27، وغاية الوصول: 1/ 159، وإشارات الأصول: 1/ 70، وأنيس المجتهدين: 1/ 54، والفوائد الحائريّة: 325، وقوانين الأصول: 1/ 63، ونهاية الوصول: 1/298، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 530.

لفظ معلوم عندهم، لكن لم يعلم أنّ مصحّح استعمالهم فيه الوضع أو العلاقة، فيختبر بصحّة السلب، فإن صحّ نفي(1) ذلك اللفظ عن ذلك المورد عندهم، يعلم أنّه معنى مجازيّ، وإلّا فهو معنى حقيقيّ.

إن قيل: لا يمكن التشبّث بهما إلّا عند تحقّق المسلوب والمسلوب عنه كما لا يخفى، ففي صورة الجهل بالموضوع له والعلم بالمستعمل فيه لم يوجد فيها المسلوب، وسلب اللفظ عن المستعمل فيه لا دخل له؛ لوضوح المغايرة بين كلّ لفظ ومعناه.

قلنا: الأمر وإن كان كذلك، لكن تحقّق المسلوب والمسلوب عنه لا يلزم أن يكون بالنسبة إلى ذلك الشخص، بل قد يكون بالنسبة إليه، كما إذا علم الموضوع له، فيكون صحّة السلب والعدم بالنظر إليه نفسه؛ وقد يكون بالنسبة إلى غيره، كأهل الاصطلاح الّذي أريد العلم بحقائق ألفاظهم ومجازاتها، فإنّ المعاني الحقيقيّة والمجازيّة الّتي لهم معلومة، واستعلام الجاهل بصحّة السلب وعدمها بالنسبة إليهم، فلو كان المستعمل فيه المعلوم معنى حقيقيًّا للّفظ عندهم، لم يمكن السلب عندهم، لعدم(2) إمكان سلب الشيء(3) عن نفسه؛ ولو كان مجازيًّا أمكن ذلك، أي سلب المعنى الحقيقيّ المعلوم لهم عن المستعمل فيه عندهم، فتحقّق المسلوب والمسلوب عنه.

وقد علمت بما ذكرنا مقامين للتمسّك بصحّة السلب والعدم، وهنا مقام آخر،

ص: 214


1- في «ق»: بقي.
2- في «ق»: بعدم.
3- في «ق»: الّتي.

وهو أن يعلم الموضوع له اللفظ(1) ولم يعتبر(2) الاستعمال في المعنى الّذي يتمسّك فيه بصحّة السلب وعدمها، بل يكون معنىً معلومًا موجودًا في خزانة الخيال، لكن لم يعلم أنّه من الموضوع له لذلك اللفظ، أم لا، نختبر ذلك بصحّة السلب والعدم؛ وفائدة ذلك الاقتران بالقرينة وعدمه لو أردنا الاستعمال.

وهذه الصورة كالصورة الأولى، إلّا أنّ الاستعمال هناك ثابت في المعنى الّذي نختبره بصحّة السلب والعدم، بخلاف ما نحن فيه.

إن قلت: إنّ المعاني غير متناهية، والألفاظ متكثّرة، وإرادة استعمال ذلك اللفظ دون الألفاظ الأخر في ذلك المعنى دون المعاني الأخر وملاحظة سلب ذلك الموضوع له دون غيره عن ذلك المعنى دون غيره يحتاج إلى مخصّص، فإنّ الاستعمال في الصورة الأولى لمّا كان ثابتًا كان ذلك مخصّصًا، والمفروض أنّ الاستعمال فيما نحن فيه غير ثابت، فما المخصّص في ذلك؟

قلنا: المخصّص في ذلك مناسبة ذلك المعنى لما وضع له ذلك اللفظ على ما سيأتي أنّ ما يتمسّك فيه بصحّة السلب وعدمها لا بدّ أن يكون من هذا القبيل.

المقامات الّتي يتشبّث فيها بصحّة السلب والعدم

فقد تحقّق بما تقرّر: أنّ المقامات الّتي يُتشبّث فيها بصحّة السلب والعدم ثلاثة، وإن شئت قلت: خمسة:

الأوّل: أن يعلم المعنى الحقيقيّ للّفظ والمستعمل فيه.

ص: 215


1- في «ق»: في اللفظ.
2- في «ق»: ولم يغير.

والثاني: أن يعلم المعنى الموضوع له له ويلاحظ ذلك مع معنى من المعاني من غير تحقّق الاستعمال فيه.

والثالث: كالأوّل في الأوّل وكالثاني في الثاني.

والرابع: عكس ذلك، أي كالثاني في الأوّل وكالأوّل في الثاني.

والخامس: في صورة الجهل باصطلاح قوم على ما تقدّم تحقيقه.

وهمٌ وإزاحة

اعلم: أنّه قيّد الفاضل العضديّ صحّة السلب بنفس الأمر، فقال مشيرًا إلى أمارات المجاز:

منها: صحّة النفي في نفس الأمر، كقولك للبليد: إنّه ليس بحمار.

ثمّ قال:

وإنّما قلت: في نفس الأمر؛ ليندفع: ما أنت بإنسان؛ لصحّته لغة(1)، انتهى.

أقول: من الحريّ توضيح مراده أوّلًا، ثمّ الإشارة إلى أنّ القيد المذكور هل يكون مفتقرًا إليه، أم لا؟

توضيح مراد الفاضل العضديّ

أمّا الأوّل فنقول: إنّ أفراد الماهيّة بالنسبة إلى كمالها الميسّر لها على أقسام: عالٍ، وسافلٍ، وما بينهما، وقد يبلغ بعض الأفراد في العلوّ حدًّا كأنّه قد خرج عن تحت أفراد تلك الماهيّة وانخرط في زمرة من هو أشرف منها، فإذا وصل بعض الأفراد

ص: 216


1- شرح مختصر المنتهى: 1/ 530.

في الكمال إلى تلك المرتبة، يصحّ سلب(1) اسم الماهيّة عن ذلك البعض على سبيل المبالغة في العرف واللغة، كقوله تعالى حكاية عن نسوة مصر في يوسف (علیه السلام) حيث رأينه وأكبرنه وقطّعن أيديهنّ: ﴿مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾(2)، فقد سلب اسم البشريّة عنه (علیه السلام) مع أنّه من أفراده.

فلو قيل: إن [كانت] صحّة السلب أمارة المجازيّة على الإطلاق، يلزم أن يكون إطلاق «البشر» عليه (علیه السلام) على سبيل المجاز، مع أنّ الأمر ليس كذلك، بخلاف ما إذا قيّد بما مرّ؛ لوضوح عدم إمكان سلب البشريّة عنه (علیه السلام) في الواقع ونفس الأمر.

وكذا الكلام في السافل، فإنّه قد يبلغ حدًّا كأنّه قد خرج عن أفراد تلك الماهيّة وانخرط في سلك الأدون منها، فحينئذٍ يمكن سلب(3) اسم تلك الماهيّة عنه على سبيل المبالغة، كما يقال للبليد: ما أنت بإنسان مع أنّه من أفراده، لكن لمّا لم يصحّ ذلك في نفس الأمر والواقع، لم يلزم المجازيّة.

وبما ذكر ظهر لك أنّه كما يصحّ ذلك في اللغة، يصحّ في العرف أيضًا، فذكر اللغة في كلام الفاضل المذكور ينبغي أن يكون على سبيل التمثيل.

قيد «نفس الأمر» في صحّة السلب غير مفتقر إليه

وأمّا الثاني فنقول: الظاهر عدم الافتقار إلى القيد المذكور؛ لأنّ مقتضى قولهم: «صحّة السلب من علامة المجاز» أنّ صحّة السلب الحقيقيّ من علامته؛ لأنّ

ص: 217


1- «سلب» لم ترد في «ق».
2- سورة يوسف: 31.
3- «سلب» لم ترد في «ق».

«الأصل في الاستعمال الحقيقة»، والسلب المذكور فيما ذكر ليس سلبًا حقيقيًّا، بل سلب مجازيّ مبالغة، والسلب الحقيقيّ هو السلب في الواقع ونفس الأمر، فالتقييد به غير مفتقر إليه.

فقولنا: «زيد ليس بحمار»، سالبة حمليّة، ووضعها لسلب المحمول عن الموضوع في نفس الأمر، فلا يمكن استعمالها حقيقة إلّا إذا تحقّق السلب كذلك؛ والسالبة الحقيقيّة فيما صحّت من أمارة المجاز، والسالبة في قوله تعالى: ﴿مَا هَذَا بَشَرًا﴾(1) ونحوه ليست كذلك، بل سالبة مجازيّة، هذا.

الاعتراضات الواردة على جعل «صحّة السلب وعدمها» علامة
اشارة

ثمّ إنّ في المقام اعتراضات:

الاعتراض الأوّل

الأوّل: أنّ جعل صحّة السلب دليل المجاز وعدمها دليل الحقيقة ممّا لا ثمرة فيه، إذ المفروض أنّ المعنى الحقيقيّ معلوم والمستعمل فيه كذلك، فينبغي النظر إليهما، فإن كان من الأوّل فمعنى(2) حقيقيّ، وإلّا فمجازيّ(3).

الاعتراض الثاني

والثاني: أنّ جعلهما دليل الحقيقة والمجاز فاسد؛ لأنّ صحّة السلب الّتي جعلت

ص: 218


1- سورة يوسف: 31.
2- كذا في الأصل، والصواب: فالمعنى.
3- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 530.

دليلًا على المجاز إمّا أن يراد بها صحّة سلب بعض المعاني الحقيقيّة عن المستعمل فيه، أو جميعها؛ وكلاهما فاسد(1).

أمّا الأوّل: فلوضوح أنّ سلب بعض المعاني الحقيقيّة غير مستلزم للمجازيّة، ألا ترى أنّ المشترك يصحّ سلب كلّ معنى من معانيه عن الآخر، مع أنّ اللفظ في الجميع حقيقة.

هذا في علامة المجاز، وأمّا في علامة الحقيقة فلاستلزامها الدور؛ فلأنّ العلم بعدم صحّة سلب المعنى الحقيقيّ عن المستعمل فيه موقوف على العلم بأنّه من المعنى الحقيقيّ، والمفروض أنّ العلم بكونه من المعنى الحقيقيّ موقوف على العلم بعدم صحّة السلب، فيلزم توقّف العلم بعدم صحّة السلب على العلم بعدم صحّة السلب، وهو دور ظاهر.

وأمّا الثاني: فلاستلزامه الدور، أمّا بالنسبة إلى المجاز فلأنّ العلم بصحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة عن المستعمل فيه موقوف على العلم بأنّه ليس منها، والعلم بأنّه ليس منها موقوف على العلم بأنّه من المعاني المجازيّة، والمفروض أنّه توقّف العلم بالمجازيّة على العلم بصحّة السلب، فيلزم توقّف العلم بصحّة السلب على العلم بصحّة السلب، وهو دور مضمر(2).

ص: 219


1- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 530، والكاشف عن المحصول: 2/ 380، ونهاية الوصول: 1/ 298، وغاية الوصول: 1/ 159، والفوائد الحائريّة: 325، الفائدة 34، وأنيس المجتهدين: 1/ 54، وقوانين الأصول: 1/ 64-65، وإشارات الأصول: 1/ 70 -71.
2- جاء في حاشية الأصل: لكن بواسطة، إذ الدور إذا انحصل بمقدّمتين يكون مصرّحًا، وإذا انحصل بثلاث مقدّمات يكون مضمرًا بواسطة، وإذا انحصل بأربع منها يكون مضمرًا بواسطتين؛ وما نحن فيه من القبيل الثاني، فتوهّم أنّه دور مضمر بواسطتين، لا وجه له. منه.

لا يقال: يمكن تقريره على وجه يصير الدور مصرّحًا بأن يقال: العلم بصحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة عن المستعمل فيه متوقّف على العلم بعدم كون المستعمل فيه من المعاني الحقيقيّة، فلو توقّف العلم بعدم كونه منها على العلم بصحّة السلب، يلزم أنّ العلم بصحّة السلب متوقّف على العلم بصحّة السلب.

لأنّا نقول: يمكن الجواب عنه بأنّ المفروض أنّ العلم بالمجازيّة متوقّف على العلم بصحّة السلب، لا العلم بعدم كون المستعمل فيه من المعاني الحقيقيّة متوقّف عليه، ولذا يقولون: «إنّ عدم صحّة السلب علامة الحقيقة وصحّته علامة للمجاز»(1)، لا لعدم الحقيقيّة، والعلم بعدم الحقيقة غير مستلزم للعلم بالمجازيّة على سبيل الإطلاق، وسيجيء تفصيله.

أو يقال: إنّ العلم بصحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة عن المستعمل فيه متوقّف على العلم بكونه من المعاني المجازيّة، والمفروض أنّ العلم بكونه من المعاني المجازيّة متوقّف على العلم بصحّة السلب، فالعلم بصحّة السلب يتوقّف على العلم بصحّة السلب.

لأنّا نمنع توقّف سلب جميع المعاني الحقيقيّة عن المستعمل فيه على العلم بكونه من المعاني المجازيّة؛ لأنّ الموقوف عليه لذلك العلمُ بعدم وضع اللفظ له، لا العلم بكونه من المعاني المجازيّة، والأوّل غير مستلزم للثاني؛ لإمكان العلم بعدم وضع اللفظ لمعنى مع عدم كونه من المعاني المجازيّة لانتفاء العلاقة.

ص: 220


1- ينظر قوانين الأصول: 1/ 63، ومفاتيح الأصول: 97.

ولا يخفى عليك أنّه يظهر الجواب ممّا ذكر عن أصل الدور ولو كان مضمرًا؛ لما عرفت من منع توقّف عدم كون المستعمل فيه من المعاني الحقيقيّة على العلم بكونه من المعاني المجازيّة، بل بعدم وضع اللفظ له، لكنّه هنا مستلزم لذلك لثبوت الاستعمال وانحصاره إذا كان صحيحًا في الحقيقة والمجاز، وحيث قد انتفى الأوّل تعيّن الثاني، لكنّه ليس لأجل العلم بعدم الوضع فقط، بل مع ما ذكر، فتأمّل.

نعم، يرد: أنّه عند العلم بعدم وضع اللفظ لذلك المعنى لا وجه للرجوع إلى العلامة لتشخيص المجاز والحقيقة، إذ الرجوع إنّما هو في مقام الجهل والشبهة.

وأمّا بالنسبة إلى الحقيقة؛ فلأنّ العلم بعدم صحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة عن المستعمل فيه موقوفٌ على العلم بأنّه منها؛ لوضوح أنّه لو لم يكن منها أمكن سلب جميع المعاني الحقيقيّة عنه، فلو توقّف العلم بأنّه من المعاني الحقيقيّة على العلم بعدم صحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة، يلزم توقّف العلم بعدم صحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة على العلم بعدم صحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة، وهو أوضح ممّا سبق؛ لكونه دورًا مصرّحًا.

الجواب عن الاعتراض الأوّل

والجواب عن الأوّل من وجهين:

الأوّل: أنّ ذلك إنّما يرد بناءً على الشقّ الأوّل فيما يتمسّك فيه بصحّة السلب، وأمّا على الشقّ الثاني على ما ذكرناه فلا، كما لا يخفى.

والثاني(1): أنّ المعنى الحقيقيّ للّفظ قد يكون بحيث يمكن للناظر فيه الامتياز

ص: 221


1- في «ق»: والثاني هو.

بينه وبين غيره بسهولة، كالأمر مثلًا، فإنّ معناه الحقيقيّ الوجوب، فإذا استعمل وعلم المستعمل فيه أنّه الإباحة مثلًا، يمكن للناظر الحكم بمغايرة المستعمل فيه للمعنى الحقيقيّ بسهولة، فلا حاجة له للرجوع إلى صحّة السلب وعدمها لذلك.

وقد لا يكون الأمر كذلك، فيكون المستعمل فيه ممّا لا يمكن الحكم بمغايرته للمعنى الحقيقيّ المعلوم بسهولة ولا بعدمها كذلك، والرجوع إلى صحّة السلب وعدمها إنّما هو في مثل هذا المقام.

والسرّ في ذلك: هو أنّ المعنى الموضوع له اللفظ قد يكون بحيث لا يكون له أفراد مختلفة، فلا يلتبس بغيره؛ وقد لا يكون كذلك، كما إذا وضع اللفظ لمعنى عامّ مختلف الأفراد في الخارج، بعضها ممّا يقطع فيه بأنّ استعمال ذلك اللفظ فيه على سبيل الحقيقة، وبعضها ممّا يشكّ فيه بسبب العوارض الموجبة لذلك، كلفظ «الإنسان» مثلًا، فإنّه موضوع للحيوان المدرك للمعقول، ولا شكّ أنّ أفراده في الخارج مختلفة بحسب تحقّق هذا المعنى فيها، وكثير منها نقطع بأنّ استعمال ذلك اللفظ فيه على سبيل الحقيقة، وبعضها كالبليد ممّا يشكّ فيه لخفاء ذلك المعنى فيه، فمعلوميّة المستعمل فيه غير كافية للامتياز، فيرجع إلى صحّة السلب العرفيّة وعدمها، فيعمل بمقتضاها.

وبعبارة أوضح، وهي: أنّ الماهيّات الموضوع لها قد يكون صدقها على أفرادها متساويًا، ويعبّر عنها بالتواطئ؛ وقد يكون متفاوتًا، ويعبّر عنها بالمشكّك؛ والتمسّك بصحّة السلب وعدمها في القسم الثاني، لا الأوّل، فإنّ الأفراد حينئذٍ لمّا كانت مركّبة ممّا به الاشتراك والامتياز ربّما يصير ذلك موجبًا للتردّد والشكّ في صدق الماهيّة عليها حقيقة، فيختبر ذلك بصحّة السلب وعدمها.

ص: 222

الجواب عن الاعتراض الثاني
اشارة

والجواب عن الثاني بوجوه:

الجواب الأوّل عن الاعتراض الثاني

الأوّل: أنّ المراد صحّة سلب بعض المعنى الحقيقيّ.

قولك: «إنّ سلب البعض غير مستلزم للمجازيّة»، قلنا: ممنوع؛ لأنّ اللفظ بالنسبة إلى المعنى المسلوب عنه متردّد بين الاشتراك والمجاز، إذ لو لم يكن مجازًا فيه لكان حقيقة، فيلزم الاشتراك، ومعلوم أنّ المجاز خيرٌ منه، والنقض بالاشتراك غير وارد؛ لأنّ الكلام فيما لم يثبت فيه الوضع(1).

وفيه نظر، أمّا أوّلًا: فلأنّ الأمر لو كان كذلك، لما كان لجعل صحّة السلب أمارة للمجاز فائدة، إذ يكفي في ذلك ما ذكروا في تعارض الأحوال من أنّه إذا دار العلم بين المجاز والاشتراك، الأوّل خيرٌ من الثاني.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ ذلك إنّما يصحّ على القول بأولويّة المجاز من(2) الاشتراك، وأمّا على القول بالعدم فلا، كما لا يخفى.

والظاهر أنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّهم يذكرون الخلاف عند ذكر معارضة المجاز والاشتراك، ولم نجد لأحد منهم التعرّض للخلاف عند ذكر صحّة السلب، فيظهر من ذلك عدم الخلاف؛ لبعد تحقّقه وعدم التعرّض له.

وأمّا ثالثًا: فلأنّا نقول بعد تسليم الجواب المذكور: إنّما يرتفع به الإشكال عن

ص: 223


1- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 530، وأنيس المجتهدين: 1/ 54.
2- في «ق»: على.

علامة المجاز، وأمّا بالنسبة إلى علامة الحقيقة فإرادة البعض غير حاسمة للإشكال المتقدّم كما لا يخفى.

أقول: ويمكن الجواب عن الجميع بعد تمهيد مقدّمة، وهي: أنّك قد عرفت ممّا تقدّم أنّ التمسّك بهاتين العلامتين إنّما هو إذا كان الموضوع له اللفظ معنى عامًّا متكثّر الأفراد في الخارج، ففي بعض المواضع نقطع بكونه فردًا من ذلك وبكون(1) اللفظ حقيقة فيه، فلا حاجة فيه للرجوع إلى العلامة، وتمسّكهم بعدم صحّة السلب ليس في مثل هذا المقام؛ لوضوح أنّ التمسّك(2) بالعلامة إنّما هو في مقام الشكّ بالحقيقة والمجاز، لا في مقام العلم.

وفي بعض المواضع نشكّ في ذلك باعتبار اشتراكه لذلك البعض في بعض الأمور وافتراقه عنه في الآخر، فبالنظر إلى الاشتراك نجوّز(3) الحقيقيّة وإلى الافتراق المجازيّة.

والحاصل: أنّ الشكّ في أنّ ما به الافتراق والامتياز بين الموضعين هل بلغ حدًّا في العرف والعادة بحيث لا يجوز معه الحكم بأنّ ذلك البعض من أفراد ذلك المعنى العامّ، فيكون إطلاق لفظه عليه مجازًا، أو لا؟ بل مع الامتياز المذكور يعدّ في العرف والعادة من أفراده حقيقة، فحينئذٍ يكون إطلاق ذلك اللفظ عليه حقيقة، فيرجع إلى صحّة سلب ذلك المعنى المعلوم عن ذلك البعض وعدمها، فإن صحّ ذلك عند أهل العرف يعلم أنّ الامتياز المذكور بلغ إلى ذلك الحدّ، وإلّا فلا،

ص: 224


1- في «ق»: يكون.
2- في «ق»: التمسّك.
3- في «ق وج»: يجوز.

فيتوصّل إلى الحقيقة والمجاز.

كلفظ «الإنسان» مثلًا، فإنّا نعلم أنّه موضوع للحيوان المدرك للمعقول، وفي كثير من موارد الاستعمال نقطع بتحقّقه فيه، فنعلم أنّ لفظ «الإنسان» فيه حقيقة، فلا حاجة للرجوع إلى العلامة، وفي بعض الموارد كالبليد مثلًا نشك في ذلك ممّا به الاشتراك بينه وبين الموارد المذكورة وممّا به الامتياز الّذي هو البلادة، وكلفظ «الماء» مثلًا، فإنّا نعلم بأنّه موضوع للجسم المخصوص؛ وفي كثير من الموارد نقطع بتحقّق الموضوع له فيه، فيكون استعماله فيه حقيقة.

وفي بعض الموارد كالممتزج ببعض الأجسام كالتراب وغيره نشكّ في ذلك ممّا به الاشتراك والامتياز، فنختبر بصحّة السلب والعدم، فإن صحّ في العرف ذلك نعلم أنّ الاختلاط المذكور أخرجه عن ذلك، فيكون استعمال لفظ «الماء» فيه مجازًا، وإلّا فحقيقة، وهكذا الكلام في كلّ ما يكون بهذا المنوال.

إذا عرفت ذلك نقول: أمّا الجواب عن الأوّل: فبأنّ الفائدة المترتّبة على صحّة السلب غير ما يترتّب على أولويّة المجاز من الاشتراك، والمنفي بالأوّل غير ما هو المنفي بالثاني، وكذا الثابت بالأوّل غير ما هو الثابت بالثاني.

بيان ذلك: هو أنّ المنفي بسلب ذلك المعنى عن المسلوب عنه كون المعنى المسلوب عنه من أفراد ذلك المعنى الموضوع له، فيعلم من ذلك أنّ استعمال ذلك اللفظ فيه لا يكون على سبيل الحقيقة، لكن بحسب ذلك الوضع لا مطلقًا؛ لجواز أن يكون اللفظ المذكور موضوعًا لذلك المعنى بوضع آخر، فيلزم أن يكون استعماله فيه على سبيل الحقيقة، والمنفي بأولويّة المجاز من الاشتراك هذا الاحتمال، فيعلم أنّ استعمال اللفظ فيه على سبيل المجاز.

ص: 225

وبعبارة أخرى: إنّ المنفيّ بصحّة السلب الاشتراك المعنويّ، وبأولويّة المجاز الاشتراك اللفظيّ، فكيف يكون الثاني منفيًّا عن الأوّل؟!

وأمّا عن الثاني: فقد ظهر بما ذكرنا في الجواب عن الأوّل، وإن أردت التوضيح فاعلم: أنّ الموضع الّذي يتمسّك فيه بصحّة السلب وراء الموضع الّذي يتمسّك فيه بأولويّة المجاز كما عرفت، فكون الثاني محلًّا للخلاف لا يستلزم أن يكون الأوّل من ذلك كما لا يخفى.

والحاصل: أنّ اللازم ممّا ذكر اتّفاقهم على أنّ اللفظ في المعنى المسلوب عنه بالنظر إلى وضعه للمعنى المسلوب مجازٌ وإن استلزمهم الخلاف في ذلك بالنظر إلى وضعه الآخر، فالقائلون بأولويّة المجاز ينفون الوضع الآخر أيضًا، فلا يكون ذلك اللفظ في ذلك المعنى إلّا مجازًا عندهم، والقائل بأولويّة الاشتراك يثبته.

إن قلت: كيف يمكن أن يكون الأمر على ما ذكر؟ فإنّ اللازم منه أن يكون ذلك اللفظ في ذلك المعنى عند القائل بأولويّة الاشتراك مجازًا بالنسبة إلى صحّة السلب وحقيقة بالنسبة إلى أولويّة الاشتراك، فيلزم أن يكون لفظ واحد في معنى واحد في آن واحد مجازًا وحقيقة، وهو محال للزوم التناقض، إذ المجاز: اللفظ المستعمل في غير الموضوع له، والحقيقة: المستعمل فيما وضع له.

قلت: الاستحالة إنّما تلزم إذا كانت المجازيّة والحقيقيّة من حيثيّة واحدة، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك، إذ المجازيّة إنّما هي بالنسبة إلى وضع المعنى المسلوب، والحقيقيّة إنّما هي بالنسبة إلى وضع الآخر، ولا استحالة في ذلك.

ألا ترى أنّ اللفظ المشترك إذا استعمل في بعض معانيه، لا لكونه موضوعًا له، بل لكونه مناسبًا للمعنى الآخر، يكون مجازًا، مع أنّه من المعاني الحقيقيّة، والمجازيّة

ص: 226

بالنسبة إلى تلك المناسبة والحقيقيّة لا بالنسبة إليها، بل باعتبار الوضع الآخر، وما نحن فيه من هذا القبيل من غير فرق، فيعلم من ذلك أنّ الحكم باتّحاد آن المجازيّة مع آن الحقيقيّة غير صحيح؛ لأنّ آن المجاز(1) آن ملاحظة المناسبة، وآن الحقيقة آن ملاحظة الوضع، فاختلف الآنان وانتفى الاتّحاد.

لكن يرد عليه: أنّه بناءً على ما ذكر لم يكن صحّة السلب دليل العلم بالمجاز الفعليّ على القول بأولويّة الاشتراك من المجاز، بل يكون دليلًا على المجاز بالقوّة، بمعنى أنّه لو لاحظ المستعمل عند استعمال ذلك اللفظ في المعنى المسلوب عنه وضعه للمعنى المسلوب يكون مجازًا، فتكون المجازيّة متوقّفة على ملاحظة تلك المناسبة، ثمّ العلم بها.

فعلى هذا يمكن للقائل بأولويّة الاشتراك الحكم بالمجازيّة بمجرّد وجدان اللفظ مستعملًا في المعنى المسلوب عنه، بل يلزمه القول بالحقيقة حينئذٍ؛ لأنّ الاستعمال عنده دليل الحقيقة، وقد تحقّق، إلّا إذا ثبت أنّ مصحّح الاستعمال ملاحظة المناسبة، لا الوضع.

وبالجملة: لا تكون صحّة السلب بناءً على القول بأولويّة الاشتراك دليلًا على المجاز فيما تحقّق فيه الاستعمال، مع أنّ الظاهر من كلماتهم ذلك، ولا يخفى عليك أنّ هذا إنّما يرد إذا تحقّق الاستعمال بالنسبة إلى المعنى المسلوب عنه، وأمّا إذا لم يتحقّق ذلك -كما في الصورتين المذكورتين من الصور الخمس المتقدّمة- فلا، فهناك يكون صحّة السلب دليل المجاز من غير إشكال.

ص: 227


1- في «ق»: المجازيّة.

وأيضًا: أنّ أصل الإشكال إنّما يرد إذا علم الموضوع له اللفظ، وأمّا فيما إذا لم يعلم ذلك أصلًا كما ذكرنا في الجاهل بالاصطلاح، فالإشكال غير وارد أصلًا، كما لا يخفى على العارف المتفطّن بما ذكرناه.

وأمّا الجواب عن الثالث: فبأنّا نقول: أمّا بالنسبة إلى الصورة الّتي ذكرناها - أي بالنسبة إلى الجاهل بالاصطلاح - فلأنّا نقول: إنّ علمه بكون المعنى من المعاني الحقيقيّة وإن توقّف على علمه بعدم صحّة السلب، لكن علمه بعدم صحّة السلب ليس متوقّفًا على علمه بكون المعنى من المعاني الحقيقيّة، بل على علم أهل الاصطلاح بكونه منها؛ وعلمهم بكونه منها غير متوقّف على عدم صحّة السلب؛ لجواز اطّلاعهم بذلك إمّا بنصّ الواضع، أو بأمارات أُخر، أو عدم صحّة السلب بالنسبة إلى غير ذلك الشخص، فالدور مندفع لاختلاف الجهات والحيثيّات.

وأمّا بالنسبة إلى غيرها فنقول: إنّ القواعد اللفظيّة مأخوذة من متفاهم العرف واللغة، فلا بدّ عند عدم انضباط شيء منها من الرجوع إليهما حتّى تنضبط.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّه إذا استعمل لفظ في مورد ولم نعلم أنّه من أفراد الموضوع له أم لا، نرجع إلى صحّة السلب العرفيّة، فإذا لم يصحّ سلب ذلك المعنى عن ذلك المورد، نعلم أنّه من أفراده، فحينئذٍ نقول: علمنا بأنّه من المعنى الحقيقيّ للّفظ متوقّفٌ على عدم صحّة السلب العرفيّة، وعدمها متوقّف على علمهم بكونه من المعاني الحقيقيّة نظير ما تقدّم، فارتفع الإشكال بعون الموفّق المتعال.

الجواب الثاني عن الاعتراض الثاني

والجواب الثاني: وهو مبنيّ على إرادة البعض أيضًا، ويدفع النقض بالمشترك بأنّ السلب في المشترك ليس على سبيل الإطلاق، بل بالنسبة إلى بعض المعاني، إذ

ص: 228

قولك: «هذا ليس بعين» مشيرًا إلى الفضّة بالنسبة إلى غير وضع العين لها، فلا بدّ من القرينة الدالّة على ذلك، وإلّا لم يصحّ السلب؛ وصحّة السلب الّتي نقول إنّها من خواصّ المجاز صحّة السلب على الإطلاق إلى المجرّدة عن القرينة، والسلب الّذي في المشترك إنّما هو مع الاقتران بالقرينة.

ثمّ إنّ مقتضى ما ذكر أنّ خواصّ الحقيقة عدم صحّة السلب على الإطلاق، لا بالنسبة إلى البعض فقط؛ ولا شبهة في تحقّقه في المشترك، إذ صحّة السلب فيه إنّما هو بالنسبة إلى بعض المعاني، وأمّا السلب على الإطلاق، فغير ممكن كما لا يخفى.

بقي الكلام بالنسبة إلى الدور المذكور، فنقول: قد عرفت اندفاعه بما ذكرناه في الجواب الأوّل، فتأمّل.

الجواب الثالث عن الاعتراض الثاني

والجواب الثالث: هو أنّا نختار أنّ المراد سلب جميع المعاني الحقيقيّة، لكن نقيّدها(1) باليقينيّة، والّذي يتوقّف عليه سلب جميع المعاني الحقيقيّة عن مورد الاستعمال عدم كونه منها، وهو مسلّم؛ لأنّه المفروض، لكن ذلك غير مستلزم للمجازيّة، إلّا بعد التمسّك بأولويّة المجاز من(2) الاشتراك، فيجيء الكلام فيه على نحو ما تقدّم.

الاعتراض الثالث

والاعتراض الثالث: هو أنّ العلامة وإن لم يشترط فيها الانعكاس، لكن

ص: 229


1- في «ق»: تفيدها.
2- في «ق»: على.

يشترط فيها الاطّراد، بمعنى أن لا يتخلّف وجودها عمّا هو علامة لها وإن جاز تخلّفه عنها؛ فعلى هذا يقال: إنّه لو كان عدم صحّة السلب علامة للحقيقة، لما جاز تخلّفه عنها، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة فقد ظهرت ممّا علمت، وأمّا بطلان التالي فلأنّ اللفظ المستعمل في جزئه أو خارجه المحمول عليه - كالإنسان مثلًا في الناطق والكاتب - يمكن فيه السلب، فلا يجوز أن يقال: «الناطق ليس بإنسان»، وكذا الكاتب، مع أنّ اللفظ في كلّ منهما مجاز.

والحاصل: أنّ الموضوع له إمّا مباين للمستعمل فيه، أو مساوٍ له، أو أعمّ منه، أو أخصّ، والسلب إنّما يمكن في الأوّل، كما يقال: «زيد ليس بحمار»، بمعنى أنّ مفهوم الحماريّة مسلوب عنه، وأمّا في الصور الثلاث الباقية فلا، أمّا في صورة التساوي فظاهر، إذ المتساويان متساوقان في الوجود، فكيف يسلب أحدهما عن الآخر؟! وأمّا في صورة العموم - كالحيوان عند استعماله في الإنسان - فلأنّ كلّ إنسان حيوان، فكيف يسلب عنه مفهوم الحيوانيّة؟!

وبالجملة: كلّ أخصّ لا ينفك عن الأعمّ، فلا يمكن سلبه عنه، وأمّا في صورة الأخصّيّة فلما عرفت من أنّ الأخصّ غير منفكّ عن الأعمّ، فيلزم أن يكون اللفظ في جميع الصور الثلاث حقيقة؛ لوجود علامتها فيه، مع أنّه مجاز في نفس الأمر، فلا يكون عدم صحّة السلب دليلًا على الحقيقة، إلّا في صورة التباين بين الموضوع له والمستعمل فيه.

الجواب عن الاعتراض الثالث

والجواب عنه: أنّ ذلك إنّما يتوجّه لو قلنا: إنّ صحّة السلب إنّما تكون باعتبار

ص: 230

حمل الشيء على ما هو مغاير له، فيلزم أن يكون عدمها بهذا الاعتبار علامة الحقيقة، وقد وجد في المواضع المذكورة مع عدم كون اللفظ فيها حقيقة، ونحن لم نقل بذلك(1).

توضيح المقام يقتضي أن يقال: إنّ صحّة السلب قد تكون باعتبار حمل الشيء على المغاير، وقد تكون باعتبار حمل الشيء بمعنى هو هو، والمعتبر في المجاز صحّة السلب بالاعتبار الثاني، وقد يجتمع مع الاعتبار الأوّل، كما إذا كان بين الموضوع له والمستعمل فيه تباين، كما في قولك: «البليد ليس بحمار»، أمّا السلب بالاعتبار الأوّل؛ فلوضوح أنّ مفهوم الحمار مسلوب عن البليد، وأمّا بالاعتبار الثاني؛ فلأنّ سلب مفهومه عنه يستلزم رفع الاتّحاد بين المفهومين، فيقال: مفهوم الحمار ليس عين مفهوم البليد.

وقد يفترق عنه، كما في الصور المذكورة، فإنّه يتحقّق السلب فيها بالاعتبار الثاني؛ لوضوح أنّ مفهوم «الإنسان» ليس عين مفهوم «الناطق»، ولا عين مفهوم «الكاتب»، بخلافه بالاعتبار الأوّل؛ لوضوح عدم جواز سلب مصداق(2)

ص: 231


1- جاء في حاشية الأصل: وحاصل الجواب: إنّ عدم صحّة السلب الموضوع له عن المستعمل فيه قد يكون باعتبار المصداق، وقد يكون باعتبار المفهوم؛ ومعلوم أنّ صحّة السلب باعتبار المصداق مستلزم لصحّته باعتبار المفهوم، لكن لا عكس؛ لجواز أن يتحقّق السلب باعتبار المفهوم ولا يتحقّق باعتبار المصداق، كما في المتساويين. إذا علمت ذلك فاعلم: أنّه كما يمكن سلب الإنسان عن البليد مصداقًا، كذا يتحقّق مفهومًا، بخلاف الإنسان بالإضافة إلى الناطق، فإنّ السلب عنه ممكن مفهومًا، لكن غير ممكن مصداقًا، فالمعتبر فيكلّ من علامة الحقيقة والمجاز باعتبار المفهوم دون المصداق، فلا إيراد. منه.
2- في «ق»: مفهوم.

«الإنسان» عن مصداق(1) «الناطق» و«الكاتب»، لكنّ السلب بذلك الاعتبار كافٍ لاتّصاف اللفظ بالمجازيّة.

فظهر من ذلك أنّ السلب بالاعتبار الثاني أعمّ من السلب بالاعتبار الأوّل، فكلّما يتحقّق فيه السلب بالاعتبار الأوّل يتحقّق بالاعتبار الثاني من غير عكس، ولمّا كان نقيض الأخصّ أعمّ وبالعكس، كان عدم صحّة السلب بالاعتبار الثاني أخصّ من عدم صحّة السلب بالاعتبار الأوّل، بمعنى أنّ كلّما لم يصحّ فيه السلب بالاعتبار الثاني لم يصحّ بالاعتبار الأوّل، وليس كلّما لم يصحّ فيه السلب بالاعتبار الأوّل لم يصحّ بالاعتبار الثاني، كما عرفت عند استعمال «الإنسان» في «الناطق» مثلًا، فإنّه لم يصحّ فيه السلب بالاعتبار الأوّل مع أنّه صحّ بالاعتبار الثاني.

ولمّا كان المعتبر في المجاز الأعمّ -أي صحّة السلب بالاعتبار الثاني على ما عرفت- كان المعتبر في الحقيقة الأخصّ، أي عدمها بذلك الاعتبار، لكن لمّا كان الأخصّ مستلزمًا للأعمّ، علم أنّ عدم صحّة السلب بالاعتبار الثاني لا ينفكّ عن عدمها بالاعتبار الأوّل، فالمعنى الحقيقيّ لا يفترق عن عدم صحّة السلب بالاعتبارين، فاندفع النقض باللفظ المستعمل في الجزء والخارج اللازم المحمول؛ لعدم تحقّق السلب إلّا باعتبار واحد.

ص: 232


1- «مصداق» لم ترد في «ق».

في تحقيق التبادر وعدمه

الفصل الثالث: في التبادر وعدمه أو عدم تبادر الغير وتبادره

اشارة

الفصل الثالث: في التبادر وعدمه أو(1) عدم تبادر الغير وتبادره

فإنّ الأوّل دليل الحقيقة، والثاني دليل المجاز؛ ونعني بالتبادر: استباق المعنى عند استماع اللفظ مجرّدًا عن القرينة(2).

وجه دلالته عليها: هو أنّ القول بالدلالة الذاتيّة لمّا كان فاسدًا، تعيّن أن تكون الدلالة للوضع، وحيث قد علمت دلالة اللفظ على المعنى بنفسه، علم أنّ منشأه وضعه له، ولا نعني بالدلالة على الحقيقة في المقام إلّا ذلك.

والحاصل: أنّ الوضع علّة لاستباق المعنى من اللفظ، وهو معلول له، فإنّه كما إذا حصل العلم بالعلّة من قبل الواضع وغيره، يحصل العلم بالمعلول، ينبغي العكس أيضًا بأن يكون العلم بالمعلول موجبًا للعلم بالعلّة، فيُعلم(3) من استباق المعنى من اللفظ حال تجرّده عن القرينة وضعه له؛ لئلّا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة، إلّا أنّ الأوّل من باب اللّمّ، والثاني من باب الإنّ.

ص: 233


1- في «ق»: و.
2- ينظر تهذيب الوصول: 69، وغاية الوصول: 1/ 159، وقوانين الأصول: 1/ 56، ومفاتيح الأصول: 68، ومنية اللبيب: 1/ 219، والإحكام: 1/ 30.
3- في «ق»: فيعلم.
إيرادات وتفصّيات
الإيراد الأوّل على التبادر مع الجواب عنه
اشارة

الأوّل: أنّه لو كان التبادر أمارة للحقيقة، لزم أن لا تكون الألفاظ المشتركة عند استعمالها في معانيها الموضوعة لها حقيقة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة فلوضوح أنّ السامع عند استماعه اللفظ المشترك من غير قرينة، يبقى متردّدًا في فهم معنى من معانيه منه وحمله عليه، فلو كان شيء من معانيه متبادرًا لما كان الأمر كذلك؛ وأمّا بطلان التالي فظاهر(1).

وجوابه ظاهر، فإنّ مقتضى قولنا: «التبادر علامة الحقيقة»، أنّه إذا ثبت تبادر المعنى من اللفظ، يدلّ ذلك على أنّه حقيقة فيه، لا أنّه إذا انتفى انتفت، وكيف؟! مع أنّ للحقيقة(2) أمارات يكفي في كون اللفظ حقيقة تحقّق شيء منها(3) ولو لم تتحقّق غيرها(4).

وهذا كما يقال: «إنّ الجرّ من علامة الاسم»، ليس معنى ذلك إلّا أنّه إذا وجد الجرّ في كلمة يدلّ على أنّه(5) اسم، لا أنّ عدم وجوده دليل على العدم؛ وكيف مع بعض الأسماء ممّا لا يمكن وجوده فيه، كالأسماء الغير المنصرفة.

ص: 234


1- ينظر منية اللبيب: 1/ 220، وغاية الوصول: 1/ 160، والإحكام: 1/ 27، وأنيس المجتهدين: 1/ 53، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 531.
2- في «ق»: الحقيقة.
3- في «ق»: منهما.
4- المفروض: ولو لم تحقّق غيرها.
5- كذا في الأصل، والصواب: أنّها.

وبالجملة: هذه الأمور خواصّ وعلامات، لا حدود وتعاريف؛ والمعتبر في الخاصّة الاطّراد، لا الانعكاس، بخلاف الحدّ، فإنّه يعتبر فيه الانعكاس أيضًا.

وتوضيح الأمر في الاطّراد والانعكاس يُطلب فيما ذكرناه في مواضع متعدّدة، كالحلية اللامعة(1)، وحاشيتي التهذيب والمعالم(2)، لا سيّما الأخير، فإنّه كمشعلة لامعة للإيصال إلى حقيقتهما بلا كلام.

لكن إذا لوحظ الخواصّ بمجموعها يلزم منه الانعكاس؛ لوضوح أنّ انتفاء جميع العلائم للحقيقة مثلًا يستلزم انتفاءها، فالإيراد(3) المذكور لا وجه له، نعم، له وجه بالنسبة إلى المجاز، فإنّ علامته عدم التبادر وقد تحقّق في المشترك، مع أنّه بالنسبة إلى جميع معانيه حقيقة، فلا تتحقّق(4) الاطّراد مع أنّه على ما عرفت لازم.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ عدم التبادر إنّما يدلّ على المجاز إذا لم يعارضه(5) علامة الحقيقة، وأمّا مع المعارضة فلا، وما نحن فيه كذلك؛ لأنّ نصّ الواضع وكذا عدم صحّة السلب دليلٌ على الحقيقة، فتأمّل.

ثمّ اعلم: أنّ بعضًا منهم لأجل الفرار عن هذا الإيراد غيّر الكلام في المقام، فقال: إنّ علامة الحقيقة: عدم تبادر الغير، وعلامة المجاز: تبادره(6)، فحينئذٍ لا يرد

ص: 235


1- الحلية اللامعة: 1/185.
2- كلتاهما مخطوطتان.
3- في «ق»: فإيراد.
4- كذا في الأصل، والصواب: فلا يتحقّق.
5- كذا في الأصل، والصواب: لم تعارضه.
6- قاله الوحيد البهبهانيّ في الفوائد الحائريّة: 324، الفائدة 34، وينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 530، وأنيس المجتهدين: 1/ 52.

النقض المذكور، أمّا بالنسبة إلى علامة الحقيقة فلأنّ المشترك إذا أطلق، كما أنّه لم يتبادر منه شيء من معانيه، كذا لم يكن غير معانيه متبادرًا أيضًا، وأمّا بالنسبة إلى المجاز فلأنّ علامة المجاز على هذا: التبادر إلى الغير، وقد عرفت انتفاءه.

وفيه نظر؛ لأنّك قد عرفت دفع الإيراد ممّا ذكرناه، فلا يحتاج لدفعه إلى تغيير العلامة، مع أنّ ما جُعل علامة للحقيقة غير صحيح، كما يجيء إليه الإشارة.

وأيضًا: أنّ ما جعل علامة للمجاز من التبادر إلى الغير، إنّما يندفع به إذا فرض استعمال المشترك في معناه الحقيقيّ، وأمّا إذا فرض استعماله في معناه المجازيّ فلا؛ لأنّ المفروض أنّ معانيه الحقيقيّة غير متبادرة منه، فلا يتحقّق التبادر إلى الغير في ذلك المعنى مع كونه معنى مجازيًّا، فيلزم أن لا يكون المجاز مجازًا، بل حقيقة لتحقّق علامتها الّتي هي عدم تبادر الغير فيه.

والجواب عنه: هو ما تقدّم من أنّ المعتبر في الخاصّة الاطّراد، لا الانعكاس، فمقتضى القول بأنّ التبادر إلى الغير من علامة المجاز هو أنّ وجوده يستلزم الوجود، وأمّا العدم فغير مستلزم للعدم، وسيجيء لذلك مزيد توضيح.

لكن قد اندفع الإيراد بما ذكر في خاصّة المجاز، وأمّا بالنسبة إلى خاصّة(1) الحقيقة فغير مندفع، إذ عدم التبادر إلى الغير متحقّق مع أنّ المعنى مجازيٌّ، فلم يتحقّق الاطّراد.

وأيضًا قد يشتهر اللفظ في المعنى المجازيّ بحيث يتردّد السامع عند التجرّد عن القرينة، فحينئذٍ يلزم أن يكون ذلك المعنى معنى حقيقيًّا؛ لأنّ غيره غير متبادر منه.

ص: 236


1- في «ق»: الخاصّة.
نقل الجواب الظاهر من بعض المحقّقين مع تزييفه وإبطاله

ولا يخفى أنّ هذا كلّه مبنيٌّ على تسليم انتفاء التبادر في معاني المشترك، والّذي يظهر من بعض المحقّقين في الجواب عن أصل الإيراد، وبه يضمحلّ كثير من المناقشات، هو دعوى التبادر فيها، فذكر ما حاصله:

أنّ التبادر إمّا أن يعتبر بالنسبة إلى الدلالة، أو بالنسبة إلى الإرادة، وعلى الأوّل يكون جميع معاني المشترك متبادرًا، لكنّ التردّد لأجل الإبهام في المراد؛ لوضوح أنّ دلالة اللفظ على المعنى بواسطة الوضع، فالعالم بالوضع عند استماعه ينبغي أن يفهم معناه منه، لكن عند كون المعنى متعدّدًا يبقى متردّدًا في انّ مراد المستعمل أيّ معنى من تلك المعاني المتعدّدة، فتردّده إنّما هو في تعيين المراد، لا في أصل الدلالة.

وعلى الثاني فنقول: بناءً عليه يكون جميع معاني المشترك أيضًا مفهومًا منه، إلّا أنّه على سبيل البدليّة، فإنّا نعلم أنّ مراد المستعمل واحد من تلك المعاني، لكن لا نعلم تعيينه، ففي الصورتين معاني المشترك متبادرة، لكن في الأوّل على الاجتماع، وفي الثاني على البدليّة(1).

وربّما قيل في دفع هذا الجواب:

بأنّ مثل هذا التبادر لا ينفع؛ لأنّ التبادر الّذي يكون أمارة للحقيقة هو الّذي يصير المعنى به متعيّنًا عند السامع(2).

ص: 237


1- ذكر الاعتراض الآمديّ في الإحكام: 2/ 243؛ والإيجيّ في شرح مختصر المنتهى: 1/ 533، وينظر أيضًا: البحر المحيط: 1/ 584، وغاية الوصول: 1/ 160، ومفاتيح الأصول: 69.
2- لم نعثر عليه.

وفيه نظر؛ لأنّ المقصود من تقرير هذه العلامات إنّما هو تشخيص المعاني الحقيقيّة والمجازيّة، فحينئذٍ نقول: إن أريد بتعيّن المعنى عند السامع بحيث يمتاز(1) المعاني المتبادرة عن غيرها، فهو مسلّم، لكنّه في المقام متحقّق، وإن أريد بتعيّنه تعيّنه بحيث يعلم المراد، فهو ممنوع، وكيف؟! مع أنّ ذلك قد يتّفق مع العلم بالوضع إمّا(2) من طريق العلامة، بل من نصّ الواضع، كما إذا كان الموضوع له متعدّدًا.

فالحقّ أن يقال في دفع هذا الجواب -بعد تسليم التبادر على ما ذكر- بأنّه لا شبهة أنّ الافتقار إلى التبادر وغيره من الأمارات المقرّرة لتشخيص المعاني الحقيقيّة والمجازيّة إنّما هو بالنسبة إلى من لم يكن عالمًا بأوضاع الألفاظ، وأمّا العارف بها فلا يحتاج إليها كما لا يخفى(3).

فعلى هذا نقول: الجواب المذكور انّما هو جواب بالنسبة إلى العالم بوضع المشترك؛ لوضوح أنّ فهم المعاني -سواء كان على الاجتماع أو البدليّة- إنّما يتحقّق بالنسبة إلى العالم بوضع المشترك، وأمّا بالنسبة إلى الجاهل فلا، كما لا يخفى، مع أنّك قد عرفت أنّ الافتقار إلى العلامة إنّما هو بالنسبة إليه.

لا يقال: إنّ تبادر المعاني وإن كان بالنسبة إلى العالم بالوضع، لكن اطّلاع الجاهل على ذلك كافٍ في إثبات المرام.

لأنّا نقول: إنّ التبادر على النهج المذكور في اللفظ المشترك إنّما هو في ذهن العالم بالوضع، ولا يظهر منه أثر في الخارج حتّى ينفع حال الجاهل.

ص: 238


1- كذا في الأصل، والصواب: تمتاز.
2- كذا في الأصل.
3- ينظر قوانين الأصول: 1/ 57.

ثمّ وإن كان الظاهر من هذا الكلام ضعف أصل الإيراد وعدم وقعه في المقام؛ لوضوح أنّ التردّد في معاني المشترك عند الاستعمال وعدم استباق شيء منها إلى الذهن على تقدير التسليم إنّما هو بالنسبة إلى العالم بالوضع، ولا يتصوّر في حقّ الجاهل.

فحينئذٍ نقول: إنّ عدم التبادر مثلًا مع العلم بالوضع غير مضرّ، ومناقشة لزوم المجازيّة حينئذٍ مجازفة؛ والجواب المذكور وإن كان صالحًا لدفع هذا الإيراد، لكن لمّا كان الإيراد على التقرير المذكور ظاهر الفساد ويمكن أن يقرّر بما نقرّره، لم نحكم(1) بضعفه بالمرّة.

تقرير الإيراد على النحو الصحيح

فالحقّ أن يقرّر الاعتراض بنحو آخر، وهو أن يقال: مقتضى جعل التبادر أمارة للحقيقة وعدمه أمارة للمجاز، هو أنّ الجاهل باصطلاح قوم بعد التتبّع في محاوراتهم والتصفّح في مخاطباتهم، كلّما ظهر عليه أنّهم يفهمون المعنى المعلوم من اللفظ المخصوص عند التجرّد عن القرينة ويستبق إلى أذهانهم ذلك في تلك الحالة، يحكم بأنّه معنى حقيقيّ له عندهم.

وكلّما يظهر عليه عدم الفهم والاستباق بأن توقّف في نظره الفهم وحمل اللفظ عليه عندهم على القرينة، يحكم بأنّه معنى مجازيّ، فعلى هذا يلزمه الحكم بمجازيّة المشترك عند استعماله في معناه الموضوع له؛ لأنّ الحمل عليه لا يمكن إلّا مع القرينة، فيتخيّل أنّ فهم المعنى عندهم موقوف عليها، فيكون ذلك المعنى غير

ص: 239


1- في «ق»: لم يحكم.

متبادر عندهم في نظره.

هذا بالنسبة إلى علامة المجاز، وأمّا بالنسبة إلى أمارة الحقيقة فنقول: إنّ معنى المشترك وإن كان متبادرًا عند العالمين بالوضع، لكنّه لا ينفع حال الجاهل؛ لأنّ توصّله إلى فهم أرباب الاصطلاح إنّما هو بحمل اللفظ على المعنى، وحيث لم يمكن(1) ذلك في المشترك لم يظهر عليه ذلك، فلا يظهر عليه التبادر مع أنّه معنى حقيقيّ.

والجواب عن الثاني وإن أمكن بما تقدّم من عدم اشتراط الانعكاس في العلامة، لكنّ الإيراد بالنسبة إلى أمارة المجاز غير مندفع، إلّا بأن يقال: إنّ أمارته تبادر الغير، إذ حينئذٍ يكون الحكم بالمجازيّة متوقّفًا على ذلك، وهو مفقود فيما نحن فيه لما عرفت، فلا يمكنه الحكم بالمجازيّة.

إن قيل: إنّ هذا إنّما هو إذا اعتبر استعمال المشترك في معناه الحقيقيّ، لكن يتوجّه النقض فيما إذا استعمل في المعنى المجازيّ مع القرينة، إذ لم يظهر للجاهل إنّه من المعاني الّتي يتبادر غيرها من اللفظ حتّى يحكم أنّه معنى مجازيّ له، إذ عند تجرّده عن القرينة لا يحمل على شيء، فلا يظهر له تبادر غيره، فيحكم أنّه معنى حقيقيّ له؛ لفقدان أمارة المجاز، مع أنّه معنى مجازيّ في نفس الأمر.

قلنا: هذا أيضًا مدفوع بما تقدّم من عدم اشتراط الانعكاس.

توضيحه: إنّ اللفظ المشترك إنّما يلزم أن يكون حقيقة إذا ظهر تبادر المعنى منه، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك.

ص: 240


1- في «ق»: لم يكن.

غاية ما هناك: أنّه معنى مجازيّ له، مع أنّ غيره غير متبادر منه، وهذا إنّما يضرّ إذا شرطنا الانعكاس في العلامة وقد عرفت عدمه.

والحاصل أنّا نقول: إنّ تبادر الغير أمارة للمجاز، بمعنى أنّ كلّما تحقّق ذلك يلزم أن يكون معنى مجازيًّا، لا أنّ ما لم يتحقّق فيه ذلك يلزم أن لا يكون(1) معنى مجازيًّا، فاللازم ممّا ذكر أنّ الوجود مستلزم للوجود، لكنّ العدم غير مستلزم للعدم، والنقض إنّما يتوجّه إذا قارن الوجود العدم، أي تحقّق تبادر الغير ولم يكن مجازًا، وليس الأمر في المقام كذلك، بل المتحقّق فيه مقارنة العدم للوجود، وهو غير مضرّ لما عرفت.

وغاية ما في الباب: أنّه لا يمكن للجاهل تشخيص المعاني الحقيقيّة والمجازيّة في الألفاظ المشتركة بالرجوع إلى تبادر المعنى وتبادر غيره، وهو ممّا لا ينكره ولا ممّا يستنكر بعد ما عرفت من لزوم الاطّراد في العلامة دون الانعكاس.

وبمثله يجاب في اللفظ المشتهر في المعنى المجازيّ، بحيث لو ورد مجرّدًا عن القرينة يبقى السامع متردّدًا في حمله على المعنى المجازيّ والحقيقيّ، ولا يمكن فيه أيضًا تشخيص المعاني الحقيقيّة والمجازيّة للجاهل بالتبادر وتبادر غيره، وقد عرفت أنّه غير ضائر.

نعم، ربما يتّفق أنّ اللفظ المشترك يشتهر في بعض معانيه بكثرة الاستعمال، فإذا استعمل في غير(2) المعنى المشتهر من معانيه يكون حقيقة، مع أنّه يلزم أن يكون مجازًا فيه؛ لأنّ غير ذلك المعنى متبادر منه، فيلزم عدم الاطّراد في العلامة.

ص: 241


1- في «ق»: أن يكون.
2- في «ق»: الغير.

ويمكن الجواب عنه بأنّ اشتهار المشترك لو بلغ إلى هذا الحدّ - أي بحيث لو استعمل في غير المعنى المشتهر، يكون ذلك المعنى المشتهر متبادرًا منه - لا نسلّم بقاءه على وصف الاشتراك بالنسبة إلى المعنى المشتهر وغيره، بل نقول: إنّه حينئذٍ من باب المنقولات التعيّنيّة، فيكون منقولًا من الاشتراك إلى الانفراد، والاشتراك بحسب أصل الوضع(1) غير نافع.

وممّا ذكر ظهر الجواب عمّا لو فرض اشتهار المشترك في المعنى المجازيّ.

وقد تحصل بما تقرّر: أنّ علامة الحقيقة(2): تبادر المعنى، لا عدم تبادر الغير، وعلامة المجاز: التبادر إلى الغير، لا عدم التبادر.

الإيراد الثاني على التبادر مع الجواب عنه
اشارة

والإيراد الثاني: هو أنّ جعل التبادر دليلًا على الحقيقة فاسد؛ لابتنائه على مذهب فاسد، وهو القول بأنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة.

أمّا الصغرى، فلأنّ مقتضى ذلك(3) أنّه إذا كان المعنى الحقيقيّ للّفظ غير معلوم وتحقّق فهم المعنى منه عند تجرّده عن القرينة، يعلم من ذلك أنّه معنى حقيقيّ له، وهو على القول بأنّ دلالة الألفاظ وضعيّة ممّا لا يتعقّل؛ لأنّه حينئذٍ يكون من

ص: 242


1- في «ق»: بحسب الأصل والوضع.
2- جاء في حاشية الأصل: بأن يقال: إنّ اللفظ المذكور إذا لوحظ مع معناه الحقيقيّ، يصدق عليه أنّ غيره متبادر منه، فيلزم أن يكون مجازًا مع أنّه معنى حقيقيّ له، أو يقال: إنّ اللفظ في هذا المعنى المشتهر مجاز مع تحقّق علامة الحقيقة، والجواب ظاهر ممّا ذكرناه، فلا حاجة إلى الذكر. منه.
3- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي جعل التبادر علامة للحقيقة.

الأمور التوقيفيّة، والتوصّل إلى الأمور التوقيفيّة من غير إعلام غير ممكن، فكيف يمكن حمل اللفظ على معنى دون غيره مع عدم العلم بالتعيين؟! ولهذا يقال: إنّ العلم بالوضع عن شرط في الدلالة، ومعلوم أنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه.

فعلى هذا نقول: إنّ جعل التبادر -بناءً على القول بوضعيّة الدلالة- دليلًا على الحقيقة يستلزم الدور؛ لأنّ المراد من المعنى الحقيقيّ هو الموضوع له، وفهم الموضوع له من اللفظ موقوف على العلم بوضعه له لما عرفت؛ ومقتضى جعل التبادر دليلًا على الحقيقة أنّ العلم بوضعه له موقوف على فهم الموضوع له منه، فيكون فهم المعنى متوقّفًا على فهم المعنى(1).

وأمّا الكبرى -أي فساد ما يتوقّف على الفاسد- فظاهرة.

الجواب عن الإيراد الثاني
اشارة

والجواب عنه من وجهين:

الجواب الأوّل

الأوّل: أنّ ذلك ليس مبنيًّا على القول المذكور، وتوهّم الدور مبنيٌّ على الخلط بين الجهات والحيثيّات.

وإن أردت حقيقة الحال فاعلم: أنّك قد عرفت سابقًا أنّ هذه العلامات إنّما هي بالنسبة إلى الجاهل بالوضع؛ لوضوح عدم افتقار العالم به إلى شيء منها، فحينئذٍ نقول: مقتضى قولنا: التبادر دليل على الحقيقة، أنّ الجاهل بأيّ اصطلاح

ص: 243


1- ينظر مفاتيح الأصول: 68.

كان إذا تتبّع محاورات أربابه وتفحّص مخاطباتهم ونظر إلى موارد استعمالاتهم، يمكن أن يظهر له بالترديد بالقرائن والإشارة أنّ اللفظ المعلوم عند استعماله يريدون منه المعنى المعلوم، ويستبق إلى أذهانهم ذلك، ويحملونه عليه عند الإطلاق، وبذلك يحكم أنّ اللفظ المذكور وضع لذلك المعنى عندهم.

فحينئذٍ نقول: إنّ علم الجاهل بكونه من الموضوع له متوقّف على فهم أهل الاصطلاح المعنى المذكور منه، فلو كان فهمهم ذلك متوقّفًا على علمه بالموضوع له، كان الدور مسلّمًا؛ لكنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ فهمهم المعنى منه إنّما يتوقّف على علمهم بالوضع.

وغاية ما يلزم من ذلك أنّ علم الجاهل بالوضع متوقّف على فهم أهل الاصطلاح ذلك المعنى منه، وفهمهم إيّاه موقوف على علمهم بالوضع، فينتج: أنّ علم الجاهل بالوضع متوقّف على علم أهل الاصطلاح به، وهو مسلّم وليس بدور أصلًا؛ لاختلاف الجهة.

الجواب الثاني

والثاني: ما أفاده بعض الأماجد(1)، حاصله: أنّ وضع اللفظ إمّا أن يكون بتعيينه بإزاء المعنى، أو بتحقّق الغلبة والاشتهار، وعلى الأوّل لا يخلو إمّا أن يكون فهم المعنى من اللفظ بعد اشتهاره فيه، أو قبله، وتوقّف الفهم على العلم بالوضع إنّما هو في القسم الثالث فقط، دون الأوّلين، بل سبب الفهم فيهما نفس الغلبة والاشتهار، فدعوى توقّف فهم المعنى على العلم بالوضع في الدلالة الوضعيّة

ص: 244


1- هو السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول: 68.

مطلقًا ممنوعة، فحينئذٍ نقول: إنّ التمسّك بالتبادر لإثبات المعاني الحقيقيّة فيما إذا كان الفهم حاصلًا مع عدم العلم بالوضع، فالدور مدفوع.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ الغلبة والكثرة في المنقولات التعيّنيّة بمنزلة الواضع، وتعيّن اللفظ بإزاء ذلك المعنى وضع له؛ وحينئذٍ نقول: إنّ السامع إمّا أن يكون عالمًا بذلك التعيّن، أو لا، وعلى الأوّل نقول: إنّ انصراف ذهنه إلى ذلك المعنى عند إطلاقه وإن كان مسلّمًا، لكنّه لأجل العلم بالتعيّن، وهو العلم بالوضع، وعلى الثاني نمنع الانصراف المذكور، بل الظاهر انصراف ذهنه إلى المعنى المنقول منه، فيكون فهم ذلك المعنى منه متوقّفًا على العلم بالوضع، وهو المطلوب.

وأمّا الألفاظ الموضوعة بالتعيين فنقول: إنّ السامع إمّا أن يكون عالمًا بالوضع، أم لا، وعلى الأوّل نقول: إنّ فهم المعنى إنّما هو باعتبار العلم بذلك الوضع، ولهذا لا مدخليّة للكثرة في أصل الفهم لحصوله ولو عند عدم العلم بها، وعلى الثاني نقول: إنّه وإن لم يعلم بتعيينه له، لكنّه نظرًا إلى علمه بالكثرة يكون عالمًا بتعيّنه له، فيكون اللفظ عنده من قبيل المنقولات التعيّنيّة، فلم يتحقّق الفهم عند عدم العلم بالوضع.

إن قيل: إنّ الاشتهار يقتضي تبادر المعنى وفهمه من اللفظ المجرّد قطعًا؛ لحصول المؤانسة الموجبة للتفاهم، والتفاهم للاشتهار لا يقتضي العلم بالاشتهار، فضلًا عن العلم بالوضع.

قلنا: إن أريد أنّ التفاهم للاشتهار لا يقتضي العلم بالاشتهار أنّه لا يقتضي العلم به تفصيلًا، فهو مسلّم، لكنّه غير مجد؛ وإن أراد العلم به إجمالًا، فهو ممنوع، بل نقول: إنّ فهمه منه إنّما هو لارتكاز الكثرة والشهرة في خزانة الخيال، ولهذا لا يحصل عند من لم يكن مطّلعًا بذلك الاشتهار، بل المتبادر عنده المعنى المنقول منه كما لا يخفى.

ص: 245

نعم، يمكن منع التوقّف المذكور بأن يقال: إنّ فهم المعنى لو كان متوقّفًا على العلم بالوضع، لزم أن لا يحصل عند عدمه، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، أمّا الملازمة فبيّنة، وأمّا بطلان التالي فلأنّ العوامّ يفهمون المعاني من الألفاظ المستعملة فيما بينهم مع عدم علمهم بالوضع ومعناه.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ المراد بعدم علمهم بالوضع إمّا أن يكون عدمه بعنوان أنّه وضع لذلك المعنى، فهو مسلّم؛ لوضوح أنّ كثيرًا ما لم يقرع سمعه لفظ «الوضع» أصلًا، وإن أريد به عدم علمهم به مطلقًا، سواء كان بذلك العنوان، أو بما يؤدّي معناه، فهو ممنوع؛ لوضوح علم كلّ أحد من أهل أيّ اصطلاح كان أنّ اللفظ المعلوم يراد منه المعنى المعلوم في ذلك الاصطلاح، فهو عالم بالوضع، لكنّه ليس بعنوان أنّه وضع لذلك.

إن قيل: دعوى التوقّف المذكور ممنوعة؛ لوضوح حصول الفهم بالترديد بالقرائن مع عدم العلم بالوضع.

قلنا: هذا مسلّم، لكن ليس المراد أنّ فهم المعنى مطلقًا موقوفٌ على العلم بالوضع، ولا يمكن حصوله من غيره حتّى ينتقض بما ذكر، بل المراد أنّ استفادة المعاني من الألفاظ المجرّدة عن القرائن موقوفةٌ على ذلك، واستفادة المعاني من الألفاظ بمعونة القرائن خارجة عنه، وهو ظاهر.

الإيراد الثالث على التبادر مع الجواب عنه
اشارة

والإيراد الثالث: هو أنّ الحكم بكون التبادر من علامة الحقيقة غير صحيح؛ لتحقّقه في المجاز المشهور مع عدم كونه حقيقة، فالجاهل باصطلاح قوم إذا تتبّع محاوراتهم وظهر له استباق معنى معيّن من لفظ معيّن عندهم، لا يمكن له الحكم

ص: 246

بكونه حقيقة فيه؛ لجواز كون ذلك السبق من السبق الّذي في المجاز المشهور، فالتبادر كما يوجد في المعنى الحقيقيّ يوجد في المعنى المجازيّ، والعامّ لا دلالة له على الخاصّ المعيّن.

أجيب عن ذلك: بأنّ التبادر الّذي نقول أنّه من علامة الحقيقة، إنّما هو إذا كان من نفس اللفظ، لا بواسطة غيره، والّذي في المجاز المشهور ليس كذلك، بل التبادر فيه إنّما هو لأجل ملاحظة الشهرة(1).

توضيحه: هو أنّك قد عرفت أنّ التبادر هو فهم المعنى من اللفظ من غير قرينة، والأمر في المجاز المشهور لم يكن كذلك؛ لأنّه بواسطة القرينة، وهي الشهرة، فالمجاز المشهور مع غيره من المجازات مشترك في الافتقار إلى القرينة، إلّا أنّ القرينة فيه الشهرة وفي غيره غيرها.

إن قلت: ما الفرق بين المنقولات التعيّنيّة والمجاز المشهور، حيث يكون اللفظ في الأوّل حقيقة وفي الثاني مجازًا، مع اشتراكهما في الكثرة والاشتهار وتبادر المعنى؟

قلنا: الفرق بينهما هو(2) الافتقار في فهم المعنى إلى ملاحظة الشهرة وعدمه، فإن افتقر إلى اعتبارها والالتفات إليها يكون مجازًا مشهورًا، وإلّا فمنقول، فحاصل الفرق بينهما أنّ اللفظ في الكثرة والشهرة لو بلغ حدًّا لا يحتاج معه في فهم المعنى إلى الالتفات إلى الشهرة يكون حقيقة، وإن افتقر في الفهم إلى الالتفات إليها يكون مجازًا.

ص: 247


1- ينظر قوانين الأصول: 1/ 58- 59، ومفاتيح الأصول: 68.
2- «هو» لم ترد في «ق».

وفي هذا الجواب عن أصل الإيراد نظر؛ لأنّك قد عرفت أنّ الافتقار إلى العلامات المقرّرة لتشخيص المعاني الحقيقيّة والمجازيّة إنّما هو للجاهل بأوضاع الألفاظ، والجواب المذكور بظاهره جواب بالنسبة إلى العالم بها؛ لأنّ(1) العلم بكون التبادر من الشهرة إنّما يتصوّر إذا كان عالمًا بأنّ ذلك المعنى من المعاني المجازيّة، ثمّ اشتهر اللفظ فيه؛ وأمّا الجاهل بالاصطلاح فلا؛ لوضوح أنّه إذا تفحّص مخاطبات أربابه وظهر له استباق معنى معلوم من لفظ معلوم عندهم، لا يمكنه الحكم بكون اللفظ حقيقة فيه لما تقدّم، فالإشكال باقٍ على حاله.

الجواب عن الإيراد الثالث
اشارة

فإتمام الجواب مع تحقيق(2) المقام يقتضي البسط في الكلام، فأقول: إنّ الجاهل باصطلاح قوم إذا تتبّع محاوراتهم لتحصيل العلم بأوضاع ألفاظهم، وتصفّح مخاطباتهم لرفض الجهل عن حقائق كلماتهم، ظهر له أنّ معنًى معيّنًا يتبادر من لفظ معيّن عندهم، فحاله لا يخلو من وجوه:

المواضع الّتي يتمسّك فيها بالتبادر لإثبات الحقيقة وما لا يتمسّك به فيه
الوجه الأوّل

الأوّل: أن يكون عالمًا بأنّ ذلك التبادر من نفس اللفظ وحاقّ حقيقته، لا بواسطة أمر آخر من شهرة أو غيرها.

ص: 248


1- «لأنّ» لم ترد في «ق».
2- في «ج»: تحقّق.

وهو وإن كان ممكنًا، لكنّه نادر جدًّا، أمّا ندرته فظاهرة؛ لأنّ المفروض أنّه جاهل باصطلاحهم، فيحتمل غالبًا أن يكون التبادر لأجل الغلبة والشهرة، لا لأجل الوضع والحقيقة، ومع الاحتمال(1) دعوى العلم باستناده إلى نفس اللفظ سفسطة.

وأمّا إمكانه فلأنّه إذا تتبّع موارد استعمال ذلك اللفظ عند قاطبة أهل ذلك الاصطلاح حتّى بين المجانين والبلهاء والصبيان والسفهاء، وظهر له التبادر، يحصل له العلم بأنّه ليس من الأمور الخارجيّة؛ لبعد اشتهاره عند الكلّ في المعنى المجازيّ؛ والاستبعاد وإن كان موجبًا للظنّ غالبًا، لكنّ الأمور الحدسيّة باختلاف الأشخاص والمواضع مختلفة اللفظ، على أنّ اشتهار اللفظ في المعنى المجازيّ عند الكلّ يجعله حقيقة فيه قطعًا، فمثل هذا التبادر فيما ثبت لا شبهة في دلالته على الحقيقة.

والجواب المذكور على الإيراد يحمل على ذلك، فهو وإن كان صحيحًا في نفسه، لكنّه لا يشفي العليل ولا يطفى ظمأ الغليل، بل به يرتفع عن مثل هذه العلامة التعويل، إذ التبادر على هذا قلّما يصلح للتمسّك جدًّا، ولا ينفع في إثبات الحقيقة إلّا نذرًا، مع أنّا نرى العلماء أنّ اهتمامهم في إثبات هذه العلامة كثير، وتمسّكهم بها في إثبات الحقيقة أكثر من أن تحصى، ونقطع في كثير منها بعدم جريان الجواب المذكور فيه، فالحقّ أن ينضمّ إليه ما يظهر لك فيما سنذكره.

الوجه الثاني

الثاني: أن يكون ظانًّا بأنّ تبادر المعنى المفهوم من اللفظ المعلوم ناشٍ من حاقّ اللفظ، لا بواسطة أمر خارج.

ص: 249


1- في «ق»: احتمال.

وهذا الفرض وإن كان قليلًا أيضًا، لكنّه ليس في القلّة كالصورة المتقدّمة، بل هو بالنسبة إليها يمكن أن يندرج تحت الكثرة، فهو أكثر منها من حيث المنفعة وأعظم فائدة في إزالة الإشكال عن كلمات الأجلّة، ومثل هذا التبادر فيما ثبت فيه يدلّ على الحقيقة لما سيجيء إليه الإشارة.

الوجه الثالث

الثالث: عكس الأوّل، أي يكون عالمًا بأنّ التبادر إنّما هو لأجل الغلبة والشهرة، لا لأجل الوضع والأصالة، كما إذا اشتهر لفظ في معنى كان(1) فهمه منه قبل الاشتهار متوقّفًا على إقامة القرينة بحيث كان محمولًا على غيره عند تجرّده عنها.

والجملة: حصول العلم بكون التبادر للشهرة لا الوضع(2) ليس معدودًا في المحال، بل هو في حيّز الإمكان، كما إذا تتبّع الجاهل باصطلاح طائفة مخاطباتهم وظهر له أنّهم يفهمون من لفظ معهود معنًى معهودًا عند تجرّده عن القرينة ومعنًى معهودًا عند اقترانه بها، بحيث كان فهمه منه متوقّفًا عليها، ثمّ كثر استعماله في المعنى الثاني إلى أن يتبادر منه ذلك حال الاستعمال.

ولا شكّ في حصول العلم بكون هذا التبادر في الفرض المذكور لأجل الشهرة والغلبة، وهذا على قسمين: قسم هو أن يكون فهم المعنى من اللفظ متوقّفًا على ملاحظة الشهرة والالتفات إليها، والآخر أن لا يكون كذلك، بل اللفظ في الغلبة والكثرة بلغ حدًّا لا يفتقر في فهم المعنى منه إلى اعتبار الشهرة والالتفات إليها،

ص: 250


1- في «ق»: كما.
2- في «ق»: للوضع.

وهذا أمر وجدانيّ يجده العاقل بالرجوع إلى وجدانه.

والقسم الأوّل غير صالح للدلالة على الحقيقة؛ لكونه معلولًا للغلبة والشهرة، والتبادر الّذي يتمسّك به لإثبات الحقائق هو ما كان معلولًا للوضع، بخلاف القسم الثاني، فإنّه لا يمكن إلّا بتحقّق الوضع الثانويّ.

إن قلت: إنّ الامتياز بين القسمين لمّا كان متوقّفًا على أمر ذهنيّ، وهو الالتفات إلى الشهرة وعدمه، فلا يمكن حصوله للجاهل، فيحصل له الخبط بين القسمين، ومنه يظهر عدم جواز التمسّك بأصل التبادر لإثبات الحقيقة، إذ الامتياز بين ما هو من علامة الحقيقة وغيرها غير ممكن للجاهل.

قلت: الجاهل فيما نحن فيه حاله كحال واحد من أهل الاصطلاح وإن كان جاهلًا بالنسبة إلى غيره؛ وكما يميّزون بين القسمين بملاحظة الشهرة وعدمها، فكذا هو.

نعم، يتوجّه: إنّه بناءً على ما ذكر أنّ الجاهل إذا ظهر له تبادر المعنى في اصطلاح لا يمكنه الاستناد به إلى الحقيقة وإن كان في غير هذه الصورة، لاحتمال أن يكون التبادر من الّذي لا يكون دليلًا على الحقيقة، لكن هذا هو عين الإيراد الّذي كلامنا فيه، وقد عرفت بما ذكرناه في الأوّل والثاني جوابه، وستقف على زيادة إيضاح لذلك.

الوجه الرابع

الرابع: عكس الثاني، أي يكون ظانًّا بعدم كون التبادر لأجل الوضع، بل للشهرة والغلبة، كما إذا تتبّع محاورات أهل اصطلاح ظهر له أنّ أكثرهم حتّى الأطفال والبلهاء والمجانين والسفهاء يستبق إلى أذهانهم بمجرّد استماع لفظ

ص: 251

معلوم معنى معيّن، ولا شكّ أنّه يحصل له من ذلك الظنُّ الغالب بأنّ ذلك اللفظ موضوع عندهم لذلك المعنى.

ثمّ لمّا تتبّع محاورات جملة من خواصّ ذلك الاصطلاح، ظهر له أنّه عند استماع ذلك اللفظ يتبادر إلى أذهانهم غير ذلك المعنى؛ وحينئذٍ مع ملاحظة ما ظهر له أوّلًا، يحصل له الظنّ بأنّ سبق هذا المعنى من اللفظ ليس لأجل الوضع، إذ لو كان ذلك لأجل الوضع أيضًا لزم الاشتراك المرجوح واشتهار اللفظ المشترك عند الأطفال والسفهاء والمجانين والبلهاء في أحد معنييه، ولا شبهة في مرجوحيّته بالنسبة إلى اشتهار اللفظ في المعنى المجازيّ عند جملة من الخواصّ من أهل ذلك الاصطلاح.

وأيضًا لو كان مشتركًا، يلزم اشتهاره عند كلّ طائفة في معنى مغاير للمعنى المشتهر عند الأخرى، فيلزم مخالفة الأصل من وجهين، بخلاف اشتهار اللفظ في المعنى المجازيّ عند طائفة، فإنّه استلزم مخالفة الأصل من وجه واحد، ولا ريب أنّ ما استلزم مخالفة الأصل من وجه واحد أولى ممّا استلزمها من وجهين.

وكما علم أنّ لفظًا معلومًا عند أهل اصطلاح مخصوص حقيقة في معنى معيّن، ثمّ لمّا تتبّع محاورات جملة منهم، ظهر له أنّه يستبق إلى أذهانهم غير ذلك المعنى، والظاهر أنّه يحصل له الظنّ بأنّ هذا الاستباق والتبادر ليس منشؤه الوضع، بل الغلبة والكثرة، لعين ما ذكر.

والفرق بين الصورتين يظهر للمتأمّل ولا يحتاج إلى الذكر، والكلام في دلالة هذا التبادر على الحقيقة وعدمها كالكلام في القسم الثالث.

الوجه الخامس

والخامس: أن لا يكون عالمًا ولا ظانًّا بأنّ منشأ التبادر الوضع، أو الغلبة

ص: 252

والشهرة؛ وهذا هو الغالب الشايع؛ لوضوح أنّ كلًّا من الأقسام المذكورة يفتقر إلى تتبّع في المحاورات في مدّة طويلة، بخلاف هذا القسم، فإنّه يمكن أن يتحقّق في أوّل الأمر وبادي النظر.

ويمكن اندراج هذا القسم تحت القسم الثاني بأن يكون المظنون أنّ تبادره لأجل الوضع؛ لأنّه لو كان التبادر في المعنى المجازيّ يلزم استعماله في المعنى المجازيّ واشتهاره فيه، وهما حادثان مدفوعان بالأصل، بناءً على أنّ عدم كلّ حادث بالنسبة إلى وجوده متيقّن، فثبت أنّ المظنون أنّ التبادر فيه لأجل الوضع.

التبادر المظنونيّ هل يمكن الاستدلال به على الحقيقة أم لا؟

بقي الكلام في أنّ التبادر المظنونيّ هل يمكن الاستدلال به على الحقيقة، أم لا؟

تحقيقه موقوف على حجّيّة الظنّ في اللغات، والحقّ ذلك، وسيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى، فعلم ممّا ذكر المواضع الّتي يتمسّك فيها بالتبادر لإثبات الحقيقة وما لا يتمسّك به فيه، فتأمّل.

إن قلت: إنّ حجّيّة الظنّ سواء كانت في المسائل اللغويّة، أو الأصوليّة، أو الفرعيّة، موقوفةٌ على انسداد باب العلم، وهو فيما نحن فيه غير مسلّم؛ لأنّه كما أنّ الجاهل بالاصطلاح يمكن له التتبّع في محاورات أرباب الاصطلاح، يمكن له الاستفسار منهم في أوضاع ألفاظهم، ومع إخبارهم إيّاه يحصل له العلم بالمعاني الحقيقيّة، فالعمل بالظنّ مع التمكّن من العلم لا وجه له.

قلت: تتبّع مواقع استعمالات ألفاظ أهل اصطلاح(1) لا يستلزم تلاقيهم، وعلى

ص: 253


1- في «ق»: الاصطلاح.

فرض تسليمه نقول: لا شبهة في أنّ المعتبر في إثبات حقائق الألفاظ ومجازاتها إنّما هو فهم العوامّ، ومعلوم أنّهم لا يفهمون معنى الوضع والواضع، فضلًا عن الحقيقة والمجاز، فالاستعلام منهم لا ينفع.

وبالجملة: كون الشخص من أهل الاصطلاح لا يستلزم علمه بحقائق ألفاظهم ومجازاتههم(1)، وغاية ما يكون معلومًا له هو أنّ في اصطلاحهم ألفاظٌ يستعملونها في محاوراتهم ومخاطباتهم ويفهمون منها المعاني المعيّنة؛ وأمّا العلم باتّصافها بوصف الحقيقة أو المجاز فلا، فاستنباط(2) الحقيقة والمجاز لا يمكن للجاهل إلّا بالتتبّع في محاوراتهم بعد الاطّلاع بخواصّ كلّ منهما، ومتى ظهر له تحقّقُ شيء منها بعد التتبّع عَمِل بمقتضاه.

ومعلوم أنّه قد يحصل العلم بتحقّق الخواصّ وقد يحصل الظنّ؛ على أنّا لا ندّعي امتناع العلم بالاستعلام، بل نوجبه فيما ينفع، بل المراد جواز العمل بالظنّ فيما لم يمكن فيه تحصيل العلم مطلقًا، أو من غير عسر وحرج.

لا يقال: إنّ أرباب كلّ اصطلاح لا شبهة في أنّ بينهم علماء وفضلاء، وهم يميّزون بين الحقيقة والمجاز، فلا بدّ من الاستعلام منهم حتّى يحصل العلم، فالعمل بالظنّ غير جائز.

لأنّا نقول: إنّ علماء ذلك الاصطلاح مثلُ الجاهل في عدم إدراكهم الواضع، وإنّ تشخيصهم المعاني الحقيقيّة والمجازيّة إنّما هو بخواصّ كلّ منهما، ولذا قد يحصل بين علماء اصطلاح واحد اختلاف في التشخيص، فبعض يدّعي حقيقيّة

ص: 254


1- في «ق»: مجازاتهم.
2- في «ق»: واستنباط.

اللفظ في معنى والآخر مجازيّته فيه، كما هو الظاهر للمتتبّع الخبير بأحوال العلماء؛ والسرّ في ذلك الرجوع إلى الأمارات، فيظهر عند كلّ خلاف ما يظهر عند الآخر.

وعلى فرض تسليم أنّ علمهم بالحقائق والمجازات بالاستعلام من الواضع أو غيره، فلا شبهة في عدم استلزام قولهم القطع، فقد يحصل الظنّ أيضًا، بل الغالب ذلك، فآل الأمر إلى العمل بالمظنّة في أمثال المقام، وهو يكفينا لإثبات المرام، فاتّضح الأمر بمعونة الملك العلّام، وارتفع الإشكال عن مقالة الأعلام بالتمام.

الإيراد الرابع على التبادر مع الجواب عنه
اشارة

والإيراد الرابع: هو أنّ التبادر لو كان دليلًا على الحقيقة، لزم أن تكون الألفاظ الموضوعة للمعاني المركّبة والملزومة حقيقةً في الأجزاء واللوازم العقليّة والعرفيّة؛ لوضوح تبادر كلّ من الخلّ والأنكبين عند استماع لفظ «السكنجبين» مثلًا، والزوجيّة والفرديّة والجود عند استماع لفظ «الأربعة» و«الثلاثة» و«الحاتم»، وهكذا؛ وبطلان التالي ظاهر؛ لوضوح أنّها حقائق في المعاني المركّبة والملزومة(1).

الجواب عن الإيراد الرابع
اشارة

والجواب عنه من وجهين:

الجواب الأوّل

الأوّل: هو أنّك قد عرفت مرارًا أنّ الافتقار للرجوع إلى هذه العلامات إنّما هو للجاهل، والتبادر أمر ذهنيّ بالنسبة إلى العالمين بالوضع، ولا يمكن للجاهل

ص: 255


1- ينظر مفاتيح الأصول: 68.

الاطّلاع عليه إلّا بظهور أثر منه في الخارج، وهو حمل اللفظ على المعنى المتبادر، ولا شبهة في انحصاره عند التجرّد في الكلّ والملزوم، فيلزمه الحكم بكونه حقيقة فيهما، لا في الجزء واللازم؛ لعدم ظهور أثر في الخارج بالنسبة إليهما، ليطّلع الجاهل على التبادر.

والحاصل: إن أريد التبادر بالنسبة إلى العالمين بالوضع، فهو مسلّم، لكنّ العلامة ليست علامة بالنسبة إليهم، وإن أريد بالنسبة إلى الجاهل على المعنى الّذي عرفته، فهو ممنوع لما عرفت.

إن قيل: إنّ اطّلاع الجاهل على التبادر بالنسبة إلى الكلّ والملزوم كافٍ؛ لأنّ العلم بالكلّ والملزوم يستلزم العلم بالجزء واللازم، فيلزم تبادرهما بالنسبة إلى الجاهل أيضًا.

قلنا: الجاهل حينئذٍ يكون من العالمين بالوضع؛ لأنّ بتبادر(1) الكلّ بالنسبة إلى أهل الاصطلاح حصل له العلم بالوضع، وقد عرفت أنّ العلامة بالنسبة إلى الجاهل.

وأيضًا لا نسلّم استلزام العلم بالكلّ العلم بالجزء مطلقًا، بل القدر المسلّم أنّ العلم التفصيليّ بالكلّ على أنّه كلّ يستلزم العلم بالجزء، ويمكن أن يكون اطّلاع الجاهل على كون الكلّ متبادرًا بالترديد بالقرائن والإشارة، بل الغالب ذلك.

ولا يخفى أنّ هذا الجواب متين بالنسبة إلى الكلّ والجزء، وأمّا بالنسبة إلى اللازم والملزوم فلا؛ لأنّ تعقّل الملزوم يستلزم تعقّل اللازم، إلّا بالنسبة إلى اللازم العرفيّ فصحيح أيضًا.

ص: 256


1- في «ق»: تبادر.
الجواب الثاني

والثاني: هو أنّ التبادر الّذي نقول: إنّه من علامة الحقيقة، هو(1) فهم المعنى من اللفظ الموضوع من غير واسطة، وانحصاره فيما نحن فيه في الكلّ والملزوم ظاهر؛ لأنّ الجزء واللازم إنّما يفهمان في ضمن الكلّ والملزوم وبواسطتهما كما لا يخفى.

ص: 257


1- في «ق»: فهو.

ص: 258

في تحقيق الاطّراد وعدمه

الفصل الرابع: في الاطّراد وعدمه

اشارة

فإنّ الأوّل جعل علامة الحقيقة، والثاني علامة المجاز(1).

والمراد بالاطّراد(2) صحّة استعمال اللفظ في كلّ محلّ وجد فيه المعنى الّذي لأجله ثبت استعماله في بعض الموارد، كالعالم مثلًا، فإنّه استعمل في «زيد» مثلًا لتحقّق صفة العلم فيه، فلمّا صحّ استعماله في كلّ ما يشاركه في ذلك المعنى، علم أنّ استعماله في «زيد» على سبيل الحقيقة وأنّ الموضوع له للفظ «العالم» هو ما قام به العلم؛ وهكذا الكلام في العابد والزاهد والناصر والصادق وأمثالها(3).

والمراد بعدم الاطّراد هو أن لا يكون كذلك، بأن لا يصحّ استعمال اللفظ في كلّ ما تحقّق فيه المعنى الّذي لأجله صحّ استعماله في بعض الموارد، كلفظ «النخلة»

ص: 259


1- ينظر تهذيب الوصول: 70، ونهاية الوصول: 1/ 295، ومنية اللبيب: 1/ 222، وأنيس المجتهدين: 1/55، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 531، ومفاتيح الأصول: 75، وإشارات الأصول: 1/ 72، والإحكام: 1/ 31.
2- جاء في حاشية الأصل: قيل: الاطّراد هو أن يكون المعنى الّذي لأجله صحّ استعمال اللفظ في محلّ صحّ استعماله في كلّ ما تحقّق فيه ذلك المعنى [ينظر إشارات الأصول: 1/ 72، ومفاتيح الأصول: 75]. ولمّا لم يكن هذا مناسبًا للفظ «الاطّراد» بحسب المعنى المصدريّ، عدلنا إلى ما ذكر وإن لم تكن المناسبة لازمة. منه.
3- ينظر منية اللبيب: 1/ 222.

مثلًا، فإنّه استعمل في الإنسان لتحقّق الطول فيه؛ ولمّا لم يصحّ استعماله في المنارة والجدار(1) مثلًا مع تحقّقه فيهما، علم أنّه لم يوضع لما قام به الطول وأنّ استعماله في الإنسان مجاز، والطول مصحّح للمجازيّة.

في دلالة الاطّراد على الحقيقة

تحقيق المقام يقتضي البسط في الكلام، فنقول بعون الموفّق العلّام: أمّا دلالة الاطّراد على الحقيقة، فلعلّه لأجل أنّه كما أنّ العلم بالوضع يستلزم العلم بصحّة استعمال اللفظ في كلّ ما تحقّق فيه الموضوع له، -بناءً على أنّ العلم بوضع اللفظ لمعنى يستلزم العلم بإذن الواضع في استعماله فيه-، فينبغي العكس أيضًا، بأن يكون العلم بصحّة الاستعمال في كلّ ما تحقّق فيه المعنى الّذي لأجله ثبت الاستعمال في بعض الموارد مستلزمًا للعلم بوضعه له؛ لأنّ صحّة الاستعمال موقوفة على تحقّق الإذن من الواضع، والمفروض أنّ العلم بصحّة الاستعمال متحقّق، فيلزمه العلم بإذن الواضع.

وكما أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول، فكذلك العكس أيضًا، والعلم بالإذن إمّا في ضمن العلامة، أو في ضمن الوضع، والأوّل باطل؛ لأنّ العلاقة ليست من فعل الواضع حتّى يحصل من العلم بها العلم بالإذن في كلّ ما تحقّقت فيه؛ لما عرفت من أنّها المناسبة بين المعنيين، فربما تحقّقت(2) المناسبة ولم يصحّ الاستعمال؛ لعدم الإذن فيه، بخلاف الوضع، والمفروض أنّ صحّة الاستعمال

ص: 260


1- في «ق»: الجدران.
2- في «ق»: تحقّق.

ثابتة، فيكون منشؤها الوضع، فقد علم أنّ الاستدلال بالاطّراد على الموضوع له استدلال بالمعلول على العلّة.

جعل الاطّراد دليل للحقيقة فاسد
اشارة

جعل الاطّراد دليل للحقيقة(1) فاسد

وفيه نظر من وجوه:

الوجه الأوّل

أمّا أوّلًا: فلأنّا نقول: قد عرفت فيما سبق أنّ الخاصّة والعلامة وإن اعتبر فيها الانعكاس، لكنّ الاطّراد فيها لازم، وحينئذٍ نقول: إنّ الاطّراد بالمعنى المذكور لو كان دليلًا على الحقيقة، لزم أن لا يتحقّق في المجاز، والتالي باطل، فالمقدّم مثله(2).

والملازمة ظاهرة ممّا ذكرناه من لزوم الاطّراد في العلامة، وأمّا بطلان التالي، فلأنّ المجاز قد يطّرد كما في «الأسد»، فإنّه استعمل في بعض الشجعان للمشابهة، وقد صحّ استعماله في كلّ شجاع لذلك، مع أنّ اللفظ مجاز.

لا يقال: يمنع الاطّراد في المجازات، أمّا على القول باشتراط نقل الآحاد فيها فظاهر؛ لأنّ مقتضى ذلك لزوم الاقتصار على المجازات المنقولة وعدم جواز التعدّي إلى غيرها ولو مع تحقّق العلائق المتعدّدة، وأين ذلك من الاطّراد؟!

وأمّا على القول بعدم اشتراط ذلك - على ما هو التحقيق وقد سبق القول فيه مشروحًا - فلتسليم أرباب هذا القول تخلّف الاستعمال عن العلاقة المشابهة، حيث صرّحوا بامتناع استعمال «النخلة» لطويل غير الإنسان مع تحقّق المشابهة والاطّراد،

ص: 261


1- كذا في الأصل، والصواب: دليلًا للحقيقة، كما في «ق».
2- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 531، وقوانين الأصول: 1/ 77.

وإنّما يلزم إذا جاز التجوّز في كلّ ما تحقّق فيه المشابهة، وقد عرفت خلافه.

لأنّا نقول: هذا ممّا لا وجه له؛ لأنّك قد عرفت أنّ المراد بالاطّراد هو أن يكون اللفظ الّذي قد استعمل في محلّ لمعنى صحّ استعمال ذلك اللفظ في كلّ محلّ وجد فيه ذلك المعنى، ولاريب في تحقّقه بالنسبة إلى «أسد»، فإنّه قد استعمل في محلّ للشجاعة وصحّ استعماله في كلّ ما تحقّقت فيه الشجاعة.

وعدم الاطّراد في لفظ «النخلة»، لا يستلزم عدم الاطّراد فيما ندّعي اطّراده، والتشبّث بالنخلة إنّما يتوجّه إذا ادّعينا الاطّراد فيها، أو في كلّ المجازات، ونحن لم نقل بذلك، بل يكفينا لإثبات المرام تحقّق الاطّراد في فرد من أفراد المجازات؛ لما عرفت من لزوم الاطّراد في الخاصّة، وقد تحقّق بالنسبة إلى لفظ «الأسد» في المعنى المجازيّ، سواء قلنا باشتراط النقل في آحاد المجازات، أم لا.

أمّا على الثاني فظاهر، وأمّا على الأوّل فلأنّا نقول: الظاهر أن ليس المراد من هذا القول الاقتصار في خصوص ما صدر فيه الاستعمال في المعنى المجازيّ على خصوص ذلك المعنى المتشخّص المعيّن.

وكيف؟! مع أنّه استلزم انسداد باب المجاز بالمرّة، بل الظاهر أنّ المراد منه أنّه إذا تحقّق استعمال لفظ في معنى بعنوان المجاز، جاز التجوّز في أفراد ذلك اللفظ بالنسبة إلى أفراد ذلك المعنى، لا في غيره، كلفظ «الأسد» مثلًا(1)، فإنّه قد ثبت استعماله في الشجاع، فيجوز استعماله في كلّ ما تحقّقت فيه الشجاعة.

والقائل بعدم اشتراط النقل لا يقتصر على ذلك، بل يقول: قد ثبت استعمال

ص: 262


1- «مثلًا» لم ترد في «ق».

«الأسد» في معنى مشابه لما وضع له، فيظهر منه جواز استعمال أيّ لفظ كان على أيّ مشابه لما وضع له ذلك اللفظ ولو في غير «الأسد» و«الشجاع»، والقائل بالاشتراط ينكره، فقد تحقّق الاطّراد في لفظ «الأسد»، بناءً على المذهبين مع أنّه مجاز.

فعلى هذا نقول: إنّ الجاهل باصطلاح قوم إذا تفحّص مخاطباتهم لاستعلام المعاني الحقيقيّة والمجازيّة وظهر له اطّراد لفظ في معنى، لا يمكن له الحكم بمجرّده على الحقيقة؛ لعدم دلالة العامّ على الخاصّ المعيّن.

إن قلت: سلّمنا الاطّراد في المعنى المجازيّ أيضًا، لكنّه نادر، والأغلب تحقّقه في المعاني الحقيقيّة، والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب، فعلى هذا نقول: إذا ظهر الاطّراد على الجاهل يحكم على الحقيقة بناءً على الغلبة.

قلنا: بعد تسليم عدم منافاة ذلك في الخاصّة، -بناءً على اعتبار الاطّراد فيها وأنّ المقصود تشخيص المعاني الحقيقيّة والمجازيّة لقوم وهو ينافيه-، لا نسلّم ندرة الاطّراد في المعاني المجازيّة بحيث يحكم بأنّ النادر كالمعدوم.

الوجه الثاني

وأمّا ثانيًا: فلأنّا نقول بعد تسليم دلالة الاطّراد على الوضع والحقيقة: يكون العلم بالوضع متوقّفًا على العلم بالاطّراد، والعلم به محال، فالمتوقّف على المحال أيضًا محال، فلا فائدة لجعله علامة(1).

توضيح ذلك: هو أنّك قد عرفت مرارًا أنّ المفتقر إلى الرجوع في هذه العلامات إنّما هو الجاهل بالوضع، فنقول: إمّا أن يكتفي في الاطّراد بصحّة استعمال اللفظ

ص: 263


1- ينظر قوانين الأصول: 1/ 77، وزبدة الأصول: 78.

المستعمل في محلّ لمعنى في بعض ما عدا ذلك المحلّ الّذي وجد فيه ذلك المعنى، أو في جميعه، ولا سبيل إلى الأوّل كما لا يخفى، فتعيّن الثاني.

فحينئذٍ نقول: إنّ الجاهل بالاصطلاح بعد أن ظهر عليه استعمال لفظ معيّن في محلّ لمعنى، إنّما يمكنه العلم باطّراده إذا حصل له العلم بجميع ما عدا ذلك المحلّ الّذي(1) وجد فيه ذلك المعنى، وعدم إمكانه غير خفيّ، إذ كلّ ما ظهر عليه من ذلك يحتمل في نظره أن يوجد غير ذلك أيضًا، فلعلّه لم يصحّ الاستعمال في ذلك، فلا يحصل له العلم بالاطّراد، وهو شرط للعلم بالوضع، فينتفي بانتفائه.

ويمكن الجواب عنه -بعد تسليم أنّ المراد صحّة استعماله في جميع ما عدا ذلك المحلّ الّذي تحقّق فيه الاستعمال-: بأنّ الإيراد إنّما يتوجّه إذا أريد الاستعمال في الجميع بالفعل، وليس الأمر كذلك، بل المراد العلم بصحّة الاستعمال في الجميع بالقوّة، ولفظ «الصحّة» قرينة على ذلك، وهو غير متوقّف على استقصاء جميع ذلك؛ لوضوح إمكانه فيما إذا اطّلع على كثير من موارد استعماله.

ثمّ إنّ الظنّ بالاطّراد أيضًا كافٍ في المقام، على ما سبق إليه في التبادر الكلام.

الوجه الثالث

وأمّا ثالثًا: فلأنّ ما تقدّم في وجه دلالة الاطّراد على الحقيقة غير تامّ؛ لأنّ العلم بصحّة استعمال اللفظ في جميع الموارد إنّما يستلزم الوضع إذا انحصر الطريق في الوضع، وهو إنّما يكون إذا وجب تخلّف الاستعمال عن(2) العلاقة، وهو ممنوع.

ص: 264


1- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): صفة للجميع.
2- في «ق»: على.

والحاصل: أنّ تخلّف الاستعمال عن العلاقة لا يخلو من أقسام ثلاثة: إمّا واجب، أو ممتنع، أو جائز، وما تقدّم من استلزام العلم بصحّة الاستعمال في جميع الموارد العلمَ بالوضع إنّما يتمّ على الأوّل، وأمّا على الأخيرين فلا، كما لا يخفى.

فتحقيق الحقّ في المطلب موقوفٌ على نقل الكلام في ذلك، فنقول: لزوم تخلّف الاستعمال عن العلاقة إنّما يكون إذا منع الواضع من الاستعمال في بعض الموارد مع تحقّق العلاقة فيه، أو يكون إذنه في الاستعمال مع العلاقة مختصًّا ببعض ما وجدت فيه دون بعضٍ آخر.

وعلى التقديرين لم يصحّ الاستعمال في الجميع، أمّا على الأوّل فظاهر، وأمّا على الثاني فلأنّ صحّة الاستعمال مشروطة بإذن الواضع فيه، والمفروض انتفائه، فحينئذٍ يكون العلم بصحّة الاستعمال في الجميع مستلزمًا للعلم بالوضع.

لكنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ القائلين بعدم اشتراط نقل الآحاد يدّعون ثبوت الإذن مع العلاقة مطلقًا، وذلك إمّا بالنسبة إلى جميع أنواع العلائق، أو بعضها، وعلى الأوّل يكون التخلّف ممتنعًا، وعلى الثاني جائزًا، وأيّ منهما كان لا وجه للاستدلال بصحّة الاستعمال في جميع الموارد على الوضع، فجعل الاطّراد دليلًا على الحقيقة فاسد، لكن دعوى الامتناع أيضًا فاسدة، وإلّا لما [كان] وجه لجعل عدم الاطّراد دليلًا على المجازيّة، إذ عدم الاطّراد بناءً عليه غير متصوّر، فتعيّن الثالث.

هذا بناءً على القول بعدم اشتراط النقل في الآحاد، وأمّا بناءً عليه فيمكن الجواب أيضًا بناءً على ما مرّ، فتأمّل.

إن قيل: سلّمنا ذلك، لكن محصّله: أنّ الاطّراد جائز في المجازات بناءً على ما مرّ من عدم جواز إرادة وجوب تخلّف الاستعمال عن العلاقة ولا امتناعه، وواجب

ص: 265

في الحقائق بناءً على أنّ الوضع يمتنع معه تخلّف صحّة الاستعمال، فالحكم بكون الاطّراد دليلًا على الحقيقة إنّما يكون فاسدًا إذا كان المراد به مطلق الاطّراد، وأمّا إذا كان المراد به الاطّراد الواجب فلا.

قلنا: هذا فاسد من وجهين:

الأوّل: أنّ الجاهل بالاصطلاح بعد التصفّح في محاورات أربابه، الّذي يظهر عليه مطلق الاطّراد، وأمّا أنّه من القسم الواجب فلا كما لا يخفى؛ لتجويزه ذلك أن يكون من القسم الآخر، فلا يمكنه الحكم به على الحقيقة.

والثاني: أنّ العلم بكون الاطّراد من الاطّراد الواجب يتوقّف على العلم بالوضع، والمفروض أنّ العلم بالوضع يتوقّف عليه، فيلزم الدور.

في دلالة عدم الاطّراد على المجاز
اشارة

هذا كلّه بالنسبة إلى الاطّراد وعدم دلالته على الحقيقة؛ وأمّا دلالة عدم الاطّراد على المجازيّة؛ فلأنّ ذلك المعنى الغير المطّرد(1) لو لم يكن مجازيًّا، لكان موضوعًا له؛ والتالي باطل، فالمقدّم مثله، والملازمة بيّنة(2).

ص: 266


1- جاء في حاشية الأصل: ليس المراد انّ المعنى غير مطّرد، بل المراد المعنى الّذي لم يطّرد اللفظ فيه. منه.
2- أثبتها كثير من الأصوليّين، منهم: الآمديّ والحاجبيّ والعضديّ وشيخنا البهائيّ، ينظر الإحكام: 1/ 28، وشرح مختصر المنتهى: 1/530 -531، وزبدة الأصول: 78، ونهاية الوصول: 1/ 296، وإشارات الأصول: 1/ 72، ومفاتيح الأصول: 75، والفوائد الحائريّة: 326، وقوانين الأصول: 1/ 71-72.

أمّا بطلان التالي فلما عرفت من استلزام الوضع إذنَ الواضع في الاستعمال، فيمتنع تخلّف صحّة الاستعمال عنه، فيلزمه صحّة الاستعمال في كلّ ما تحقّق فيه ذلك المعنى؛ ولمّا لم يصحّ ذلك علم أنّه لم يكن موضوعًا له، بل يكون علاقة مصحّحة للتجوّز في ذلك المورد، وقد عرفت جواز تخلّف الاستعمال عن العلاقة، بناءً على أنّها بنفسها غير كافية لصحّة الاستعمال، بل مع إذن الواضع فيه، فيجوز اقترانها بالإذن في مورد دون آخر.

الإيراد الأوّل
اشارة

وفيه نظر أيضًا، أمّا أوّلًا: فلأنّ المراد من المعنى الّذي يكون عدم الاطّراد دليلًا على كونه من المعاني المجازيّة، إمّا(1) أن يكون المعنى الّذي قد استعمل اللفظ فيه، أو المعنى القائم به.

والثاني فاسد قطعًا؛ لوضوح أنّ الكلام فيما استعمل فيه اللفظ، لا فيما قام بالمستعمل فيه، فحينئذٍ نقول: غاية ما يلزم من عدم الاطّراد بناءً على ما ذكر أنّ ذلك اللفظ لم يكن موضوعًا لكلّ ما قام به ذلك المعنى، وهو لا يلزم انتفاء مطلق الوضع حتّى يكون اللفظ في ذلك المورد مجازًا؛ لأنّ نفي الأخصّ غير مستلزم لنفي الأعمّ، فلِمَ لا يجوز أن يكون موضوعًا لبعض ما قام به ذلك المعنى؟! فعدم الاستعمال في غير ذلك البعض غير مضرّ.

والحاصل: نحن نقول: إنّ صحّة استعمال اللفظ المستعمل في محلّ لقيام معنى به في كلّما قام به ذلك المعنى، يكون دليلًا على كونه موضوعًا لمطلق ما قام به ذلك

ص: 267


1- جاء في حاشية الأصل: لا دخل لهذا الترديد فيما نحن بصدده، وإنّما الإتيان به لأجل التنبيه على بعض الفوائد يظهر بعد التأمّل فيما ذكر في وجه دلالة عدم الاطّراد على المجاز؛ منه.

المعنى على فرض تسليمه(1)؛ وعدم استعماله في كلّ ما قام به المعنى، يدلّ على عدم كونه موضوعًا لكلّ ما قام به وعلى عدم كونه موضوعًا لخصوص ما لم يصحّ فيه الاستعمال ممّا قام به ذلك المعنى، لكن لا يعلم منه عدم وضعه لخصوص ما استعمل فيه؛ لجواز أن يكون موضوعًا لخصوص ذلك المورد، فغاية ما يعلم من عدم جواز استعماله في غيره عدم وضعه له، لا عدم وضعه فيما صحّ استعماله فيه، فلا يكون عدم الاطّراد دليلًا على المجازيّة.

الجواب عن الإيراد الأوّل

ويمكن الجواب عنه بأنّ هذا إنّما يتوجّه فيما إذا جعل عدم الاطّراد دليلًا على انتفاء قسمي الوضع: الشخصيّ والنوعيّ، أو الشخصيّ فقط، وأمّا إذا لم يتمسّك به إلّا في الألفاظ الّتي يكون الوضع فيها نوعيًّا فلا، إذ لا يحتمل حينئذٍ أن يكون موضوعًا لخصوص ذلك المحلّ، بل الاحتمال حينئذٍ مردّد بين الوضع للجميع أو عدمه كذلك، فحينئذٍ ثبوت الوضع في البعض يستلزم ثبوته في الكلّ، فيلزمه صحّة الاستعمال في الجميع، وعدم ثبوته في البعض يستلزم عدم ثبوته في الكلّ، والمفروض أنّه لم يصحّ الاستعمال في البعض، فيعلم منه عدم الوضع له؛ لعدم جواز التخلّف عن الوضع، فيلزمه عدم الوضع في الكلّ، فثبت مجازيّته في ذلك المورد، وهو المطلوب.

لا يقال: لا طائل في هذا التطويل؛ لأنّ المقصود أنّ عدم الاطّراد دليل المجازيّة، ولا يلزم ممّا ذكر إلّا نفي الوضع النوعيّ، ولا يلزم منه انتفاء مطلق الوضع؛ لأنّ

ص: 268


1- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي كون الاطّراد دليلًا على الحقيقة.

نفي الأخصّ لا يستلزم نفي الأعمّ، فلا تثبت المجازيّة.

لأنّا نقول: قد عرفت ممّا ذكرنا آنفًا أنّ التمسّك بعدم الاطّراد في الألفاظ الّتي يكون الوضع فيها نوعيًّا، فلا يحتمل الوضع الشخصيّ فيها؛ وحيث قد انتفى احتمال الوضع النوعيّ، ثبت انتفاء مطلق الوضع، فيثبت المجازيّة.

إن قيل: الحكم بكون الوضع في اللفظ نوعيًّا لا يمكن إلّا مع العلم بوضعه، فحينئذٍ لا حاجة إلى التمسّك بالعلامة؛ لما تقدّم مرارًا من أنّ الافتقار إليها إنّما هو للجاهل.

قلنا: العلم بكون اللفظ موضوعًا بالوضع النوعيّ، لا يستلزم العلم بكون المستعمل فيه موضوعًا له، والتمسّك بالعلامة لاستعلام حاله.

توضيح المرام: أنّ العلم بالوضع غير العلم بالموضوع له، فحينئذٍ نقول: إنّ العلم بكون الوضع في الأفعال والصفات والمثنّى والمجموع والمصغّر والمنسوب ونحوها نوعيًّا متحقّقٌ مطلقًا وإن كان جاهلًا بالاصطلاح؛ وإنّما جهله بالموضوع له بالوضع النوعيّ لهذه الألفاظ بأنّه هل هو المعنى الّذي علم استعمال اللفظ فيه، أم غيره؟ فيكون المستعمل فيه من المعاني المجازيّة، فالتمسّك بعدم الاطّراد لتعيين ذلك بناءً على أنّ عدم الاطّراد ينافي ثبوت الوضع النوعيّ بالنسبة إلى ذلك المعنى على ما تقدّم، فتثبت المجازيّة لعدم احتمال الوضع الشخصيّ.

إن قيل: فعلى هذا لا وجه لاختصاص هذه العلامة بما يكون الوضع فيه نوعيًّا؛ لأنّ الوضع الشخصيّ قد يكون الوضع فيه عامًّا وكذلك الموضوع له، كالإنسان والفرس والبقر ونحوها، فعلى هذا كون خصوص المورد موضوعًا له غير محتمل، فعدم الاطّراد دليل على المجازيّة فيه أيضًا.

ص: 269

قلنا: إنّ الأمر وإن كان كذلك، لكن لمّا كان الوضع الشخصيّ غير مستلزم لأن يكون الوضع والموضوع له فيه عامًّا، إذ قد يكون كلاهما خاصًّا، فيحتمل في نظر الجاهل كون الوضع في اللفظ الموضوع بالشخصيّ من ذلك، فلا يدلّ عدم الاطّراد على المجازيّة، فتأمّل.

لا يقال: إنّ تخصيص ما يتمسّك فيه بعدم الاطّراد بما يكون الوضع فيه نوعيًّا، ينافي تمثيلهم لذلك بمثل: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾(1)، و«اسأل البساط»(2)؛ لكون(3) الوضع فيه شخصيًّا.

لأنّا نقول: الوضع إنّما يكون شخصيًّا بالنسبة إلى لفظ «القرية» و«البساط»، وقد عرفت الحال فيهما، وأنّه لا بدّ أن يكون المراد بالتمثيل فيهما إمّا لفظة «اسئل»، أو الهيئة التركيبيّة، وأيّ منهما كان فالوضع فيه نوعيّ، وعلى تسليم أن يكون التمثيل في المقام بما يكون الوضع فيه شخصيًّا، ينبغي أن يكون ذلك لمحض التمثيل، فلا يلزم التطبيق.

الإيراد الثاني
اشارة

وأمّا ثانيًا: فلأنّك قد عرفت مرارًا اعتبار الاطّراد في الخاصّة، فعلى هذا نقول: إنّ عدم الاطّراد لو كان دليلًا على المجاز، لزم أن يكون «السخيّ» في الجواد

ص: 270


1- سورة يوسف: 82.
2- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 531، وتهذيب الوصول: 70، ونهاية الوصول: 1/ 295، ومنية اللبيب: 1/ 220، والفوائد الحائريّة: 326.
3- «لكون» لم ترد في «ق».

و«الفاضل» في العالم و«القارورة» في الزجاج مجازًا، والتالي باطل، فالمقدّم مثله(1).

بيان الشرطيّة: أمّا بالنسبة إلى «السخيّ» و«الفاضل»؛ فلأنّهما قد استعملا في غير الله تعالى لتحقّق الجود والعلم فيه، والله سبحانه جواد وعالم في أعلى مراتب الجود والعلم مع عدم صحّة استعمالهما فيه سبحانه، وأمّا في «القارورة» فلأنّها إنّما تطلق على المقرّ المتّخذ من الزجاج، لتقرّر الشيء فيه، والدنّ والكوز ونحوهما ممّا يستقرّ فيه الشيء، مع عدم تسمية شيء منها قارورة، وأمّا بطلان التالي فظاهر.

الجواب عن الإيراد الثاني

والجواب عن ذلك: أمّا بالنسبة إلى «القارورة»، فهو أنّ الإيراد إمّا بالنظر إلى المعنى اللغويّ واستعمال أهل اللغة، أو بالنظر إلى المعنى العرفيّ واستعمالهم، وعلى التقديرين لا ورود له.

أمّا على الأوّل؛ فلأنّا لا نسلّم عدم إطلاق «القارورة» على الأشياء المذكورة في اللغة؛ وأمّا على الثاني فهو وإن كان مسلّمًا، لكن لا نسلّم أنّ إطلاق «القارورة» في العرف على المقرّ المتّخذ من الزجاج لاستقرار الشيء فيه بحيث يكون ذلك عند الإطلاق ملحوظًا، بل الظاهر أنّه من المنقولات التعيّنيّة الّتي قد صارت متعيّنة لبعض مدلولاته اللغويّة بسبب الغلبة والكثرة.

ص: 271


1- ينظر تهذيب الوصول: 70، ومنية اللبيب: 1/ 222، ونهاية الوصول: 1/ 295-296، والفوائد الحائريّة: 326، وقوانين الأصول: 1/ 77، والإحكام: 1/28 و31، وغاية الوصول: 1/ 161، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 531، وإشارات الأصول: 1/ 72، وأنيس المجتهدين: 1/ 55، ومفاتيح الأصول: 75، ومنتهى الوصول: 20، والبحر المحيط: 1/586، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم: (مخطوط) الورقة 47.

والحاصل: أنّ الإطلاق لذلك المعنى وإن كان مسلّمًا في اللغة، لكن عدم الاطّراد ممنوع، وفي العرف وإن كان مسلّمًا، لكن كون الإطلاق لذلك ممنوع.

وأمّا بالنسبة إلى «السخيّ» و«الفاضل»، فمن وجهين:

الأوّل: هو ما قيل من أنّ «السخيّ» قد وضع في اللغة للجواد الّذي من شأنه البخل، و«الفاضل» للعالم الّذي من شأنه الجهل، ولذا لا يطلقان على الله تعالى، فهما مطّردان في معنييهما(1).

والثاني: هو أنّ عدم تسميته تعالى سخيًّا وفاضلًا للمنع الشرعيّ؛ لأنّ(2) أسماءه تعالى توقيفيّة(3).

توضيحه: أنّ الاطّراد من الأمور الممكنة، فعدمه إمّا لعدم وجود مقتضيه، بناءً على أنّ عدم العلّة علّة لعدم المعلول(4)، أو لمانع من ذلك مع وجود مقتضيه، والإيراد إنّما يتوجّه إذا قلنا بأنّ عدم الاطّراد مطلقًا دليل على المجاز، وليس الأمر كذلك، بل الّذي نقول: إنّ من علامة المجاز هو الّذي يكون لعدم وجود مقتضيه، وعدم الاطّراد في «السخيّ» و«الفاضل» ليس من هذا القبيل، بل للمانع عنه مع تحقّق المقتضي، فالّذي جعلناه دليلًا على المجاز لم يوجد فيهما، وما وجد فيهما لم نجعله(5)

ص: 272


1- ينظر الفوائد الحائريّة: 326، وأنيس المجتهدين: 1/ 55، وقوانين الأصول: 1/ 78، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 531.
2- في «ق»: فإنّ.
3- نفس المصدر السابق.
4- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): «عدم المقتضي علّة لعدم المقتضى». وعليه علامة: خ ل.
5- في «ق»: لم يجعله.

من ذلك، فاندفع الإيراد.

أُورد(1) على ذلك باستلزامه الدور، بيانه: هو أنّ المقتضي للاطّراد إمّا الوضع، أو العلاقة، والثاني فاسد؛ لما تقدّم من إمكان التخلّف عنها، بل وقوعه؛ ولأنّ جعل عدم الاطّراد دليلًا على المجاز مبنيّ على ذلك كما لا يخفى، فانحصر المقتضي في الأوّل(2)، فعدمه إمّا لعدم مقتضيه، أو لوجود المانع مع وجوده؛ ولمّا جعل الدليل على المجاز ما كان لعدم وجود المقتضي دون ما كان للمانع، يقال: إنّ التمسّك بعدم الاطّراد حينئذٍ لإثبات المجازيّة موقوفٌ على العلم بعدم الوضع، والمفروض أنّ العلم بعدم الوضع موقوف على العلم بعدم الاطّراد، فيلزم توقّف الشيء على نفسه(3).

ويمكن التخلّص عن ذلك بما تخلّصنا عن الدور في التبادر، حاصله: أنّ الدور إنّما يلزم إذا كان العالم في المقامين واحدًا، وليس الأمر كذلك؛ لأنّ علم الجاهل باصطلاح قوم بعدم الوضع متوقّفٌ على علمه بعدم اطّراد اللفظ فيما بينهم، وعدم اطّراده فيما بينهم ليس متوقّفًا على علم الجاهل بعدم الوضع حتّى يلزم الدور، بل على علمهم بذلك، فاللازم توقّف علم الجاهل بعدم الوضع على علم أرباب

ص: 273


1- في «ج»: ورد.
2- جاء في حاشية الأصل: إن قلت: قد تقدّم منك أنّ المجاز قد يطّرد، وكيف يجتمع هذا مع الحكم بسلب الاقتضائيّة عن العلاقة؟ قلت: ليس المقتضي في ذلك المجاز نفس العلاقة، بل هي مع إذن الواضع. إن قيل: على هذا يتوجّه المنع في حصر المقتضي في الوضع؛ قلت: ليس المراد حصر مطلق الاقتضائيّة، بلا الاقتضائيّة اللازمة، وذلك منحصر في الوضع. منه.
3- ينظر رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب: 1/ 380، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 531- 535، ونهاية الوصول: 1/ 296، وإشارات الأصول: 1/ 72، ومفاتيح الأصول: 75.

الاصطلاح به، ولا استحالة في ذلك؛ لأنّه ليس بدور أصلًا؛ لاختلاف الجهة.

نعم، يمكن الإيراد من وجه آخر، وهو أنّ عدم الاطّراد على هذا كما يكون باعتبار عدم المقتضي الّذي هو الوضع، كذا يكون باعتبار تحقّق المانع مع وجوده، فالجاهل بالاصطلاح إذا تصفّح محاورات أربابه وظهر له عدم اطّراد لفظ بالنسبة إلى معنى معيّن لا يمكنه الاستدلال به على المجازيّة؛ لجواز أن يكون ذلك لأجل المانع مع تحقّق الوضع، إذ لا دلالة للعامّ على الخاصّ المعيّن.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ الإيراد المذكور إنّما يكون منشأً لطرح هذه العلامة بالكلّيّة إذا أمكن منع الواضع عن استعمال اللفظ في المعنى الّذي وضعه له، وهو غير معقول، فانحصر المقتضي لعدم الاطّراد في اللغة والعرف في عدم الوضع بالنسبة إلى الواضع، فحينئذٍ نقول: يظهر من عدم الاطّراد عدم الوضع، وهو المطلوب.

تحقيق ذلك يقتضي أن يقال: إنّ وضع اللفظ لمعنى يستلزم الإذن في استعماله فيه، ومع ذلك جواز منعه عنه يستلزم التناقض؛ لأنّه في قوّة أن يقول: إنّي راضٍ بالاستعمال وغير راضٍ به، أو صحّ الاستعمال ولم يصحّ، فمنع الواضع عن صحّة استعمال اللفظ مع وضعه غير معقول، فالمقتضي لعدم الاطّراد بالنسبة إليه منحصرٌ في عدم الوضع، فتأمّل(1).

نعم، قد يتحقّق المنع من غير ذلك الواضع، وذلك يقتضي عدم صحّة الاستعمال بالنسبة إلى المانع، لا الواضع.

ص: 274


1- جاء في حاشية الأصل: وجهه: هو أنّ لزوم التناقض ممنوع؛ لعدم مناقضة الخاصّ للعامّ، فيكون المقام من باب التخصيص. منه.

إن قيل: سلّمنا ذلك، لكنّه لا يكفي لدفع الإيراد؛ إذ غاية ما يترتّب عليه فيما تحقّق فيه عدم الاطّراد علم الجاهل بعدم استناده إلى منع الواضع لو كان المعنى موضوعًا له عنده، لكنّه غير كافٍ عنده في الحكم بالمجازيّة؛ لاحتمال أن يكون المعنى موضوعًا له عنده وعدم الاطّراد لأجل منع الغير، كما في «الفاضل» و«السخيّ».

قلنا: هذا الاحتمال في كثير من المقام غير محتمل؛ لوضوح أنّ منع الغير لا يوجب طرح أهل الاصطلاح أوضاع ألفاظهم ومقتضاها، إلّا أن يكون المانع ممّن يجب متابعته كالشارع، واحتمال منعه في جميع المقام غير قائم أيضًا، إلّا فيما يكون منصب الشارع بيانه، كإطلاق الاسم عليه تعالى.

والمقصود أنّ هذا الإيراد الّذي لم يتطرّق إليه أقلام الأقوام، لا يوجب طرح هذه العلامة بالمرّة، إذ في ذلك المقام الّذي لم يتطرّق إليه هذا الاحتمال قد تحقّق فيه عدم الاطّراد؛ وذلك إمّا فيما وضع له مع منع الواضع، أو في غير الموضوع له، والأوّل فاسد كما عرفت، فتعيّن الثاني وهو المطلوب، فتأمّل؛ بل الاحتمال المذكور في الاصطلاحات الخاصّة غير متطرّق أصلًا، كما لا يخفى.

في بيان عدم الاطّراد في: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾

توضيح حال لكشف مقال

قد اشتهر التمثيل فيما لم يتحقّق فيه الاطّراد بقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾(1)، حيث تحقّق فيه الاستعمال؛ لوجود معنى، ولم يتحقّق في مثل: «اسأل البساط»، مع وجود ذلك المعنى فيه، فيعلم منه أنّ استعمال اللفظ في

ص: 275


1- سورة يوسف: 82.

الأوّل على سبيل المجاز(1).

ولا يخفى عليك أنّ الكلام لا يخلو من إجمال؛ إذ فيه احتمالات ولم يعلم أيّها المراد، فينبغي التكلّم في كلّ منها لاستعلام الحال واستكشاف المقال، فأقول: قد اشتمل قولنا: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾على لفظين: صيغة الأمر، ولفظة «القرية»؛ إمّا أن يكون المراد من اللفظ الغير المطّرد لفظة «قرية»، أو «اسأل»، أو المركّب منهما.

أمّا الأوّل فتقرير المراد فيه يقتضي أن يقال: إنّ لفظة «القرية» قد استعملت(2) في الأهل لوجود(3) معنى، وهو الحاليّة، وقد تحقّق في أهل(4) البساط أيضًا مع انتفاء استعمال البساط فيه.

وفيه ما لا يخفى؛ لأنّ المراد بعدم(5) الاطّراد - على ما عرفت - هو أن يستعمل لفظ لوجود معنى في محلّ، ولا يجوز استعمال ذلك اللفظ في محلّ آخر مع وجود ذلك المعنى فيه، فاتّحاد اللفظ والمعنى وتغاير المحلّ فيه معتبر، واللفظ في الاحتمال المذكور غير متّحد، إذ «القرية» و«البساط» متغايران.

وأمّا الثاني فيتوجّه عليه: أن لا يجوز في لفظ «اسأل» مطلقًا؛ لأنّه موضوع لطلب ايجاد المادّة المقترنة بهيئته من فاعل معيّن، وقد استعمل لفظة «اسأل» في المقامين في ذلك المعنى.

ص: 276


1- ينظر المستصفى: 2/ 24، ونهاية الوصول: 1/ 295، وتهذيب الوصول: 70؛ ومنية اللبيب: 1/ 220، والفوائد الحائريّة: 326، وقوانين الأصول: 1/ 72، والإحكام: 1/ 32.
2- في «ق»: اشتملت.
3- في «ق»: بوجود.
4- كذا في الأصل، والصواب: في اسأل.
5- في «ق»: لعدم.

فتعيّن أن يكون المراد هو الثالث، فالمقصود أنّ ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ قد استعمل في محلّ، أعني إيقاع السؤال على القرية؛ لوجود معنى، وهو تعلّق السؤال بأهلها، ولم يستعمل في محلّ آخر، وهو إيقاع السؤال على البساط، وإن وجد فيه ذلك، أعني تعلّق السؤال بالأهل، فحينئذٍ يكون المجاز اللفظ المركّب باعتبار معروضيّته للهيئة.

وإلّا يرد عليه ما ورد في الأوّل من التغاير بين اللفظين، إذ لا شبهة في المغايرة بين مجموع المركّب من لفظة: «اسأل» و«القرية»، ومن لفظة: «اسأل» و«البساط»؛ وأمّا بعد ملاحظة الهيئة فلا، إذ الوضع في المركّبات باعتبار الهيئة، كما تقدّم تحقيقه في المقدّمة، والتغاير إنّما يكون بتغايرها، فتأمّل.

ص: 277

ص: 278

الفصل الخامس: في بيان الأمور الّتي زادها بعضهم في هذا المقام وجعلها علامة للمجاز

اشارة

وهي ثلاثة:

الأمر الأوّل: جمعُ اللفظ على صيغة مخالفة لجمع حقيقته دليلُ المجاز
اشارة

الأوّل: جمع اللفظ على صيغة مخالفة لصيغة جمع حقيقته(1).

توضيحه: هو أنّ اللفظ إذا علم له معنى حقيقيّ وجمعه بالنسبة إلى ذلك المعنى على صيغة، واستعمل في معنى آخر وجمع بالنسبة إلى ذلك المعنى على صيغة مخالفة لصيغة الجمع للمعنى الحقيقيّ، كلفظ «الأمر» مثلًا، فإنّه حقيقة في القول المخصوص اتّفاقًا وعلم جمعه بهذا المعنى على «الأوامر»، واستعمل بمعنى الفعل أيضًا وجمع بالنسبة إليه على «الأمور».

فالمقصود أنّ تلك المخالفة دليلٌ على المجازيّة؛ لأنّه لو لم يكن مجازًا فيه لا يخلو إمّا أن يكون متواطئًا فيهما، أو حقيقة في كلّ واحد منهما؛ والتالي بشقّيه فاسد(2)، فالمقدّم مثله.

ص: 279


1- ذهب إلى ذلك الغزاليّ في المستصفى: 2/ 25، والعضديّ في شرحه على مختصر المنتهى: 1/ 531، وينظر غاية الوصول: 1/ 162، ونهاية الوصول: 1/ 297، وإشارات الأصول: 1/ 74، ومفاتيح الأصول: 75، والبحر المحيط: 1/ 586، وإرشاد الفحول: 25، والإحكام: 1/ 31.
2- في «ق»: باطل.

أمّا بطلان الأوّل فيمكن أن يكون إمّا لانتفاء القدر المشترك بين المعنيين، أو للعلم بكون المعنى الأوّل بخصوصه موضوعًا له، أو لاستلزام التخالف بين صيغتي الجمع ذلك بناءً على أنّه لو كان متواطئًا فيهما لما تحقّقت المخالفة المذكورة، إذ حينئذٍ يكون المعنى في المفرد واحدًا، وهو القدر المشترك، ومدلول الجمع هو مدلول المفرد مع التعدّد، فينبغي أن يطلق «الأوامر» بالنسبة إلى الجميع(1).

وأمّا بطلان الثاني(2) فلمرجوحيّة الاشتراك بالنسبة إلى المجاز كما يأتي، فتعيّن(3) المجازيّة، وهو المطلوب؛ فالجاهل بالاصطلاح إذا تتبّع فيه وظهر له معنى حقيقيّ للفظ وجمعه على صيغة، ثمّ رأى ذلك اللفظ مستعملًا في غيره، لكن لم يعلم أنّه حقيقة فيه أو مجاز، يختبر ذلك بالرجوع إلى جمعه بالنسبة إلى المعنى الأخير، فإن كان مخالفًا لجمعه بالنسبة إلى المعنى الأوّل يحكم بالمجازيّة بناءً على ما ذكر.

وإنّما لم يجعل عكسه - أي كون جمعه على صيغة الجمع للمعنى الحقيقيّ - دليلًا على الحقيقة؛ لأنّ اللفظ بالنسبة إلى المعنى المجازيّ قد يجمع على جمع حقيقته، كالحُمر إذا أطلقت إلى ما فوق الاثنين من البَلدى من أفراد الإنسان، و«الأُسد» إذا أطلقت على الشجعان من أفراده(4).

وفيه نظر؛ لأنّ بطلان التواطؤ لو كان باعتبار انتفاء القدر المشترك، لا وجه

ص: 280


1- كذا في الأصل، والصواب: الجمع، كما في «ق».
2- في «ق»: التالي.
3- كذا في الأصل، والصواب: فتتعيّن.
4- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 531، ومفاتيح الأصول: 75، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم: (مخطوط) الورقة 47.

لجعل المخالفة بين صيغتي الجمع علامة، بل العلامة حينئذٍ انتفاء القدر المشترك بين المعنيين الّذين ثبت الوضع بالنسبة إلى واحد منهما، سواء كانت الصيغة في الجمع متخالفة(1) أو لا، لجريان الدليل فيه، إذ احتمال التواطؤ حينئذٍ منتفي بانتفاء المشترك، والاشتراك كذلك بمرجوحيّته، فتعيّنت المجازيّة.

وكذلك لو كان بطلانه لثبوت الوضع بالنسبة إلى أحد المعنيين بخصوصه، إذ العلامة حينئذٍ العلم بكون أحد المعنيين بخصوصه موضوعًا له، بناءً على أنّه لو كان متواطئًا لما كان الوضع متعلّقًا بالخصوصيّة، ولو كان كلّ منهما موضوعًا له يلزم الاشتراك، فثبت المجاز، فلا وجه للتمسّك بالمخالفة بين صيغتي الجمع لتماميّة الكلام ولو عند عدم الاختلاف، بل لا مدخليّة لها في المقام على ما عرفت.

ولو كان بطلان التواطؤ باعتبار المخالفة بناءً على ما مرّ، نقول: لا وجه حينئذٍ لاختصاص العلامة بالمخالفة، لإجراء الدليل في كلّ ما دلّ على عدم التواطؤ، كانتفاء القدر المشترك مثلًا، فينبغي أن يجعل العلامة كلّ ما يعلم منه عدم كون اللفظ متواطئًا بين المعنيين الّذين ثبت الوضع بالنسبة إلى أحدهما.

وأيضًا(2) اختلاف الجمع كما جاز أن يكون لأجل المجازيّة، كذا جاز أن يكون لاختلاف المسمّى، مع كون المعنيين من المعاني الحقيقيّة، والعامّ لا دلالة له على الخاصّ المعيّن.

ص: 281


1- في «ق»: مخالفة.
2- جاء في حاشية الأصل: حاصل هذا الاعتراض: هو أنّا سلّمنا دلالة المخالفة على انتفاء المواطئة، لكن لا يلزم منه المجازيّة؛ لاحتمال أن يكون اللفظ مشتركًا لفظيًّا بين المعنيين، ولا يتمّ المدّعى إلّا بانتفائه. منه.

نعم، كان الكلام وجيهًا لو لم يتحقّق اختلاف الجمع إلّا في المجاز، إذ حينئذٍ تحقّقه يوجب العلم بالمجازيّة، لكنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ لفظ «العود» مشترك بين الخشب واللهو، وجمع الأوّل: عيدان، والثاني: عواد.

وكيف؟! مع أنّ الأولى في الألفاظ المشتركة اختلاف صيغ الجموع حذرًا عن زيادة الاشتراك، بناءً على أنّ صيغة المفرد كانت مشتركة بين المعنيين أو المعاني، فلو اشتركت صيغ الجمع أيضًا، يلزم زيادة الاشتراك، وهو مرجوح، والمستلزم للمرجوح مرجوح بالنسبة إلى غيره.

لا يقال: الكلام فيما يكون الوضع فيه مشكوكًا، فما ثبت فيه الوضع خارج.

لأنّا نقول: هذا فاسد؛ لأنّ العلامة لمّا كانت بالنسبة إلى الجاهل، فإذا تصفّح محاورات قوم وظهر له المخالفة بين صيغتي الجمع في لفظ، لا يمكنه الحكم بالمجازيّة؛ لاحتمال أن تكون كالمخالفة الّتي في صيغ الجمع للمشترك.

ويمكن الجواب عن ذلك بما مرّ في تقرير المطلب، حاصله: أنّ تحقّق المخالفة وإن كانت مسلّمة في بعض الألفاظ المشتركة، لكن لمّا(1) يدفع احتمال الاشتراك فيما نحن فيه بالمرجوحيّة، تعيّن الأمر في المجازيّة، وهو المطلوب.

التمسّك بالتخالف بين صيغتي الجمع وجعله علامة للمجاز لا وجه له

لكن يرد عليه نظير ما تقدّم في صحّة السلب، تقريره هنا أنّ التمسّك بالتخالف بين صيغتي الجمع وجعله علامة للمجاز لا وجه له، أمّا أوّلًا: فلأنّ كلّ لفظ إذا علم وضعه لمعنى واستعمل في غيره ولم يثبت الوضع فيه، يحكم بالمجازيّة بناءً على

ص: 282


1- في «ق»: لا.

ما ذكر، سواء كان مفردًا، أو لا، مخالفًا صيغة جمعه على جمع الحقيقة، أم لا.

وأمّا ثانيًا: فلأنّه هو الّذي ذكروه عند معارضة المجاز والاشتراك، فلا وجه لذكره في هذا المقام.

وأمّا ثالثًا: فلأنّ خاصّة الشيء وصفُهُ القائم به، كالتبادر وعدم صحّة السلب والاطّراد؛ ومرجع ما ذكر في هذا المقام التمسّك بمرجوحيّة الاشتراك، ولا معنى لجعله من خواصّ المجاز، فتأمّل.

إن قلت: يمكن الجواب عن جميع ذلك بمثل ما أجبته هناك، وهو: أنّ الإيرادات المذكورة إنّما تتوجّه إذا كان الموضع الّذي يتمسّك فيه بالمخالفة هو الّذي يتمسّك فيه بالمرجوحيّة، وأنّ الفائدة المترتّبة على أحدهما هي المترتّبة على الآخر، وليس الأمر كذلك، بل التمسّك بالمخالفة بين صيغتي الجمعين لرفع احتمال التواطؤ، وبمرجوحيّة(1) الاشتراك لنفي وضع آخر.

توضيحه: أنّ صيغة الجمع لو كانت بحسب الصورة مشتركة بين المعنيين كالمفرد، يحتمل أن يكون المعنى الحقيقيّ المتيقّن مشتركًا بين الفردين، فيكون متواطئًا ويكون اللفظ في المعنيين حقيقة، فجعلت المخالفة علامة لعدم الوضع بالنسبة إلى ذلك المعنى، لكن لمّا لم يستلزم ذلك عدم الوضع مطلقًا؛ لجواز أن يكون ذلك اللفظ موضوعًا لذلك المعنى الآخر بوضع آخر، فلا يلزم(2) المجازيّة وكان ذلك محتملًا توصّل لدفعه بمرجوحيّة الاشتراك، فعلى هذا لا يلزم شيء من المحذورات، كما لا يخفى.

ص: 283


1- في «ق»: والمرجوحيّة.
2- كذا في الأصل، والصواب: فلا تلزم.

قلنا: لو كان الأمر كذلك، لكان(1) العلامة مخالفة الصيغة مع مرجوحيّة الاشتراك، فلا وجه لاختصاص ذلك بالمخالفة فقط، ولكان الحكم بكون المعنى الأوّل معنى حقيقيًّا فاسدًا؛ إذ المعنى الحقيقيّ حينئذٍ هو القدر المشترك، لا أحدهما بعينه.

وعلى تقدير الإغماض عن ذلك نقول: إنّ ذلك إنّما يتمّ لو لم يوجد(2) المخالفة بين صيغ الجمع في المعاني المتواطئة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: هو أنّه على تقدير تحقّق التخالف في المتواطئ أيضًا يكون(3) المخالفة مشتركة بين المعاني المتواطئة وغيرها، فكيف تجعل(4) دليلًا وعلامة لنفي أحدهما مع ما عرفت مرارًا من لزوم الاطّراد في العلامة؟!

وأمّا بطلان التالي، فلأنّ كثيرًا من المعاني المتواطئة قد تحقّق الاختلاف بين صيغتي جمعها كالكريم، فإنّه يجمع على: كُرماء وكرام؛ و«سنة» فإنّها تجمع على: سنين وسنوات، و«ثُبَة» بمعنى الجماعة من الناس، فإنّها تجمع على: ثبين وثبات(5)، و«فلس»، فإنّه يجمع على: أفلس وفلوس، وهكذا، فإنّه كثير جدًّا.

والجواب عنه: أنّه ليس المراد مطلق المخالفة بين صيغتي الجمع، بل بحيث يكون(6)

ص: 284


1- كذا في الأصل، والصواب: لكانت.
2- كذا في الأصل، والصواب: لم توجد.
3- في «ق»: بكون؛ والصواب: تكون.
4- في «ق»: يجعل.
5- كتاب العين: 8/ 248، وفيه: «الثبة: العصبة من الفرسان، ويجمع: ثبات وثبين».
6- كذا في الأصل، والصواب: تكون.

إحدى الصيغتين مختصّة ببعض مدلول اللفظ والأخرى بالبعض، وبالجملة: لم يمكن استعمال إحداهما مقام الأخرى؛ كالأوامر والأمور، فإنّ الأوّل يستعمل في أقوال مخصوصة، والثاني في الأفعال، ولا يستعمل شيء منهما(1) مقام صاحبه، بخلاف ما ذكر من صيغ الجمع، فإنّ المخالفة وإن تحقّقت فيها أيضًا، لكن يستعمل كلّ من الصيغتين مقام صاحبه، كما لا يخفى.

ووجه دلالة تلك المخالفة على انتفاء التواطؤ(2) قد مرّ، حاصله: أنّه لو كان متواطئًا، لَما [كان] وجه لاختصاص بعض صيغتي الجمع ببعض مدلوله والآخر بالبعض الآخر، إذ اللفظ موضوع للقدر المشترك بناءً على التواطؤ، فينبغي أن يصحّ الاستعمال في كلّ ما وجد فيه ذلك، وإذا لم يصحّ ذلك يعلم عدمه، وهو المطلوب، فعلم ممّا ذكر صحّة العلامة المذكورة، فتأمّل(3).

ص: 285


1- في «ق»: منها.
2- في «ق»: المتواطؤ.
3- جاء في حاشية الأصل: وجهه: هو أنّ التمّسك بالمخالفة لنفي المواطئة إنّما يكون حسنًا إذا كان بين المعنيين التباس على ما حقّقناه في صحّة السلب وعدمها، وحيث لم يكن ذلك فلا، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لوضوح انتفاء الاشتراك بين القول المخصوص والفعل، فيعلم عدم التواطؤ ولو مع قطع النظر عن التخالف بين صيغتي الجمع. ويمكن دفعه بأنّ الأمر ليس منحصرًا في لفظ «الأوامر»، وإلّا فلعلّ الالتباس يتحقّق في غيره، فلا يعلم انتفاء التواطؤ إلّا بظهور التخالف بين صيغتي الجمع، فتأمّل. منه.
الأمر الثاني: التزامُ تقييد اللفظ بالنسبة إلى المعنى دليلٌ على مجازيّته فيه
اشارة

الثاني: التزام تقييد اللفظ بالنسبة إلى معنى، بأن لا يستعمل فيه إلّا مقيّدًا(1)؛ وذلك دليل على مجازيّته فيه، إذ لو كان حقيقة فيه لكان الموضوع له إمّا المعنى المطلق أو المقيّد، وأيّ ما كان لما يلزم التقييد في اللفظ؛ أمّا الأوّل فظاهر، وأمّا الثاني فلأنّ المعنى المقيّد لمّا كان موضوعًا له، لكان اللفظ دالًّا عليه بنفسه، فكان إلزام التقييد لغوًا.

ألا ترى أنّ لفظ «المدينة» مثلًا قد عيّن بالوضع الثانويّ لمدينة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) فيدلّ عليها ولو من غير تقييد في اللفظ.

وإنّما لم يجعل عكسه -أي عدم التزام تقييد اللفظ بالنسبة إلى معنى- علامةً للحقيقة؛ لوضوح أنّ غالب المجازات كذلك، فلو كان عدم الالتزام علامة لها لزم أن لا يوجد في غيرها؛ لما عرفت من لزوم الاطّراد في العلامة.

تطويل قال لإفضاح مقال

تطويل قال لإفضاح(2) مقال

تحقيق المقام يقتضي التفصيل في الكلام وإن اندمج(3) أقلام الأقوام في كلّ المقام، لا سيّما فيما فيه الكلام في صقع الإبهام، فنقول بمعونة الموفّق العلّام: إنّ

ص: 286


1- ينظر نهاية الوصول: 1/ 298، وغاية الوصول: 1/ 163، ومفاتيح الأصول: 76، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 531، والبحر المحيط: 1/ 588، وإشارات الأصول: 1/ 73.
2- كذا في الأصل، وفي «ق»: لإيضاح. قال في «الصحاح 1/ 392»: فضّح الصبح وأفضح: إذا بدا.
3- كذا في الأصل، والصواب: اندمجت.

اللفظ الّذي قد وصف التقييد فيه بالالتزام لا يخلو إمّا أن يكون له معنى قد استعمل فيه من غير تقييد، أم لا، بل انحصر استعماله مع التقييد؛ والظاهر أنّ المراد في هذا المقام هو القسم الأوّل فقط، لا الثاني.

وكيف؟! مع أنّ إرادة الثاني مستلزمة للحكم بمجازيّة جميع الأسماء اللازمة الإضافة، كذو وفوق وتحت وقدّام وخلف وأمثالها، بل جميع الحروف أيضًا؛ لعدم انفكاكها عن المتعلّق أبدًا على ما سبق تحقيقه، وهو باطل، أمّا أوّلًا فلأنّه خلاف الوفاق، وأمّا ثانيًا فلأنّه لو كان الأمر كذلك، لكانت هذه الألفاظ مجازات، لا حقائق لها، ولو كان الأمر كذلك كان عدم استلزام المجاز للحقيقة ظاهرًا، ولما احتاج النافي(1) للاستلزام لإثبات ذلك إلى التمسّك بأمثلة نادرة على ما يجيء إليه الإشارة.

وبالجملة: الحكم بمجازيّة الألفاظ المذكورة ممّا يحكم بفسادها الضرورة، فلا حاجة إلى تجشّم إقامة البرهان والأدلّة، فتعيّن الأوّل؛ وعليه فالمناسب أن يقرّر(2) عنوان المسألة هكذا: إذا كان للّفظ معنى يستعمل فيه مطلقًا ومعنى آخر لا يستعمل فيه إلّا مقيّدًا، فالمطلوب أنّ التزام التقييد فيه دليل على مجازيّة اللفظ في المعنى المقيّد، وأمّا المعنى الأوّل فهو معنى حقيقيّ.

ص: 287


1- في «ق»: الثاني.
2- في «ق»: نقرّر.
الاحتمالات المتصوّرة في «نار الحرب»

وقد مثّل لذلك بقولك: «نار الحرب»(1)، أقول: هذا المثال يحتمل وجوهًا:

الأوّل: أن يكون المراد بالنار الحرب، وتكون الإضافة بيانيّة، أي النار الّتي هي الحرب، فعلى هذا يكون المشبّه الحرب، قد شبّهت بالنار تنبيهًا على شدّتها، بناءً على أنّ النار كما تكون مفنية لما استولت عليه، كذلك هذه(2) الحرب الشديدة؛ وقد استعملت لفظ المشبّه به في المشبّه، فالاستعارة مصرّحة.

والثاني: هو أن يكون ذلك على طريقة «لجين الماء»(3)، أي يكون من إضافة المشبّه به إلى المشبّه بعد حذف أداة التشبيه، فالتقدير: الحرب الّتي كالنار في سرعة الإفناء.

والثالث: أن يكون المراد بالنار الكيد الّذي للعدوّ في حال الحرب، فيكون المراد بنار الحرب: كيدها، كما في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾(4)، أي كلّما دبّروا كيدًا للحرب أبطله الله؛ وذكر الإيقاد والإطفاء ترشيح للمجاز، أو

ص: 288


1- ينظر نهاية الوصول: 1/ 298، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 531 -536، وإشارات الأصول: 1/ 73، ومفاتيح الأصول: 76.
2- في «ق»: هذه.
3- قال المولى صالح المازندرانيّ (قدس سره) في حاشيته على معالم الأصول: «في ظلم الجهالة» من قبيل «لجين الماء» يجلو من جلا الأمور إذا كشفها وأزالها (حاشية معالم الدين: 6)، وفي القاموس: والريح تعبث بالغصون وقد جرى ذهب الأصيل على لجين الماء أي: ماء كاللُجين (القاموس المحيط: 1/ 8). والبيت لابن خفاجة الأندلسيّ، ينظر ديوانه: 17، وتاج العروس: 1/ 74، والإيضاح: 267، ونهاية الإرب: 1/ 283.
4- سورة المائدة: 64.

للشدّة الّتي للحرب الشديد(1)، فيكون المشبّه حينئذٍ شدّة الحرب، لا نفسها، وقد أطلقتَ لفظ المشبّه به على المشبّه.

فإن كان المراد المعنى الأوّل أو الثاني، فجعل المثال المذكور ممّا نحن فيه لا يخفى ما فيه؛ أمّا على الثاني فظاهر؛ إذ اللفظ بناءً عليه محمول على المعنى الموضوع له، فليس فيه المجاز الّذي كلامنا فيه أصلًا.

نعم، فيه مجاز الحذف وليس الكلام فيه؛ وأمّا على الأوّل فلأنّ اللفظ فيه وإن كان مستعملًا في غير معناه الموضوع له، لكنّ التزام التقييد فيه ممنوع؛ لجواز أن يقال: «أقام العدوّ نارًا» وأقيمت القرينة كلفظ «الإقامة» في المثال المذكور مثلًا على إرادة الحرب من النار، إذ القدر اللازم في المجازات إقامة القرينة الكاشفة للمراد.

وإن كان المراد المعنى الثالث، نقول: إنّ التزام التقييد حينئذٍ وإن كان مسلّمًا؛ لأنّ المعنى إضافىّ، والإضافة غير منفكّة عن(2) المضاف إليه، لكن يرد الانتقاض بكلّ إضافة ومضاف؛ لأنّ كلّ مضاف من حيث الإضافة لا ينفك عن المضاف إليه، فيرد عليك النقض بما إذا صرّحت في المثال المذكور بلفظ «الكيد» مثلًا وقلت: «كيد الحرب».

والجواب: المراد هو المعنى الثالث، والنقض مدفوع؛ لأنّ المضاف إمّا أن يكون من الأسماء اللازمة للإضافة، فقد عرفت الجواب عنه؛ أو غيرها، أي من الأسماء الّتي تضاف تارة وتنفك أخرى، كالغلام مثلًا، فهو وإن كان من حيث الإضافة

ص: 289


1- كذا في الأصل، والصواب: الشديدة.
2- في «ق»: من.

غير منفك عن المضاف إليه، لكن لمّا لم يكن معنى المضاف في حال الإضافة مباينًا له في غيرها، بل فرد من أفراده، كان خارجًا عمّا نحن فيه؛ لما عرفت من اشتراط المغايرة فيما نحن فيه بين المعنى حال الإضافة وبينه في غيرها.

لكنّ الانصاف عدم تماميّة الكلام؛ لتطرّق منع التزام التقييد في اللفظ(1) بناءً على المعنى الثالث أيضًا؛ لجواز أن يقارنه المستعمل بالقرينة الدالّة على أنّ المراد ذلك المعنى المضاف من غير إضافة في اللفظ؛ وعلى فرض الإغماض(2) أو التسليم لا يتمّ المراد أيضًا؛ لجواز أن يكون وَضَعَهُ على أن يكون مضافًا، فالتزام التقييد بحكم الوضع.

فإن قيل: لو كان الأمر كذلك يلزم الاشتراك ولما كان ذلك المعنى متبادرًا، وهذا غير متبادر.

قلنا: هذا تمسّك بالتبادر وعدمه، وليس علامة مستأنفة، وبمرجوحيّة الاشتراك بالنسبة إلى المجاز وليست علامة، وعلى فرض التسليم لا اختصاص له بما يلتزم التقييد كما لا يخفى.

ص: 290


1- جاء في حاشية الأصل: إن قيل: يمكن أن يكون المراد بالتزام التقييد التزام القرينة، وهو مسلّم، فعلى هذا كيف يكون الاقتران بالقرينة منافيًا؟ قلنا: لا يمكن أن يكون مراد ذلك القائل ذلك، أمّا أوّلًا: فلأنّ القرينة لا تسمّى قيدًا، وأمّا ثانيًا: فلأنّه لو كان الأمر كذلك يكون عكسه -أي عدم التزام القرينة [في «ق»: الالتزام بالقرينة]- دليلًا على الحقيقة كما لا يخفى، وهو لا يقول: أنّ عدم التزام التقييد دليل عليها، فيعلم منه عدم إرادة القرينة من التقييد؛ لأنّ كون عدم التزام القرينة دليلًا على الحقيقة ممّا لا شبهة فيه. منه.
2- جاء في حاشية الأصل: بناءً على أنّ التزام التقييد في المعنى كافٍ؛ منه.
الأمر الثالث: توقّف إطلاق اللفظ على معنى على تعلّقه بالآخر دليل المجاز
اشارة

والثالث: توقّف إطلاق اللفظ على معنى على تعلّقه بالآخر(1)، فإنّ ذلك دليل على مجازيّته في المعنى الأوّل، إذ لو كان ذلك المعنى موضوعًا له، لما توقّف استعماله فيه على شيء؛ لما عرفت من أنّ وضع اللفظ لمعنى يستلزم صحّة استعماله فيه.

أمّا دلالته على المجازيّة؛ فلأنّ المفروض ثبوت الاستعمال على النهج المذكور، وحيث قد انتفت الحقيقة، تعيّنت المجازيّة؛ لانحصار اللفظ المستعمل بالاستعمال الصحيح فيهما.

وقد مثّل بقوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله﴾(2).

قيل في هذا المقام: إنّ ذلك إشارة إلى أنّ المشاكلة من قبيل المجاز(3).

ولعلّ المشاكلة عبارة عن كون اللفظ مستعملًا في معنى مصاحبًا لاستعماله في المعنى الحقيقيّ(4).

ومن ذلك قول الشاعر(5):

ص: 291


1- ينظر نهاية الوصول: 1/ 298، وغاية الوصول: 1/ 163، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 530 و532، والبحر المحيط: 1/ 588، وإرشاد الفحول: 25، وإشارات الأصول: 1/73، ومفاتيح الأصول: 76، والإحكام: 1/ 33.
2- سورة آل عمران: 54.
3- قاله التفتازانيّ في حاشيته على شرح مختصر المنتهى: 1/ 536.
4- ينظر المطوّل: 422.
5- أي قول أبي حامد أحمد بن محمّد الأنطاكيّ، نزيل مصر، المعروف بأبي الرقعمق، وقد أرسل له أصحابه يدعونه إلى الصبوح في يوم بارد، وقالوا له: ماذا تريد أن نصنع لك طعامًا؟ وكان فقيرًا ليس له كسوة تقيه البرد، فكتب إليهم يقول: أصحابنا قصدوا الصبوح بسحرة *** وأتى رسولهم إليّ خصيصًا قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه *** قلت اطبخوا لي جبّة وقميصًا أي: خيطوا لي جبّة وقميصًا، فذكر الخياطة بلفظ الطبخ لوقوعه في صحبة طبخ الطعام. (ينظر معاهد التنصيص: 1/ 225، وشروح التلخيص: 4/ 311، وجامع الشواهد: باب القاف بعده الألف، والغدير: 4/ 113، والإيضاح: 360، ومختصر المعاني: 269، والمطوّل: 422).

قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه *** قلت: اطبخوا لي جبّة وقميصًا(1)

واستشكل في تحقّق العلاقة في مجاز المشاكلة؛ لعدم ظهورها بين الطبخ والخياطة في الشعر المذكور، ولذا قيل:

كأنّهم جعلوا المصاحبة في الذكر علاقة(2).

وفيه ما لا يخفى؛ لأنّ المصاحبة في الذكر متوقّف(3) على الاستعمال، والاستعمال متوقّف على العلاقة، فلو جعلت المصاحبة في الذكر علاقة، يلزم توقّف الشيء على نفسه.

وقيل: إنّ العلاقة بين الطبخ والخياطة هي المجاورة في الخيال(4)، فإنّه إذا

ص: 292


1- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 518.
2- قاله التفتازانيّ في حاشيته على شرح مختصر المنتهى: 1/ 537، ونسبه إلى القيل الشيخ خليل القزوينيّ في حاشيته على العدّة للشيخ الطوسيّ: 1/ 169، وفيه: «كأنّهم جعلوا المصاحبة في الذكر علاقة في مجاز المشاكلة».
3- كذا في الأصل، والصواب: متوقّفة.
4- نسبه إلى القيل الجيزاويّ في حاشيته على حاشية التفتازانيّ على «شرح مختصر المنتهى: 1/ 548».

كان(1) خياطة الجبّة والقميص مطلوبة عند شخص، ارتسم(2) صورتها في خياله؛ لكثرة ما ناجى به نفسه، فإذا أورد(3) صورة الطبخ في خياله بأن قالوا: «اقترح شيئًا نجد لك طبخه»، يقارن صورة الطبخ والخياطة في خياله، فيجوز أن يعبّر عن الخياطة بالطبخ، فيقول: «قلت: اطبخوا لي جبّة وقميصًا».

وفيه نظر أيضًا؛ لأنّ المجاورة المصحّحة للتجوّز هي المجاورة المعهودة في الأنظار.

وبالجملة: المجاورة في ذهن المخاطب؛ إذ هو الّذي أُلقي إليه الكلام لينتقل إلى المرام، فبسبب مجاورة المعنيين في ذهنه وقيام القرينة على عدم إرادة أحدهما ينتقل إلى الآخر؛ والمجاورة في ذهن المتكلّم فقط غير كافية للاستعمال، وقد تقدّم الكلام في تحقيق المجاورة.

ويمكن أن يكون الشعر المذكور من باب الاستعارة المكنيّة التخييليّة بأن يشبّه الجبّة والقميص على الشيء المأكول، تنبيهًا على كمال رغبته فيهما وميله إليهما، وقارنهما بما يلائم المشبّه به، وهو الطبخ.

إعادة كلام لتحقيق مقام

اعلم: أنّ ما ذكر في دلالة هذه العلامة على المجازيّة غير تامّ؛ لأنّه كما أنّ اتّصاف اللفظ بكونه حقيقة في معنى متوقّفٌ على وضعه له، كذلك اتّصاف اللفظ بكونه مجازًا في معنى متوقّفٌ على تحقّق العلاقة وإذن الواضع في الاستعمال معها.

ص: 293


1- كذا في الأصل، والصواب: كانت.
2- كذا في الأصل، والصواب: ارتسمت.
3- كذا في الأصل، والصواب: أوردت.

وكما أنّه لا معنى لاشتراط استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له بتعلّقه على معنى آخر؛ لكون المصحّح للاستعمال هو الوضع، فأينما وجد صحّ الاستعمال؛ كذلك ينبغي أن لا معنى لاشتراط استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ بتعلّقه على معنى آخر؛ لأنّ المصحّح للاستعمال هو العلاقة وإذن الواضع في الاستعمال، فإن وُجدا صحّ الاستعمال مطلقًا، وإلّا فلا.

كذلك وجعل المثال المذكور من ذلك اشتباه؛ لأنّ قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله﴾(2) شاهدُ صدق على ذلك، وكذلك كثير من الأدعية كقوله (علیه السلام): «ولا تمكر بي في حيلتك»(3)، و«خفي مكرك»(4)، وأمثالهما، بل نقول: إنّه من باب التشبيه؛ لأنّ ما يفعل الله تعالى بهم كان في صورة المكر، فالمجاز استعارة.

إن قلت: لمّا كان المعتبر في المجاز العلاقة وإذن الواضع في الاستعمال، يمكن أن يكون إذن الواضع في استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ في حالة استعماله في المعنى الآخر، فلذا لا يجوز الاستعمال في غير تلك الحالة.

قلت: لمّا كانت غاية الاستعمال الإفادة والاستفادة مثلًا، ينبغي أن يصحّ في كلّما تحقّقت تلك الغاية، فلا معنى للاشتراط على النهج المذكور.

وعلى فرض التسليم نقول: الكلام في تحقّق الاستعمال على النهج المذكور، فإن

ص: 294


1- سورة الأعراف: 99.
2- سورة الأعراف: 99.
3- مصباح المتهجّد: 2/ 582، دعاء أبي حمزة.
4- مصباح المتهجّد: 2/ 854، دعاء كميل بن زياد.

تحقّق سلّمنا دلالته على المجازيّة، لكن جعل المثال المذكور من ذلك فاسدٌ لما عرفت، فالكلام حينئذٍ ليس على العلامة، بل على المثال.

وإنّما لم يجعل عكسه دليلًا على الحقيقة؛ لوضوح أنّ غالب المجازات غير متوقّف استعماله في المعنى المجازيّ على تعلّقه بالمعنى الآخر.

تذنيب: عدم افتقار فهم المعنى من اللفظ علامةُ الحقيقة وعكسه المجاز

تذنيب: عدم افتقار فهم المعنى من اللفظ(1) علامةُ الحقيقة وعكسه المجاز.

اعلم: أنّه قد زاد بعضٌ آخر في المقام علامة أخرى، وهي: عدم افتقار فهم المعنى من اللفظ إلى القرينة وافتقاره إليها(2)، فإنّ الأوّل دليل على كون اللفظ حقيقة في ذلك المعنى، والثاني دليل على مجازيّته فيه؛ كلفظ «الأسد» مثلًا، فإنّ فهم الحيوان المفترس منه غير متوقّف على اقترانه بالقرينة، بخلاف الرجل الشجاع، فإنّه لا يفهم منه إلّا عند الاقتران بها، فالجاهل باصطلاح قوم إذا تتبّع محاورات أربابه وظهر له الأمر على النهج المذكور، يتوصّل به إلى الحقيقة والمجاز.

والوجه في ذلك ظاهر، أمّا بالنسبة إلى علامة الحقيقة فلأنّه إذا علم فهم المعنى من اللفظ من غير قرينة، علم أنّ دلالته بالنسبة إليه لذاته؛ ولمّا كانت الدلالة الذاتيّة للّفظ معلولة للوضع، كان العلم بها مستلزمًا للعلم به؛ لأنّ العلم بالمعلول يستلزم العلم بالعلّة.

وأمّا بالنسبة إلى علامة المجاز؛ فلأنّ العلم بتوقّف(3) فهم المعنى من اللفظ على

ص: 295


1- كذا في الأصل، والظاهر أنّه سقط هنا: «إلى القرينة».
2- ينظر نهاية الوصول: 1/ 294، وتهذيب الوصول: 70، ومنية اللبيب: 1/ 220.
3- في «ق وج»: يتوقّف.

القرينة، يستلزم العلم بانتفاء الدلالة الذاتيّة بالنسبة إليه، فيلزمه العلم بانتفاء الوضع بالنسبة إليه، وإلّا لزم تخلّف المعلول عن العلّة، وهو محال، فثبت العلم بالمجازيّة، وهو المطلوب.

الإيراد على هذه العلامة
اشارة

ويمكن الإيراد عليه من وجهين:

الإيراد الأوّل مع الجواب عنه
اشارة

الأوّل: أنّ اللازم من العلم بالمعلول العلم بعلّة ما، لا العلّة المعيّنة، إلّا إذا كانت العلّة منحصرة في الواحد.

فعلى هذا نقول: العلم بدلالة اللفظ على المعنى من غير افتقار إلى القرينة، إنّما يستلزم الوضع إذا انحصر المقتضي للدلالة من غير افتقار إلى القرينة في الوضع، وهو غير مسلّم؛ لأنّ فهم المعنى من اللفظ كما يحتمل أن يكون لأجل وضعه له، كذا يحتمل أن يكون لأجل اشتهاره فيه، مع كونه من المعنى المجازيّ، فاللازم من العلم بدلالة اللفظ على المعنى من غير قرينة، العلم باستنادها إلى واحد من الوضع والشهرة، وأمّا خصوص شيء منهما فلا كما لا يخفى، فجعل فهم المعنى من غير افتقار إلى قرينة علامة للحقيقة فاسد.

ومنه يعلم الحال بالنسبة إلى علامة المجاز، فإنّ فهم المعنى المجازيّ من المجاز المشهور من غير افتقار إلى قرينة، يستلزم افتقار فهم المعنى الحقيقيّ منه إليها(1)، فالعلم بافتقار فهم المعنى إلى القرينة إنّما استلزم العلم بواحد من عدم الوضع له،

ص: 296


1- في «ق»: إليهما.

أو اشتهاره في غير الموضوع له مع وضعه له، فالاستدلال به على عدم الوضع بخصوصه(1) حتّى يثبت(2) المجازيّة ممّا لا وجه له.

والجواب عنه: هو أنّ فهم المعنى المجازيّ من المجاز المشهور إنّما هو بواسطة اشتهاره فيه، فالشهرة فيه قرينة المجازيّة(3)، فلم يتحقّق(4) فيه فهم المعنى من غير افتقار إلى القرينة.

في الفرق بين القرينة الّتي في الحقيقة المرجوحة وبينها في المجازات

هذا بالنسبة إلى علامة الحقيقة، وأمّا بالنسبة إلى علامة المجاز فنقول: سلّمنا أنّ المعنى الحقيقيّ في المجاز المشهور متوقّف على القرينة، لكنّها فيه لأجل إزالة القرينة المجازيّة، لا لأجل فهم المعنى.

توضيحه يقتضي أن يقال: كما أنّ إرادة المعنى المجازيّ من اللفظ متوقّفة على وجود القرينة الصارفة، كذلك إرادة المعنى الحقيقيّ منه متوقّفة على انتفاء القرينة المجازيّة؛ ولمّا لم تكن القرينة في غير المجاز المشهور من المجازات لازمة، كان المراد منها عند التجرّد المعنى الحقيقيّ لانتفاء القرينة المجازيّة.

وأمّا المجاز المشهور، فلمّا كانت الشهرة(5) الّتي هي القرينة فيه لازمة وكانت إرادة المعنى الحقيقيّ متوقّفة على انتفاء القرينة المجازيّة كما عرفت، توقّفت إرادته

ص: 297


1- «بخصوصه» لم ترد في «ق».
2- كذا في الأصل، والصواب: تثبت.
3- كذا في الأصل، والصواب: المجاز، كما في باقي النسخ.
4- في «ق وج»: قد يتحقّق.
5- في «ق»: للشهرة.

على إقامة القرينة المزيلة لحكم الشهرة.

والاعتراض إنّما يرد إذا جعل مطلق الافتقار إلى القرينة علامة المجازيّة، وليس الأمر كذلك، بل علامته الافتقار إلى القرينة الّتي للدلالة، لا القرينة الّتي يزول بها المانع عنها، فما جعل علامة للمجاز غير موجود في الحقيقة، وما وجد فيها لم يجعل علامة، فلا انتقاض.

وفيه نظر، أمّا أوّلًا: فلأنّ القرينة في المجاز كما يجوز أن تكون(1) صارفة عن المعنى الحقيقيّ، أو معيّنة للمعنى المجازيّ، أو هما معًا بأن تكون قرينتان صارفة ومعيّنة، أو واحدة ذات جهتين، كذلك هنا، فإنّها إمّا أن تكون صارفة عن المعنى المشتهر، أو معيّنة للمعنى الحقيقيّ، أو هما معًا، فالفرق بينهما تحكّم.

وأمّا ثانيًا: فلأنّك قد عرفت مرارًا أنّ الافتقار إلى العلامات المقرّرة لتشخيص الحقائق والمجازات إنّما هو للجاهل، فعلى هذا نقول: إنّ الجاهل بالاصطلاح إذا تصفّح محاورات أربابه، وظهر له أنّهم متى يستعملون ذلك اللفظ يفهمون منه ذلك المعنى من غير اقترانه إلى قرينة لفظيّة، وكأن إرادة المعنى الآخر - وهو المعنى الحقيقيّ كما هو المفروض - متوقّفًا على اقترانه بها، من أين(2) يحكم أنّ فهم المعنى الأوّل متوقّف على القرينة الّتي هي الشهرة وأنّ القرينة في الثاني لدفع المانع عن الدلالة؟

فلم يكن الجواب دافعًا(3) عن الانتقاض، بل يؤكّده ويحقّقه؛ لتحقّق الاحتمال

ص: 298


1- في «ق»: يكون.
2- في «ق»: أن.
3- في «ق»: رافعًا.

المذكور في كلّما يفهم منه المعنى عند التجرّد عن القرينة الظاهرة والاقتران بها، فلا يمكن التوصّل إلى الحقيقة والمجاز بهاتين العلامتين أصلًا.

الحقيقة قد تصير مجازًا وبالعكس

فالحقّ في الجواب أن يقال بمنع بقاء المعنى المجازيّ والحقيقيّ في اللفظ البالغ إلى هذا الحدّ على كونه مجازيًّا وحقيقيًّا، بل نقول: إنّ اللفظ إذا بلغ في كثرة الاستعمال في المعنى المجازيّ بحيث ينصرف الذهن إليه عند عدم الاقتران بالقرينة الظاهرة وتتوقّف إرادة المعنى الحقيقيّ على الاقتران بها، ينقلب المجاز حقيقة والحقيقة مجازًا.

قال العلّامة في النهاية: الحقيقة قد تصير مجازًا وبالعكس، فإنّ الحقيقة إذا قلّ استعمالها صارت مجازًا عرفيًّا، والمجاز إذا كثر استعماله صار حقيقة عرفيّة(1).

الإيراد الثاني مع الجواب عنه
اشارة

والثاني: النقض بالمشترك، فإنّ فهم المعنى منه متوقّف على القرينة مع كونه حقيقة.

والجواب عنه قد سبق مفصّلًا مع سائر ما يتعلّق بالمقام، فلا وجه للإعادة، فعلى هذا قد سلمت العلامة من الانتقاض، لكن يرد أنّ العلامة بهذا العنوان لا نعرف فرقًا بينها وبين ما تقدّم من التبادر وشقيقه، بل في بادي النظر أنّها ذلك، وإنّما الاختلاف بينهما بالعبارة، فجمعهما في الذكر على ما وقع من بعض

ص: 299


1- نهاية الوصول: 1/ 292.

المحقّقين(1) غير جيّد؛ وإنّما جمعنا بينهما مع ذلك للتنبيه على ذلك مع بعض الفوائد.

في أنّ ما اشتهر من عدم ثبوت اللغات بالاستدلال لا ينافي إثباتها بالتبادر ونحوه

إرخاء عنان لتتميم مقام

إن قيل: قد اشتهر في الألسنة وأقيم عليه البرهان والدلالة أنّ اللغات لا تثبت بالدليل(2)، فكيف يجوز الاستدلال بالأمور المذكورة على إثبات المجاز والحقيقة؟! إذ قولك: «هذا اللفظ في هذا المعنى حقيقة لأنّه متبادر منه، أو لم يصحّ سلبه عنه، وفي ذلك المعنى مجاز؛ لأنّ غيره متبادر منه، أو يصحّ سلبه عنه»، وهكذا، إثباتٌ للّغة بالدليل.

قلنا: هذا الاستدلال ليس ممّا منع منه في المقام؛ لأنّ مرجعه إلى الوضع.

بيان ذلك: هو أنّ تبادر المعنى -على ما عرفت- معلول لوضعه له، وكذا الكلام في عدم صحّة السلب، فإذا ظهر شيء منهما بعد التصفّح في الاصطلاح، يعلم الوضع؛ لما تقدّم من أنّ العلم بالمعلول يستلزم العلم بالوضع.

وهذا الاستدلال مثل ما يقال: إنّ اللفظ في هذا المعنى حقيقة؛ لتصريح الواضع بأنّه وضعه له، وكذا الكلام في تبادر الغير وصحّة السلب، فإنّ منشأهما عدم الوضع، فيستدلّ بهما عليه، وهذا كما يقال: إنّ اللفظ في هذا المعنى مجاز؛ لتصريح الواضع بأنّه غير موضوع له.

ص: 300


1- ينظر منية اللبيب: 1/ 220.
2- ينظر الفوائد الحائريّة: 477، ومفاتيح الأصول: 85.

وبالجملة: لا شبهة في أنّ لكلّ اصطلاح معانٍ حقيقيّة ومجازيّة، وأنّ لكلّ منهما خاصّة يطّلع المتتبّع عليها، فيلزمه العلم بذي الخاصّة، وإلّا لم تكن الخاصّة خاصّة، [و] هذا خلف، ولعلّك تطّلع على زيادة تحقيق في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ص: 301

ص: 302

الباب الثالث

ص: 303

ص: 304

الباب الثالث: في تحقّق الواسطة في الألفاظ

اشارة

بين المجاز والحقيقة وتعارض الأحوال وغيرهما

ففيه فصلان:

الفصل الأوّل: في تحقّق الواسطة بينهما وجواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأوّل: في تحقّق الواسطة بين المجاز والحقيقة
اشارة

إنّ اللفظ قد لا يكون حقيقة ولا مجازًا، فيكون واسطة بينهما، وذلك في مواضع:

الموضع الأوّل

الأوّل: في اللفظ الموضوع قبل الاستعمال في الموضوع له وغيره، فإنّه لا يكون حقيقة ولا مجازًا، لما عرفت سابقًا من اعتبار الاستعمال في حدّيهما(1).

ص: 305


1- ينظر نهاية الوصول: 1/ 290، وغاية الوصول: 1/ 163، وتهذيب الوصول: 71، ومنية اللبيب: 1/ 231، وأنيس المجتهدين: 1/ 60، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 343، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/150، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 552.

وبالجملة: المأخوذ في حدّ كلّ منهما جنسان: بعيد وقريب(1)، أي: اللفظ المستعمل، والمتحقّق فيما نحن فيه إنّما هو البعيد فقط، وتحقّقه غير كافٍ لتحقّق جنسهما القريب؛ لعدم استلزام العامّ للخاصّ، فكيف بالنسبة إليهما وإن كان تحقّق القريب مستلزمًا لتحقّقه، كما أنّ انتفاء البعيد مستلزم لانتفائه؛ لوضوح استلزام تحقّق الأخصّ للأعمّ، ولذا كلّما كان الجنس أقرب كان اشتماله على الذاتيّات أكثر، واستلزام انتفاء الأعمّ للأخصّ.

الموضع الثاني

والثاني: الألفاظ المهملة، فإنّها أيضًا غير متّصفة بالمجاز والحقيقة؛ لابتناء الانقسام إليهما بالوضع المنتفي فيها(2).

الموضع الثالث

والثالث: الألفاظ الموضوعة المستعملة في غير معانيها غلطًا(3)، أمّا عدم اتّصافها بالحقيقة؛ فلأنّها بالنسبة إلى ذلك الاستعمال غير مستعملة فيما وضعت لها، وهو ظاهر، وأمّا عدم اتّصافها بالمجاز مع تحقّق الوضع والاستعمال في غير الموضوع له، فلما تقدّم من أنّ المجاز الّذي كلامنا فيه هو ما لوحظ فيه العلاقة والمناسبة، وهي هنا منتفية.

ص: 306


1- في «ق»: قريب وبعيد.
2- ينظر المحصول، للفخر الرازيّ: 1/343، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 660، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 152.
3- ينظر المحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 343.

فهذه المواضع قد وُجد فيها اللفظ مع عدم الاتّصاف بالحقيقة والمجاز(1)، والسرّ في ذلك: هو أنّهما لمّا كانا وجوديّين غير مجتمعين في محلّ واحد من جهة واحدة ولم يكونا من المتضايفين، يكون التقابل بينهما تقابل الضدّين، ومقتضى الضدّين جواز خلوّ المحلّ عنهما، كما لا يخفى.

ص: 307


1- قال العلّامة في النهاية: وأيضًا الأعلام ليست حقيقة ولا مجازًا؛ لكونها من الألقاب، والحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له، والمجاز في غير ما وضع له، وهو يستدعي كونهما قد وضعا قبل الاستعمال لغة، وأسماء الأعلام كذلك، فإنّ مستعملها لم يستعملها فيما وضعه أهل اللغة ولا في غيره؛ لأنّها لم تكن من وضعهم، بل لفظ مستعمل من كلام العرب ما عدا الوضع الأوّل، فإنّه لا يخلو عن الحقيقة والمجاز (نهاية الوصول: 1/290، وينظر: غاية الوصول: 1/ 153، ومنية اللبيب: 1/ 232، والإحكام: 1/ 33، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 343، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 151).

في عدم استلزام الحقيقة للمجاز

المبحث الثاني: في جواز انفكاك الحقيقة من المجاز
اشارة

ويمكن التكلّم في ذلك من كلٍّ من جانب المجاز والحقيقة، أمّا الثاني فلأنّ الحقيقة على ما عرفت: اللفظ المستعمل في الموضوع له، ولا شبهة في عدم استلزام استعمال اللفظ في الموضوع له استعماله في غيره.

وأمّا الأوّل: فلأنّ المجاز على ما تقدّم أيضًا: اللفظ المستعمل في غير الموضوع له لإحدى العلائق بينه وبين الموضوع له، فيجوز أن يكون الموضوع له اللفظ معنًى لا يكون بينه وبين غيره من المعاني شيء من العلائق المعتبرة، سواء كان ذلك المعنى بسيطًا أو مركّبًا، لكن لم يتحقّق فيه الشرطان المتقدّمان المعتبران في إطلاق لفظ الكلّ على الجزء(1)، ولا شبهة في إمكان ذلك، فحينئذٍ لو استعمل ذلك اللفظ في ذلك المعنى يكون حقيقة ولا يمكن اتّصافه بالمجازيّة.

والسرّ في ذلك: هو أنّه كلّما كان الشيء في تحصّله مفتقرًا إلى أمور لم يكن وجوده لازمًا لَمَا توقّف تحصّله على بعضها؛ ولمّا كان المجاز تحصّله متوقّفًا على اللفظ والاستعمال والموضوع له وغيره وعلاقة بينهما، والحقيقة على الثلاثة الأُوّل، فلا يلزم من تحقّقها تحقّقه على سبيل العموم، ففي مقام الانفكاك الّذي

ص: 308


1- جاء في حاشية الأصل: هذا الاشتراط على المشهور بين العلماء إنّما هو في إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكلّ، وما ذكر في هذا المقام مبنيٌّ على ما ذكره بعض المحقّقين من عدم اختصاص الاشتراط المذكور بذلك واعتباره في عكسه أيضًا، كما احتملنا ذلك في مباحث العلاقة، فلا تغفل. منه.

كلامنا فيه وإن تحقّقت الأربعة(1)، لكن وجود الخامس غير معلوم، وهو كافٍ لإثبات المدّعى، فتأمّل(2).

لا يقال: إنّ هذا يقتضي أكثريّة الحقائق من المجازات، وهو ينافي ما اشتهر في الألسنة من الحكم على المجاز بالأكثريّة.

لأنّا نقول: إنّ ما ذكرناه دليلٌ عقليٌّ قطعيٌّ لا يكاد يشكّ فيه، فاللازم صرف الهمّة إلى دفع معارضه، فتحقيقه يقتضي إرخاء العنان في هذا المقام، فنقول: هذه المقالة تحتمل معان خمسة:

ص: 309


1- جاء في حاشية الأصل: لوضوح استلزام استعمال اللفظ في الموضوع له تحقّق اللفظ والاستعمال والموضوع له، وأمّا تحقّق الرابع: فلأنّ الموضوع له معنى معيّن مشخّص، فغير ذلك المعنى غير الموضوع له، وتحقّقه ظاهر. منه.
2- جاء في حاشية الأصل: وجه التأمّل: هو أنّ ما ذكر إنّما يتمّ إذا كانت الأمور الثلاثة الّتي تتوقّف عليها الحقيقة عينُ الّتي يتوقّف عليها المجاز، وليس كذلك، إذ الاستعمال الّذي في المجاز إنّما هو في غير الموضوع له، والّذي في الحقيقة إنّما هو في الموضوع له، وبالجملة إنّما يسلّم ذلك إذا كان الموقوف عليه للحقيقة جزء ما يتوقّف عليه المجاز، فتكون النسبة بينهما عمومًا مطلقًا بأن يكون المجاز أخصّ، فتحقّقه كان مستلزمًا لتحقّق الحقيقة من غير عكس، وظاهرٌ أنّ الأمر فيما نحن فيه لم يكن كذلك؛ لما عرفت من أنّ الاستعمال في أحدهما في الموضوع له وفي الآخر في غيره، وأيضًا أنّ الموضوع له في الحقيقة إنّما يفتقر إليه لاستعمال اللفظ فيه وفي المجاز لمناسبة المستعمل فيه إيّاه، والاعتباران متغايران. منه.
الاحتمالات في معنى أنّ المجاز أكثر من الحقيقة
المعنى الأوّل

الأوّل: أنّها ليست على سبيل الإطلاق بالنسبة إلى جميع الألفاظ، بل(1) فيما إذا كان المستعمل فيه اللفظ متعدّدًا، معنيين أو أكثر، ولم يثبت الوضع بالنسبة إلى الجميع، فمقتضى المقالة المذكورة على هذا أكثريّة المجاز من الاشتراك، بمعنى أنّ كون(2) اللفظ المستعمل في المعاني المتعدّدة حقيقة ومجازًا أكثر من كونه حقيقة في الجميع، فإذا ثبت استعمال اللفظ في المعاني المتعدّدة وتردّد بين كونه حقيقة في الجميع أو في البعض ومجازًا في الآخر، يحمل على الثاني؛ لأنّ الظنّ يلحق الشيء بالأغلب(3).

ويؤيّد هذا المعنى تمسّكهم بتلك المقالة عند معارضة الاشتراك والمجاز، والكثرة بهذا المعنى للمجاز مسلّمة وإن ذهب مرجّح الاشتراك إلى خلافه، وسيجيء الكلام فيه مع جوابه، لكن اللازم منه أكثريّة المجاز بالنسبة إلى الاشتراك، ولا يلزم منه أكثريّته بالنسبة إلى جميع الحقائق حتّى يتوهّم(4) التنافي كما لا يخفى.

المعنى الثاني

الثاني: أنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ أكثر من استعماله في معناه الحقيقيّ،

ص: 310


1- «بل» لم ترد في «ق».
2- في «ق»: يكون.
3- ينظر المحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 204، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 81.
4- في «ق»: توهّم.

ولعلّ هذا المعنى يظهر ممّن تمسّك بتلك المقالة عند معارضة التخصيص والمجاز معترضًا على من رجّح التخصيص، تمسّكًا بما اشتهر من قول: «ما من عامّ إلّا وقد خصّ»(1).

وهذا المعنى على قسمين:

أحدهما: استعمال كلّ لفظ له معنى مجازيّ في كلّ واحد من معانيه المجازيّة أكثر من استعماله في معناه الحقيقيّ.

وثانيهما: استعماله في معانيه المجازيّة أكثر من استعماله في المعنى الحقيقيّ وإن لم يكن استعماله في كلّ واحد من معانيه المجازيّة أكثر.

ولعلّ وجه أكثريّة استعماله في المعنى المجازيّ القصدُ إلى اتّصاف الكلام بالبلاغة، بناءً على أنّها لا تحصل إلّا باشتمال الكلام على اللطائف والنكات الزائدة الّتي لا تحصل(2) إلّا بوجوه الاستعارات والكنايات، إذ بدون ذلك يكون الكلام مفيدًا لأصل المقصود من دون اعتبار أمر زائد عليه، فلا يكون بليغًا، ومن ثمّ كان المجاز هو الغالب في كلام البلغاء والشعراء(3).

لكن دعوى الكثرة في المجاز بهذا المعنى بإطلاقها ممنوعة، إذ لا شبهة في أنّ استعمال الألفاظ بين عامّة الناس أكثر من استعمالها بين خاصّتهم، ولا ريب في أنّ أكثر(4)

ص: 311


1- ينظر إشارات الأصول: 1/ 45، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 81- 82.
2- في «ق»: لا يحصل.
3- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 81.
4- في «ق»: أكثريّة.

الاستعمالات الدائرة بينهم ليست بمجازات(1).

نعم، أكثر الاستعمالات الدائرة بين الشعراء والخطباء وإن كانت مجازات، لكنّها غير كافية لإثبات الأكثريّة على الإطلاق، على أنّ ذلك غير مسلّم بإطلاقه، بل بالنسبة إلى الخطب والأشعار، فمن أين ثبتت أكثريّة المجاز بالمعنى المذكور؟!

ثمّ حصر البلاغة في المجازات والاستعارة يستدعي إمّا عدم اشتمال الكتاب المجيد على الحقائق، أو عدم كونه بتمامه بليغًا؛ والتالي بشقّيه فاسد، فالمقدّم مثله، والملازمة بيّنة.

أمّا بطلان الشقّ الثاني من التالي، فغير محتاج إلى البيان، ضرورة أنّ القرآن بتمامه في أعلى مراتب البلاغة التي في حدّ الإعجاز.

وأمّا بطلان الشقّ الأوّل منه، فكذلك أيضًا؛ لأنّ اشتماله على الحقيقة ممّا لا يحوله إنكار، وكيف؟! مع أنّ الغرض الأصلي منه البيان والإعلام، لا الإجمال والإبهام، ولا ريب أنّ المناسب لهذا الغرض استعمال الحقيقة دون المجاز.

ولهذا ادّعى سيّد الأواخر والأوائل، ومفخر الأماثل والأفاضل، الّذي قد انتهت إليه مراتب الفضيلة والسعادة(2)، وحاوت عليه السعادة الدنيويّة والأخرويّة، أستاذنا(3) بل أستاذ البريّة في عصره -أدام الله إفادته وإفاضته-:

إنّ الغالب في ألفاظ(4) القرآن والحديث هو الحقيقة، وإنّ المجاز فيها(5) قليل

ص: 312


1- في «ق»: مجازاة.
2- «والسعادة» لم ترد في «ق».
3- هو العلّامة المحقّق السيّد محمّد مهديّ الطباطبائيّ النجفيّ المعروف ببحر العلوم (قدس سره).
4- في «ق»: الألفاظ.
5- في المصدر: منها.

جدًّا بالقياس إليها، خصوصًا فيما يتعلّق فيها(1) بالأحكام(2).

وأيضًا البلاغة في الكلام على ما عرّفها أئمّة المعاني والبيان: مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته(3)، والمراد بالحال الأمر الداعي إلى التكلّم على وجه مخصوص من التأكيد والإطلاق والحذف وعدمه ونحوها، ولا شبهة في أنّه كما يحصل في المجازات، كذا يحصل في الحقائق.

ثمّ على تقدير تسليم الكثرة بهذا المعنى في المجازات، لا يلزم منه أكثريّة المجاز بحسب الوجود من الحقيقة؛ لجواز أن يكونا متساويين، بل يكون المجاز أقلّ وجودًا من الحقيقة، ومع ذلك يكون الاستعمال المجازيّ أكثر، بأن تكون بعض الألفاظ حقيقة لا مجازًا، ومع ذلك كان استعمال جنس المجاز في المحاورات أكثر كما لا يخفى، فعلى هذا يكون مرجع هذا المعنى أنّ استعمال اللفظ الّذي له معنى مجازيّ فيه أكثر من استعمال الحقائق.

المعنى الثالث

والثالث: أنّ الاستعمالات المجازيّة في المحاورات أكثر من الحقيقة.

والفرق بينه وبين المعنى الثاني هو أنّ كثرة الاستعمال في المعنى المجازيّ إنّما كانت مفروضة في المعنى الثاني بالنسبة إلى كلّ لفظ بخلافه هنا، فإنّ المعتبر فيه أكثريّة الاستعمالات المجازيّة، فيجوز أن يكون استعمال بعض الألفاظ في معناه

ص: 313


1- في المصدر: منها.
2- شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 82، ونقله عنه في مفاتيح الأصول: 33.
3- ينظر الإيضاح، للخطيب القزوينيّ: 11.

المجازيّ أقلّ من استعماله في معناه الحقيقيّ وبعضها أكثر بحيث إذا لوحظ مطلق الاستعمال في المعنى المجازيّ كان أكثر.

ثمّ إنّ الكلام في تحقّق الكثرة هنا كالكلام في السابق، إلّا أنّ الأمر هنا أسهل منه كما لا يخفى على المتأمّل، وعلى فرض تسليمها غير منافية للمدّعى، لما تقدّم آنفًا، حاصله: أنّ هنا أربعة أشياء، قلّة الوجود وكثرته، وقلّة الاستعمال وكثرته، ولو كانت قلّة الوجود مستلزمة لقلّة الاستعمال، أو كثرته مستلزمة لكثرته، أو كانت قلّة الاستعمال مستلزمة لقلّة الوجود، أو كثرته لكثرته(1)، ثبتت المنافاة، لكن عدم الاستلزام في جميع ذلك ممّا لا يحوله ارتياب.

المعنى الرابع

والرابع: هو أنّ المجاز أكثر من الحقيقة في الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة والأئمّة-عليهم آلاف السلام والتحيّة- ولعلّ هذا المعنى يظهر من النظر إلى المقصود الأصليّ والغرض الكلّيّ في تدوين علم الأصول وتحقيق مسائله ومبانيه.

ولا شبهة في أنّه(2) البحثُ عن ألفاظ القرآن والحديث على نحو يبتني عليه استنباط الأحكام الشرعيّة، فينبغي حمل كلامهم على ما يتعلّق بهما، فعلى هذا يكون المراد من قولهم: «إنّ المجاز أكثر» المعنى المذكور، لكنّا نمنع تحقّق الكثرة بهذا المعنى أيضًا، وقد عرفت سنده(3).

ص: 314


1- «لكثرته» لم ترد في «ق».
2- يعني المقصود.
3- جاء في حاشية الأصل: ولا يخفى أنّ المعنى الرابع يحتمل أن يكون على نسق المعنى الثاني والثالث، والمنع متوجّه بالنسبة إليهما، لكن لا يتوهّم منه توجّه المنع بالنسبة إلى كلّ لفظ من الألفاظ المذكورة في الكتاب والسنّة؛ لوضوح تحقّق الأكثريّة بالنسبة إلى بعض الألفاظ، كصيغة الأمر مثلًا؛ ولهذا ترى جمعًا من الفحول تأمّلوا في حملها على الوجوب في أخبار الأئمّة  بل المنع بالنسبة إلى المجموع من حيث المجموع. منه.

ثمّ إنّ المقصود الأصليّ من علم الأصول وإن كان ما ذكر، لكنّا نقطع بعدم اختصاص القواعد المذكورة فيه بالكتاب والسنّة واشتراك كلّما ينخرط في سلك الألفاظ فيها، وأنّه ليس مقصودهم انحصارها فيهما(1) أيضًا، لا سيّما فيما نحن فيه، فإنّ جمعًا منهم نسبوا المقالة المذكورة إلى ابن جنّي(2)، وهو من أئمّة اللغة(3).

وعلى فرض التسليم نمنع كونه منافيًا للمدّعى؛ لوضوح أنّ أكثريّة المجاز من الحقيقة في خصوص الكتاب والسنّة غير مستلزمة لأكثريّة مطلق المجاز من الحقيقة، كما لا يخفى على ذي فطنة ودراية.

ص: 315


1- في «ق»: فيها.
2- نسبه إليه الرازيّ في المحصول: 1/ 377، وينظر نهاية الوصول: 1/ 281، ومنية اللبيب: 1/236، ومفاتيح الأصول: 31 و94، وقوانين الأصول: 1/80، وإشارات الأصول: 1/ 45.
3- هو عثمان بن جِنّي -معرّب كني- الموصليّ، أبو الفتح، من أئمّة الأدب والنحو، وله شعر، ولد بالموصل، وتوفّي ببغداد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وكان أبوه مملوكًا روميًّا لسليمان بن فهد الأزديّ الموصليّ. وكان من شيوخ الشريف الرضيّ، وكان المتنبيّ يقول فيه: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وهو أعرف بشعري. من تصانيفه: رسالة في من نُسب إلى أمه من الشعراء، وشرح ديوان المتنبي، والمبهج في اشتقاق أسماء رجال الحماسة، والمحتسب في شواذ القراءات، وسرّ الصناعة، والخصائص ثلاثة أجزاء في اللغة، وغير ذلك وهو كثير(ينظر ترجمته في الأعلام: 4/ 203، وريحانة الأدب: 7/ 450، وبغية الوعاة: 2/ 132، وتاريخ الإسلام: 27/ 270، والكنى والألقاب: 1/ 241، ومعجم الأدباء: 12/81 - 115).
المعنى الخامس

والخامس: أن يكون المراد أكثريّة المعاني المجازيّة من المعاني الحقيقيّة(1)، وهذا لا يخلو إمّا أن يكون المراد أكثريّة المعنى المجازيّ بالنسبة إلى كلّ معنى حقيقيّ بأن يكون لكلّ معنى حقيقيّ معنى مجازيّ متعدّد، أو لا، بل المجموع بالنسبة إلى المجموع بأن يكون مجموع المعاني المجازيّة أكثر من مجموع المعاني الحقيقيّة وإن لم يكن لبعضها معنى مجازيّ مطلقًا ولو كان واحدًا.

وعلى التقديرين إمّا أن يكون المراد ما يمكن استعمال اللفظ فيه مجازًا وإن لم يستعمل فيه بالفعل، أو لا، بل ما تحقّق فيه الاستعمال بالفعل؛ فهنا أربعة مقامات ينبغي التكلّم في الكلّ حتّى يتبيّن الحال ويظهر حقيقة المقال.

المقام الأوّل

الأوّل: أن يكون المراد أكثريّة المجاز بالنسبة إلى كلّ معنى حقيقيّ وإن لم يتحقّق الاستعمال الفعليّ؛ والكثرة بهذا المعنى متوقّفة على دعوى تحقّق العلاقة المصحّحة للتجوّز في جميع المعاني وامتناع تحقّق معنى لا يكون بينه وبين غيره من المعاني واحدة منها، وهي ممنوعة، وعلى من يدّعي ذلك الإثبات، وللمانع يكفي الاحتمال.

وعلى فرض التسليم لا يثبت منه أكثريّة المجاز من الحقيقة؛ لما عرفت من اعتبار تحقّق الاستعمال في صدق المجاز؛ وصحّة الاستعمال في المعاني الّتي هي أكثر من المعاني الحقيقيّة مع عدم ثبوت الوقوع غير(2) كافية لذلك، ومن هنا ظهر بُعد

ص: 316


1- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 82.
2- «غير» لم ترد في «ق».

حمل(1) أكثريّة المجاز من الحقيقة على هذا المعنى كما لا يخفى.

المقام الثاني

والثاني: كالأوّل مع دعوى الاستعمال الفعليّ، ولا ريب أنّ صحّة هذا المعنى متوقّفة على ثبوت المعنى الأوّل، وحيث قد عرفت عدمه يظهر لك حاله(2)، وعلى فرض تسليم ثبوته دعوى ثبوت الاستعمال في الجميع ممنوعة، وقد عرفت وجهه.

المقام الثالث

والثالث: أن يكون المراد أكثريّة مجموع المعاني المجازيّة من مجموع المعاني الحقيقيّة وإن لم يكن لبعضها معنىً مجازيٌّ أصلًا، ويكون المراد بالمعاني ما يمكن فيه الاستعمال وإن لم يتحقّق الاستعمال بالفعل.

والأكثريّة بهذا المعنى لا شبهة في صحّتها وتحقّقها؛ لأنّه وإن لم يمتنع أن لا يكون لبعض المعاني الحقيقيّة معنى مجازيّ أصلًا، لكنّ الغالب تعدّد المعنى المجازيّ للمعنى الحقيقيّ الواحد بأن يكون بينه وبين جملة من المعاني علاقة مصحّحة للتجوّز، بحيث إذا لوحظ مجموع المعاني المجازيّة يكون أكثر من المعاني الحقيقيّة، لكن حال حمل أكثريّة المجاز على هذا المعنى في البعد وعدم المنافاة للمدّعى على فرض التسليم كما تقدّم.

ص: 317


1- في «ق»: جعل.
2- أي حال المعنى الثاني.
المقام الرابع

والرابع: أن يكون المراد أكثريّة المجموع من المجموع مع الاستعمال الفعليّ.

والفرق بينه وبين القسم الثاني مثلًا هو أنّ المعتبر هناك أكثريّة استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ من استعماله في المعنى الحقيقيّ(1)، وهنا(2) أكثريّة وجود المجاز من الحقيقة وإن كان الاستعمال في المعاني الحقيقيّة الّتي تكون أقلّ وجودًا أكثر وفي المعاني المجازيّة الّتي تكون أكثر وجودًا أقلّ.

وهل الأكثريّة بالمعنى المذكور مسلّمة أم لا؟ الظاهر نعم(3)؛ لأنّ الغالب في الألفاظ ثبوت الاستعمال بالنسبة إلى معان متعدّدة لم يتحقّق الوضع إلّا بالنسبة إلى واحد منها، فيلزم أن يكون اللفظ في غيره مجازًا.

إذا تحقّق ذلك نقول: إنّ اللازم من ذلك وإن كان أكثريّة المجاز بحسب الوجود من الحقيقة، إلّا انّا نمنع أنّ مقتضى ما تقدّم أكثريّة الحقائق من المجازات حتّى تكون أكثريّة المجازات وجودًا منافية لذلك، إلّا أنّ ذلك غير منافٍ لما تقدّم؛ لأنّ القدر اللازم من ذلك جواز انفكاك الأمر المتوقّف على عدّة أمور عمّا يتوقّف على بعضها، ولا يلزم منه الأقلّيّة؛ لجواز تحقّق الأمور الموقوف عليها في معانٍ متعدّدة بالنسبة إلى معنى حقيقيّ واحد، فحصل التعدّد في المجاز، والحقيقةُ واحدةٌ، فيمكن أن يكون ذلك بحيث تتحقّق الأكثريّة من الحقيقة مع افتقار المجاز إلى جملة من الأمور والحقيقة إلى بعضها كما لا يخفى.

ص: 318


1- جاء في حاشية الأصل: وبعبارة أخرى: الرابع كالثاني في الثاني وكالثالث في الأوّل. منه.
2- في «ق»: وهناك.
3- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): مع إمكان المناقشة فيه أيضًا.

وذلك أنّ مقتضى ما تقدّم إنّما كان أكثريّة الحقائق إذا كان الموقوف عليه للحقيقة جزء ما يتوقّف عليه المجاز، إذ حينئذٍ تكون النسبة بينهما عمومًا مطلقًا بأن يكون المجاز أخصّ مطلقًا، فتحقّقه كان مستلزمًا لتحقّق الحقيقة من غير عكس، وهو بيّن الفساد؛ لما عرفت من أنّ الاستعمال في الحقيقة في الموضوع له وفي المجاز في غيره.

وأيضًا أنّ الموضوع له في الحقيقة إنّما يفتقر إليه لاستعمال اللفظ فيه، وفي المجاز لمناسبة المستعمل فيه معه، والاعتباران متغايران، ولذا عدّا من المتضادّين كما قدّمنا.

إن قلت: إنّ المجاز لو كان أكثر ينبغي الحكم بالمجازيّة في مقام الشكّ؛ لأنّ الظنَّ يُلحق الشيءَ بالأعمّ الأغلب، وحينئذٍ يكون الأصل في الاستعمال المجاز؛ وهذا ينافي ما اشتهر بينهم من: «أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة»(1).

قلنا: هذه المقالة يُتمسّك بها فيما إذا علم المعنى الحقيقيّ والمجازيّ وكان الجهل بالنسبة إلى المراد والمستعمل فيه، فيقال: «الأصل في الاستعمال الحقيقة»، أي الظاهر أن يكون المراد المعنى الحقيقيّ.

على أنّه يمكن أن يقال: إنّ مرجع المعنى الرابع أكثريّة المجاز وجودًا وأقلّيّته استعمالًا، وبعكس ذلك في الحقيقة(2)، فحينئذٍ نقول: المعنى المذكور يحقّق المقالة المذكورة ويؤكّدها، بل دليل عليه ومنشأ له.

ولو قلنا معنى «الأصل في الاستعمال الحقيقة»: أنّ الاستعمال دليل على كون

ص: 319


1- ينظر مفاتيح الأصول: 81، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 341.
2- في «ق»: الحقيقيّ.

اللفظ حقيقة في المستعمل فيه، بناءً على أنّه إذا كان اللفظ أكثر استعمالًا في المعنى الحقيقيّ وأقلّ استعمالًا في المعنى المجازيّ، يحكم في مقام الشكّ على الحقيقة؛ لما اعترفت به من إلحاق الظنّ الشيء بما يتّصف بالأغلبيّة(1)، ويجيء للمقام زيادة تحقيق في محلّ أليق إن شاء الله تعالى.

ص: 320


1- ينظر قوانين الأصول: 1/ 80.

في عدم استلزام المجاز للحقيقة

المبحث الثالث: في عدم استلزام المجاز للحقيقة
اشارة

وهذه المسألة ممّا اختلف فيه(1)، والمختار وفاقًا لأكثر الأعلام العدم أيضًا(2).

دليل القائلين بالاستلزام

واسْتُدِلّ للقائلين(3) بالاستلزام - منهم السيّد المرتضى (رضی الله عنه)(4)- بأنّه لو لم يستلزم المجاز الحقيقة، لزم تحقّق الوضع من دون أن يستعمل اللفظ فيما وضع له، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، أمّا الملازمة فظاهرة، وأمّا بطلان التالي فلأنّ وضع الألفاظ لأجل إفادة المعاني المركّبة، وحيث لم يستعمل اللفظ في الموضوع له أصلًا لا يفيد(5) المعاني المركّبة، فيلزم عراء الوضع عن الفائدة(6).

ص: 321


1- كذا في الأصل، والصواب: فيها.
2- ينظر تهذيب الوصول: 71، ونهاية الوصول: 1/ 288، وغاية الوصول: 1/ 164، ومنية اللبيب: 1/231، وأنيس المجتهدين: 1/ 60، وإشارات الأصول: 1/ 50، ومفاتيح الأصول: 57، والمحصول، للرازيّ: 1/ 148، وإرشاد الفحول: 1/ 74، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 552، وشرح الوافية، لبحر العلوم (مخطوط): الورقة 79.
3- في «ق»: القائلين.
4- الذريعة إلى أصول الشريعة: 1/ 10.
5- في «ق»: لما يفيد.
6- جاء في حاشية الأصل: واستدلّ الشارح العضديّ وفاقًا لابن الحاجب بأنّه لو لم يستلزم المجاز الحقيقة؛ لعرى الوضع عن الفائدة [شرح مختصر المنتهى: 1/ 552]. ولمّا لم يكن التالي في كلامهما مترتّبًا على المقدّم بلا واسطة، عدلنا عنه وغيّرنا بما ترى، ولعلّ وجه تعبيرهما بذلك للتنبيه في بادي الأمر على المفسدة وأنّه مع قطع النظر عنها لا فساد في تحقّق الوضع من غير استعمال؛ منه.
دليل القائلين على أنّ وضع الألفاظ المفردة ليس لإفادة المعاني المفردة مع الجواب عنه
اشارة

أمّا الأوّل: فلأنّه مبنيٌّ على ما ذكروا من أنّه لا يجوز أن يكون المقصود من(1) وضع الألفاظ المفردة إفادة معانيها المفردة؛ لاستلزامه الدور؛ لأنّ إفادة اللفظ المعنى للمخاطب متوقّفٌ على العلم بوضعه له، والعلم بوضعه له متوقّف على العلم بذلك المعنى(2).

ضرورة أنّ العلم بوضع لفظ لمعنى لا يمكن إلّا بعد العلم بذلك اللفظ والمعنى، فلو كان وضع اللفظ لإفادة معناه، يكون العلم بذلك المعنى متوقّفًا على إفادة اللفظ إيّاه، فيلزم توقّف الشيء على نفسه، وهو محال، وحيث قد كان وضع الألفاظ للإفادة وعلم عدم جواز كونه للمعاني المفردة، تعيّن أنّه لأجل إفادة المعاني المركّبة.

وأمّا الثاني: فلوضوح أنّ الاطّلاع على ما في ضمير المخاطب لا يمكن إلّا بإشارة منه إليه، والإشارة إمّا بالألفاظ أو بغيرها، وحيث قد كان الكلام في الإشارة اللفظيّة نقول: إنّها عبارة عن التعبير عن المعنى المقصود بلفظ يخصّه(3)،

ص: 322


1- في «ق»: في.
2- ينظر منية اللبيب: 1/ 120، ونهاية الوصول: 1/ 164، وقوانين الأصول: 2/ 18، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 66، والمطوّل: 351.
3- جاء في حاشية الأصل: لا يقال: هذا لا يصحّ بالنسبة إلى اللفظ المشترك؛ لأنّ الإشارة إلى المعنى بالمشترك ليست بلفظ يخصّه؛ لأنّا نقول: إن أريد بالإشارة التفصيليّة لا يمكن ذلك إلّا بنحو يتحقّق الاختصاص في ذلك الاستعمال، وإن أريد الإشارة الإجماليّة يكون المعتبر الاختصاص الإجمالي أيضًا، أي الإضافيّ، وعلى التقديرين الاختصاص متحقّق، على أنّه يمكن أن يقال: المراد بالاختصاص بحسب الوضع بالنسبة إلى ذلك المعنى، ولا يخفى تحقّقه في الألفاظ المشتركة أيضًا. منه.

وهو المراد بالاستعمال، فإذا لم يعبّر عنه باللفظ لم يقع في التركيب، فلا يمكن إفادة المعاني المركّبة، فيلزم عراء الوضع عن الفائدة، وهو غير جائز؛ لأنّ الفاعل المختار لا يكون فعله إلّا لأجل غرض(1) وفائدة.

الجواب عنه
اشارة

وفيه نظر من وجوه:

الوجه الأوّل
اشارة

أمّا أوّلًا: فلأنّ المراد من عدم جواز كون المقصود من وضع الألفاظ إفادة معانيها إمّا أن يكون الإفادة الابتدائيّة، أي معرفة المعاني، فالملازمة مسلّمة؛ لما ذكر من أنّ إفادة اللفظ المعنى للمخاطب مسبوقة على علمه بذلك المعنى إلى آخره، لكن لا يثبت منه المدّعى من أنّه لا يكون المقصود من وضع الألفاظ إفادة معانيها مطلقًا؛ لأنّ نفي الخاصّ لا يستلزم نفي العامّ، أو مطلق الإفادة وإن كانت ثانويّة بمعنى العلم بالمعنى على أنّه مراد للمتكلّم، فالملازمة ممنوعة؛ لوضوح أنّ مسبوقيّة الإفادة الابتدائيّة على العلم بالمعنى لا تستلزم مسبوقيّة الإفادة الثانويّة عليه.

والحاصل: نحن نقول: إنّ حصول المعنى في الذهن على أنّه مراد للمتكلّم موقوفٌ على إفادة اللفظ إيّاه، وإفادته إيّاه موقوفة على العلم بوضعه له، وهو

ص: 323


1- في «ق»: الغرض.

متوقّفٌ على حصوله في الذهن لا من هذه الحيثيّة، فينتج: أنّ حصول المعنى في الذهن على أنّه مراد للمتكلّم موقوف على حصول أصله في الذهن، وهو ليس بدور؛ لاختلاف الحيثيّتين.

ثمّ على تقدير التسليم نقول: إنّما يتمّ ذلك في الألفاظ الّتي يكون الوضع والموضوع له كلاهما فيها إمّا عامًّا أو خاصًّا، وأمّا إذا كان الوضع عامًّا والموضوع له خاصًّا فلا؛ إذ نقول: يجوز أن يكون وضع تلك الألفاظ لأجل إفادة المعاني المخصوصة، والعلم بالوضع غير متوقّف على فهمها بخصوصها كما لا يخفى.

وضع الألفاظ المفردة لأجل إفادة المعاني المركّبة يحتمل معنيين

ثمّ إنّ وضع الألفاظ المفردة لأجل إفادة المعاني المركّبة يحتمل معنيين، الأوّل: أن تكون الألفاظ المفردة مفيدة لها؛ والثاني: أن يكون وضع الألفاظ المفردة لأجل تحصيل(1) المركّب، وتحصيله(2) لأجل إفادة المعاني المركّبة، فينتج: أنّ وضع الألفاظ المفردة لأجل إفادة المعاني المركّبة.

والأوّل فاسد؛ لوضوح أنّ اللفظ إنّما يفيد بمعونة الوضع الموضوع له، وبسبب إفادته إيّاه قد يفيد غيره عند قيام القرينة المانعة عن إرادته، كما في المجازات على ما سبق تحقيقه بما لا مزيد عليه.

وحيث لم تكن المعاني المركّبة موضوعة لها للألفاظ المفردة، ولا هي(3) مفيدة

ص: 324


1- في «ق»: تحصيل.
2- في «ق»: تحصيله.
3- أي الألفاظ المفردة.

للمعاني الموضوعة لها، أي المعاني المفردة كما هو المفروض، حتّى يمكن باستمداد إفادتها إيّاها إفادتها غيرها على فرض التسليم(1)، فكيف يمكن إفادتها إيّاها؟!

وحيث قد ثبت عدم جواز إرادة هذا المعنى من الكلام، تعيّنت إرادة المعنى الثاني في المقام.

وعليه نقول: إنّ الدليل المذكور لو كان تامًّا؛ لدلّ على عدم كون الوضع في المركّبات لإفادة المعاني المركّبة أيضًا؛ لجريانه بعينه فيها؛ إذ نقول: إنّ إفادة المركّب المعنى للمخاطب موقوفةٌ على علمه بوضعه له، وعلمه بوضعه له متوقّف على علمه به لما تقدّم، فلو كان العلم به مستفادًا من اللفظ يلزم الدور، ولا مدفع له إلّا بما ذكرنا، وهو مشترك بينها وبين الألفاظ المفردة.

والحاصل: أنّ ما ذكروه منظورٌ فيه نقضًا وحلًّا، أمّا النقض فبالألفاظ المركّبة، وأمّا الحلّ فبما تقدّم.

إن قيل: نمنع المقدّمة الأولى ههنا، بأنّا لا نسلّم توقّف استفادة المعنى من المركّب على علم المخاطب بوضعه له؛ لأنّ العلم بأوضاع الألفاظ المفردة كافٍ لذلك، فعند اجتماع الألفاظ المفردة مع العلم بأوضاعها يحصل العلم بمعنى المركّب وإن لم يعلم وضعه بخصوصه.

قلنا: لو كانت استفادة المعنى من المركّب لأجل العلم بأوضاع المفردات مع عدم العلم بوضع المركّب، لزم أن يكون المفهوم من المركّبات المختلفة الهيئات عند عدم الاختلاف في المفردات واحدًا، فيلزم أن يكون المفهوم من: «زيدٌ غلامٌ»

ص: 325


1- جاء في حاشية الأصل: أي تسليم إفادة المعاني المركّبة بمعونة إفادة المعاني المفردة كانت ممكنة، إذ هي ممنوعة كما لا يخفى. منه.

بالتركيب الإسناديّ عين المفهوم من: «زيدٌ الغلام» بالتركيب التوصيفيّ، والمفهوم منهما عين المفهوم من: «غلامُ زيدٍ» بالإضافيّ، وكذا يلزم أن يكون المفهوم من المركّبات المتّفقة في الهيئة عند اختلاف المفردات مختلفًا، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، والملازمة ظاهرة، وبطلان التالي أظهر.

لا يقال: إنّ هذا إنّما يلزم إذا كان العلم بوضع المفردات بمجرّدها كافيًا لذلك، ونحن لم نقل بذلك، بل نقول: إنّ العلم بأوضاع المفردات مع العلم بكون حركات تلك الألفاظ دالّة على النسب المخصوصة مفيد(1) لتلك المعاني، والمفردات وإن كانت غير مختلفة فيما ذكر، لكنّ الحركات والهيئات لمّا كانت مختلفة يجوز أن يكون اختلاف المعاني لذلك.

لأنّا نقول: ليس(2) المراد من العلم بأوضاع المركّبات إلّا العلم بكون هيئة خاصّة دالّة على معنى خاصّ ومعيّنة له وهيئة أخرى لآخر، وهكذا كما مرّ تحقيقه؛ وحيث قد اعترفت بتوقّف فهم المعنى على العلم بذلك، يلزمك الاعتراف بتوقّف فهم المعنى من المركّب على العلم بالوضع، وهو المطلوب.

وضع الألفاظ المفردة ليس لإفادة المعاني المفردة

نعم، يمكن أن يستدلّ على عدم كون المقصود من وضع الألفاظ المفردة إفادة معانيها؛ بأنّه لا شبهة في أنّ وضع الألفاظ لإبراز ما في الضمير وإعلام ما في البال بطلب شيء أو تركه أو نحوهما؛ ولا شبهة في أنّه لا ينفكّ عن التركيب، فيكون

ص: 326


1- جاء في حاشية الأصل: أي موجب لاستفادة تلك المعاني. منه.
2- في «ق»: إنّ.

وضع الألفاظ لأجل إفادة المعاني المركّبة، لا المفردة من هذه الجهة، والدلالة على مجرّد المعاني المفردة وإن كانت ممكنة، كزيد وعمرو وبكر ونحوها، إلّا أنّه ليس ممّا يترتّب عليه كثير فائدة حتّى يكون الوضع لذلك، والدليل بهذا المنوال لا يخفى اختصاصه بالمفردات وعدم جريانه في المركّبات.

الوجه الثاني

وأمّا ثانيًا: فلأنّ الدليل المذكور بعد تماميّته إنّما يدلّ على استلزام الوضع الحقيقة، بل هو في الحقيقة دليل عليه وبواسطته يدلّ على استلزام المجاز الحقيقة، ففي الحقيقة لا ارتباط بينهما بالدالّة والمدلوليّة، كما يظهر للمتأمّل، مع أنّك قد عرفت فساده ممّا تقدّم مِنْ أنّ مِنَ(1) الوسائط بين الحقيقة والمجاز اللفظَ الموضوع الغير المستعمل في الموضوع له وغيره، فتأمّل.

الوجه الثالث

وأمّا ثالثًا: فلأنّ حديث وضع المفردات لأجل إفادة المعاني المركّبة لا مدخليّة له في إثبات المرام أصلًا، إذ المفسدة على تقدير عدم استلزام المجاز الحقيقة تحقّقُ الوضع مع عدم استعمال اللفظ في الموضوع له، وهو متحقّق ولو كان وضع الألفاظ لإفادة المعاني المفردة كما لا يخفى، فتأمّل.

الوجه الرابع

وأمّا رابعًا: فلأنّا لا نسلّم عند عدم استعمال اللفظ في الموضوع له(2) يلزم خلوّ

ص: 327


1- «من» لم ترد في «ق».
2- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): استلزام المجاز الحقيقة، وعليه علامة: صحّ ل.

الوضع عن الفائدة؛ لوضوح أنّ تحقّق(1) المجاز فائدة عظيمة، بل من أهمّ الأمور المعتبرة في الفصاحة والبلاغة، فيمكن أن يكون وضع اللفظ مع عدم استعماله في الموضوع له لأجل ذلك؛ لوضوح عدم إمكان تحقّقه مع انتفاء الوضع، وأمّا مع تحقّقه وانتفاء الاستعمال فلا، كما لا يخفى(2).

ثمّ على تسليم انحصار فائدة الوضع في الاستعمال في الموضوع له نقول: اللازم عند عدم الاستعمال فيه عدم ترتّب الفائدة على الفعل الاختياريّ، ولا مفسدة فيه، إذ المحذور صدور الفعل الاختياريّ لا لفائدة، فيمكن عدم ترتّب الفائدة مع كون الفعل لها؛ والمحذور إنّما يلزم لو كان الفعل لفائدة مستلزمًا لترتّبها عليه، أو عدم ترتّبها مستلزمًا لعدم كونه لها، لكن فساده غنيّ عن البيان، مع أنّه قد مرّ الكلام عليه مشروحًا في النقض بالمشترك في حدّ الحقيقة.

والحاصل: أنّ المعتبر في صدور الفعل الاختياريّ اعتقاد الفائدة، لا مطابقته للواقع، واللازم على تقدير عدم الاستعمال عدم مطابقته له، لا عدم الاعتقاد، فاللازم غير محذور والمحذور غير لازم(3).

لكن لا يخفى عليك أنّ هذا أنّما يصحّ فيما إذا لم يكن الباري تعالى واضعًا، إذ صدور الفعل لاعتقاد الفائدة وإن لم ترتّب(4) عليه إنّما يصحّ إذا لم يكن الفاعل عند الفعل عالمًا بعدم ترتّبها عليه، فينحصر ذلك بالنسبة إلى غير الله تعالى، وأمّا إذا كان

ص: 328


1- كذا في الأصل، والصواب: لتحقّق.
2- ينظر مفاتيح الأصول: 57، وإرشاد الفحول: 1/ 74.
3- ينظر المصدر السابق.
4- في «ج»: يترتّب.

عالمًا بذلك -كما في حقّه تعالى، إذ لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السموات والأرض- فلا، إذ صدور الفعل لأجل فائدة مع العلم بعدم ترتّبها عليه في قوّة كونه لا لفائدة كما لا يخفى، فينحصر الجواب حينئذٍ بما ذكرنا قبل التسليم.

ذكر اختلاف القائلين بعدم الاستلزام ومستندهم

وحيث قد ظهر فساد القول المذكور، تعيّن القول الآخر، وهو عدم استلزام المجاز للحقيقة، لكن اختلف أصحابُ هذا القول على فرقتين، فبعضهم تعدّى عن الإمكان وادّعى الوقوع والثبوت، بمعنى أنّ المجاز من غير حقيقة كما أنّه ممكن عقلًا، واقعٌ(1) لغة، لكنّه نادر(2).

واستدلّ لذلك بأنّه لو كان المجاز مستلزمًا للحقيقة، لما تخلّف عنها(3)، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، والملازمة بيّنة، وأمّا بطلان التالي ففي كلّ من الألفاظ المركّبة والمفردة، أمّا الأوّل فلأنّ قولهم: «قامت الحرب على ساق»(4) و«شابت لمة الليل» ونحوهما من المركّبات مجازات لا حقائق لها قطعًا(5).

ص: 329


1- في «ق»: وواقع.
2- ينظر زبدة الأصول: 79، ومفاتيح الأصول: 80 و82، وإشارات الأصول: 1/ 231.
3- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): لما تخلّفت عنه؛ وعليه علامة خ ل.
4- قال الفيّوميّ: يقال: قامت الحرب على ساق، إذا اشتدّ الأمر وصعب الخلاص (المصباح المنير: 1/ 127، وينظر الصحاح: 4/ 1499، ولسان العرب: 10/ 168، ومجمع البحرين: 2/ 38).
5- ينظر نهاية الوصول: 1/ 288، وغاية الوصول: 1/ 164، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 552، وإشارات الأصول: 1/ 15 و19 و50، والفصول الغرويّة: 30، ومفاتيح الأصول: 57 و82، والإحكام، للآمديّ: 1/45.

وقد أجيب عنه: بأنّه مشترك الإلزام، إذ الوضع لمعنى لازم للمجاز قطعًا، فيجب أن تكون هذه المركّبات موضوعة لمعنى متحقّق، وليس كذلك(1).

وفيه نظر، أمّا أوّلًا: فلأنّ المراد بالمعنى المتحقّق إن كان معنًى متحقّقًا في الخارج - كما هو الظاهر من الكلام - سلّمنا بطلان التالي، لكنّ الملازمة ممنوعة، ضرورة أنّ اللازم في المجاز وضعه لمعنى، وأمّا كون ذلك المعنى متحقّقًا في الخارج، فلم يشترطه أحدٌ، بل ولا وجه له.

إن قلت: إنّ المجاز لمّا كان متوقّفًا على العلاقة بين معناه وبين الموضوع له كما عرفت مفصّلًا، فلا بدّ أن يكون الموضوع له متحقّقًا في الخارج حتّى يمكن للمتجوّز استعمالها(2)، فيمكن له التجوّز، فلو لم يتحقّق المعنى لم يمكن التجوّز؛ لأنّ العلم بالعلاقة شرط فيه، وهو مع عدم تحقّق المعنى ممتنع، وامتناع الشرط يستلزم امتناع المشروط، لكنّ التجوّز واقع كما هو المفروض، فيلزمه(3) تحقّق المعنى(4).

قلنا: اشتراط التجوّز بالعلم بالعلاقة مسلّم، لكن توقّفه على تحقّق المعنى في الخارج ممنوع، بل الموقوف عليه هو تعقّل المعنى، لا تحقّقه في الخارج(5).

ص: 330


1- ينظر رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب: 1/ 382، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 552، ونهاية الوصول: 1/ 288، وغاية الوصول: 1/ 165 -166، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة79، ومفاتيح الأصول: 56، وإرشاد الفحول: 26.
2- في «ق»: استعمالها.
3- في «ق»: فيلزم.
4- جاء في حاشية الأصل: إذ رفع التالي منتج لرفع المقدّم. منه.
5- جاء في حاشية الأصل: ولا يخفى أنّ اللازم من هذا الاستدلال خلاف ما توهّمه المجيب من عدم تحقّق المعنى، إذ يلزمه تحقّقه كما لا يخفى، ثمّ يلزم منه فساد مذهبه من توهّم الاستلزام، إذ بعد تسليم عدم تحقّق المعنى الموضوع له، كيف يمكن استعماله فيه حتّى يكون حقيقة ؟! فهذا الاستدلال من عجيب ما وقع في هذا المقام، إلّا أنّه لمّا كان جدليًّا وإلزاميًّا لا يُبالى به، فتأمّل. منه.

إن قيل: سلّمنا أنّ الموقوف عليه تعقّل المعنى، لكنّه يحتاج إلى سبيل، فليكن التحقّق الخارجيّ.

قلنا: حصر الطريق في التحقّق الخارجيّ ممنوعٌ كما لا يخفى، فكما يمكن أن يكون طريق التعقّل ذلك، كذا يمكن أن يكون غيره، فليكن ما نحن فيه ذلك.

ثمّ نقول: إنّ اللازم اطّلاع المتجوّز على العلاقة، لا المستعمل، فحينئذٍ نقول: يمكن أن يكون المتجوّز في المقام هو الواضع، فإنّه لمّا وضع اللفظ للمعنى المتعقّل عنده ولاحظ العلاقة بينه وبين مناسبه استعمل اللفظ فيه، ثمّ تبعه المستعملون في ذلك، فاشتهر الاستعمال، أو يكون المتجوّز غيره، لكن ممّن اطّلع على الموضوع له منه، فاستعمله في المعنى المجازيّ بعد ملاحظة العلاقة، ثمّ اشتهر.

لا يقال: انحصار لزوم الاطّلاع على العلاقة في المتجوّز ممنوع، إذ الاستعمال لا بدّ أن يكون بحيث يظهر سرّه، وهو مع عدم تحقّق المعنى غير ممكن.

لأنّا نقول بعد تسليمه: القدر اللازم اطّلاع سِرّ الاستعمال على مخاطب المتجوّز، لا كلّ أحد، فيمكن تنبيه المتجوّز إيّاه على الموضوع له ليظهر عليه لِمُّ الاستعمال، ثمّ لمّا ظهر المستعمل فيه على غيره استعملوا اللفظ فيه.

وإن كان المراد من المعنى المتحقّق أعمّ من ذلك، فنقول: الملازمة وإن كانت مسلّمة، لكن بطلان التالي ممنوع، غاية ما هناك عدم ظهور المعنى الموضوع له لنا،

ص: 331

وهو غير مضرّ؛ لما عرفت من أنّ اللازم اطّلاع المتجوّز على المعنى، لا كلّ أحد.

والكلام إنّما يتمّ إذا كان عدم الظهور عندنا مستلزمًا لعدم الظهور عند الكلّ، أو الظهور عند البعض -كالمتجوّز- مثلًا مستلزمًا للظهور عند الجميع، لكنّ الضرورة قاضية بفسادهما كما لا يخفى.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ الاستدلال مبنيٌّ على توهّم اعتبار الوضع الشخصيّ في المركّبات حيث رأى المفردات كالأسد مثلًا أنّه استعمل في المعنى المجازيّ، مع أنّ ذلك اللفظ بخصوصه موضوع للحيوان المفترس، فَتَوَهَّم أنّ ما نحن فيه لا بدّ أن يكون أيضًا مثل ذلك؛ والحال أنّ خصوص: «قام الحرب على ساق» لم يكن موضوعًا لمعنى.

وهو توهّم فاسد، إذ الوضع في المركّبات نوعيّ على ما تقدّم تحقيقه في المقدّمة، فيكفي في وضع المركّبات ثبوت الوضع في نوع الهيئة، وهو متحقّق فيما نحن فيه أيضًا، إذ لا شبهة أنّ التركيب في المقام إسناديّ، وثبوت الوضع في نوع الهيئة الإسناديّة ممّا لا ريب فيه(1)، وهو كافٍ لثبوت الوضع في المركّبات المذكورة.

ص: 332


1- جاء في حاشية الأصل: إن قيل: كما ثبت الوضع في نوع الهيئة الإسناديّة، كذا ثبت الاستعمال فيه، كما في: «قام زيد» مثلًا، فحينئذٍ بطل استدلال النافي أيضًا، حيث استدلّ بهذه المركّبات على أنّها مجازات لا حقائق لها. قلنا: استعمال نوع الهيئة في ضمن فرد في معناه لا يوجب استعماله في ضمن فرد آخر فيه كما لا يخفى، وصدق الحقيقة على كلّ فرد من أفراد النوع متوقّف على استعمال ذلك الفرد في معناه، فاستعمال الفرد المتحقّق في ضمن: «قام زيد» على معناه لا يكفي لصدق الحقيقة بالنسبة إلى فرد المتحقّق في: «قامت الحرب على ساق» ونحوه كما لا يخفى. منه.

فالحقّ في الجواب عن أصل الاستدلال أن يقال: إنّ الكلام في المجاز اللغويّ، والمجاز في هذه المركّبات على التقرير المذكور إنّما هو في الإسناد، وهو مجازٌ عقليٌّ كما سيجيء توضيحه، فلا وجه للتمسّك بها في المقام.

تحقيق المقام على وجه يزول معه الحجاب عن وجه المرام يقتضي أن يقال: إنّ الحقيقة كما تنقسم إلى لغويّة وعقليّة، كذلك المجاز منقسم إلى عقليّ ولغويّ، فالحقيقة العقليّة إسناد الفعل أو معناه - كالمصدر واسم الفاعل والمفعول والصفة المشبّهة واسم التفضيل والظرف - إلى ما هو له عند المتكلّم في الظاهر(1)، والمجاز العقليّ إسناده إلى غير ما هو له، إلى آخره.

فحينئذٍ نقول: إنّ مراد المستدلّ من دعوى التجوّز في: «قامت الحرب على ساق»، إمّا في الإسناد، أو في الموادّ والمفردات، أو فيهما(2)، وعلى الأوّل نقول: إنّه

ص: 333


1- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): لأنّ الحقيقة في الإسناد المسمّاة بالحقيقة العقليّة إسناد الشيء إلى من هو له عند المتكلّم في الظاهر، سواء كان بحسب الواقع، أم لا؛ ومعنى: «عند المتكلّم في الظاهر» أي: فيما يفهم من ظاهر كلامه ويدرك من ظاهر حاله، وذلك بأن لا ينصب قرينة على أنّه غير ما هو له في اعتقاده، فتكون أقسام الحقيقة العقليّة أربعة، الأوّل: ما يطابق الواقع والاعتقاد جميعًا، كقول المؤمن: «أنبتَ اللهُ البقلَ»؛ والثاني: ما يطابق الاعتقاد دون الواقع، كقول الكافر: «أنبتَ الربيعُ البقلَ»، والثالث: ما يطابق الواقع فقط، كقول المعتزليّ لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها منه: «خلق الله الأفعال كلّها»... [هنا تمّ كلامه -رفع مقامه- وفيه سقط ظاهر كما لا يخفى، سقط من آخره: والرابع: ما لا يطابق الواقع والاعتقاد، كقولك: «جاء زيد» وأنت تعلم أنّه لم يجيء دون المخاطب، كما في الإيضاح: 27، ومختصر المعاني: 38].
2- جاء في حاشية الأصل: الترديد المذكور ليس بحاصر، إذ التجوّز في الهيئة التركيبيّة الّتي هي المعتبرة فيوضع المركّبات خارج عن الأقسام، إذ التجوّز في الإسناد ليس تجوّزًا فيها؛ لوضوح انّ الهيئة التركيبيّة من الأمور اللفظيّة والتجوّز في الإسناد من الأمور العقليّة، لكن لمّا يعلم الكلام فيها من الكلام فيما ذكر، فلا حاجة إلى الذكر. منه.

حينئذٍ يكون المجاز عقليًّا، إذ القيام على ساق حقيقةً صفةٌ لأهل الحرب وقد نسب إليها، فحينئذٍ نقول: على فرض التسليم وإن تحقّق التجوّز من غير حقيقة، لكنّه خارج عمّا نحن فيه، إذ الكلام في المجاز اللغويّ الّذي هو اللفظ المستعمل في غير الموضوع له.

وعلى الثاني: بأن يكون القيام مجازًا عن الاشتداد والساق عن آلات الحرب وتكون الحرب محمولًا على ظاهره، نقول: إنّ التجوّز حينئذٍ وإن كان لغويًّا، لكنّه غير مثبت للمدّعى؛ لوضوح تحقّق استعمال كلّ من لفظي «القيام» و«الساق» في معناه الحقيقيّ، فالمعنى: اشتدّ الحرب على آلته، فالإسناد حينئذٍ حقيقيّ.

وعلى الثالث نقول: لا حاجة لارتكابه هنا؛ لإمكان الاستغناء بأحد المجازين عنه، وعلى فرض التسليم غير مثبت للمدّعى لما مرّ.

وكذا الكلام في: «شابت لمة الليل»، فإنّ التجوّز فيه: إمّا في الإسناد بأن يقال: إنّ الشيبوبة وصف لذي الشعور حقيقة كالإنسان، وإسنادها إلى غيره إسناد للشيء إلى غير ما هي له، وحينئذٍ نقول: على تقدير تسليم تحقّق التجوّز من غير حقيقة، يكون ذلك مجازًا عقليًّا لا حقيقة عقليّة له، وقد عرفت أنّ الكلام في المجاز اللغويّ.

وإمّا في المفردات بأن يكون «شابت» مجازًا عن انقضت، و«لُمَة» بضمّ اللام وتخفيف المفتوحة(1) بمعنى الجماعة مجازًا عن المعظم، فيكون المعنى: انقضى معظم

ص: 334


1- كذا في الأصل، والصواب: وتخفيف الميم المفتوحة.

الليل، ويكون المقصود التنبيه على قرب الصبح، أو يكون «شابت» مجازًا عن: «ارتفعت»، و«لمة الليل» مجازًا عن سوادها وظلمتها، أي: ارتفعت وزالت ظلمة الليل، ويكون المقصود التنبيه على طلوع الفجر، فحينئذٍ إنّ التجوّز وإن كان لغويًّا، لكنّه غير مثبت للمدّعى لما عرفت.

وإمّا فيهما، فإنّه مع تسليم خروج الشقّ الأوّل منه على النحو الّذي مرّ، قد عرفت الجواب عنه.

واعلم: أنّ بعضًا منهم(1) حمل المثالين المذكورين على الاستعارة التمثيليّة بأن يجعل «قامت الحرب على ساق» تمثيلًا لحال الحرب بحال من يقوم على ساقه ولا يفتر عنه، و«شابت لمة الليل» تمثيلًا للهيئة المركّبة من الليل وظهور بياض الصبح في سواد آخره بحال ظهور الشيب في سواد الشعر(2).

وفيه تأمّل؛ لأنّ حاصل الاستعارة التمثيليّة على ما صرّح به في المطوّل:

أن يشبّه(3) إحدى الصورتين المنتزعتين من متعدّد بالأخرى، ثمّ يدّعى أنّ الصورة المشبّهة من جنس الصورة المشبّهة(4) بها، فتطلق(5) على الصورة المشبّهة(6)

ص: 335


1- كالتفتازانيّ في حاشيته على شرح مختصر المنتهى: 1/ 554.
2- هذا بناءً على قراءة «اللمة» بكسر اللام وتشديد الميم، بمعنى الشعر المتدلّى الّذي يجاوز شحم الأذنين (ينظر تعليقة على معالم الأصول: 1/ 312).
3- في المصدر: أن تشبّه.
4- في المصدر: المشبّه.
5- في «ق»: فيطلق، كما في المصدر.
6- في المصدر: المشبّه.

اللفظ الدالّ بالمطابقة على الصورة المشبّهة(1) بها(2).

وهنا ليس كذلك كما لا يخفى.

انفكاك الحقيقة عن المجاز في الألفاظ المفردة

وأمّا الثاني: أي انفكاك الحقيقة عن المجاز في الألفاظ المفردة، فذلك في «الرحمن» والأفعال المنسلخة(3) من الزمان(4).

أمّا الأوّل: فلأنّه استعمل في الله تعالى ولا يستعمل في غيره، واستعماله فيه استعمال للّفظ في غير ما وضع له؛ لأنّ الموضوع له إمّا رقيق القلب، أو ذو الرحمة مطلقًا، حقيرة كانت أو جسيمة، في الدنيا كانت أو في الآخرة، وأيّ منهما كان استعماله فيه تعالى فقط استعمال للفظ في المعنى المجازيّ، أمّا على الأوّل فظاهر، وأمّا على الثاني فلأنّه استعمال للّفظ الموضوع للمعنى المطلق في المقيّد؛ ولمّا كان المفروض انحصار استعماله في حقّ الله تعالى، ثبت أنّه مجاز لا حقيقة له(5).

ص: 336


1- في المصدر: المشتبه.
2- المطوّل: 379.
3- جاء في حاشية الأصل: ليس المراد جميع الأفعال المنسلخة من الزمان، إذ من جملتها: «بعت» و«اشتريت» ونحوهما، واستعمالها في المعاني الموضوعة لها ممّا لا شبهة فيها، بل مثل: «عسى» و«حبّذا» ونحوهما. منه.
4- ينظر إشارات الأصول: 1/ 15 و50، ونهاية الوصول: 1/ 287، وغاية الوصول: 1/ 167، ومفاتيح الأصول: 57، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 553، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 47.
5- ينظر زبدة الأصول: 79.

وفيه نظر؛ لأنّ مجازيّة «الرحمن» في الذات الأقدس ممنوعة، بل الظاهر أنّه حقيقة لو جُوِّزَ خاصّة، فيكون من قبيل المنقولات، فلا يلزم المجازيّة؛ لجواز أن يكون النقل تعيّنيًّا، ولا يخفى عليك أنّه حينئذٍ لا يمكن أن يكون النقل عرفيًّا؛ لأنّ أسماءه تعالى توقيفيّة(1)، بل شرعيّة، وحينئذٍ يرجّح احتمال التعيينيّ على التعيّني(2).

ثمّ إنّ هذا كلّه على فرض تسليم عدم استعماله في المعنى اللغويّ مطلقًا، وهو ممنوع لجواز استعماله فيه قبل المنع الشرعيّ، وإثبات المرام موقوف على دفع هذا الاحتمال.

وأمّا الثاني: فك-«عسى» و«حبّذا» ونحوهما من الأفعال الّتي كانت هيئتها على هيئة الماضي الّذي وضع للدلالة على الزمان المعلوم ولم يستعمل فيه، بل استعمل في غيره، فحينئذٍ يحقّق المجاز من غير حقيقة، وفيه يأتي نظير ما سبق من النظر في «الرحمن»(3)، فلا يتمّ الاستدلال.

ثمّ إنّ إطلاق الفعل عليها منظورٌ فيه؛ لأنّ الدلالة على أحد الأزمنة الثلاثة مأخوذة في حدّه، فكيف يصدق عليه مع انتفائها فيه؟! وليس الأمر فيما نحن فيه

ص: 337


1- جاء في حاشية الأصل: لا يقال: كما جاز أن يكون النقل تعيينيًّا، جاز أن يكون تعيّنيًّا، فحينئذٍ تثبت المجازيّة؛ لأنّا نقول: إثبات المطلوب يتوقّف على كون النقل تعيّنيًّا، إذ مع احتمال التعييني للمستلزم أن يدّعي أنّه من هذا القبيل، وعلى فرض تسليم أن يكون من ذلك، دلالته على المطلوب ممنوعة، إذ بعد تحقّق النقل صار اللفظ حقيقة، فالمجاز لم ينفكّ عن الحقيقة، فتأمّل. منه.
2- في «ق»: التعيين على التعيّن.
3- جاء في حاشية الأصل: إلّا أنّ النقل هنا عرفيًّا. منه.

مثل صيغ العقود كالبيع والنكاح والصلح وأشباهها، فإنّ الوضع فيها للمعاني الفعليّة وكذا الاستعمال فيها ثابت، وإطلاق الفعل عليها حال استعمالها في المعاني الإنشائيّة لذلك مع إشكال فيه، وأمّا فيما نحن فيه، فالمفروض عدم ثبوت الاستعمال في المعاني الفعليّة مطلقًا.

لا يقال: إنّ الاستعمال فيها وإن لم يثبت، لكنّ الوضع ثابت، فليكن إطلاق الفعل لذلك.

لأنّا نقول: دعوى ثبوت الوضع ممنوعة؛ لاحتمال وضعه لما استعمل فيه، وعلى من ادّعى الإثباتُ، والمانعُ يكفيه الاحتمالُ، وعلى فرض التسليم نقول: المأخوذ في حدّ الفعل - بإطباق النحاة على ما علمنا منهم - الدلالةُ على أحد الأزمنة، لا الوضع لذلك.

ويمكن الجواب بأنّ مبنى الإيراد إنّما هو على تسليم كون إطلاق الفعل على «عسى» مثلًا وغيره من الأفعال بمعنى واحد، وهو غير لازم، إذ القدر المعلوم إطلاق الفعل عليهما(1)، فيمكن أن يكون مشتركًا لفظيًّا.

لا يقال: إنّ هذا الاحتمال ممّا يفسد المقام، إذ المفروض أنّ «عسى» مثلًا مجاز لا حقيقة، وهو إنّما يكون إذا كان مستعملًا في غير الموضوع له، وهو ينافي احتمال الاشتراك.

لأنّا نقول: احتمال الاشتراك بالنسبة إلى لفظ الفعل بين ما دلّ على الزمان المعيّن ك-«ضرب» مثلًا، وبين ما لم يدلّ ك-«عسى»، وأين ذلك من التنافي لكون

ص: 338


1- كذا في الأصل، والصواب ظاهرًا: عليها.

عسى مجازًا؟!

وحيث قد ظهرت المناقشة في مقالة الفرقة المذكورة، رجّحت مقالة الفرقة الأولى، وهي: منع الاستحالة مع دعوى الإمكان عارية عن الوقوع في الاستعمال، فهي بالاختيار حقيق وبالإعراض عن ما عداها يليق.

ص: 339

ص: 340

في بيان افتقار الأصوليّ إلى البحث عن تعارض الأحوال

الفصل الثاني: في تعارض الأحوال وغيره ممّا يتعلّق بذلك المقال

اشارة

اعلم: أنّ استفادة المعاني من الألفاظ قد تكون(1) ممتنعة، وذلك إمّا لعدم العلم بالمقتضي، أو لوجود المانع.

أمّا الأوّل: فكما إذا لم يعلم وضع اللفظ، واللازم حينئذٍ تتبّعُ اللغات وتصفّح موادّ الاستعمالات، أو ممّن زال عنه جلباب الجهل الاستعلامُ(2)، وبالجملة اللازم تحصيل العلم بالوضع بأيّ نحوٍ اتّفق.

وأمّا الثاني فنقول: إذا علم وضع اللفظ لمعنى وتعذّر إرادته في مقام، يبقى اللفظ معطّلًا ما لم يقترن بأحد الاحتمالات الخمسة المخالفة للأصل: الاشتراك والنقل والمجاز والإضمار والتخصيص، فهذه الاحتمالات مانعة عن حصول التفاهم، فلا بدّ للأصوليّ من البحث عنها ليظهر رجحان البعض عن الآخر، فيتعيّن بالاختيار، فيحمل اللفظ عليه، هذا حاصل ما قيل في هذا المقام(3).

أقول: اللفظ الّذي لم يرد منه المعنى الحقيقيّ المعلوم في الاستعمال المفروض لا

ص: 341


1- في «ق»: يكون.
2- أي الاستعلام ممّن زال عنه جلباب الجهل. حقّ العبارة هكذا: أو الاستعلام ممّن زال عنه جلباب الجهل.
3- ينظر نهاية الوصول: 1/ 299- 300، ومنية اللبيب: 1/ 247، وقوانين الأصول: 1/ 87.

يخلو إمّا أن يكون المستعمل فيه فيه معلومًا، أو لا.

وعلى الثاني: لا يجدي ترجيح واحد من تلك الاحتمالات، إذ غاية ما يترتّب(1) عليه على فرض التسليم كون اللفظ في المعنى الّذي أراده المستعمل على ذلك الوجه، ولا شبهة في أنّه بمجرّده لا يكفي لحصول التفاهم في التخاطب كما لا يخفى.

وعلى الأوّل نقول: إنّ المستعمل فيه بناءً عليه معلوم، سواء كان اللفظ فيه مجازًا، أو منقولًا، أو مشتركًا وهكذا، فالتفاهم حينئذٍ متحقّق، سواء كان الاستعمال على الراجح من تلك الاحتمالات، أم لا، فالبحث عن تعيّن الراجح والمرجوح منها لا مدخليّة له في التفاهم.

ويمكن أن يُختار الثاني ويُقال: إنّ عدم ترتّب الفائدة بناءً عليه إنّما هو إذا لم يعلم المعنى المشتركيّ والمجازيّ مثلًا للّفظ، وأمّا إذا كانا معلومين، لكن لم يعلم أيّهما هو مراد المستعمل، فحينئذٍ لو لم يكن لأحدهما رجحان على الآخر لم يحصل التفاهم، إذ اللفظ يبقى مردّدًا بينهما، بخلاف ما إذا كان أحدهما راجحًا على الآخر، إذ حينئذٍ يحمل اللفظ على الراجح، فيحصل التفاهم.

لكن هذا مع أنّه لا يستقيم بالنسبة إلى جميع الاحتمالات- إذ من جملتها النقل والإضمار والتخصيص، والتوجيه المذكور لا يتأتّى بالنسبة إليها كما يظهر بعد التأمّل، ولا في الاشتراك والمجاز أيضًا إلّا في بعض الصور- يتوجّه عليه ما ستقف عليه في معارضة المجاز والاشتراك.

ويمكن أن يُختار الأوّل أيضًا ويقال: إنّ البحث عن تعيّن الراجح والمرجوح

ص: 342


1- في «ق»: يترتّب.

ليس لتحصيل التفاهم في المستعمل فيه المعلوم، بل في غير ذلك الاستعمال.

توضيحه: أنّ اللفظ في المستعمل فيه المعلوم لو كان مجازًا متى استعمل مجرّدًا عن القرينة، يحمل على المعنى الحقيقيّ الّذي تعذّر إرادته في المقام، وحمله عليه يفتقر إلى قرينة، فما(1) لم يقترن بها لم يحمل عليه.

وأمّا إذا كان منقولًا إلى ذلك المعنى، فيكون الأمر بالعكس، فعند استعماله مجرّدًا عن القرينة وجب حمله على هذا المعنى، وحمله على المعنى(2) المنقول منه يفتقر إلى قرينة، فحينئذٍ نقول: لو لم يرجّح أحد هذين الاحتمالين على الآخر وكانا متساويين في نظر المجتهد، لم يمكن حصول التفاهم؛ لتردّده بين المعنيين الّلذين لم يترجّح أحدهما على الآخر.

وكذا الكلام بالنسبة إلى الاشتراك والمجاز، فإنّه على الأوّل لم يحمل على أحد المعنيين عند التجرّد عن القرينة وكان اللفظ حينئذٍ مجملًا، وعلى الثاني قد عرفت الأمر فيه، فلو لم يرجّح احتمال التجوّز على الاشتراك، لم يحصل التفاهم، وهكذا بالنسبة إلى النقل والاشتراك، فالأمر فيه بعد ما ذكر غنيّ عن البيان.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى التخصيص وكلّ من النقل والاشتراك، فإنّ الأمر بين التخصيص والنقل كالأمر بين المجاز والنقل، وبينه وبين الاشتراك كالأمر بينه وبين المجاز.

بقي الكلام في مدخليّة البحث عن ترجيح كلّ من التخصيص والمجاز على الآخر في التفاهم، فإنّ اللفظ عند التجرّد عن القرينة يحمل على المعنى الحقيقيّ،

ص: 343


1- في «ق»: ممّا.
2- «المعنى» لم ترد في «ق».

والحمل على أيّ منهما كان يفتقر(1) إلى القرينة، فلا يتفاوت الحال بين التخصيص والمجاز، فنقول: مدخليّة البحث عن ترجيح كلّ منهما على الآخر إنّما هو عند قيام القرينة(2) على انتفاء غيرهما من الاحتمال وانحصار الأمر بينهما، أو ترجيحهما عليه مع عدم معلوميّة المستعمل فيه فيهما، إذ حينئذٍ لو لم يكن لأحدهما رجحان على الآخر يبقى اللفظ متردّدًا بينهما، فلا يمكن الحمل على أحدهما، فلا يحصل التفاهم، فلا بدّ من البحث حتّى يتعيّن الراجح، فيحمل اللفظ عليه عند التعارض.

لكن قد لا تظهر الثمرة المهمّة للبحث عن الراجح منهما، وذلك فيما إذا كان الكلام مثل: «أكرم الرجال»، فإنّه إذا انتفى احتمال غير المجاز والتخصيص ودار الأمر بينهما، يكون المراد من لفظ «الرجال» بعضهم، سواء كان اللفظ مجازًا والعلاقة المشابهة، أو مخصّصًا.

فالثمرة المهمّة الموجبة للبحث عن تعيين الراجح منهما إنّما هي في اللفظين، كما في قولك: «أكرم العلماء» وعلم في الخارج عدم وجوب إكرام الجميع، فحينئذٍ إمّا أن يحمل الأمر على الاستحباب ويبقى لفظ العامّ على ظاهره، أو يخصّص «العلماء» ويحمل صيغة الأمر على ظاهرها، فعند ثبوت رجحان التخصيص على المجاز يحمل العامّ على خلاف ظاهره ويبقى الأمر على ظاهره، وعند العكس يعكس الأمر، وعند التساوي يتوقّف، فلا يحصل التفاهم.

هذا تحقيق الحال في افتقار الأعلام إلى البحث عن تلك الأحوال، ولعلّك تطّلع على زيادة من ذلك عند التعرّض لكلّ منها على التفصيل بمعونة الموفّق المعين الجليل. 

ص: 344


1- في «ق»: مفتقرًا.
2- في «ق»: قرينة.

إعادة كلام لتفصيل مقام

اعلم: أنّ الصور المتصوّرة بين الاحتمالات الخمسة: عشر(1)، يحصل بملاحظة واحد منها مع الأربعة الباقية، ثمّ واحد منها مع الثلاثة الباقية، ثمّ واحد منها مع الاثنين، ثمّ بينهما(2).

في معارضة المجاز والاشتراك

فتحقيق المقام يستدعي التكلّم في مباحث:

المبحث الأوّل: في معارضة الاشتراك والمجاز
اشارة

وقد اختلفوا في ذلك، فالمشهور على ما هو المشهور أولويّة المجاز من الاشتراك(3)، والسيّد الأجلّ وبعض من وافقه ذهبوا إلى العكس(4).

ص: 345


1- ينظر تهذيب الوصول: 75، ومنية اللبيب: 1/ 247، وغاية الوصول: 1/ 167.
2- جاء في حاشية الأصل: كما إذا لوحظ المجاز مع الاشتراك والنقل والتخصيص والإضمار، والحاصل أربع، ثمّ الاشتراك مع النقل والتخصيص والإضمار، والحاصل ثلاث، ثمّ النقل مع التخصيص والإضمار، والحاصل اثنان، ثمّ التخصيص مع الإضمار، فالمجموع عشر، ولا يخفى أنّ انحصار الصور في العشر إنّما هو إذا لوحظ كلّ واحد من الاحتمالات الخمسة مع الآخر بانفراده، وأمّا إذا أضيف إلى ذلك ملاحظة الواحد مع مجموع الأربعة، ثمّ مع مجموع الثلاثة، ثمّ مع مجموع الاثنين، ثمّ واحد من الأربعة مع مجموع الثلاثة، ثمّ مع مجموع الاثنين، ثمّ واحد من الثلاثة مع مجموع الاثنين، فتبلغ الأقسام ستّة عشر، فتأمّل. منه.
3- ينظر تهذيب الوصول: 75، ومنية اللبيب: 1/ 248، ومبادئ الوصول: 75، ونهاية الوصول: 1/ 303، وغاية الوصول: 1/ 167- 168، ومفاتيح الأصول: 93، وقوانين الأصول: 1/ 89، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 154، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 566.
4- قال في مفاتيح الأصول ص 93: «فالظاهر من السيّد المرتضى وابن زهرة ترجيح الاشتراك، ولذا حكما باشتراك كثير من الألفاظ، وحكاه الشهيد الثاني في ذلك عن جماعة، فإنّه قال في جملة كلام له: لا نسلّم أولويّة المجاز على الاشتراك، بل قال جمع من المحقّقين بأولويّة الاشتراك». ينظر مسالك الأفهام: 4/ 225، والذريعة: 1/ 13، وقوانين الأصول: 1/ 85.

ونحن نقول أوّلًا: إنّ هذا الكلام يحتمل وجهين:

[الوجه الأوّل]

الأوّل: أنّ اللفظ إذا علم له معنيان ومعنى مجازيّ واستعمل في مقام وعلم عدم إرادة أحد المعنيين الحقيقيّين ولم يعلم أنّ مراد المستعمل المعنى الآخر من المعنيين الحقيقيّين مثلًا أو المعنى المجازيّ، فيقال عند ترجيح المجاز: أنّ المجاز خير من الاشتراك، بمعنى أنّه إذا دار الأمر بين أن يكون مراد المستعمل من اللفظ المعنى الاشتراكيّ(1) أو المجازيّ، فالمعنى المجازيّ أولى بالإرادة من الآخر(2)، وعند ترجيح الاشتراك يعكس الأمر.

ويمكن التفصيل في ذلك بأنّه إن كان استعمال ذلك اللفظ في المعنى المجازيّ أكثر منه في المعنى المشتركيّ(3)، فالحمل على المجازيّ أولى، وعند العكس العكس، وعند التسوية التوقّف، فيدخل اللفظ في حيّز الإجمال ولا يجوز التمسّك به في مقام الاستدلال.

هذا عند تحقّق الكثرة وعدمها على التفصيل المذكور في خصوص ذلك اللفظ ظاهر، وأمّا بالنسبة إلى نوع المجاز والمشترك، لا بالنسبة إلى الخصوص، فيمكن أن

ص: 346


1- في «ق»: الاشتراك.
2- في «ق»: الأخرى.
3- في «ق»: المشترك.

يكون الأمر أيضًا كذلك، ويشكل الأمر عند المعارضة بين الخصوص والنوع، وإن كان ترجيح الخصوص على النوع أولى.

والتحقيق في جميع هذه الموادّ ترجيح المعنى الاشتراكيّ في الإرادة، بناءً على إطباقهم على أنّ إرادة المعنى المجازيّ متوقّفة على القرينة الصارفة، وكذا حمل اللفظ عليه، والمفروض أنّ القرينة المجازيّة منتفية، فلا تجوز إرادته منه، فتعيّن المعنى الاشتراكيّ للإرادة، فيحمل اللفظ عليه حينئذٍ.

لا يقال: إنّ ذلك مشترك الورود، إذ كما أنّ إرادة المعنى المجازيّ متوقّفةٌ على القرينة، كذلك إرادة أحد معاني المشترك؛ وكما أنّ اللفظ لا يحمل على المعنى المجازيّ حالة التجرّد عنها، كذا لا يحمل على أحد معاني المشترك حينئذٍ، فلا افتراق بينهما من هذه الجهة.

لأنّا نقول: إنّ الأمر وإن كان كذلك، لكنّ القرينة في المجاز لا بدّ أن تكون صارفة عن المعنى الحقيقيّ، سواء كان واحدًا أو متعدّدًا، والقرينة في المشترك لا بدّ أن تكون معيّنة، والتعيين قد يكون بدلالتها على إرادة أحد المعاني بخصوصه وقد يكون بدلالتها على عدم إرادة ما سوى المعنى الواحد، فعند ذلك يتعيّن ذلك المعنى بالإرادة، والمفروض فيما نحن فيه انتفاء القرينة الصارفة، إذ الفرض جواز إرادة أحد معاني اللفظ، فالقرينة الصارفة عن جميع المعاني الحقيقيّة منتفية، بخلاف القرينة المعيّنة من قبيل الثاني.

إن قيل: كما يكون أحد المعاني الحقيقيّة عند احتمال المجازيّة محتملًا، كذا يكون المعنى المجازيّ عند احتمال الحقيقة محتملًا، فلا توجد القرينة المعيّنة أيضًا.

ص: 347

قلنا: حمل اللفظ على المعنى الحقيقيّ لا يفتقر إلى قرينة مانعة عن المعنى(1) المجازيّ بالاتّفاق، بخلاف العكس كذلك، فيكفي في تحقّق القرينة المعيّنة في المشترك ما دلّ على عدم إرادة غير واحد من معانيه الحقيقيّة وإن كان(2) المعاني المجازيّة محتملة.

وأيضًا أنّ [قولهم:] «الأصل في الاستعمال الحقيقة» بمعنى أنّه إذا كان للّفظ معنى حقيقيّ ومجازيّ واستعمل في موضع ولم يعلم أيّهما المراد، أنّه يجب الحمل على المعنى الحقيقيّ، وهو اتّفاقيّ بينهم(3)، وهو أعمّ من أن يكون اللفظ مشتركًا أو لا، ومقتضى ذلك الحملُ على المعنى(4) المشترك فيما نحن فيه من غير تأمّل.

الصور المتصوّرة في كلّ لفظ إذا وقع في كلام

وتحقيق المقام يستدعي أن يقال: كلّ لفظ إذا وقع في كلام لا يخلو إمّا أن يكون الموضوع له معلومًا أو لا؛ وعلى التقديرين إمّا أن يكون المستعمل فيه معلومًا أم لا، فهنا صور:

الأولى: أن يكون الموضوع له والمستعمل فيه كلاهما معلومًا، فهذا لا يخلو إمّا أن يكون المستعمل فيه المعلوم هو الموضوع له فهو، وإلّا فسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

ص: 348


1- «المعنى» لم ترد في «ق».
2- كذا في الأصل، والصواب: كانت.
3- ممّن ادّعى اتّفاقهم على ذلك النراقيّ في أنيس المجتهدين: 1/ 68، والسيّد المجاهد في مفاتيح الأصول: 81، والرازيّ في المحصول: 1/ 339 و341.
4- «المعنى» لم ترد في «ق».

والثانية: أن يكون كلاهما مجهولين، واللازم فيها بذل الجهد في تحصيل العلم بالوضع، فإن حصل لا يخلو من سائر الأقسام، فحكمه يعلم من حكمها وإلّا يلحقه حكم المجمل.

والثالثة: أن يكون الموضوع له معلومًا والمستعمل فيه غير معلوم.

والرابعة: عكسه.

في لزوم حمل الألفاظ على المعاني الحقيقيّة عند انتفاء القرينة
اشارة

فالكلام هنا في هاتين الصورتين:

الصورة الأولى
اشارة

الأولى: أن يكون الموضوع له معلومًا بخلاف المستعمل فيه، والحكم فيه الحمل على الموضوع له؛ لأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة(1)، أي الظاهر عند

تجرّد اللفظ عن القرينة أن يكون المستعمل مريدًا للموضوع له لوجوه:

الوجه الأوّل

الأوّل: أنّه لو لم يكن مرادًا له ولم يحمل عليه، فلا يخلو إمّا أن يحمل على [المعنى الحقيقيّ، أو على](2) المعنى المجازيّ، أو لا على شيء منهما، والأخير باطل لاستلزامه تعطيل اللفظ المستلزم لتعطيل الأحكام، ولا شبهة في فساده، وكذا الثاني لإطباقهم على أنّ حمل اللفظ على المعنى المجازيّ وكذا إرادته منه متوقّف

ص: 349


1- ينظر مفاتيح الأصول: 81، وأنيس المجتهدين: 1/ 68، والمحصول للفخر الرازيّ: 1/ 339.
2- ما بين المعقوفين أثبتناه لأجل السياق.

على القرينة، والمفروض انتفاؤها؛ فتعيّن الأوّل(1).

لا يقال: إنّ تجرّد اللفظ عن القرينة في نظرنا لا يستلزم تجرّده عنها في نفس الأمر؛ لجواز أن يقرنه المستعمل بها، ثمّ سقطت، فحمله على المعنى الحقيقيّ حينئذٍ يستلزم حمل اللفظ على غير ما أراده المتكلّم منه.

لأنّا نقول: إنّا لم ندّع القطع بإرادة المعنى الحقيقيّ، بل الظاهر والاحتمال المذكور ونحوه لا ينافيه؛ لأنّ احتمال وجودها وسقوطها مدفوعٌ بالأصل، فيحصل الظنّ بإرادته من اللفظ، ولهذا نقول: إنّ دلالة الألفاظ ظنّيّة، وعلى تقدير الاقتران والسقوط لا مؤاخذة؛ لأنّ الخطأ في أمثال المقام معفوّ، والخاطئ معذور.

إن قلت: إنّ الترديد ليس بحاصر؛ لأنّ هنا احتمالًا آخر، وهو أن يحمل اللفظ على المعنى الحقيقيّ وغيره.

قلنا: هذا أيضًا فاسد؛ لما مرّ من أنّ حمل اللفظ على المعنى المجازيّ مطلقًا متوقّفٌ على القرينة، وأيضًا يلزم الجمع بين المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في آن واحد، وهو غير مجوّز عند المحقّقين.

وأيضًا يلزم أن يكون المعنى الموضوع له وغيره كلاهما معنى موضوعًا له اللفظ؛ لأنّ فائدة الوضع الدلالة على المعنى من غير افتقار إلى القرينة، وقد عرفت ممّا سبق أنّ الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى لذاته، فيلزم أن يكون غير الموضوع له موضوعًا له.

ص: 350


1- ممّن تنقل الإطباق الحلّي في منية اللبيب: 1/ 242، والرازيّ في المحصول: 1/ 339، والمحقّق الأعرجيّ في المحصول: 1/ 204.
الوجه الثاني

والثاني: أنّه لو لم يكن الموضوع له حينئذٍ مرادًا من اللفظ، لزم الإغراء بالجهل، والتكليف بما لا يطاق، وترجيح المرجوح على الراجح، واللوازم بأسرها باطلة، فالملزوم كذلك(1).

أمّا الملازمة فلأنّ وضعَ اللفظ بإزاء(2) المعنى إحداثُ علاقة ونسبة بينهما توجب للعالم به ظهوره منه عند الإطلاق وفهمه منه عند الاستعمال، فالمخاطب العالِمِ بالوضع عند سماعه وملاحظته ينساق ذهنه إليه لأجل وضعه بإزائه، فلو لم يرد المخاطب ذلك، بل غيره، مع علمه بذلك واطّلاعه عليه وعدم نصب قرينة(3) عليه وتكليفه بفهم ذلك الغير ليمكن الامتثال وعدم إرادته ذلك الظاهر، فلزوم(4) ما ذكر ظاهر، وأمّا بطلان التالي فظاهر.

الوجه الثالث

والثالث: أنّه لو لم يكن المعنى الموضوع له في تلك الحالة مرادًا من اللفظ، لزم انتفاء الفائدة في بعثة الرُسُل وإنزال الكُتب، والتالي باطل، فكذا المقدّم(5).

ص: 351


1- ينظر إشارات الأصول: 1/ 39 و455، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 203، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 76.
2- في «ق»: لإزاء.
3- في «ج»: القرينة.
4- في «ج»: فلزوم.
5- ينظر إشارات الأصول: 1/ 39 و455، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 203، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 76.

أمّا الشرطيّة؛ فلأنّ المقصود منها هداية الناس إلى ما فيه صلاح المعاش والمعاد، وهو يتوقّف على المخاطبة والإفهام، ولا شبهة أنّ تلك الثمرة إنّما تترتّب على ما أراده الله تعالى مثلًا من الألفاظ لا غير، فلو كانت المعاني المرادة منها غير المعاني الظاهرة ولم ينصب قرينة على المراد، انتفت تلك الثمرة، فيلزم منه انتفاء الفائدة من الرسل والكتب المنزلة في الألفاظ الغير المقترنة بالقرينة، وأمّا بطلان التالي فلا يحتاج إلى البيان.

وأيضًا ورد في الحديث:

«انّ الله تبارك وتعالى أجلّ من أن يخاطب قومًا بخطاب(1) ويريد منهم خلاف ما هو بلسانهم وما يفهمونه»(2).

إن قيل: إنّ كلّ هذه الأدلّة لا تجدي نفعًا بالنسبة إلى الموجودين في هذه الأزمان وما ضاهاها في فهم الآيات والأخبار؛ لأنّهم ليسوا بمخاطبين بها حتّى تكون الحجّة في حقّهم معانيها الظاهرة عندهم، فيحتمل أن تكون المعاني الظاهرة عند المخاطبين مغايرةً للمعاني الظاهرة عندنا، وعلى تسليم الاتّحاد يمكن دعوى الاقتران بالقرينة الصارفة عن تلك المعاني الظاهرة.

ص: 352


1- «بخطاب» لم ترد في «ق».
2- لم نجد النصّ في المجامع الحديثيّة، نعم، نقله الوحيد البهبهانيّ في «الفوائد الحائريّة: ص105»، والسيّد بحر العلوم (قدس سره) في «شرحه على الوافية (مخطوط): الورقة 76»، والمولى محمّد مهدي النراقيّ في «جامعة الأصول: 259»، و«أنيس المجتهدين: 1/ 62» عن بعض الصادقين(، والحاجي الكرباسيّ (قدس سره) في «إشارات الأصول: 1/ 39 و456»، والسيّد المجاهد في «المفاتيح: 31 و39».

قلنا: اختصاص الخطابات القرآنيّة والنبويّة بالموجودين وإن كان مسلّمًا، لكنّا مكلّفون بتحصيل فهمهم، وندّعي أنّ المعاني المفهومة منها عندهم هي المعاني المفهومة عندنا، فتكليفنا أبدًا يحصل من مقدّمتين، الأولى: أنّ هذا فهم الحاضرين، والثانية: كلّما كان كذلك فهو حجّة علينا، فينتج: أنّ فهم الحاضرين حجّة بالنسبة إلينا.

أمّا الكبرى فبالأدلّة الدالّة على الاشتراك في التكليف، وأمّا الصغرى فلأنّ تلك الألفاظ لو كانت المعاني المفهومة منها عندهم هذه المعاني الظاهرة عندنا فهو المطلوب، وإن كانت غيرها يلزم النقل والتغيّر، والأصل العدم.

وكذا لو كانت هي المعاني الظاهرة، لكنّها قد اقترنت بما يصرف عنها، فإنّ اقترانها به غير معلوم، فيندفع بالأصل، على أنّ اهتمام السلف في ضبط ما سمعوه وحفظ ما أخذوه من غير إسقاط شيء يتغيّر به المعنى ينافي الاحتمال المذكور.

الوجه الرابع

والرابع: الإجماع(1)، فإنّ أئمّة العربيّة والأصول(2) أطبقوا على لزوم حمل اللفظ على المعنى الظاهر عند التجرّد عن القرينة، وإطباقهم في أمثال المقام حجّة.

فظهر ممّا ذكر ظهورًا بيّنًا أنّه إذا كان للّفظ معنى حقيقيّ ومجازيّ ولم يعلم أنّ مراد المستعمل أيّ من المعنيين، أنّ اللازم حمله على المعنى الحقيقيّ وعدم جواز

ص: 353


1- ينظر إشارات الأصول: 1/ 39، ومفاتيح الأصول: 31، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 203، والمحصول، للفخر الرازي: 1/ 341.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): العلماء في جميع الأعصار والأمصار، وعليه علامة: خ ل.

حمله على المجازيّ، وهذا أحد المعنيين المفهومين من قولهم: «إنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة»، متّفقٌ عليه بينهم، إلّا في المجاز المشهور، بناءً على ما ذهب إليه بعضهم من تقديمه على الحقيقة ولو عند التجرّد عن القرينة(1).

على أنّه يمكن الجواب عن ذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ الكلام فيما إذا استعمل اللفظ مجرّدًا عن القرينة، وهنا ليس كذلك؛ لاحتمال أن يكون(2) الشهرة قرينة المجازيّة عند ذلك القائل على ما ذهب إليه بعضهم(3).

والثاني: المراد تقديم الحقيقة بحسب الذات، ولا ينافيه(4) تقديم المجاز في بعض المواضع باعتبار الأمور الخارجيّة كالشهرة ولو لم تكن قرينة.

إذا علمت ذلك نقول: والّذي يظهر ممّا ذكر لزوم حمل اللفظ على المعنى الحقيقيّ عند استعماله مجرّدًا عن القرينة وعدم جواز حمله على المعنى المجازيّ، سواء كان اللفظ منفردًا، أو مشتركًا كما فيما نحن فيه، فاحتمال الحمل على المعنى المجازيّ فيه فاسد، بل لم يذهب إليه أحدٌ، ومحلّ النزاع في معارضة الاشتراك والمجاز إنّما هو على المعنى الّذي ستقف عليه.

وبما مرّ من حجّيّة ظواهر الألفاظ ولزوم حملها عليها وعدم جواز الحمل على

ص: 354


1- ينظر مفاتيح الأصول: 68، وأنيس المجتهدين: 1/ 68، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 331.
2- كذا في الأصل، والصواب: تكون.
3- نقله عن بعضهم في مفاتيح الأصول: 68.
4- في «ق»: وهو ينافيه.

غيرها عند التجرّد، ظهر لك فساد ما ارتكبه طائفةٌ خاسرةٌ من أهل الضلال وفرقةٌ عادلةٌ عن الشريعة وما يتعلّق بها(1) من المقال، وليس ذلك إلّا لتقصيرهم في القواعد المعتبرة في دلالة الألفاظ وقصورهم عن القوانين الممهّدة لذلك المرام، حيث قالوا في الأمور المتعلّقة بالآخرة من سؤال القبر وغيره:

إنّ سؤال القبر وثوابه وعذابه عبارة عن تخيّل النفس بدنه مقبورًا واصلًا إليه اللذّات أو الآلام على سبيل المجازات على ما اعتقدته في الدنيا، والبعث عن خروج النفس من الهيئات المحيطة بها، والحشر عن وصول كلّ نفس إلى غاية فعله؛ والصراط عبارة عن التوسّط في الأخلاق، والجنّة عبارة عن العالم العقليّ، والنار عن الصور الكدرة المظلمة المؤلمة(2).

وغير ذلك من المقالات الفاسدة والتأويلات الرديّة.

ونحن نقول: إنّ هذه الألفاظ لها معانٍ ظاهرة، أو فسّرت بألفاظ كذلك ولم يقترن بالقرينة الصارفة عنها، فاللازم حملها على ظواهرها؛ لانتفاء ما يدلّ على امتناعها، فسؤال القبر عبارة عن سؤال المَلَكين الحاضرين في القبر الموكّلين من عند الله تعالى العبدَ الميّت عن أصول عقائده بعد إعادة تعلّق روحه ببدنه، والمراد بثوابه ما يصل إليه من نعم الله تعالى بعد الجواب، وعذابه ما يصل إليه بعد العجز عنه من الإيذاء والعقاب، ولعلّ إليهما الإشارة بقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «القبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النيران»(3).

ص: 355


1- في «ق»: فيها.
2- ينظر الشواهد الربوبيّة: 276.
3- الأمالي، للشيخ الطوسيّ 1: 28، ومتشابه القرآن ومختلفه، لابن شهر آشوب: 2/ 99، وبحار الأنوار: 6/ 205 و275.

والبعثُ عبارةٌ عن إحياء الأموات وخروجهم من حفرهم، والحشر جمعهم في أرض القيامة لمحاسبتهم، والصراط عبارة عن جسر ممدود على متن جهنّم أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف وأظلم من الليل، يؤمر كلّ مكلّف بالمرور عليه، والسعيد يمرّ عليه مرورًا مختلفًا في السرعة والبطؤ باختلاف مراتب السعادة، والشقيّ يسقط منه إلى الجحيم.

وهكذا الأمر في الباقي، فإنّ هذه الأمور قد أخبر بها المخبر الصادق بالألفاظ الدالّة على هذه المعاني، ولم يقم على امتناعها برهان قاطع، فيجب التصديق بها لما تقدّم، والإعراض عنها إعراض عن مخبره، وهو كفر وزندقة وإلحاد بلا ريبة.

الصورة الثانية
اشارة

والصورة الثانية: هي ما إذا ظهر المستعمل فيه ولم يظهر أنّ اللفظ حقيقة فيه أو مجاز، وهذا لا يخلو إمّا أن يكون المستعمل فيه واحدًا أو متعدّدًا، ففيه مقامان:

المقام الأوّل: أن يكون المستعمل فيه المعلوم واحدًا
اشارة

والحكم فيه أنّه فيه حقيقة لوجوه:

الوجه الأوّل

الأوّل: أنّه لو لم يكن حقيقة لكان مجازًا؛ لانحصار الاستعمال الصحيح فيهما، وهو يتوقّف على الوضع السابق، وهو غير معلوم، وعدمه كان معلومًا بناءً على أنّ عدم كلّ حادث متيقّن، فالحكم بالثبوت مع عدم ظهوره رفع للعلم السابق من

ص: 356

غير معارض، وهو غير جائز.

ويرد عليه: أنّه كما كان الوضع السابق معلوم العدم، كذا الوضع للمستعمل فيه، والقدرُ اللازم بعد ثبوت الاستعمال في المعنى المفروض الوضعُ في الجملة، أمّا كونه لخصوص المستعمل فيه فلا.

إن قيل: إنّ ذلك وإن كان مسلّمًا، لكنّه لو كان معنًى مجازيًّا لاحتاج إلى العلاقة أيضًا، وهو خلاف الأصل، فحينئذٍ نقول: كون المستعمل فيه معنًى مجازيًّا يستلزم الوضع لغيره والعلاقة بينهما، بخلاف الوضع للمستعمل فيه(1).

قلنا: التمسّك بأصل العدم في نفي العلاقة لا معنى له، إذ الأصل المعوّل عليه في أمثال المقام هو الّذي مآله الاستصحاب، وإنّما يصحّ التمسّك به إذا كان عدم العلاقة بينه وبين غيره الّذي يدّعى الوضع له على ما هو المفروض معلومًا في وقت ثمّ يستصحب العدم؛ وإنّما يتيسّر ذلك إذا لوحظ ذلك مع غيره من المعاني الغير المتناهية، وهو غير ممكن.

نعم، يمكن أن يثبت ذلك بأنّ المجازيّة مفتقرة إلى الوضع وعلم المستعمل بالمعنى المستعمل فيه والموضوع له كليهما، بخلاف ما لو كان ذلك المعنى موضوعًا له، فلا يلزم إلّا العلم بذلك المعنى، لا المعنى الآخر، ولعلّ هذا القدر كافٍ في المقام، فتأمّل.

ص: 357


1- جاء في حاشية الأصل: لا يقال: يمكن إثبات ذلك بجريان أصل العدم في ملاحظة العلاقة، ولا شبهة في أنّها حادثة؛ لكونها مترتّبة على وجود المستعمل الحادث؛ لأنّا نقول: على تقدير الوضع يفتقر إلى ملاحظته، وهي أيضًا حادثة مثل تلك الملاحظة، فتساويا من تلك الجهة. منه.
الوجه الثاني

والثاني: أنّ الظاهر من استعمال اللفظ في معنى كونه فيه حقيقة عند عدم ظهور خلافه، ألا ترى أنّك إذا اطّلعت على أنّه قد استعمل اللفظ(1) عند أهل اصطلاح في معنى وظهر لك ذلك المعنى بنحو من القرائن، يكون الظاهر في نظرك أنّ اصطلاحهم ذلك بحيث لا ترتاب في ذلك الظهور، وهذا هو الطريق الغالب في معرفة اللغات.

وهذا المقام ممّا يتمسّك به بأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة أيضًا، ومرجعه إلى ما ذكرنا من أنّه إذا استعمِلَ لفظٌ في معنى عند الجهل بحقيقيّته ومجازيّته، يكون المظنون أنّه فيه حقيقة.

وبالجملة: جعل الاستعمال دليلًا على الحقيقة في المستعمل فيه المعلوم، وهذا هو المعنى الآخر لقولنا: «أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة»، أي الظاهر في استعمال اللفظ في معنى كونه فيه حقيقة.

والسرّ في ذلك أنّ استعمال الألفاظ في المعاني الحقيقيّة(2) في المحاورات بين العرف والعادة أكثر من استعمالها في المعاني المجازيّة على ما مرّ بيانه، والظنّ إنّما يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب، فيكون المظنون من استعمال اللفظ(3) في معنى كونه موضوعًا له، والظنّ في اللغات حجّة مع أنّ المجازيّة حينئذٍ مرجوحة، فالحكم بها

ص: 358


1- في «ق»: اللفظ.
2- في «ق»: في الحقيقة.
3- في «ق»: اللفظ.

مع ذلك ترجيح للمرجوح على الراجح.

وممّا يدلّ على ما ذكرنا ما نقله العلّامة - طاب ثراه - في النهاية عن ابن عبّاس أنّه قال:

ما كنت أعرف الفاطر حتّى اختصم إليّ شخصان في بئر، فقال أحدهما: فطر لي أبي(1)، أي اخترعها(2).

وعن الأصمعيّ(3) أنّه قال: ما كنت أعرف الدهاق(4) حتّى سمعت جارية تقول: اسقني دهاقًا [أي ملآنًا](5).

قال: فاستدلّوا بالاستعمال على الحقيقة، فلو لا(6) علمهم بأنّ الأصل [هو] الحقيقة، لما ساغ ذلك(7).

ص: 359


1- في المصدر: فطرها أبي.
2- نقله عنه ابن الأثير في النهاية: 3/ 457.
3- حكاه الرازيّ في المحصول: 1/ 341.
4- جاء في حاشية الأصل: كأس دهاق: ممتلئة، وماء دهاق: كثير، انتهى. القاموس: [3/ 233]. وقولها: «اسقني دهاقًا» يحتمل المعنيين، وعلى الأوّل يكون المعنى: اسقني من كأس مملوّ من ماء، وعلى الثاني: اسقني ماء كثيرًا، وهذا هو الأولى كما لا يخفى. منه.
5- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
6- في المصدر: ولو لا.
7- نهاية الوصول إلى علم الأصول: 1/ 284، ونقله عنه في إشارات الأصول: 1/ 47، ومفاتيح الأصول: 79، وينظر المحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 204، وإشارات الأصول: 1/ 63، والطراز: 1/ 79، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 341.
الوجه الثالث

والثالث: أنّ ذلك اللفظ لو لم يكن حقيقة فيه، لكان مجازًا؛ لِمَا تكرّر مرارًا من انحصار الاستعمال الصحيح فيهما، فيلزم إلحاق المشتبه إمّا بالممتنع، أو بالممكن الّذي لم يعلم وقوعه، أو بالواقع النادر، والتوالي بأسرها باطلة، فالمقدّم مثلها.

أمّا الشرطيّة، فلأنّ المفروض انحصار استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى، فلو كان مجازًا فيه لكان ذلك مجازًا لا حقيقة له، وقد عرفت مشروحًا أنّ المجاز الّذي لا حقيقة له إمّا ممتنع، أو ممكن غير معلوم الوقوع، أو واقع نادر على اختلاف الأقوال الّتي تقدّم الكلام فيها مبسوطًا.

وأمّا بطلان التوالي فظاهر بالنسبة إلى الشقّ الأوّل والثاني، إذ(1) الممتنع كيف يكون بعض أفراده واقعًا، والشيء المعلوم الوقوع كيف يجعل من أفراد ما لم يعلم وقوعه؟! وأمّا بالنسبة إلى الأخير - بل إلى الجميع - فلأنّ المشتبه ملحوق بالأغلب لأُلف الذهن به، فيحصل له الظنّ أنّه من ذلك، فكونه من غيره موهوم عنده ومرجوح لديه، والحكم به مع ذلك ترجيح للمرجوح على الراجح، فتأمّل(2).

الوجه الرابع
الاستدلال على كون المجاز مخالفًا للأصل

والرابع: أنّهم قد استدلّوا على كون المجاز مخالفًا للأصل بوجوه:

ص: 360


1- في «ق»: أو.
2- جاء في حاشية الأصل: وجه التأمّل هو أنّ في اندراج ما نحن فيه في عنوان مسألة استلزام المجاز للحقيقة وعدمه نوع خفاء، كما يظهر للمتأمّل. منه.

منها: أنّه لو لم يكن خلاف الأصل لما حصل التفاهم حالة التخاطب؛ لأنّ أرجحيّة المجاز بالنسبة إلى الحقيقة باطلٌ قطعًا، فلو لم يكن مرجوحًا بالنسبة إليها كان مساويًا، فساوى إرادة المجاز إرادة الحقيقة، فلا يمكن حمل اللفظ على شيء منهما، فلا يحصل التفاهم(1).

أمّا بطلان التالي؛ فلوضوح أنّ وضع الألفاظ للتفهيم والتفهّم، ولا يخفى أنّ مقتضى هذا الدليل أنّه إذا علم المعنى الحقيقيّ والمجازيّ للّفظ ولم يعلم أيّهما المراد، تعيّن إرادة الأوّل، ولا دخل له فيما نحن فيه.

ومنها: أنّ المجاز متوقّفٌ على الوضع والنقل والعلاقة والقرينة، والحقيقة على الأوّل، والمتوقّف على الأمر الواحد أولى من المتوقّف على أمور أربعة(2).

وهذا الوجه لو تمّ لدلّ على أرجحيّة الحقيقة من المجاز بالمعنى الّذي كلامنا فيه، فاللازم صرف العنان إلى ذلك، فنقول أوّلًا: أمّا توقّف المجاز على الوضع فظاهر، وأمّا توقّفه على النقل فلأنّه ليس المراد من النقل في هذا المقام ما هو المصطلح عليه عند أرباب الفنّ، بل صرف اللفظ عن الموضوع له واستعماله في غيره، وحينئذٍ توقّف المجاز عليه ظاهرٌ أيضًا.

وأمّا توقّفه على العلاقة فلأنّ الكلام في المجاز الصحيح، وهو مع انتفاء العلاقة ممتنع، وأمّا على القرينة فلأنّ المقصود من استعمال اللفظ في معنى استفادته منه،

ص: 361


1- ينظر مبادئ الوصول: 73، ونهاية الوصول: 1/ 283، وتهذيب الوصول: 73، ومنية اللبيب: 1/ 242، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 340.
2- ينظر نهاية الوصول: 1/ 283، وتهذيب الوصول: 73، ومنية اللبيب: 1/ 243، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 340.

فلو استعمل اللفظ في غير الموضوع له مع عدم الاقتران بالقرينة فإمّا أن يحمله المخاطب على غير المراد، أو لا يحمله على شيء أصلًا، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة فلأنّ المخاطب إمّا أن يكون عالمًا بالموضوع له لذلك اللفظ، أو لا؛ وعلى الأوّل يحمله عليه؛ لأنّ غاية وضع اللفظ لمعنى دلالته عليه لذاته، فيلزم الأمر الأوّل، وعلى الثاني لا يمكنه الحمل على شيء أصلًا.

وأمّا بطلان التالي فلما عرفت من أنّ المقصود من استعمال اللفظ في معنى استفادته منه، والحمل على غيره وكذا عدم الحمل على شيء ينافيه.

وقد تحقّق بما تقرّر أنّ الأمور الثلاثة الأُوَل(1) ممّا توقّفت عليه ماهيّة المجاز، وأمّا الأمر الرابع(2) فليس من ذلك، بل ممّا توقّف عليه فهم المعنى المجازيّ منه(3)، ولعلّه لهذا اقتصر العلّامة(4) - طاب ثراه - وبعضٌ آخر(5) عند ذكر المتوقّف عليه المجاز على تلك الثلاثة، ولم يلتفتوا إلى الأمر الرابع، هذا.

بقي الكلام في وجه مرجوحيّة المتوقّف على الثلاثة أو الأربعة بالنسبة إلى ما يتوقّف على الواحد، فنقول: لعلّ ذلك لاستلزام الأوّل مخالفة الأصل أكثر؛ لأنّ كلًّا من الوضع والنقل والعلاقة والقرينة خلاف الأصل، والحقيقة متوقّفة على الأوّل والمجاز على الجميع، فكان مرجوحًا بالنسبة إليها.

ص: 362


1- أي: الوضع والنقل والعلاقة.
2- أي: القرينة.
3- في «ق»: فيه.
4- اقتصر على ذلك في نهاية الوصول: 1/ 283.
5- كالسيّد المجاهد في مفاتيح الأصول: 78، والرازيّ في المحصول: 1/ 340.

لكن فيه نظر؛ لأنّك قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ الأصل المعوّل عليه في أمثال المقام هو الّذي يؤول إلى الاستصحاب، فحينئذٍ نقول: إنّ الأصل بالمعنى المذكور وإن كان مسلّمًا في الوضع والنقل، لكن اختصاصه بالمجاز ممنوع.

أمّا الأوّل فظاهر، وأمّا الثاني فلأنّ النقل الّذي في المجاز هو استعمال اللفظ في غير الموضوع له، فتقرير الدليل حينئذٍ: هو أنّ استعماله في غير الموضوع له كان عدمه معلومًا والاستعمال الّذي فيما نحن فيه مردّد بين كونه في غير الموضوع له فينقض العلم السابق، وكونه في الموضوع له فيبقى، فاحتمالهما قائم، فمع الاحتمال لو حكم بالمجازيّة يلزم انتقاض العلم السابق بالاحتمال، وهو فاسد.

لكنّا نقول بمثل ذلك في الحقيقة بأنّ القدر الثابت المتيقّن بعد فرض الاستعمال هو الوضع(1)، فحينئذٍ نقول: كما أنّ الاستعمال في غير الموضوع له كان معلوم العدم، كذلك الاستعمال فيه؛ والاستعمال الثابت كما يحتمل أن يكون في الموضوع له، كذا يحتمل أن يكون في غيره، فمع هذا الاحتمال الحكم بأنّه في الموضوع له نقض للعلم السابق بالاحتمال.

وبالجملة: القدر المتيقّن مطلق الاستعمال، أمّا كونه في الموضوع له أو في غيره، فالكلّ محتمل، وأمّا العلاقة فقد عرفت في الوجه الأوّل أنّ التمسّك بالأصل لنفيها ممّا لا معنى له، وأمّا القرينة فنقول: إنّ اقتران اللفظ بها وإن كان أمرًا حادثًا، فعدمه كان معلومًا، فيمكن التمسّك بالأصل في بقائه إلى أن يثبت، والقدر الثابت فيما نحن فيه إنّما هو المستعمل فيه، وأمّا اقتران اللفظ بالقرينة فلا، والحكم

ص: 363


1- جاء في حاشية الأصل: لأنّ المستعمل فيه إمّا حقيقيّ أو مجازيّ، وعلى التقديرين يلزم الوضع كما لا يخفى. منه.

بالمجازيّة يستلزمه مع أنّه مشكوك وعدمه كان معلومًا، فيلزم انتقاض العلم بالشكّ، وهو غير جائز، وأمّا الحكم بالحقيقة فلا كما لا يخفى، فكان أولى.

لكن يرد عليه: أنّ المفروض معلوميّة المستعمل فيه، فيقال: إنّ ما به العلم هو القرينة، فالعلم بعدمها قد انتقض بالعلم بوجودها، فلا يلزم المحذور، فآل(1) الأمر في معارضة قرينة المجاز وما به يحصل بيان الموضوع له، ولعلّ الترجيح للثاني، فحينئذٍ يتمّ المراد.

والمقام الثاني: أن يكون المستعمل فيه المعلوم متعدّدًا
اشارة

وهذا على قسمين، لأنّه إمّا أن لم يثبت الوضع لشيء منهما، أو لا، بل بالنسبة إلى البعض ثابت(2)، بخلافه بالنسبة إلى الآخر.

القسم الأوّل
اشارة

أمّا القسم الأوّل فهو لا يخلو إمّا أن يكون للبعض رجحان على الآخر لغلبة الاستعمال والتبادر وغيرهما، أو لا، وعلى الثاني إمّا أن يتحقّق قدر مشترك بين المعنيين مثلًا، أو لا، فهنا ثلاث صور:

الصورة الأولى

الأولى: أن يكون لبعض المستعمل فيه المعلوم رجحان على الآخر، وهذا لا يخلو إمّا أن يتحقّق بينه وبين المرجوح علاقة من العلائق المعتبرة، أو لا.

ص: 364


1- في «ق»: فآلى.
2- جاء في حاشية الأصل: فجعل هذا القسم للمقسم الّذي لم يعلم فيه الموضوع إّما هو بالنسبة إلى المعنى الآخر، فتأمّل. منه.

وعلى الأوّل ينبغي أن يكون حقيقة في الراجح مجازًا في المرجوح، إذ لو لم يكن كذلك، فلا يخلو إمّا أن يكون حقيقة في الجميع، أو مجازًا كذلك، أو حقيقة في المرجوح مجازًا في الراجح، أو لا حقيقة ولا مجازًا.

والكلّ فاسد، أمّا الأخير: فلما ذكر مرارًا من انحصار الاستعمال الصحيح فيهما، فمع ثبوت الاستعمال لا وجه لاحتماله، وأمّا الأوّل: فلاستلزامه الاشتراك الملزوم لتعدّد الوضع المنفيّ بالأصل(1).

إن قلت: إنّ المجاز يستدعي ملاحظة العلاقة، والأصل عدمها.

قلنا: الحقيقة مستدعية لملاحظة الوضع.

لا يقال: إنّ ملاحظة الوضع عين العلم بالوضع، بخلاف ملاحظة العلاقة، لأنّا نمنع العينيّة، ألا ترى أنّ الاستعمال في الموضوع له غير مستلزم للحقيقة؛ لأنّ الاستعمال فيه إن كان بملاحظة الوضع فحقيقة، وإن كان بملاحظة العلاقة فمجاز، فتأمّل.

وأمّا الثاني: فلأنّه يستلزم الوضع للمعنى الآخر والأصل عدمه، لكنّه يمكن أن يقال: إنّه كما يكون الأصل عدم وضعه للمعنى الآخر، كذا يكون الأصل عدم

ص: 365


1- جاء في حاشية الأصل: لا يقال: إنّ المجاز يفتقر إلى الوضع والنقل والعلاقة والقرينة، فكان مرجوحًا؛ لأنّا نقول: أمّا النقل فهو عبارة عن الاستعمال والمفروض ثبوته، وأمّا العلاقة فالمفروض تحقّقها؛ على أنّك قد عرفت حال التمسّك بالأصل فيها، فتأمّل. وأمّا القرينة فالمجاز وإن كان مفتقرًا إليها، لكنّه لا اختصاص للمجاز في ذلك؛ لتحقّقه في المشترك أيضًا، بل المشترك يفتقر إلى قرينتين والمجاز إلى قرينة واحدة، وأمّا الوضع فهو في المشترك متعدّد وفي المجاز واحد، فكان أولى. منه.

وضعه لأحد المعنيين، وغاية ما ثبت إنّما هو استعمال اللفظ فيهما، واللازم منه مطلق الوضع، أمّا(1) كونه لأحدهما فلا؛ لأنّ الاستعمال فيهما مردّد بين كونه في الموضوع له في واحد منهما فيثبت المطلوب، أو في غيره فالأصل عدم وضعه لشيء من المعنيين.

ويمكن أن يقال: إنّ المجازيّة لأحد المعنيين ثابتة، بناءً على ما مرّ من بطلان احتمال الاشتراك، فحينئذٍ نقول: إنّ المعنى الآخر لو كان معنًى مجازيًّا أيضًا، يلزم فيه علم المستعمل بوضع اللفظ للمعنى الآخر والعلم بالعلاقة وملاحظتهما.

بخلاف ما إذا كان معنى حقيقيًّا، فاللازم فيه العلم بالوضع وملاحظته، فهو أولى؛ لأنّ كلًّا من العلم بالوضع والعلاقة وملاحظتهما كان حادثًا، وكلّ حادث كان عدمه معلومًا، والانتقاض إنّما يثبت بالنسبة إلى العلم بالوضع وملاحظته، بناءً على أنّه على تقدير المجازيّة والحقيقيّة لازم، وأمّا بالنسبة إلى غيره فلا، فاللازم فيه(2) استصحاب العدم حتّى لا يلزم انتقاض اليقين بالشكّ، فثبت الوضع لأحد المعنيين، وهو المطلوب، وسيجيء ما يدلّ عليه أيضًا.

وأيضًا قد تقدّم أنّ ظاهر استعمال اللفظ في المعنى يقتضي الحقيقة.

لا يقال: إنّ ذلك يستدعي كون اللفظ حقيقة في المعنيين، وهو خلاف المدّعى.

قلنا: إنّ ذلك إنّما يسلم بالنسبة إلى أحد المعنيين، لا بالنسبة إليهما؛ لاختصاص الدليل بذلك.

وأمّا الثالث: فلأنّ الحقيقة أصل والمجاز فرع لها، فالحقيقة أولى من

ص: 366


1- في «ق»: وأمّا.
2- الضمير في «فيه» عائدٌ إلى «غيره» في قوله: «وأمّا بالنسبة إلى غيره فلا».

المجاز، فحينئذٍ لو حكم لحقيقيّة المرجوح ومجازيّة الراجح يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

هذا إنّما هو إذا كان لكلّ من المعنيين علاقة بالنسبة إلى الآخر، أو للمعنى المرجوح بالنسبة إلى الراجح، وأمّا إذا كان الأمر بالعكس فهناك يتعيّن أن يكون المعنى المرجوح حقيقيًّا والراجح مجازيًّا كما لا يخفى.

وعلى الثاني: -وهو ما إذا لم يكن بين المعنيين علاقة- ينبغي أن يكون اللفظ حقيقة فيهما، أمّا في واحد منهما فلما تقدّم من أنّ ظاهر استعمال اللفظ في المعنى يقتضي كونه حقيقة، وأمّا في الآخر فلأنّ المجازيّة متوقّفة على العلاقة، والمفروض انتفاؤها.

ويرد عليه: أنّ المفروض انتفاء العلاقة بين المعنيين، ولا يلزم منه انتفاء مطلق العلاقة؛ لأنّ نفي الأخصّ لا يستلزم نفي الأعمّ، فليكن بعضهما(1) أو كلاهما معنًى مجازيًّا بالنسبة إلى معنى آخر، وهو الّذي وضع اللفظ له.

والجواب: أنّ استعمال اللفظ في المعنى حادث، فهو(2) مسبوق بالعدم، فكما أنّ الاستعمال كان عدمه(3) معلومًا، كان عدم ملاحظة العلاقة بين المستعمل فيه وبين غيره معلومًا، والّذي يثبت انتقاض هذا اليقين إنّما هو بالنسبة إلى الاستعمال، وأمّا بالنسبة إلى العلاقة فلا؛ لجواز أن يكون المستعمل فيه موضوعًا له.

إن قلت: إنّ ملاحظة العلاقة معارضة بملاحظة الوضع، فلو كان المستعمل

ص: 367


1- في «ق»: بعضها.
2- في «ق»: وهو.
3- «عدمه» لم ترد في «ق».

فيه موضوعًا له، يلزم فيه ملاحظة الوضع، وهي أيضًا كان عدمها معلومًا، فإذا تعارضا تساقطا، فمن أين الترجيح؟!

قلنا: إنّ ملاحظة الوضع ممّا لا بدّ منه على التقديرين، أمّا في صورة الوضع فظاهر، وأمّا في صورة عدمه فلأنّه مستلزم لملاحظة العلاقة، وهي على ما مرّ اتّصال ما بين المعنى المستعمل فيه والموضوع له، فملاحظة العلاقة مستلزمة لملاحظة الوضع من دون عكس، فالعلم المتعلّق بعدم ملاحظة الوضع قد انتقض بالعلم بملاحظته، بناءً على ثبوت الاستعمال وانحصاره في الحقيقة والمجاز واستلزام أيّ منهما كان إيّاها(1)، وأمّا العلم المتعلّق بعدم ملاحظة العلاقة فلا؛ لما عرفت من احتمال كون الاستعمال في الموضوع له وعدم استلزامه لملاحظة العلاقة، فتأمّل.

وأيضًا الغالب أنّ اللفظ إذا كان موضوعًا لمعنى، يكون مستعملًا فيه، فعلى هذا نقول: إنّ اللفظ فيما نحن فيه إن قلنا أنّه موضوع للمعنيين الّلذين ثبت استعمال اللفظ فيهما، فلا كلام فيه؛ وإن قلنا أنّه موضوع للمعنى الآخر والمفروض أنّ استعماله منحصر في غيره، فيلزم حمل المشتبه على النادر، مع أنّك قد عرفت أنّ حمله على الأغلب لازم.

إن قيل: إنّ عدم الوجدان غير دالّ على عدم الوجود، فليكن موضوعًا للمعنى الآخر ومستعملًا فيه أيضًا ولم نظفر عليه واشتهر في المعنى المجازيّ.

قلنا أوّلًا: إنّ هذا الاحتمال غير مناف لما تقدّم؛ لأنّ المدّعي حقيقيّة اللفظ في المعنيين المفروضين، والاحتمال المذكور مآله مهجوريّة المعنى الأصليّ وتعيّن المعنى

ص: 368


1- أي ملاحظته.

المجازيّ، فيكون معنًى حقيقيًّا.

وأمّا كونه على سبيل النقل أو الوضع الابتدائيّ، فليس الكلام في ذلك؛ لأنّ المقصود تشخيص المعاني الحقيقيّة والمجازيّة حال الاستعمال، على أنّه يمكن إبطال الاحتمال المذكور بأنّه بناءً عليه يلزم النقل والاشتراك، وعلى الأوّل الثاني فقط، فهو أولى كما لا يخفى.

الصورة الثانية

والصورة الثانية: أن يكون بين المعنيين مثلًا قدر مشترك، والحكم في ذلك هو: أنّ الظاهر[أنّ] اللفظ موضوع لذلك المعنى المشترك، إذ لو لم يكن كذلك، فلا يخلو إمّا أن يكون موضوعًا له ولكلّ من المعنيين، أو لهما فقط، أو لبعضهما، أو لا لشيء منهما، بل الوضع إنّما هو للمعنى الآخر واستعماله فيهما مجاز، وكلّها فاسد، أمّا الأوّل والثاني فلاستلزامه الاشتراك المخالف للأصل، وأمّا الثالث والرابع فلاستلزامه المجاز المخالف للأصل، فتعيّن أن يكون الوضع للمعنى المشترك.

لا يقال: إنّه على تقدير الوضع له أيضًا يلزم الاشتراك أو المجاز؛ لأنّ اللفظ لو استعمل في كلّ من المعنيين لا يخفى أنّ مصحّح الاستعمال إمّا الوضع فيهما، أو العلاقة، أو ذاك في بعض وهذه في الآخر، والاشتراك والمجاز على الثالث لازم كالأوّل على الأوّل والثاني على الثاني، فالوضع للقدر المشترك إمّا مرجوح بالنسبة إلى تلك الاحتمالات(1)، أو مساوٍ.

ص: 369


1- جاء في حاشية الأصل: لأنّه على تقدير أن يكون الوضع مصحّح الاستعمال فيهما، يكون هو عين الاحتمال الأوّل؛ وعلى تقدير أن يكون العلاقة يلزم الحقيقة والمجاز في المعنيين؛ وعلى الاحتمال الثاني هناك كان اللازم الاشتراك فقط، وعلى تقدير أن يكون الوضع في البعض والعلاقة في الآخر، يلزم الاشتراك والمجاز، وعلى الاحتمال الثالث هناك كان اللازم الحقيقة والمجاز. منه.

لأنّا نمنع لزوم الاشتراك والتجوّز على تقدير الوضع للمعنى المشترك؛ لما تقرّر في محلّه أنّ استعمال اللفظ الموضوع للكلّ في أفراده كما يمكن أن يكون على سبيل التجوّز، وذلك فيما إذا كان الدالّ واحدًا والمدلول متعدّدًا، كذا يمكن أن يكون على سبيل الحقيقة بذلك الوضع، وذلك فيما إذا كان الدالّ والمدلول كلاهما متعدّدًا، فاللازم على تقدير الوضع للمعنى المشترك احتمال الاشتراك أو التجوّز، بخلافه على تلك الاحتمالات، فإنّ اللازم فيها إمّا لزوم التجوّز، أو الاشتراك، ولا شكّ أنّ المحتمل منهما كان راجحًا على المتيقّن منهما، فالوضع للأمر المشترك أولى، وهو المطلوب.

إن قيل: إنّ استعمال الكلّيّ على الوجهين وإن كان مسلّمًا، لكنّه غير مجد فيما نحن فيه؛ لأنّ المفروض ثبوت الاستعمال في المعنيين، فحينئذٍ لا يخلو إمّا أن يكون المستعمل فيه موضوعًا له، أو غيره، وعلى الأوّل يلزم الاشتراك وعلى الثاني المجاز.

قلنا: القدر المعلوم أصل الاستعمال، أمّا كونه في خصوص المعنيين فغير معلوم، والقدر المتيقّن القدر المشترك، فينبغي أن يؤخذ(1) ويدفع الزائد بالأصل، أي الأصل عدم إرادته من اللفظ.

لا يقال: كما أنّ الأصل عدم إرادة الخصوص من اللفظ، يكون الأصل عدم إرادته من القرينة، فما الرجحان؟

ص: 370


1- في «ق»: أن يوجد.

لأنّا نقول: إرادة الخصوصيّة معلومة، إذ المفروض معلوميّة المستعمل فيه، ولا شكّ أنّ ذلك العلم مستند إلى شيء، فهو قرينة على ذلك، فلا معنى لنفيها بالأصل، وعلى فرض التسليم تعارض الأصلين يوجب تساقطهما في البين، فتبقى أصالة عدم الاشتراك والمجاز سالمة عن المعارض.

الصورة الثالثة

والصورة الثالثة: أن لا يكون بين المعنيين مثلًا قدر مشترك، وهذا أيضًا لا يخلو إمّا أن يكون بينهما علاقة من العلائق المصحّحة للتجوّز، أم لا، والأوّل يحكم بكونه حقيقة ومجازًا، وقد ظهر الوجه فيه ممّا مرّ، ويجري فيه بعض ما يأتي في القسم الثاني أيضًا.

وأمّا الثاني: فالحكم في ذلك أن يكون اللفظ مشتركًا بينهما، إذ لو لم يكن كذلك لا يخلو إمّا أن يكون اللفظ مجازًا فيهما، أو حقيقة في البعض مجازًا في الآخر، أو لا هذا ولا ذاك.

والأخير قد تقدّم مرارًا بطلانه، والثاني أيضًا باطل؛ لأنّ المفروض انتفاء العلاقة بين المعنيين، فمع انتفائها احتمال المجازيّة سفسطة.

إن قيل: إنّ المفروض انتفاء العلاقة بين المعنيين، ولا يلزم من انتفائها بينهما انتفاء احتمال مطلق المجازيّة؛ لجواز أن يكون معنى آخر موضوعًا له ويكون لأحد المعنيين علاقة بالنسبة إليه، فيكون معنًى مجازيًّا.

قلنا: إنّ الأصل عدم الوضع بإزاء غير المعنيين، وهذا وإن أمكن معارضته بأنّه كما أنّ الأصل عدم الوضع بإزاء غير المعنيين، فيلزم أن يكونا موضوعًا لهما، كذلك

ص: 371

الأصل عدم الوضع بإزاء كلّ من المعنيين، فحينئذٍ يلزم الوضع بإزاء معنى آخر، وغاية ما يلزم من استعمال اللفظ فيهما مطلق الوضع، وأمّا كونه لخصوص المعنيين فلا كما لا يخفى، لكن لمّا يلزم على تقدير الوضع بإزاء غيرهما الاشتراك والمجاز، وعلى تقدير الوضع بإزائهما الاشتراك فقط، فهو أولى.

وأيضًا على تقدير الوضع بإزاء معنى آخر أيضًا لا يلزم المجازيّة؛ لمهجوريّة ذلك المعنى، فيلزم المطلوب، وهو الاشتراك مع النقل، والمصير إلى الاشتراك فقط أولى من المصير إلى الاشتراك والنقل معًا.

أمّا الأوّل: فهو أيضًا باطل؛ لأنّ أصالة عدم التجوّز وإن كانت معارضة بأصالة عدم الاشتراك، إلّا أنّه لمّا كان القول بالاشتراك ممّا لا بدّ منه لما عرفت آنفًا، فالمصير إليه أولى، فتأمّل جدًّا.

القسم الثاني

وأمّا القسم الثاني: أي إذا علم تعدّد المستعمل فيه اللفظ وثبت الوضع بالنسبة إلى البعض واشتبه الحال بالنسبة إلى الآخر، فهذا القسم أيضًا لا يخلو إمّا أن يعلم العلاقة بين ما ثبت فيه الوضع وما لم يثبت، أو لا يُعلم انتفاؤها، أو لا هذا ولا ذاك.

ولمّا كانت أنواع العلائق محصورة و(1) في كتب القوم معدودة(2)، يمكن الاطّلاع على التحقّق والانتفاء، فلا محالة يرجع القسم الثالث إلى الأوّلين، فينبغي

ص: 372


1- «و» لم ترد في «ق».
2- قال الشيخ البهائيّ (قدس سره) في الزبدة: وحصرت - أي العلاقة - في خمسة وعشرين، الحصر في هذا العدد للقدماء، وهذا تفصيله، إلى آخر كلامه رفع مقامه (زبدة الأصول: 76).

التكلّم فيهما، فنقول: أمّا الثاني منهما فينبغي الحكم فيه بالاشتراك؛ لأنّ احتمال التجوّز فرع وجود المصحّح، والمفروض انتفاؤه، واحتمال العلاقة بين ذلك المعنى ومعنى آخر غير ما ثبت(1) له الوضع مدفوعٌ بما قدّمناه، فلا حاجة للإعادة.

وأمّا القسم الأوّل فقد اختار السيّد الأجلّ(2) ومن وافقه فيه الاشتراك، والمشهور على ما هو المشهور المجاز(3)؛ وهذا هو المعنى الثاني لمعارضة الاشتراك والمجاز، ملخّصه: أنّه إذا ثبت وضع اللفظ لإزاء معنى معيّن و(4)استعمل في غيره وعلم المستعمل فيه ولم يعلم أنّ الاستعمال بطريق الحقيقة أو المجاز، فمرجّح الاشتراك يرجّح الأوّل والمجاز الثاني.

أدلّة القائلين بأنّ الاشتراك خير من المجاز
اشارة

وتمسّك القائلون بالاشتراك بوجوه:

الدليل الأوّل
اشارة

الأوّل: أنّ الاشتراك أكثر، فيجب حمل مجهول الحال عليه؛ لأنّ الظنّ يحكم بإلحاق المشتبه على الأغلب(5)، أمّا كونه أكثر فلأنّ الألفاظ منحصرة في الاسم والفعل والحرف، أمّا الحرف فيشهد على اشتراكه طرًّا تتبّع كتب النحو واللغة؛

ص: 373


1- في «ق»: غير ثابت له.
2- ينظر الذريعة: 10.
3- ينظر إشارات الأصول: 1/ 49، والفوائد الحائريّة: 114-115، وقوانين الأصول: 1/ 80.
4- في «ق»: أو.
5- كذا في الأصل، والصواب: بالأغلب.

وأمّا الفعل فلأنّه إمّا ماضٍ أو مضارع أو أمر، والأوّل مشترك بين الخبر والدعاء، والثاني مشترك بين الحال والاستقبال، والثالث بين الوجوب والاستحباب، وأمّا الاسم فلا شبهة في ثبوت الاشتراك في كثير من أفراده، فثبت(1) الأكثريّة(2).

وهذا الاستدلال يحتمل معنيين، الأوّل: أكثريّة الاشتراك من المجاز في كلّ واحد منها، والثاني: أكثريّته منه في المجموع من حيث المجموع.

المعنى الأوّل للدليل الأوّل

والأوّل يفتقر(3) صحّته إلى ثبوت ثلاثة أشياء في كلّ واحد منها: معلوم الاشتراك ومعلوم المجازيّة ومجهول الحال، لكن يكون ما علم مجازيّته في كلّ واحد منها أقلّ بالنسبة إلى ما علم اشتراكه فيه، فيحمل ما اشتبه حاله عليه.

وكان(4) المعاني المشتركة في الحروف هي الّتي يذكرونها عند ذكر معانيها من غير الاقتران بالقرينة المجازيّة، والمعاني المجازيّة هي الّتي يذكرونها مع الاقتران بها، كما يقال: هذا الحرف يستعمل في معنى الآخر، أو في موضع الآخر، كما قال ابن مالك:

ص: 374


1- كذا في الأصل، والصواب: فثبتت.
2- ينظر نهاية الوصول: 1/ 230، وغاية الوصول: 1/ 169، وإشارات الأصول: 1/ 46، ومفاتيح الأصول: 93، وقوانين الأصول: 1/ 80، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 208، والبحر المحيط: 1/490.
3- كذا في الأصل، والصواب: تفتقر.
4- كذا في الأصل، والصواب: كانت.

وقد يجيء(1) موضع «بعد» و«على» كما «على» موضع «عن» قد جعلا(2) و(3) المعاني المشتبه حالها هي الّتي قد علمنا استعمالها فيها مع عدم تعرّضهم لها.

وأمّا في الأفعال فقد علم المعاني المشتركة فيها، أمّا المعنى المجازيّ فيها فكأنّه في الماضي المستقبل وفي المستقبل الماضي وفي الأمر الاباحة مثلًا، والمجهول الحال في الأوّلين المعنى الأمريّ مثلًا وفي الأخير التهديد أو غيره، وأمّا في الأسماء فظاهر.

وفساد هذا المعنى على هذا الوجه ظاهرٌ؛ إذ يلزم على هذا كون الماضي والمضارع عند استعمالهما في معنى(4) الأمر حقيقة فيه مثلًا وكون الأمر في التهديد حقيقة، ولا أظنّهم أن يلتزموا ذلك.

ويمكن بناءً على هذا الاحتمال أن يكون المراد أكثريّة الاشتراك في كلّ واحد منها من التجوّز فيه، ولا يلزم ثبوت مجهول الحال في الجميع، بل في بعضه، لكن نظرًا إلى أكثريّة الاشتراك من التجوّز يحكم بالاشتراك في مجهول الحال، لكن هذا أيضًا فاسد؛ لأنّ دعوى أكثريّة الاشتراك من التجوّز في الاسم خروج عن الإنصاف وعدول عن سنن الصواب.

وكذا في الفعل؛ لأنّ صيغة الأمر منه باعتراف الخصم مشتركة بين الوجوب والاستحباب وقد استعملت في معاني متكثّرة كما لا يخفى على المطّلع في مباحثها؛ والأكثريّة إنّما تتحقّق إذا علم أنّ واحدًا منها معلوم التجوّز والباقي مشتبه الحال،

ص: 375


1- في المصدر: تجيء.
2- ألفيّة ابن مالك: 36.
3- في «ق»: أو.
4- في «ق»: المعنى.

وهو أيضًا بعيد عن الصواب، وعلى فرض التسليم يلزم أن يكون كلّ(1) تلك المعاني إلّا واحدًا منها معنًى حقيقيًّا، وهم غير ملتزمين لذلك. وأيضًا الحكم بكون الواحد المعيّن معنًى مجازيًّا دون غيره ترجيحٌ من غير مرجّح.

وكذا الكلام في الماضي، فإنّه على اعتراف الخصم مشتركٌ بين الخبر والدعاء، وينبغي أن يكون مراده بالخبر الإخبار بالواقع في الزمن الماضي كما لا يخفى، وحينئذٍ لو استعمل بمعنى المستقبل والأمر إمّا أن(2) يكون كلّ منهما معنًى مجازيًّا، أو مشتبه الحال، أو واحد منهما كالأوّل والآخر كالثاني، أو مختلف الحال.

وعلى الأوّل لا يلزم أكثريّة الاشتراك من التجوّز في الماضي، وعلى الثاني يلزم الحكم باشتراكه في الجميع ولا يلتزمون ذلك، وعلى فرض التسليم لم يتحقّق التجوّز فيه أصلًا، مع أنّ المفروض أكثريّة الاشتراك في الكلّ من التجوّز فيه؛ وعلى الثالث يلزم الترجيح من غير مرجّح، وكذا الكلام في المضارع. نعم، ربّما يمكن تسليم هذا المعنى بالنسبة إلى الحروف مع كلام ستقف عليه.

المعنى الثاني للدليل الأوّل

والمعنى الثاني: أن يكون المراد أكثريّة الاشتراك من التجوّز في المجموع من حيث المجموع، وهذا المعنى إنّما تصحّ إرادته إذا صحّ المعنى الأوّل، وقد عرفت الحال فيه.

أو يكون الاشتراك في الأكثر أكثر من التجوّز فيه وإن لم يكن الأمر في الباقي

ص: 376


1- في «ق»: كلّ من.
2- في «ق»: إنّما.

كذلك، لكن إذا لوحظ المجموع من حيث المجموع يكون الاشتراك أكثر من التجوّز، وقد عرفت الحال فيه أيضًا.

أو يكون الاشتراك في بعض- وإن كان الأقلّ كالحرف-(1) مثلًا أكثر، بحيث إذا لوحظت أكثريّته يكون التجوّز بالنسبة إليه أقلّ وإن كان التجوّز في البعض الآخر أكثر بالنسبة إلى الاشتراك فيه، لكن أكثريّته فيه ليست كأكثريّة الاشتراك في الآخر، بل الاشتراك بحيث إذا لوحظ مع مجموع التجوّز كان أكثر، لكن هذا المعنى أيضًا غير مسلّم؛ لأنّ أكثريّة الاشتراك(2) في الحروف على فرض تسليمها ليست كأكثريّة التجوّز في غيرها(3)، فضلًا عن أن يزيد عليها.

نعم، ههنا احتمال آخر، وهو أنّ الاشتراك في الحروف على فرض تسليمه لو كان أكثر من التجوّز فيها، هل يحمل ما جهل حاله في غير الحروف مع عدم ثبوت الأكثريّة فيه على الحروف، فيحكم باشتراكه أيضًا نظرًا إلى ثبوت الأكثريّة، أو يعكس الأمر بأن يحمل ما اشتبه حاله في الحروف على غيرها، فيحكم بتجوّزه أيضًا بناءً على ثبوت أكثريّة التجوّز من الاشتراك فيه(4)، أو يفصّل الأمر: بأن يحكم على ما جهل حاله في الحروف بالاشتراك نظرًا إلى ثبوت أكثريّته من التجوّز فيها، ويحكم على ما جهل حاله في غيرها بالتجوّز نظرًا إلى ثبوت أكثريّته فيه؟

فلو اختير الأوّل يثبت ما ذهب إليه الخصم، بخلافه على الأخيرين، أمّا على

ص: 377


1- في «ق»: كالحروف.
2- جاء في هامش الأصل بخطّه (قدس سره): أي من التجوّز.
3- جاء في هامش الأصل بخطّه (قدس سره): أي من الاشتراك.
4- ضمير «فيه» يرجع إلى «غيرها».

الثاني فظاهر، وأمّا على الثالث فلأنّ مذهبه ترجيح الاشتراك على التجوّز مطلقًا، والّذي يلزم فيما نحن فيه ترجيح الاشتراك على التجوّز تارةً وعكسه أخرى، لكن لا وجه لاختيار الأوّل؛ لأنّ الحمل على المُجانس أولى من الحمل على المخالف كما لا يخفى، مع أنّ حمل المشتبه في غير الحروف عليها وعدم حمل المشتبه فيها على غيرها ترجيح من غير مرجّح.

إن قيل: نختار الثالث ونثبت المدّعى بتمامه؛ لعدم القول بالفصل، بناءً على أنّه إذا ثبت ترجيح الاشتراك على التجوّز في الحروف نقول بترجيحه في غيرها أيضًا؛ لعدم القائل بالفصل؛ لأنّهم على فرقتين، طائفة ذهبوا إلى ترجيح الاشتراك على التجوّز مطلقًا، وأخرى اختاروا العكس كذلك، والقول بالفصل غير موجود، وحيث أثبتنا رجحان الاشتراك على التجوّز في الحروف بما سبق نقول بذلك في غيرها، فيثبت المدّعى.

قلنا: سلّمنا انتفاء القائل بالفصل، لكنّه لا بعين رجحان الاشتراك على التجوّز؛ لأنّا نقول: لمّا كان المفروض أكثريّة التجوّز من الاشتراك في غير الحروف، يحمل ما اشتبه حاله فيه عليه، فيحكم بالمجازيّة، فيلحق ما جهل حاله في الحرف بذلك، لفقدان القائل بالتفصيل، فتأمّل.

هذا كلّه على تقدير تسليم أكثريّة الاشتراك من التجوّز في الحروف، ويمكن منع ذلك بناءً على أنّ غاية ما يظهر من تتبّع كتب النحو واللغة تعدّد المستعمل فيه للحروف، وهو إنّما يدلّ على الحقيقة إذا قلنا برجحان الاشتراك على المجاز، فالاستدلال به على المطلوب يستلزم الدور، إذ مآله رجحان الاشتراك على المجاز لرجحانه عليه.

ص: 378

والتحقيق أن يقال: إنّ كلماتهم في ذكر معاني الحروف على أنحاء، الأوّل: أنّ ذلك الحرف مثلًا لمعانٍ، الأوّل كذا والثاني كذا، إلخ، والثاني: أنّ ذلك الحرف يجيء على معانٍ، أو يستعمل في معان؛ والثالث: أنّ الباء مثلًا بمعنى اللام وغيرها.

والظاهر من القسم الأوّل أنّ تلك المعاني وإن كانت من المعاني الحقيقيّة مع إمكان المناقشة في ذلك أيضًا، لكنّ الظاهر من الأخيرين أنّهما(1) من المعاني المجازيّة، والحكم بأكثريّة الاشتراك من التجوّز في الحروف يتوقّف على كون أكثر كلماتهم في بيان معاني الحروف على النهج الأوّل، وهو غير معلوم كما لا يخفى على المتتبّع.

ثمّ دعوى اشتراك الماضي بين الخبر والدعاء أيضًا ممنوعة، وكيف؟! مع أنّه ادّعي إطباق أئمّة اللغة على أنّه حقيقة في الأوّل فقط(2)، وتبادره منه قرينة صادقة(3) في ذلك، وعدم تبادر الثاني أو تبادر غيره منه أمارة لائحة على التجوّز.

نعم، وقع الخلاف بينهم في المضارع والأمر في أنّه هل الأوّل موضوع للحال فقط، أو الاستقبال كذلك، والثاني للوجوب، أو الأوّل مشترك بينهما والثاني بين الوجوب والاستحباب؟ وليس القول بالاشتراك هنا قولًا متّفقًا عليه ولا بمعونة البرهان معوّلًا عليه حتّى يمكن الاستناد إليه في حكم الغير ويجعل أصلًا لتعرف حاله، كما لا يخفى على من لاحظ المسألة في المقامين وتلخّص من متابعة الغير في البين وتأمّل أدلّة القول في الطرفين.

بل الظاهر أنّ القائل بالاشتراك في المسألتين هو القائل بترجيحه على التجوّز

ص: 379


1- في «ق»: أنّها.
2- ادّعى إطباقهم في مفاتيح الأصول: 93.
3- في «ق»: صارفة.

عند المعارضة وبنى الأمر في ذلك على ما اختاره في تلك الصورة، فترجيح الاشتراك فيما نحن فيه حملًا على ذلك رجحان للاشتراك على التجوّز لرجحانه عليه، ولا يخفى فساده.

الدليل الثاني للقول بالاشتراك
اشارة

والدليل الثاني: هو ما يظهر من السيّد الأجلّ ممّا ذكره في بيان اشتراك ألفاظ العموم(1)، محصّله: أنّ اللفظ في المعنى المستعمل فيه لو لم يكن حقيقة لكان مجازًا، والتالي باطل، فالمقدّم كذلك.

أمّا الملازمة فظاهرة، وأمّا بطلان التالي فلأنّه لو كان مجازًا لأوْقَفَنَا أهل اللغة على ذلك(2)، أو علمنا ذلك بالعلم الضروريّ، والتالي باطل وإلّا لما وقع الخلاف بينهم في ذلك.

أمّا الشرطيّة فلأنّه يظهر بالتصفّح والاستقراء أنّه كلّما وقع فيه التجوّز وجد فيه أحد الأمرين، كقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾(3) و﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾(4)، وقولك: «أسد» و«حمار» في الشجاع والبليد.

الجواب النقضي عن الدليل الثاني

والجواب عن ذلك: بالنقض والحلّ، أمّا الأوّل: فهو أنّا نقول: إنّ ذلك اللفظ

ص: 380


1- ينظر الذريعة إلى أصول الشريعة: 1/ 203.
2- في «ق»: في ذلك.
3- سورة الفجر: 22.
4- سورة الشورى: 11.

في المعنى المستعمل فيه لو لم يكن مجازًا لكان حقيقة، أمّا الملازمة فظاهرة، وأمّا بطلان التالي فلأنّه لو كان حقيقة لأوْقَفَنَا أهل اللغة على ذلك، أو علمناه بالعلم الضروريّ، والتالي باطل وإلّا لما وقع الخلاف بينهم في ذلك.

أمّا الشرطيّة فلأنّه يظهر بالتصفّح والاستقراء أنّ كلّ لفظ حقيقيّ وجد فيه أحد الأمرين، كالإنسان والحمار والأسد وسباع الأرض والسماء، وغير ذلك من الأفعال والأسماء في معانيها الظاهرة، فلا بدّ للسيّد (قدس سره) من التزام أحد الأمرين: إمّا القول بعدم جواز إثبات الحقائق بالنظر والاستدلال وانحصار ثبوتها بالنصّ أو الضرورة كما ادّعاه في المجازات(1)، أو القول بجواز(2) إثبات الوضع والحقيقة بهما دون المجاز.

لكنّه فاسد، أمّا الأوّل: فلأنّ دعوى ثبوت النصّ أو الضرورة في أوضاع جميع الألفاظ ممّا يكذّبه الوجدان ويحكم بفساده العيان؛ وما اتّفقوا عليه من التمسّك في إثبات أوضاع كثير من الألفاظ بالاستدلال وتأسيس أمارات يتشبّث بها لثبوت الوضع في مقام الاشتباه.

وكيف؟! مع أنّ الألفاظ الّتي كلامنا فيها هي الّتي قد أثبت السيّد نفسه فيها الأوضاع من التمسّك بالأدلّة الّتي مضى بعضها ويجيء الكلام في البعض الآخر، إذ ثبوت النصّ فيها ينافي التمسّك بهذه المقالات الفاسدة والكلمات الواهية، فضلًا عن ثبوت الضرورة؛ وكيف؟! لو كان النصّ أو الضرورة فيها متحقّقًا لما وقع الخلاف، لاسيّما مع ذهاب الأكثر إلى المجازيّة، والسيّد أيضًا لم يكن مدّعيًا

ص: 381


1- لم نعثر عليه.
2- في «ق»: لجواز.

لثبوت أحد الأمرين فيها.

وأمّا الثاني: فلأنّ دعوى الفرق بين الحقيقة والمجاز لجواز ثبوت الأوّل بالاستدلال والنظر دون الثاني، تحكّمٌ محضٌ غير ملتفت إليه؛ لعدم الفرق بينهما، بل الأمر في الحقيقة أهمّ للأصالة وفرعيّة المجاز، وجواز الاستدلال في الأوّل يدلّ على جواز الاستدلال في الثاني بطريق أولى، ولا يمكن استناد الاستدلال في الحقيقة إلى الاتّفاق؛ لاشتراك استدلال العلماء بينهما.

الجواب الحَلّي عن الدليل الثاني

وأمّا الثاني: فهو أنّ دعوى انحصار ما يثبت به التجوّز فيما ذكره من الأمرين المذكورين غير صحيحة؛ وكيف؟! مع أنّهم اتّفقوا على ضبط الأمارات الّتي بها يستدلّ على التجوّز على ما تقدّم، وتشبّثوا بها في إثبات كثير من المجازات الّتي نحن نقطع بعدم تحقّق شيء من الأمرين المذكورين فيها، فليكن المقام من ذلك؛ والأدلّة الدالّة على المجازيّة هو ما سيجيء إليه الإشارة بحول الله سبحانه.

على أنّه يمكن أن يقال بعد تسليم الملازمة في الشرطيّة الثانية بمنع(1) بطلان التالي؛ لإمكان الإعلام والنصّ(2) من أهل اللغة ويكون الخلاف لعدم ظفر بعضهم به، وكذلك الحال في العلم الضروريّ؛ لإمكان أن يكون الشيء الواحد معلومًا بالعلم الضروريّ بالنسبة إلى بعض ولم يكن كذلك بالنسبة إلى غيره، فتأمّل.

ص: 382


1- في «ق»: يمنع.
2- في «ق»: والنفي.
الدليل الثالث للقول بالاشتراك
اشارة

والثالث: ما ذكره السيّد أيضًا بعد نفيه اللفظ المختصّ بالعموم وادّعائه اشتراك ما يدّعى له بينه وبين الخصوص من أنّ:

الّذي يدلّ على ذلك أنّ كلّ لفظ(1) يدّعون أنّه(2) للاستغراق(3) يستعمل(4) تارةً للخصوص، وأخرى في العموم(5)، ألا ترى أنّ القائل إذا قال: «من دخل داري أهنته أو أكرمته»، لا يريد(6) إلّا الخصوص(7)، وقلّما يريد(8) به العموم، ويقول: «لقيت العلماء، وقصدت الشرفاء»، وهو يريد العموم تارةً، والخصوص أخرى؛ وهذا معلوم ضرورة، ممّا لا يقع في مثله خلاف.

والظاهر من استعمال اللفظة في شيئين أنّها مشتركة بينهما(9) وموضوعة لهما، إلّا

ص: 383


1- في المصدر: لفظة.
2- في المصدر: أنّها.
3- في «ق»: للاستقرار.
4- في المصدر: تستعمل.
5- جاء في حاشية الأصل: لا يقال: إنّ هذا الدليل ليس دليلًا لما نحن فيه، إذ عنوان المسألة هو أن يكون الوضع بالنسبة إلى واحد من المستعمل فيه المتعدّد ثابتًا، والظاهر من هذا الكلام خلافه؛ لأنّا نقول: ثبوت الوضع لتلك الألفاظ في العموم اتّفاقيّ بينهم، إنّما الكلام في الخصوص. منه.
6- في المصدر: لا يراد به.
7- في المصدر: لا يراد به إلّا الخصوص.
8- في المصدر: يراد.
9- في المصدر: فيهما.

أن يوقفونا(1)، أو يدلّونا بدليل قاطع على أنّهم باستعمالها(2) متجوّزون(3).

وذكر: أنّ استعمال اللفظ في الشيئين أو الأشياء ليس إلّا كاستعماله في الواحد في الدلالة على الحقيقة(4)، فكما أنّ الاستعمال في الواحد يدلّ على أنّ اللفظ حقيقة فيه، فكذا المتعدّد.

الجواب عن الدليل الثالث

وجوابه: أنّ استعمال لفظ(5) العامّ في المعنيين وإن كان مسلّمًا، لكن لا نسلّم دلالة الاستعمال بنفسه على الحقيقة؛ لأنّ الاستعمال كما يوجد في الحقيقة يوجد في المجاز، ولا دلالة للعامّ على شيء من أفراده بخصوصه.

وما ذكره من أنّ استعمال اللفظ في المعنيين ليس إلّا كاستعماله في الواحد في الدلالة على الحقيقة، مقدوحٌ فيه؛ لأنّه إثبات اللغة بالقياس، وهو مرغوب عنه ولو عند المحقّقين من القائلين به في الأحكام.

على أنّه يمكن أن يقال: إنّه قياس مع الفارق؛ لأنّ من شرطه العلم بوجود علّة الحكم في المقيس، وهنا إنّما يتحقّق ذلك إذا علم أنّ الاستعمال في المعنى الواحد من حيث نفسه يدلّ على الحقيقة، إذ المفروض تحقّق الاستعمال في المستعمل في المعنى المتعدّد، وهو بنفسه علّة للحكم بالحقيقة، فوجب الحكم بها فيما نحن فيه؛

ص: 384


1- الصواب: أن يوافقونا، كما في المصدر.
2- في المصدر: باستعمالها في أحدهما.
3- الذريعة إلى أصول الشريعة: 1/ 202.
4- ينظر الذريعة إلى أصول الشريعة: 1/ 52.
5- في «ق»: اللفظ.

لاستلزام تحقّق العلّة تحقّق المعلول، لكنّه غير معلوم؛ لأنّ المقطوع به دلالة الاستعمال عليها، لكونه في المعنى الواحد، أو عند عدم ظهور التعدّد.

فعلى هذا لا يصحّ قياس المتعدّد؛ لانتفاء العلّة الموجبة للحكم، ولهذا اتّفق الفقهاء والأصوليّون على الحقيقة عند وحدة المستعمل فيه(1)، واختلفوا في صورة التعدّد، بل اختار الأكثرون منهم التجوّز فيه(2)، فلو كان مجرّد الاستعمال دليلًا على الحقيقة، لما [كان] وجهٌ لهذا الخلاف.

إن قيل: الظاهر أنّ علّة الحكم في صورة الوحدة مجرّد الاستعمال، لا مع وحدة المستعمل فيه، إذ لو كانت ذلك لزم أن لا يحكم بالحقيقة أبدًا؛ والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الشرطيّة فلأنّ العلم بوحدة المستعمل فيه إنّما يحصل إذا علم أنّ اللفظ لم يوضع لغير ذلك المعنى، ولا شبهة في انتفائه في كثير من الألفاظ لو لم يكن في جميعها، فحينئذٍ لا يمكن الحكم بالحقيقة؛ لأنّه مشروط بالعلم بانتفاء التعدّد، وهو غير متحقّق، وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط.

وأمّا بطلان التالي فللقطع بأنّهم يحكمون بالحقيقة بمجرّد وجدان اللفظ مستعملًا في معنى واحد وإن لم يحصل القطع بانتفاء غيره.

قلنا: ليس المراد بوحدة المعنى وحدته في نفس الأمر حتّى يكون المعتبر حصول العلم بانتفاء غيره، بل الوحدة بحسب الظاهر، فإذا رأينا اللفظ مستعملًا في معنى

ص: 385


1- نقل دعوى الاتّفاق في مفاتيح الأصول: 81، وينظر قوانين الأصول: 1/ 80، والفوائد الحائريّة: 114- 115.
2- لم نعثر عليه.

ولم يظهر علينا غيره، يكون الظاهر أنّه واحد؛ لأصالة عدم استعماله في غيره؛ على أنّه يمكن أن يقال: إنّ علّة الحكم ثبوت الاستعمال وعدم ظهور تعدّد المستعمل فيه.

تحقيق المقام في الجواب عن الدليل الثالث

تحقيق المقام يستدعي أن يقال في الجواب عن أصل الاستدلال: إنّ القول بالحقيقة في صورة(1) الوحدة للأدلّة المتقدّمة، وهي غير جارية في صورة التعدّد؛ لأنّ منها: أنّ اللفظ في ذلك المعنى الواحد لو لم يكن حقيقة لكان مجازًا، والمجاز يستلزم الوضع السابق، والأصل عدمه، وعدم جريانه فيما نحن فيه ظاهر؛ لأنّ الوضع المتوقّف عليه المجاز هنا ثابت، فلا يمكن التمسّك بالأصل في عدمه.

ومنها: استلزام الحكم بالمجازيّة إلحاق المشتبه إمّا بالممتنع، أو الممكن(2) الغير الواقع، أو الواقع النادر على ما سبق بيانه، وهنا ليس كذلك؛ لأنّ المفروض ثبوت الوضع بالنسبة إلى بعض ما استعمل فيه اللفظ، والاشتباه إنّما هو في الآخر، فلو حكم بمجازيّته لكان مجازًا ذا حقيقة، فلا يلزم شيء ممّا ذكر.

ومنها: توقّف المجاز على الوضع والنقل والعلاقة والقرينة، بخلاف الحقيقة، فإنّها متوقّفة على الأوّل، فإنّ الأمر فيه أيضًا كالسابق لثبوت الأمور الأربعة فيما نحن فيه أعمّ من أن يكون اللفظ حقيقة أو مجازًا، بل المجاز هنا أولى؛ لكون الحكم بالحقيقة مستلزمًا لتعدّد الوضع والقرينة، بخلاف المجاز، فتأمّل.

ومنها: ثبوت الاستعمال، بناءً على ما عرفت من أنّ ظاهر الاستعمال

ص: 386


1- في «ق»: الصورة.
2- في «ق»: للممكن.

يقتضي الحقيقة، وهو وإن كان متحقّقًا فيما نحن فيه وبناء المستدلّ عليه، لكن قد عرفت أنّ السرّ في ذلك أكثريّة استعمال اللفظ في المعنى الحقيقيّ من استعماله في المعنى المجازيّ، وهو غير جارٍ فيما نحن فيه؛ لما عرفت سابقًا من أنّ اللفظ المستعمل في المعاني المتعدّدة كونه حقيقة ومجازًا أكثر من الاشتراك، والظنّ إنّما يلحق المشتبه بالأغلب.

فقد تحقّق بما تقرّر أنّ مجرّد الاستعمال من حيث هو استعمال -أي مع قطع النظر عن جميع ما عداه- لا يدلّ على الحقيقة، وهو لا ينافي دلالته عليه في الجملة، أي مع ملاحظة وحدة المستعمل فيه، أو عدم ظهور تعدّده.

وبه يندفع التدافع في كلامهم حيث حكموا تارةً بأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة، وأخرى أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز ولا دلالة للعامّ على الخاصّ، فالمنفيّ الدلالة المستقلّة، والمثبت الدلالة في الجملة.

وأوضح من ذلك أنّ من الأمور المعتبرة في التناقض والتنافي وحدة الموضوع، وهي منتفية فيما نحن فيه؛ لتغاير الموضع(1) في المقالتين، إذ [مقولة:] «الأصل في الاستعمال الحقيقة» إنّما يتمسّك بها فيما إذا لم يظهر تعدّد المستعمل فيه، وأعميّة الاستعمال من الحقيقة والمجاز إنّما يتمسّك بها فيما إذا ظهر ذلك وعلم الوضع بالنسبة إلى البعض(2).

ص: 387


1- كذا في الأصل و«ق»، والصواب كما في «ج»: الموضوع.
2- قال الوحيد البهبهانيّ (قدس سره) في فوائده: ثمّ اعلم أنّ الفقهاء - رضوان الله عليهم - عادتهم التمسّك بأصالة الحقيقة، ولا يتوهّم التناقض منهم؛ لأنّ مرادهم الموضع الّذي علم معناه الحقيقيّ ولم يعلم استعماله فيه، فالأصل الحقيقة قطعًا بالأدلّة الّتي ذكرناها في الفائدة السابقة. والموضع الّذي يقولون: إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة، هو ما إذا علم المستعمل فيه، لكن لم يعلم كونه حقيقة أو مجازًا (الفوائد الحائريّة: 115).

إن قلت: كما يكون اللفظ حقيقة في صورة وحدة المستعمل فيه ويتمسّك فيه بأنّ «الأصل في الاستعمال الحقيقة»، يكون اللفظ مجازًا في المعنى المشتبه على المشهور في صورة تعدّد المستعمل فيه، فليتمسّك فيه بأنّ الأصل في الاستعمال المجاز؛ لتساويهما في عدم استقلال الاستعمال في الدلالة على الحقيقة والمجاز فيهما، فكما يدلّ على الحقيقة في الصورة الأولى مع ملاحظة الوحدة، فليدلّ على المجاز في الصورة الثانية مع ملاحظة التعدّد.

قلنا: التمسّك بأعمّيّة الاستعمال فيما نحن فيه إنّما هو في مقابل من يرجّح الاشتراك بنفس الاستعمال، فيقال: إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز، أي الاستدلال إنّما يكون وجيهًا إذا كان الاستعمال مستقلًّا في الدلالة على الحقيقة، وليس الأمر كذلك؛ لأنّه كما يوجد في الحقيقة يوجد في المجاز، فجعله دليلًا على واحد منهما بخصوصه لا وجه له.

نعم، قد يدلّ عليه مع ملاحظة وحدة المستعمل فيه، فيقال: إنّ الأصل في الاستعمال فيه الحقيقة، بمعنى أنّ الظاهر ذلك؛ للأدلّة المتقدّمة، فحينئذٍ يجوز لمن رجّح المجاز في صورة التعدّد أن يقول: الأصل في الاستعمال في هذا المورد التجوّز، بمعنى أنّ الظاهر فيما إذا كان المستعمل فيه اللفظ متعدّدًا وثبت الوضع بالنسبة إلى البعض واشتبه الحال بالنسبة إلى الآخر ووجدت العلاقة بينهما، أن يكون اللفظ في المعنى المشتبه مجازًا لما يأتي.

ص: 388

وعدم تنطّقهم بتلك المقالة ليس لعدم صحّتها، بل لأجل أنّ مرجّح الاشتراك لمّا أتى بتلك المقالة تشبّثوا في ردّها بأعميّة الاستعمال ورجّحوا المجازيّة بما عندهم من الأدلّة، فيفهم منه أنّ من أتى في ذلك المقام بأنّ الأصل فيه التجوّز يكون صحيحًا.

المواضع الّتي يتمسّك فيها بأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة

ولا يخفى عليك أنّ «الأصل في الاستعمال الحقيقة» بهذا المعنى يمكن التمسّك به(1) في مواضع:

الأوّل: هو ما تقدّم، أي عند وحدة المستعمل فيه اللفظ.

والثاني: فيما إذا تعدّد، لكن انتفت العلاقة المصحّحة بينهما.

والثالث: هو ما يكون المستعمل فيه متعدّدًا، وجدت العلاقة بينهما، لكن لم يكن لأحدهما على الآخر رجحان حتّى يحكم بحقيقيّته ومجازيّة الآخر.

والرابع: أن يكون متعدّدًا أيضًا، لكن وجد القدر المشترك بينهما، فتأمّل(2).

وله معنى آخر، وهو ما تقدّم من أنّه إذا علم المعنى الحقيقيّ والمجازيّ للّفظ ولم يعلم المستعمل فيه، وجب حمله على المعنى الحقيقيّ؛ لأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة، أي الظاهر في اللفظ المستعمل عند استعماله مجرّدًا عن القرينة أن يكون حقيقة، أي مستعملًا في الموضوع له.

ص: 389


1- «به» لم ترد في «ق».
2- جاء في حاشية الأصل: وجه التأمّل أنّ الحكم بالحقيقة في غير الموضع الأوّل ليس للتمسّك بأن الأصل في الاستعمال الحقيقة، بل للأدلّة المذكورة سابقًا، فالاستعمال لا يكون دليلًا على الحقيقة إلّا في الموضع الأوّل، فتأمّل. منه.
الدليل الرابع للقول بالاشتراك

والرابع: ما ذكره السيّد (قدس سره) في إثبات الاشتراك لألفاظ العموم بين العموم والخصوص أيضًا من أنّ:

الحقيقة هي الأصل في اللغة، والمجاز طارٍ عليها، بدلالة أنّ اللفظ قد يكون(1) لها حقيقة في اللغة ولا مجاز لها(2)، ولا يمكن أن يكون مجازًا(3) لا حقيقة له في اللغة(4)؛ وإذا ثبت ذلك وجب(5) أن يكون الحقيقة هي الّتي يقتضيها ظاهر الاستعمال، وإنّما ينتقل من اللفظ المستعمل إلى أنّه مجاز بالدلالة(6).

وفيه: أنّ المراد بالأصل في كلامه إمّا معناه اللغويّ، أو المعنى المتقدّم، وعلى الوجهين لا يتمّ التقريب.

أمّا على الأوّل: فلأنّ مفاده حينئذٍ أنّ الحقيقة موقوفٌ عليه للمجاز(7)، كما يظهر هذا المعنى من قوله: «بدلالة أنّ اللفظ قد يكون لها حقيقة ولا مجاز هنا، ولا يمكن أن يكون مجازًا لا حقيقة له في اللغة»؛ فإنّ الموقوف يمتنع انفكاكه عن الموقوف عليه، بخلاف الموقوف عليه.

ص: 390


1- في المصدر: أنّ اللفظة قد تكون.
2- في المصدر: لها.
3- كذا في الأصل، والصواب: مجازٌ، كما في المصدر.
4- «في اللغة» لم ترد في المصدر.
5- في المصدر: وجبت.
6- الذريعة: 1/ 202- 203، وحكاه عنه المحقّق الأعرجيّ في المحصول: 1/ 203.
7- كذا في الأصل، والصواب: المجاز.

ويرد عليه: أنّه على فرض تسليم ذلك، نمنع(1) أولويّة حمل اللفظ على الموقوف عليه من حمله على الموقوف، وعلى من ادّعاها الإثبات، على أنّ ذلك غير مسلّم، بل الموقوف عليه للمجاز(2) هو الوضع لا الحقيقة، فيمكن أن يكون اللفظ موضوعًا ولم يستعمل في الموضوع له واستعمل في غيره، فحينئذٍ يكون مجازًا لا حقيقة له، وقد تقدّم تحقيق الحال في ذلك بما لا مزيد عليه.

وأمّا على الثاني: فلأنّ [قولهم:] «الأصل في الاستعمال الحقيقة» قد عرفت أنّ له معنيين، الأوّل: حمل اللفظ على المعنى الحقيقيّ عند مجهوليّة المستعمل فيه؛ والثاني: أنّ الأصل فيما استعمل فيه اللفظ ولم يعلم أنّه حقيقة أو مجاز، أن يكون حقيقة فيه.

وهذان المعنيان وإن كانا مسلّمين، لكن لا دخل لهما فيما نحن فيه، أمّا الأوّل فظاهر، وأمّا الثاني فلما عرفت من أنّ ذلك مسلّم عند وحدة المستعمل فيه، لا عند تعدّده إذا كان ممّا نحن فيه، ومن ثمّ ذهب أكثر العلماء فيه إلى المجازيّة(3).

وبالجملة، قد تقدّم وجه ذلك مفصّلًا، فلا حاجة إلى الإعادة.

الدليل الخامس للقول بالاشتراك

والخامس: أنّه لو كان مجازًا لزم الوقوع في الخطأ في بعض المواضع، واللازم باطل، فالملزوم مثله، أمّا الملازمة فلأنّه عند وجود القرينة يحمل على ما دلّت عليه، وعند عدمها يحمل على المعنى الحقيقيّ وكان المراد المعنى المجازيّ، فيقع في الخطأ،

ص: 391


1- في «ق»: يمنع.
2- في «ق»: المجاز.
3- منهم المحقّق القمّي في قوانين الأصول: 1/ 80، والوحيد البهبهانيّ في الفوائد الحائريّة: 114 -115.

بخلافه على تقدير الاشتراك، فإنّه مع وجودها يحمل على ما دلّت عليه ومع انتفائها لا يحمل على شيء، بل يتوقّف، فلا يقع في الخطأ، فهو أولى، وأمّا بطلان اللازم فظاهر(1).

ويتوجّه عليه: أنّ المراد بالخطأ إمّا الخطأ في نفس الأمر، أو بحسب الظاهر، فإن كان الأوّل نقول: إنّ الملازمة حينئذٍ وإن كانت مسلّمة، لكن بطلان اللازم ممنوع(2)؛ لأنّ التكاليف إنّما هو بحسب الظاهر، لا بحسب نفس الأمر والواقع.

وعلى فرض التسليم يحتمل مثله على تقدير الاشتراك أيضًا، كأن تكون القرينة بمعونة بعض القرائن معيّنة لمعنى وبزواله معيّنة لمعنى آخر، أو تكون القرينة عند صدور الخطاب دالّة على معنى وعلى معنى آخر في وقت آخر، فيتفاوت، فيختلف المعنى المراد بسببه وهكذا.

وإن كان الثاني نقول: إنّ بطلان اللازم حينئذٍ وإن كان مسلّمًا، لكنّ الملازمة ممنوعة؛ لأنّ المراد بحسب الظاهر في نظر المكلّف عند انتفاء القرينة المعنى الحقيقيّ، ولا يجوز أن يكون المخاطب مريدًا غيره بالنسبة إليه في تلك الحالة، لما تقدّم من الأدلّة في حجّيّة ظواهر الألفاظ.

فعلى هذا نقول: أنّ التمسّك بما ظهر في أولويّة المجاز من الاشتراك ممكن بأن يقال: إنّ التجوّز خير من الاشتراك؛ لأنّ معه تحصل الإفادة الصحيحة بحسب

ص: 392


1- ينظر تهذيب الوصول: 75، ونهاية الوصول: 1/ 304، وغاية الوصول: 1/ 170، ومنية اللبيب: 1/ 248- 249، وقوانين الأصول: 1/ 89، ومفاتيح الأصول: 94، وإشارات الأصول: 1/ 46، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 567.
2- في «ق»: غير ممنوع.

الظاهر، سواء كان مع القرينة أو بدونها، وأمّا مع الاشتراك فلا تحصل الإفادة التفصيليّة من غير أن تقترن بالقرينة.

هذا، مع أنّه يلزم على تقدير تماميّة الدليل المذكور نفي المجاز بالمرّة والمستدلّ غير ملتزم بذلك.

فيما يدلّ على رجحان المجاز عند معارضته مع الاشتراك
اشارة

وقد ظهر ممّا ذكر ضعف القول بالاشتراك؛ لضعف مستنده، فمختار المشهور هو المختار، ومستندهم على ذلك أمور:

الدليل الأوّل

الأوّل: أنّ المشترك يفتقر إلى تعدّد الوضع، وهو غير معلوم، فيندفع بالأصل.

توضيحه: أنّ القدر المتيقّن فيما نحن فيه وضع اللفظ بإزاء أحد المعنيين مثلًا واستعماله في المعنى الآخر، وأمّا الوضع له فغير معلوم، وهو أمر حادث، فالأصل عدمه(1).

لا يقال: إنّ المجاز يتوقّف على الوضع والنقل والعلاقة، بخلاف الاشتراك؛ فإنّه متوقّف على الأوّل، فيكون أولى.

لأنّا نقول: إنّ ذلك وإن كان مسلّمًا، لكن كلّ ذلك معلوم الثبوت، أمّا الوضع فلأنّ المفروض أنّ وضعه بإزاء المعنى الواحد معلوم، وهو الّذي توقّف عليه

ص: 393


1- ممّن استدلّ بذلك الوحيد البهبهانيّ في الفوائد الحائريّة: 331، والسيّد المجاهد في مفاتيح الأصول: 95، والكرباسيّ في إشارات الأصول: 1/ 46.

المجاز، فلا يمكن التمسّك في دفعه(1) بالأصل، والوضع الّذي توقّف عليه الاشتراك هو الوضع بإزاء ذلك المعنى، وهو غير ثابت، فيدفع بالأصل، وأمّا النقل فلأنّك قد عرفت أنّ المراد به في أمثال المقام الاستعمال، وهو أيضًا مفروض الثبوت، وأمّا العلاقة فكذلك؛ لما عرفت في عنوان المسألة.

نعم، بقي شيء آخر، وهو أنّ وجود العلاقة لا يكفي لصحّة المجازيّة، بل لا بدّ مع ذلك من ملاحظتها، وهي غير معلومة، فالأصل العدم، لكن يجاب بأنّ الحقيقة يفتقر(2) إلى ملاحظة الوضع، فتعارضت الملاحظتان، فبقى(3) أصالة عدم الوضع سالمة عن المعارض.

لا يقال: إنّ ملاحظة الوضع عين العلم بالوضع.

لأنّا نقول: قد مرّ الجواب عن ذلك بأنّ العلم بالوضع غير كافٍ لتحقّق الحقيقة، إذ قد يكون اللفظ مستعملًا في الموضوع له ويكون مجازًا، وذلك عند عدم ملاحظته، بل ملاحظة العلاقة، كما في اللفظ المشترك على ما عرفت في المقدّمة من أنّ استعماله في الموضوع له يمكن أن يكون على سبيل الحقيقة والمجاز، والفارق ملاحظة الوضع والعلاقة حال الاستعمال.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ ملاحظة الوضع على تقدير التجوّز أيضًا لازمة، إذ ملاحظة العلاقة لا تنفك عن ملاحظته؛ لما عرفت سابقًا من أنّ العلاقة اتّصال ما بين المستعمل فيه والموضوع له.

ص: 394


1- في «ق»: رفعه.
2- كذا في الأصل، والصواب: تفتقر.
3- كذا في الأصل، والصواب: فبقيت.

غاية(1) ما في الباب أنّه على تقدير التجوّز يلزم ملاحظة الوضع للمعنى الآخر غير المستعمل فيه، وعلى تقدير الحقيقة ملاحظته له، وهذا لا يجدي نفعًا في المعارضة، فملاحظة الوضع على التقديرين متعارضتان، فتبقى ملاحظة العلاقة على تقدير التجوّز معارضة لأصالة عدم الوضع على تقدير الحقيقة، فلا يبقى للتجوّز رجحان.

ويمكن الجواب عنه بأنّ اللازم على تقدير التجوّز ملاحظة الموضوع له لا من حيث إنّه موضوع له، بل من حيث إنّ ملاحظة العلاقة لا يمكن بدونها، فلم يوجد هناك ملاحظتان تنفك إحداهما عن الأخرى، بل في الحقيقة ليست إلّا ملاحظة(2) العلاقة، فتمّ الاستدلال.

الدليل الثاني
اشارة

والثاني: أنّ تتبّع اللغات وتصفّح المحاورات وتظافر المخاطبات يكشف أنّ اللفظ المستعمل في المعنيين أو أكثر كونه حقيقة ومجازًا أغلب من كونه حقيقةً في الجميع، وقد مرّ مرارًا أنّ الظنّ يحكم بإلحاق المشتبه بالأغلب(3).

إن قيل: إنّ الحكم بالأكثريّة إمّا فيما ثبتت فيه المجازيّة، أو في المشتبه، والأوّل لا نزاع فيه، فلا دخل له فيما نحن فيه، والثاني أوّل الكلام والاستناد إليه لإثبات المرام مصادرة في المقام.

ص: 395


1- في «ق»: وغاية.
2- في «ق»: بملاحظة.
3- ينظر قوانين الأصول: 1/ 90 - 92، ومفاتيح الأصول: 94، وإشارات الأصول: 1/ 46، وأنيس المجتهدين: 1/ 73.

قلنا: قد أشرنا الجواب عن مثل ذلك فيما تقدّم، محصّله(1): أنّا نختار الأوّل فنقول: لمّا ثبتت المجازيّة في أغلب الموارد وأكثر المواضع، فحمل المشتبه عليه أولى من حمله على الأقلّ، وجه ذلك أنّ ثبوت الأكثريّة موجبة للظنّ بأنّ المشتبه من ذلك، والظنّ في أمثال ذلك حجّة.

ويرشدك إلى اعتبار هذا الظنّ في هذا المقام ما دلّ على اعتباره في الحكم الشرعيّ، مثل ما دلّ على حلّيّة ما يباع في أسواق المسلمين وإن كان المأخوذ منه ممّن جهل حاله، كموثّقة إسحاق بن عمّار عن مولانا الكاظم (علیه السلام) أنّه قال: لا بأس بالصلاة(2) فيما صنع في أرض الإسلام. قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال (علیه السلام): إذا كان الغالب عليها المسلمين(3) فلا بأس(4).

إن قلت: إنّ المعنى المذكور يحتمل أن يكون في نفس الأمر والواقع معنًى حقيقيًّا، والحكم بالمجازيّة ينافيه.

قلنا: كما يحتمل أن يكون معنًى حقيقيًّا في الواقع، كذلك يحتمل أن يكون معنًى مجازيًّا، فالحكم بالحقيقيّة أيضًا ينافيه.

ص: 396


1- في «ق»: فمحصّله.
2- في التهذيب: «لا بأس بالصلاة في القزّ اليمانيّ وفيما صنع»، إلخ. وفي الوسائل: «لا بأس بالصلاة في الفراء اليمانيّ وفيما صنع»، إلخ.
3- في التهذيب: المسلمون.
4- تهذيب الأحكام: 2/ 368، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز، ح64، ووسائل الشيعة: 3/ 491، باب 50 (باب طهارة ما يُشترى من مسلم ومن سوق المسلمين)، ح5.

وبالجملة: إنّ الإيراد المذكور لا اختصاص له على تقدير المجازيّة؛ لوروده على احتمال الاشتراك أيضًا، لكنّ احتمال المجازيّة أولى لما تقدّم.

ثمّ إنّ أكثريّة المجاز بالمعنى المذكور ممّا لا ريب فيه وإن ذهب القائل بالاشتراك إلى خلافه، وقد تقدّم مستنده في ذلك مع جوابه.

بقي الكلام في هذا المقام فيما ذكره بعض الأعلام في أكثريّة الاشتراك، وهو أنّه ما من لفظٍ إلّا وهو مشترك بين معناه ونفس اللفظ، كما يقال: «مِن» حرف جرّ، و«ضَرَب» فعل ماض، و«زيدٌ» ثلاثيّ، وهكذا، ولم يثبت التجوّز في جميع الألفاظ، فكان الاشتراك أكثر(1).

ويمكن الجواب عنه من وجهين:

أحدهما: هو أنّك قد عرفت أنّ المراد أنّ اللفظ المستعمل في المعنى المتعدّد كونه حقيقةً ومجازًا أكثر من كونه حقيقة في الجميع، ولا ينافيه أكثريّة الاشتراك في غير محلّ الكلام.

والثاني: أنّ تحقّق الاشتراك فيما ذكر غير مسلّم؛ لأنّ الظاهر اعتبار وحدة النوع في المشترك بأن يكون اللفظ في كلا الاستعمالين إمّا حرفًا، أو فعلًا، أو اسمًا، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك؛ لأنّ لفظ «مِن» عند إفادته الابتداء حرفٌ، وفي قولك: «مِن حرف جرّ» اسمٌ، وهكذا في الباقي، فاختلف النوعان في الموضعين، فلم يتحقّق الاشتراك.

ص: 397


1- حكاه عن بعضٍ في مفاتيح الأصول: 93.
إيراد كلام لدفع تضادّ

اعلم: أنّه قد تقدّم مرارًا أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة، وتمسّكنا فيما نحن فيه بأغلبيّة المجاز من الحقيقة، وقد تمسّك بها أئمّة الأصول في مواضع متعدّدة(1)، وبينهما منافاة؛ لأنّ معنى [قولهم:] «الأصل في الاستعمال الحقيقة» أنّ الظاهر فيه الحقيقة، فلو كان المجاز أكثر يكون الظاهر ذلك كما لا يخفى، ففيه تناقض.

والجواب: أنّ مورد الكلامين مختلف؛ لأنّ [قولهم:] «الأصل في الاستعمال الحقيقة» يتمسّك به فيما إذا لم يعلم المستعمل فيه وعلم المعنى الحقيقيّ والمجازيّ، وغلبة المجاز إنّما يتمسّك بها فيما إذا كان الأمر على عكس ذلك، أي علم المستعمل فيه ولم يعلم أنّه فيه حقيقة أو مجاز، فيرجّح المجازيّة بالأغلبيّة.

إن قيل: قد تقرّر فيما تقدّم أنّه إذا ظهر المستعمل فيه للفظ(2) وكان واحدًا ولم يعلم الحقيقة ولا المجاز، الأصل أن يكون حقيقة.

قلنا: نعم، لكنّ التمسّك بغلبة المجاز في صورة تعدّد المستعمل فيه كما فيما نحن فيه، وأمّا عند وحدته فلا، وكيف؟! مع أنّ المجاز الّذي لا حقيقة له إمّا ممتنع الوجود، أو نادر جدًّا.

إن قلت: إنّ مطلق المعاني المجازيّة أكثر من المعاني الحقيقيّة، والظنّ إنّما يلحق الشيء بالأغلب، فليكن المعنى المعلوم معنًى مجازيًّا.

قلنا: أكثريّة المعاني المجازيّة من الحقيقيّة(3) لها احتمالات أربعة قد تقدّم تحقيق

ص: 398


1- ينظر نهاية الوصول: 1/ 306، ومفاتيح الأصول: 31 و94 و203.
2- كذا في الأصل، والصواب: اللفظ.
3- في «ق»: الحقيقة.

الحال فيها بما لا مزيد عليه، وعلى أيّ حال نقول: إنّها معارضة بما تقدّم من ندرة تحقّق المجاز من غير حقيقة وأكثريّة استعمال اللفظ في المعنى الحقيقيّ، مضافًا إلى ما تقدّم من الاستدلال على الحقيقة في الصورة المفروضة.

الدليل الثالث

والثالث: فوائد المجاز ومفاسد الاشتراك.

فوائد المجاز
اشارة

أمّا فوائد المجاز فمنها:

الفائدة الأولى
اشارة

أنّه قد يكون أبلغ؛ لأنّ قولك: «اشتعل الرأس شيبًا»، أبلغ من قولك: «شبت»(1).

وفي هذا الدليل بحث؛ لأنّ المراد إمّا أن يكون أبلغيّة كلّ مجاز من كلّ حقيقة، أو أبلغيّته منها فيما إذا دار الأمر بينه وبين الاشتراك، أو في الجملة، وعلى الأوّل: وإن يثبت به المدّعي، لكنّه غير مسلّم، والمستدلّ أيضًا غير مدّعٍ لذلك، كما يدلّ عليه لفظة «قد» الدالّة في المضارع على التقليل.

والثاني: وإن اشترك مع الأوّل في إثبات المدّعي بذلك، لكنّه على فرض تسليمه لا يساعده المثال المذكور؛ لوضوح أنّ محلّ الكلام فيما نحن فيه فيما إذا تعدّد

ص: 399


1- ينظر غاية الوصول: 1/ 168، ومفاتيح الأصول: 96، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 566، وفصول البدائع في أصول الشرائع: 1/ 126، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 85.

المستعمل فيه واللفظ واحد كما لا يخفى.

والأمر فيه(1) بالعكس؛ لأنّ المراد من قولك: «اشتعل الرأس شيبًا» و«شبت» واحدٌ واللفظ متعدّد؛ ولا يمكن اعتبار ذلك بالنسبة إلى لفظ(2) «اشتعل» بالنسبة إلى معناه وما أريد منه في هذا المقام؛ لأنّ اللفظ حينئذٍ وإن كان واحدًا والمستعمل فيه متعدّدًا، لكن كلام المستدلّ صريح في اعتبار الأبلغيّة بالنسبة إلى «شبت».

وعلى تقدير الإغماض عن ذلك يكون المراد على ذلك التقدير أبلغيّة «اشتعل» في معنى الشيبوبة على تقدير كونه مجازًا منه في ذلك المعنى على تقدير كونه حقيقة فيه؛ وحينئذٍ يتوجّه منع الأغلبيّة؛ إذ المدلول حينئذٍ واحد، فإن تحقّقت تحقّقت على التقديرين وإلّا فلا، فتأمّل(3).

والثالث: وإن كان مسلّمًا والاستدلال عليه منطبقًا، لكنّه لم يثبت به المدّعي؛ لأنّ أغلبيّة المجاز في موضع كيف يصير سببًا لرجحانه على الحقيقة مطلقًا حتّى يثبت به أولويّة المجاز من الاشتراك فيما نحن فيه؟!

ويمكن الجواب عن ذلك باختيار الثالث.

قولك: «إنّ أغلبيّة المجاز في موضع كيف يصير سببًا لرجحانه على الحقيقة فيما نحن فيه»، قلنا: لأنّه لمّا ثبتت الأغلبيّة له بالنسبة إليها في موضع احتملت في جميع المواضع، فدار الأمر بين حمل اللفظ على محتمل الأبلغيّة وغيره؛ وظاهرٌ أولويّة الأوّل من الثاني.

ص: 400


1- أي في المثال المذكور.
2- في «ق»: اللفظ.
3- جاء في حاشية الأصل: يظهر وجهه فيما سيأتي. منه.

لكن يرد عليه ما أشرنا إليه آنفًا من أنّ المستعمل فيه فيما نحن فيه شيء واحد، فإن تحقّق احتمال الأبلغيّة تحقّق، سواء كان اللفظ مجازًا أو مشتركًا، وإلّا فلا على التقديرين، فلا يتفاوت الحال بين كونه مشتركًا أو مجازًا في ذلك.

ويمكن الجواب عنه أيضًا بأنّه على تقدير الاشتراك لمّا كان مصحّح الاستعمال فيه الوضع، يكون اللفظ دالًّا على الموضوع له، فلا يتصوّر فيه الاختلاف حتّى يتحقّق(1) الأبلغيّة، وعلى تقدير المجازيّة لمّا كان المصحّح فيه العلاقة يتصوّر الاختلاف، فيمكن تحقّقها.

والحاصل: أنّ المستعمل فيه وإن كان واحدًا من حيث الذات، لكنّه متغاير بالاعتبار، فبأحد الاعتبارين يمكن تحقّق الأبلغيّة دون الآخر.

تحرير قال لإفضاح مقال

قيل: يجوز أن يكون «أبلغ» من البلاغة، كما يجوز أن يكون من المبالغة، لكن من جملة الأدلّة الّتي تمسّكوا بها لرجحان المجاز أوفقيّته للمقام على ما سيجيء، وهو قرينة على كون الأبلغ فيما نحن فيه من المبالغة، لا من البلاغة؛ لئلّا يلزم التكرار(2).

أجيب عن ذلك بأنّ المأخوذ في البلاغة شيئان: الموافقة والفصاحة؛ لأنّ البلاغة في الكلام: مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، والفصاحة في الكلام: خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد(3)؛ فالموافقة(4) بنفسها غير

ص: 401


1- كذا في الأصل، والصواب: تتحقّق.
2- تمسّك بها التفتازانيّ في حاشيته على شرح مختصر المنتهى: 1/ 568.
3- ينظر الإيضاح، للخطيب القزوينيّ: 7، ومختصر المعاني: 17.
4- في «ق»: والموافقة.

كافية لتحقّق البلاغة؛ لأنّها أعمّ منها، لإمكان تحقّقها في الكلام الغير الفصيح مع عدم تحقّق البلاغة، ومعلوم أنّ تحقّق الأعمّ غير مستلزم لتحقّق الأخصّ المعيّن، فلا يلزم التكرار(1).

وردّ ذلك بأنّ الأمر وإن كان كذلك في نفس الأمر، لكنّه لا يجدي نفعًا فيما نحن فيه، إذ المستدلّ جعل «اشتعل الرأس شيبًا» أبلغ من قولك: «شبت»، وأبلغيّته منه إنّما هو بالنسبة إلى أوفقيّته للمقام دونه، لا باعتبار الفصاحة، إذ هي متحقّقة في «شبت» أيضًا، وحينئذٍ يلزم التكرار أيضًا(2).

وفيه نظر، أمّا أوّلًا: فلأنّ الفرق بين الأبلغيّة والبلاغة ظاهر؛ إذ الأبلغيّة يمكن أن تكون مع أوفقيّة الكلام للمقام وأفصحيّته، والمتحقّق في «شبت» الفصاحة، فحينئذٍ نقول: يجوز أن تكون الأبلغيّة في: «اشتعل الرأس شيبًا» باعتبار الأوفقيّة والأفصحيّة، والمأخوذ في الدليل الآتي إنّما هو الأوفقيّة فقط، فالتكرار غير لازم.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ المقصود أولويّة المجاز من الاشتراك عند المعارضة؛ لكون المجاز أبلغ وأوفق، وذكر الأوفقيّة بعد الأبلغيّة غير مستلزم للتكرار؛ لكون(3) المعتبر في البلاغة الشيئين.

وحينئذٍ نقول: على تقدير انحصار التفاوت بين «اشتعل الرأس شيبًا» وبين «شبت» في الأوفقيّة لا يلزم محذور؛ لما عرفت من عدم كونه ممّا نحن فيه، إذ

ص: 402


1- لم نعثر عليه.
2- لم نعثر عليه.
3- في «ق»: لكن.

المدّعى رجحان المجاز على الاشتراك عند المعارضة بأبلغيّة الأوّل وأوفقيّته، فيمكن أن يكون المجاز في بعض المواضع الّتي يكون ممّا نحن فيه موافقًا للمقام مع الفصاحة وفي بعضها انتفى الثاني، وعبّر عن الأوّل بالأبلغيّة، وعن الثاني بالأوفقيّة، فأين التكرار؟! فتأمّل.

إعادة كلام لتحقيق مقام

ولا يتوهّمن ممّا ذكر أنّ مقصودنا جواز كون الأبلغيّة من البلاغة، بل المقصود أنّ ما ذكر في بيان عدم جواز كونها من ذلك غير تامّ، بل التحقيق خلافه؛ لما عرفت من أنّ البلاغة عبارة عن الموافقة والفصاحة، واللفظ لمّا كان فيما نحن فيه واحدًا، لمَّا يختلف الحال فيه في الاتّصاف بالفصاحة وعدمه على تقدير التجوّز والحقيقة، فالتفرقة منحصرة في الموافقة وعدمها. ولمّا كان المفروض عدم الاكتفاء بذكر البلاغة عن الموافقة، فلو جعل الأبلغ من البلاغة يلزم التكرار، ويمكن حمل كلام ذلك القائل عليه وإن كان فيه قصور عن إفادة هذا المعنى.

وأيضًا أنّ التفسير المذكور للبلاغة كما يتحقّق في المجازات، كذا يتحقّق في الحقائق؛ وكيف؟! مع أنّ انحصار البلاغة في المجازات يقتضي إمّا عدم اشتمال القرآن على الحقائق، أو عدم كونه(1) بتمامه بليغًا، والتالي بشقّيه فاسد على ما تقدّم، فالمقدّم مثله.

لا يقال: إنّه ليس المقصود نفي البلاغة في مطلق الحقيقة، بل في خصوص الحقيقة الّتي كلامنا فيها، فإنّه لمّا كان اللفظ فيما نحن فيه على تقدير الحقيقة ملزومًا

ص: 403


1- في «ق»: كونها.

للاشتراك(1) وهو يقتضي الإجمال، فلا يتحقّق معه البلاغة، وتحقّقها في بعض الحقيقة لا يجدي نفعًا.

لأنّا نقول: إنّ ذلك لو كان موجبًا لعدم الاتّصاف بالبلاغة؛ لكان عدم اتّصاف المجاز بها أولى كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الإجمال قد يكون مقتضى الحال، فمعه يتحقّق(2) البلاغة في تلك الحال، وأيضًا إنّ الاشتراك لو كان منافيًا للبلاغة، لزم إمّا عدم اشتمال القرآن على الاشتراك، أو عدم كونه بتمامه بليغًا، وفساد التالي بشقّيه غير خفيّ على أولي الأبصار.

الحقّ في المسألة

فالحقّ أنّ الأبلغيّة في المقام من المبالغة، فحينئذٍ لا يرد عليه شيء ممّا ذكر، أمّا بالنسبة إلى ما ذكر أوّلًا فظاهر، وأمّا بالنسبة إلى ما ذكرنا فلأنّ المبالغة إنّما يمكن تحقّقها فيما يقبل الزيادة والنقصان والشدّة والضعف، والمعاني الحقيقية(3) لمّا كانت ملحوظة(4) في نظر الواضع على الخصوص، فكانت دلالة الألفاظ بتعيينه(5) إيّاها

ص: 404


1- جاء في حاشية الأصل: والحاصل: أنّ المشترك والمجاز بالنسبة إلى الدلالة التفصيليّة وعدمها سيّان؛ فإنّه لو وجدت القرينة تتحقّق فيهما الدلالة، وإلّا فلا، على أنّ المشترك له رجحان عليه من حيث إنّ دلالته على المقصود عند انتفاء القرينة ثابتة، بخلاف المجاز على ما تقدّم تحقيقه. منه.
2- كذا في الأصل، والصواب: تتحقّق.
3- في «ق» و«ج»: الحقيقيّة.
4- في «ق»: ملحوظًا.
5- في «ق»: بتبعيّته.

للدلالة عليها، فلا يتحقّق فيها ذلك كما لا يخفى، فانحصر أمر المبالغة في المجازات.

إن قيل: إنّ المفروض معلوميّة المستعمل فيه فيما نحن فيه، وهو معنى مشخّص، فلا يتفاوت الحال بين كون اللفظ فيه حقيقة ومجازًا، فإن تحقّقت المبالغة تحقّقت على التقديرين، وإلّا فلا كذلك، وتحقّقها في المجاز في غير ذلك الموضع لا يصير سببًا لرجحانه على الاشتراك فيما لم يتحقّق فيه ذلك.

قلنا: معلوميّة المستعمل فيه فيما نحن فيه وإن كانت مسلّمة، لكن انتفاء التفاوت بين التجوّز والاشتراك غير مسلّم؛ لأنّه على تقدير التجوّز لمّا كان المصحّح في الاستعمال فيه المناسبة بالنسبة إلى الغير يتصوّر فيه الزيادة والنقصان، وأمّا على تقدير الاشتراك لمّا كان المصحّح فيه الوضع فلا على ما تقدّم، فاتّضح الحال بإعانة الموفّق المتعال.

لكن بقي في المقام شيئان:

الأوّل: الظاهر من قولهم: «إنّ المجاز أبلغ» تحقّق أصل المبالغة في الحقائق، مع أنّك قد عرفت ممّا ذكرنا فساده.

والثاني: أنّ بناء صيغة التفضيل من غير الثلاثيّ المجرّد غير جائز، فكيف يجوز الحكم بكون الأبلغ من المبالغة؟

والجواب عن الأوّل: أنّه ليس المراد المعنى التفضيليّ في المقام، بل المراد تحقّق أصل المعنى، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ﴾(1) وغيره.

ص: 405


1- سورة الجمعة: 11.

ومنه يظهر الجواب عن الثاني، إذ الأبلغ حينئذٍ يكون بمعنى المبالغة، فلم يلزم بناء التفضيل من غير الثلاثيّ.

ثمّ اعلم: أنّ هنا مقامين:

الأوّل: اختيار التجوّز في التكلّم والاستعمال مع كونه خلاف الأصل، وترك الحقيقة مع موافقتها للأصل.

والثاني: إثبات الرجحان لأصل المجاز عند المعارضة بينه وبين الحقيقة.

والأوّل إنّما يكون إذا كان المعنى الحقيقيّ والمجازيّ معلومين واختير التجوّز في الاستعمال دون الحقيقة، والثاني فيما إذا علم المستعمل فيه ولم يعلم أنّه على سبيل الحقيقة أو المجاز؛ ويرجّح الثاني بالاختيار لما فيه من الرجحان.

إذا علمت ذلك نقول: لا يخفى أنّه إذا كان المقام من القسم الأوّل؛ فلا شبهة في صحّة التمسّك بذيل(1) المبالغة حينئذٍ، إذ الحاصل على هذا أنّ ترك الحقيقة في الاستعمال وترجيح المجاز بالاختيار مع مخالفته للأصل؛ لحصول المبالغة في الثاني دون الأوّل.

وأمّا إذا كان المقام من الثاني كما فيما نحن فيه، فالتمسّك بها لإثبات الرجحان للمجاز لا يخلو من إشكال؛ إذ من الجائز أن لا يكون مراد المستعمل إفادة المبالغة حتّى يرجّح التجوّز في استعماله على الحقيقة، إلّا أن يقال: إنّ الاستعمال على نهج المبالغة لمّا كان أحسن، ينبغي أن يحمل الاستعمال المعلوم عليه.

ويرد عليه: أنّ الحكم بأحسنيّة الاستعمال على نهج المبالغة على الإطلاق غير

ص: 406


1- في «ق»: بدليل.

صحيح، إذ ربما كان المقام مقتضيًا لاستعمال اللفظ في المعنى الحقيقيّ، فحينئذٍ يكون الاستعمال على نهج الحقيقة أحسن.

وكيف؟! مع أنّك قد عرفت سابقًا أنّ أكثر استعمال الألفاظ في المعاني الحقيقيّة، فحينئذٍ يلزم أن يكون غالب الاستعمالات على الوجه المرجوح، ولا يخفى بعده، فلم يتمّ الدليل المذكور فيما نحن فيه، إلّا أن يقال: إنّ في المجازات لمّا أمكن تحقّق البلاغة والمبالغة وانحصر الأمر في الحقيقة في الأوّل، ولهذا(1) يرجّح احتمال التجوّز على الحقيقة، فتأمّل.

دفع إيراد لتسديد كلام

لا يقال: إنّ المثال المذكور وهو: «اشتعل الرأس شيبًا» لا مدخليّة له لما نحن فيه؛ لأنّ التجوّز فيه عقليّ، والكلام إنّما هو في المجاز اللغويّ؛ لوضوح أنّ المعارضة بين المجاز والاشتراك إنّما هو بالمجاز بهذا المعنى.

لأنّا نقول: انتفاء التجوّز اللغويّ في المثال ممنوع؛ لأنّ الاشتعال موضوع لانتشار شعاع النار، وقد استعمل هنا وأريد منه انتشار بياض الشيب في الرأس، والحاصل: أنّه شبّه بياض الشيب بشواظ النار وانتشاره في الرأس بانتشار شعاع النار، فاستعير اللفظ الموضوع للمشبّه به للمشبّه(2).

ص: 407


1- كذا في الأصل، والصواب: فلهذا.
2- ينظر الكشّاف: 2/ 502، وزبدة التفاسير، لملّا فتح الله الكاشانيّ: 4/ 159، وتفسير فخر الدين الرازيّ: 21/ 181، ذيل تفسير آية: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ سورة مريم: 4.
الفائدة الثانية للمجاز
اشارة

ومنها: أنّ المجاز قد يكون أوفق إمّا للطبع، لثقل في الحقيقة كالخنفقيق(1) للداهية، أو لعذوبة في المجاز كالروضة للمقبرة، أو للمقام لزيادة بيان أو تعظيم أو إهانة(2) يقتضيه الحال، هكذا قال جماعة من الأعلام في هذا المقام(3).

تحقيق المقام على وجه يزول معه النقاب عن وجه المرام أن يقال: إنّ الأصل أن

ص: 408


1- اختلفت كلماتهم في هذه الكلمة، ففي بعضها: «خنفنيق» بالخاء المعجمة والنون والفاء ثمّ النون والياء والقاف؛ وفي بعضها -كعبارة المحقّق الشريف والمحقّق التفتازانيّ وغيرهما-: «خنفقيق» بالخاء المعجمة والنون والفاء ثمّ القافين المتخلّل بينهما الياء المثنّاة من تحت؛ أمّا الأوّل فلم يذكره في القاموس وغيره، ممّا وقفت عليه أنّه بمعنى الداهية، ولم يذكروا تلك اللفظة أصلًا؛ وأمّا الثاني فهو وإن كان مذكورًا في القاموس، لكن لم يذكر أنّه بمعنى الداهية، بل ذكر لها ثلاثة معان، قال: «الخنفقيق كقندفير: السريعة جدًّا من النوق والظلمان، وحكاية جري الخيل، وهو مشيٌ في اضطراب» [القاموس المحيط: 3/ 227]. ولم يذكر غير ما ذكر، نعم، ذكر في الصحاح وكنز اللغة أنّه بمعنى الداهية [ينظر الصحاح: 4/ 1470]، وكأن كلماتهم محمولة عليه، والّذي ذكره في القاموس أنّه بمعنى الداهية: الخَيْفَق كصيقل [ينظر القاموس المحيط: 3/ 227]، فعلى هذا، الظاهر أنّ «الخنفنيق» في كلام بعضهم في المقام اشتباه كأنّه من سهو قلم النسّاخ، إذ لم يذكر تلك اللفظة في كلام أهل اللغة فيما أعلم كما عرفت. منه.
2- مثال الأوّل: الأسد للشجاع لكونه بمنزلة دعوى الشيء ببيّنة وبرهان، ومثال الثاني: الشمس للشريف، ومثال الثالث: الكلب للخسيس.
3- ينظر نهاية الوصول: 1/ 304، ومفاتيح الأصول: 96، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 566، وفصول البدائع في أصول الشرائع: 1/ 126، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 85.

يكون اللفظ مستعملًا في الموضوع له، فالعدول عنه إلى غيره لا يكون إلّا لموجب، وهو إمّا بالنسبة إلى جوهر اللفظ ومادّته، أو بالنسبة إلى عوارضه وخارجه، أو إلى مدلوله ومعناه، أو المركّب من الاثنين أو الثلاث، فتكون الأقسام سبعة.

الأمر العائد إلى جوهر اللفظ على أقسام

ونحن نكتفي في بيان أحوال الثلاثة المنفردة؛ إذ به يعلم حال الأقسام الباقية، فنقول: إنّ الأمر العائد إلى جوهر اللفظ على أقسام:

الأوّل: أن يكون لفظ الحقيقة ثقيلًا والمجاز فاقدًا عنه، كما في «الخنفقيق».

والثاني: أن يكون لفظ الحقيقة ممّا لا يحسن التصريح به، بخلاف المجاز، كالتعبير عن إيلاج الذكر في الفرج بالمسّ.

والثالث: أن يكون لفظ المجاز عذبًا والحقيقة فاقدًا عنه، كما في «الروضة».

وأيّ منها كان لا بدّ في هذا الأمر من تعدّد اللفظ كما لا يخفى.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا الأمر إنّما يتمسّك به في ترجيح المجاز للاستعمال وترك الحقيقة بأنّ العذوبة في المجاز مثلًا في الاختيار، لا في إثبات أصل المجازيّة للّفظ في المستعمل فيه.

إذا علمت ذلك فاعلم: أنّ التمسّك بأوفقيّة المجاز للطبع لثقل في الحقيقة، أو لعذوبة في المجاز فيما نحن فيه ممّا لا وجه له.

أمّا أوّلًا: فلأنّ اللفظ هنا واحد، فإن كان(1) ثقيلًا كان، وإلّا فلا، فلا يتفاوت

ص: 409


1- في «ق»: كانت.

الحال من هذه الجهة على تقديري(1) التجوّز والحقيقة.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ الكلام فيما نحن فيه إنّما هو في إثبات الرجحان لأصل التجوّز والحقيقة في المستعمل فيه المعلوم، وقد عرفت أنّ التمسّك بالأمر المذكور إنّما هو في ترجيح المجاز بالاستعمال دون الحقيقة؛ وهم أيضًا إنّما تشبّثوا بذلك في ذلك المقام، والخبط إنّما نشأ لبعض الأفاضل(2)، فتمسّك به فيما نحن فيه.

إلّا أن يقال: إنّه يمكن أن يكون نظر المستدلّ أنّ العذوبة للمجاز وكذا الثقل للحقيقة في بعض المواضع يكون سببًا لرجحان المجاز ومرجوحيّة الحقيقة فيما نحن فيه، لا أن يكون التمسّك بذلك لتحقّقه فيه(3).

لكنّه فاسد، أمّا أوّلًا: فلأنّه لا وجه لجعل تحقّق الثقل في الحقيقة في موضع وكذا العذوبة في المجاز سببًا للمرجوحيّة، أو الرجحان فيما لم يتحقّق فيه ذلك.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ الحقيقة قد يكون(4) عذبًا والمجاز ثقيلًا، كما إذا استعمل ذلك اللفظ المجاز في معناه الحقيقيّ مثلًا والحقيقة في معناه المجازيّ، فتأمّل.

ص: 410


1- في «ق»: تقدير.
2- لم نعثر على قائله.
3- أي فيما نحن فيه.
4- كذا في الأصل، والصواب: تكون.
الكلام في الأمر العائد إلى المعنى

هذا كلّه في الكلام في الأمر العائد إلى جوهر اللفظ، وأمّا العائد إلى عوارضه فيجيء الكلام فيه بُعَيْد هذا؛ وإنّما الكلام هنا في الأمر العائد إلى المعنى، وما تقدّم من الزيادة في البيان والتعظيم والإهانة إشارة إلى ذلك.

توضيحه: أنّ المعنى الحقيقيّ في كلّ موضع أمرٌ معيّن، فلا يقبل الزيادة والنقصان على ما تقدّم، وإذا كان المقصود زيادة البيان يؤتى بالمجاز كالأسد للشجاع، وهذا هو الّذي يعبّر عنه بالمبالغة، وهي قد تجتمع مع البلاغة، كما إذا كان المقام مقتضيًا لتلك الزيادة، وقد تفترق كما إذا لم يكن كذلك(1)، فالحكم بكون زيادة البيان أوفق للمقام ليس على الإطلاق، وحينئذٍ يكون الفرق بين الفائدة المتقدّمة وهذه بالعموم من وجه؛ لافتراق السابقة عن هذه في غير الموافق، وهذه عنها في الأوفق للطبع؛ ومادّة الاجتماع ظاهرة.

ولا يخفى أنّ هذا الأمر لم يعتبر فيه تعدّد اللفظ، بل كما يمكن تحصّله بالنسبة إلى اللفظين كزيد وأسد مثلًا، كذا يمكن تحصّله بالنسبة إلى اللفظ الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد، بأنّه على تقدير المجازيّة تتحقّق تلك الفائدة وتنتفي عند انتفائها، وقد علمت وجهه ممّا تقدّم، وحينئذٍ يصحّ التمسّك به فيما نحن فيه(2)، إلّا أنّ

ص: 411


1- جاء في حاشية الأصل: ومنه يظهر أنّ النسبة بين الكلام البليغ والمشتمل على المبالغة عموم من وجه؛ لافتراق البلاغة عن المبالغة في الكلام المؤدّى بالألفاظ الحقيقيّة فيما إذا اقتضى المقام ذل، والثاني عن الأوّل في المؤدّى بالألفاظ المجازيّة على نحو تتحقّق المبالغة مع عدم اقتضاء المقام ذلك واجتماعهما في ذلك الكلام مع اقتضائه لذلك. منه.
2- جاء في حاشية الأصل: أي ليس الأمر في ذلك كالأمر العائد إلى جوهر اللفظ؛ لما عرفت من أنّه لا بدّ فيه من تعدّد اللفظ، بخلاف هذا الأمر، فإنّه يصحّ ولو على تقدير وحدة اللفظ، فيصحّ التمسّك به فيما نحن فيه من هذه الجهة وإن كانت صحّته محلّ كلام من جهة أخرى، كما أشار إليه. منه.

التمسّك به لترجيح المجاز بالاستعمال لا شبهة في صحّته، وأمّا لإثبات أصل المجازيّة فمحلّ كلام يظهر ممّا قدّمنا، مع ما يمكن أن يقال في دفعه مع تأمّل فيه.

عدم صحّة دعوى انحصار الزيادة في البيان في المجازات

ثمّ إنّ في المقام تنبيهًا لا بدّ من الإشارة إليه، وهو أنّ دعوى انحصار الزيادة في البيان في المجازات غير صحيحة على الإطلاق؛ لوضوح أنّ المقام إذا كان مقتضيًا للتأكيد وأُتِيَ بكلام(1) مؤكّد بأداة التأكيد، يحصل منه زيادة البيان، مع عدم انحصار هذا المسلك بمسلك المجاز كما لا يخفى على ذي دراية وسداد.

إلّا أن يقال: إنّ زيادة البيان في المعنى في الكلام المؤكّد وإن كانت متحقّقة، لكنّها بمعونة أداة التأكيد، وفي المجاز ليس كذلك، وليس الكلام في مطلق زيادة البيان، فتأمّل.

الكلام في الأمر العائد إلى اللفظ بواسطة الخارج عنه

وأمّا الأمر العائد إلى اللفظ بواسطة الخارج عنه، فكأنواع البديع مثل السجع، وقد مثّل لذلك بقولك: «حمار ثرثار»، أي كثير الكلام، فإنّه إذا قيل: «بليد ثرثار»،

ص: 412


1- جاء في حاشية الأصل: ويعلم من ذلك موضع آخر تحقّقت فيه البلاغة مع انتفاء المبالغة، مضافًا إلى ما تقدّمت إليه الإشارة. منه.

لم يستقم السجع(1).

ولا يخفى أنّ التمثيل بما ذكر إنّما يصحّ إذا وقع أحد اللفظين في آخر كلام والآخر في آخِر آخَر، إذ السجع هو تواطؤ الفاصلتين(2) من النثر على حرف واحد في الآخر.

ثمّ لا يخفى أنّه يَرِدْ هنا ما تقدّم إليه الإشارة، وهو أنّ التمسّك باستقامة السجع على تقدير التجوّز إنّما يكون إذا أمكن التعبير عن معنى واحد بلفظين مثلًا، أحدهما حقيقة فيه والآخر مجاز، وقد استقام السجع على تقدير التجوّز دون الحقيقة، فهو مرجّح لاختيار المجاز في الاستعمال وترك الحقيقة، وهو إنّما يكون إذا كان كلّ من المجازيّة والحقيقيّة معلوم الثبوت، فلا دخل له فيما نحن فيه على ما عرفت.

وبالجملة: إنّ ذلك إنّما يتمّ عند تعدّد اللفظ واختيار التجوّز في الاستعمال، لا في إثبات أصل المجازيّة ووحدة اللفظ كما فيما نحن فيه، إذ قد عرفت مرارًا أنّ الكلام فيما إذا علم المستعمل فيه اللفظ ولم يعلم أنّه فيه حقيقة أو مجاز، فإذا كان اللفظ ممّا يستقيم به السجع يستقيم به، سواء كان مجازًا أو حقيقةً.

وكالمطابقة كما في قوله(3): «ضحك المشيبُ برأسه فبكى»(4)، ولو قيل:

ص: 413


1- ينظر زبدة الأصول: 79، ومفاتيح الأصول: 96، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 566، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 85.
2- جاء في حاشية الأصل: الفاصلتان هما الكلمتان الأخيرتان من الفقرتين أو من المصراعين، الأوّل في النثر والثاني في النظم. منه.
3- ينظر ديوان دعبل الخزاعيّ: 142، والشعر والشعراء: 2/ 839، ونسبه في «أعلام الزركليّ: 5/ 214» إلى البردانيّ محمّد بن أحمد بن محمّد أبو الحسن عن كتاب المحمّدون: 56.
4- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أوّله: «لا تعجبي يا سلمُ من رجل»، «يا سلم» ترخيم: سلمى.

«ظهر المشيب» إلى آخره، انتفت(1).

والمقابلة(2)، وقد مثّل له بقوله: «كلّما لجّ قلبي في هواها لجّت في مقتي»(3)، فلو قيل: كلّما ازداد هواي، بدل: «كلّما لجّ قلبي»، فاتت(4).

ومن العجائب أنّ الفاضل العضديّ مع نهاية اهتمامه في أمثال هذه الأمور، جعل هذا المثال مثالًا للمطابقة(5)، وليس بصحيح، إذ المطابقة على ما صرّحوا به(6) هي: الجمع بين المتضادّين في الكلام مع مراعاة النوع حتّى لا يضمّ(7)

ص: 414


1- أي انتفت المطابقة، ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 85.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): المقابلة على ما صرّحوا به هي الجمع بين شيئين أو أكثر متوافقين وبين ضدّيهما، وتحقّق هذا المعنى في المثال غير معلوم (ينظر الإيضاح: 355، ومختصر المعاني: 267، والمطوّل: 419).
3- لم نعثر على قائله، لكن حكاه قولًا في مفاتيح الأصول: 95، وينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 567، وفصول البدائع في أصول الشرائع: 1/ 127.
4- ينظر مفاتيح الأصول: 96، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 85.
5- شرح مختصر المنتهى: 1/ 566-577.
6- ينظر الإيضاح، للخطيب القزوينيّ: 348، ومختصر المعاني: 265، والمطوّل: 419، ونهاية الإرب في فنون الأدب: 7/ 99.
7- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي يكون الضدّان مدلولًا عليهما بالفعلين كما في الأمثلة المذكورة، ومنه: يُحيي ويُميت، أو باسمين كما في قوله تعالى: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ﴾ [سورة الكهف: 18]، أو بالحرفين كما في قوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [سورة البقرة: 286]؛ لأنّ في اللام معنى الانتفاع، وفي «على» معنى الضرر، وربما قيل: تتحقّق المطابقة في الاسم والفعل أيضًا، كما في قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [سورة الأنعام: 122].

الاسم إلى الفعل، كما في قوله تعالى: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ(2)(3)، وكذا: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾(4)، ونحوها.

وهذا المعنى غير متحقّق في المثال المذكور، إلّا أن يقال: إنّ مقصوده بالإضافة إلى لفظي «الهوى» و«المقت»، ويكون تمثيلًا لأصل المطابقة، لا المطابقة الّتي توجب التجوّز، فتأمّل.

والجناس كما في: «سبع سباع»، ولو قيل: سبع شجاع، لم يحصل(5)، وغير ما ذكر.

ثمّ إنّ الكلام في هذه الأمثلة من حيث تعدّد اللفظ ووحدته ووحدة المعنى، يظهر لك بعد التأمّل فيما أسلفنا، وكذا الكلام في التمسّك بهذه الأمور في إثبات أصل التجوّز، أو في اختياره في الاستعمال، فلا افتقار إلى الذكر.

ص: 415


1- سورة التوبة: 82.
2- جاء في حاشية الأصل: سارب بالنهار أي: بارز فيه. منه.
3- سورة الرعد: 10.
4- سورة آل عمران: 26.
5- ينظر مفاتيح الأصول: 96، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 567، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 85.
مفاسد الاشتراك
المفسدة الأولى: افتقاره إلى القرينتين

وأمّا مفاسد الاشتراك، فمنها: أنّه يفتقر إلى القرينتين، بخلاف المجاز، فإنّه يكفي فيه قرينة واحدة(1).

والمراد: أنّ اللفظ المستعمل في المعنيين اللّذين ثبت الوضع لأحدهما؛ كونه مجازًا في المعنى الآخر أولى من كونه حقيقةً فيه أيضًا، إذ على تقدير التجوّز لا يفتقر إلّا إلى القرينة الواحدة الصارفة عن المعنى الحقيقيّ، إذ حينئذٍ يتعيّن المعنى المجازيّ بالاختيار؛ بخلافه على تقدير الاشتراك، فإنّه لمّا كان مفتقرًا إلى قرينة معيّنة لا بدّ له من قرينة بالنسبة إلى كلّ واحد من المعنيين.

وفيه نظر؛ لِمَا اشتهر من أنّ «المجاز لا بدّ له من قرينتين: صارفة ومعيّنة(2)»؛ وعلى تقدير التسليم نقول بإمكان الاكتفاء بقرينة(3) واحدة على تقدير الاشتراك أيضًا، فإنّه إذا دلّت القرينة على عدم إرادة أحد المعنيين يتعيّن المعنى الآخر بالإرادة.

لا يقال: إنّه ممنوع؛ لاحتمال إرادة المعنى المجازيّ، فلا بدّ من قرينة معيّنة للمعنى الآخر، فيلزم المحذور؛ لأنّ احتمال إرادة المعنى المجازيّ لا تصلح لمعارضة إرادة المعنى الحقيقيّ على ما تقدّم تحقيقه بما لا مزيد عليه.

ص: 416


1- ينظر غاية الوصول: 1/ 168، نهاية الوصول: 1/ 304، وإشارات الأصول: 1/ 47، ومفاتيح الأصول: 96، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 566، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 85.
2- ينظر قوانين الأصول: 1/ 134، والفصول الغرويّة: 32.
3- في «ق»: لقرينة.

على أنّه خارج عن ما نحن فيه، إذ الكلام إنّما هو بالإضافة إلى المعنيين، فلو أجرى الكلام إلى معنى ثالث نقول بمثله على تقدير المجازيّة أيضًا؛ لوضوح أنّه على تقدير الصرف عن(1) المعنى الحقيقيّ إنّما يتعيّن المعنى المجازيّ بالإرادة عند انفراده، وأمّا مع تعدّده فلا، كما لا يخفى، فلا يبقى فرق بين احتمال الاشتراك والتجوّز من هذه الجهة.

والتحقيق أنّ المجاز قد يُكتفى فيه بقرينة واحدة صارفة عن المعنى الحقيقيّ، كما إذا كان المعنى المجازيّ متّحدًا، أو الأَولى بالإرادة بأيّ وجه كانت من الأقربيّة إلى المعنى الحقيقيّ، أو أكثريّته في الاستعمال وغيرهما، وقد يفتقر إلى المتعدّدة، كما في غير الصور المذكورة حسب ما اقتضته الحاجة.

فالقول بأنّ «المجاز لا بدّ له من القرينتين: صارفة ومعيّنة»، ليس على إطلاقه، إلّا أن يجعل الوحدة في الصورة الأولى والرجحان في غيرها من القرينة، وقد نبّهنا عليه فيما سلف أيضًا، إلّا أنّ الحال في المشترك أيضًا كذلك، فإنّه قد اكتفي فيه بقرينة واحدة وقد لا يُكتفى فيه(2) كما عرفت.

بل نقول على تقدير الاشتراك: الأحسن أن يكتفى بالقرينة الواحدة المعيّنة(3) للمراد ولو زاد معناه على معنيين، إذ لو اختار الصارفة افتقر إلى ذكر القرائن المتعدّدة بحسب غير المعنى المراد، مع أنّ بالقرينة المعيّنة كما يحصل العلم بالمراد، يحصل الصرف عن الأغيار.

ص: 417


1- في «ق»: على.
2- «فيه» لم ترد في «ق».
3- في «ق»: المعيّنة.

والأمر في المجاز وإن كان كذلك عند تعدّد المجازات، إذ حينئذٍ بالقرينة المعيّنة كما يحصل الصرف عن المعنى الحقيقيّ، كذا يحصل الصرف عن غير المراد من المعاني المجازيّة، إلّا أنّه ليس المقصود إثبات الرجحان للاشتراك، بل منع رجحان المجاز عليه، فاشتراكهما فيما ذكر غير مضرّ.

لكنّ الإنصاف أنّ الإيراد المذكور لا وقع(1) له، إذ إنّما يتوجّه إذا كان المراد من افتقار المشترك إلى قرينتين افتقاره إليهما بالنسبة إلى معنى واحد في استعمال واحد بأن تكون إحداهما صارفة عن غير المراد والأخرى معيّنة له؛ وليس كذلك، بل بالنسبة إلى المعنيين، فإنّه لا بدّ له في كلّ استعمال من قرينة، سواء كانت مانعة عن إرادة غير المراد، أو معيّنة للمراد، إذ لا فرق بين القرينتين فيما نحن بصدده.

نعم، يظهر الفرق بينهما في صورة انحصار معنى المشترك في اثنين وعدمه كما لا يخفى على المتأمّل؛ وهذا الافتقار من لوازم المشترك عند إرادة الدلالة التفصيليّة منه، فلا يمكن انفكاكه عنه حينئذٍ كما لا يخفى، بخلافه على تقدير المجاز، فإنّ المفتقرَ إلى القرينة الاستعمالُ المجازيُّ لا الحقيقيّ؛ لما مرّ مشروحًا في حجّيّة ظواهر الألفاظ.

وحكاية وحدة المجاز وتعدّده لا مدخليّة لها في هذا المعنى، كما لا يخفى على أولي التأمّل والنهى.

إن قيل: هذا مسلّم، لكنّ المجاز يفتقر إلى قرينتين في استعمال واحد: صارفة عن المعنى الحقيقيّ ومعيّنة للمعنى المجازيّ، والمشترك [يفتقر إلى قرينتين] في استعمالين، فالافتقار إليهما مشترك بينهما، فلا يكون احتمال التجوّز أولى من

ص: 418


1- في «ق»: دفع.

الاشتراك؛ لاشتراكهما(1) فيما ذكر.

قلنا: لا نسلّم الافتقار إلى القرينتين على تقدير التجوّز في صورة انحصار المستعمل فيه في معنيين؛ لكفاية الصارفة عن المعنى الحقيقيّ في كون المعنى المجازيّ الواحد مرادًا حينئذٍ.

وكذلك الحال على تقدير عدم الانحصار فيما إذا كان بعض المجازات أولى، بل مطلقًا؛ لما ذكرنا من أنّ بالقرينة المعيّنة كما يتعيّن المراد، كذا يحصل الصرف عن الأغيار.

وعلى فرض التسليم نقول بتحقّقه في المشترك أيضًا، فإنّه في كلّ استعمال يفتقر إلى قرينتين: صارفة عن غير المراد ومعيّنة له، فلا افتراق بينهما من هذه الجهة ويبقى افتقار الاشتراك في كلّ معنى زائدًا.

إن قلت: سلّمنا ذلك، لكن نقول: كما أنّ المشترك يفتقر إلى قرينة بالإضافة إلى كلّ معنى، كذلك المجاز بالإضافة إلى كلّ معنى مجازيّ ولو كانت القرينة المفتقرة إليها بالنسبة إلى كلّ مجاز واحدة، فالافتقار إلى القرينة في كلّ معنى متحقّق على تقديري الاشتراك والتجوّز، فكيف يجعل ذلك سببًا لرجحان المجاز على الاشتراك مع اشتراكهما في ذلك؟

قلنا: على تقدير الاشتراك الافتقار إلى القرينة متحقّق بالنسبة إلى جميع المعاني، وأمّا على تقدير التجوّز فإنّه وإن كان مسلّمًا بالنسبة إلى المعاني المجازيّة، لكنّه غير مسلّم بالنسبة إلى المعنى الحقيقيّ كما لا يخفى.

ص: 419


1- «لاشتراكهما» لم ترد في «ق».

والحاصل: أنّه على تقدير الاشتراك الافتقار متحقّق بالنسبة إلى المعاني بأسرها، وأمّا على تقدير المجاز فالافتقار بالنسبة إلى المعاني المجازيّة، لا مطلق المعاني، فعدد القرائن على تقدير الاشتراك عدد المعاني وعلى تقدير المجاز ينقص عنه بواحد.

نعم، لك أن تقول: إنّ هذا وإن كان وجيهًا، لكن ما الدليل على أولويّة ما كان افتقاره إلى القرينة أقلّ ممّا كان افتقاره إليها(1) أكثر بالمعنى الّذي انتهى الكلام إليه؟!

ثمّ إنّك إذا تأمّلت فيما أبرزناه في هذا المقام على وجه البصيرة، ظهر لك أنّ ما اشتهر في الألسنة ونطق به كلام جماعة من الأجلّة من التفرقة بين القرينة في المشترك والمجاز بأنّها في الأوّل معيّنة وفي الثاني صارفة، كلامٌ ناشٍ على غير وجه البصيرة وإن أجرينا المقال على هذا الاصطلاح في بعض المباحث السالفة.

المفسدة الثانية للاشتراك: حصول الاختلال بالفهم

ومنها: أنّ مع الاشتراك قد يحصل الاختلال بالفهم، كما في صورة انتفاء القرينة، بخلافه على تقدير التجوّز، فإنّه عند وجود القرينة يحمل على ما دلّت عليه وعند انتفائها يحمل على المعنى الحقيقيّ، فلا اختلال(2).

والإيراد عليه وكذا الجواب يظهر ممّا أوردنا في أدلّة المرجّحين للاشتراك، فلا افتقار إلى الإعادة.

ص: 420


1- في «ق»: إليهما.
2- ينظر غاية الوصول: 1/ 168، وإشارات الأصول: 1/ 47، ومفاتيح الأصول: 96- 97، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 566.
المفسدة الثالثة للاشتراك: إفضاؤه إلى مستبعد من ضدّ أو نقيض

ومنها: أنّ الاشتراك قد يفضي إلى مستبعد من ضدّ أو نقيض، كما إذا كان اللفظ مشتركًا بين الضدّين، كالجون للسواد والبياض، أو النقيضين كالقرء للحيض والطهر، فإنّه إذا أطلق وكان المراد أحد المعنيين وحمل المخاطب على غيره بتخييل(1) ما ليس قرينة قرينته، فقد حمل اللفظ على ما هو في غاية البعد من المراد(2).

ويتوجّه عليه: أنّه لا اختصاص له بالاشتراك؛ لإمكان تحقّقه في المجاز أيضًا؛ لأنّ من أنواع العلائق التضادّ؛ وذلك إنّما هو إذا كان المعنى المجازيّ ضدًّا للمعنى الحقيقيّ، فإنّه إذا أطلق وأريد الحقيقة أو المجاز وحمل على الآخر لما ذكر، يلزم المحذور؛ إلّا أن يقال: إنّ الأمر وإن كان كذلك، إلّا أنّ المجاز لمّا كان مشروطًا بالعلاقة لا يلزم على تقدير الحمل على ضدّ المراد ذلك الاستبعاد، إذ على تقدير المجازيّة ينزّل التضادّ منزلة التناسب لمشاكلة، أو تهكّم، أو تمليح(3)، بخلافه على تقدير الاشتراك.

ومنه يظهر الجواب عمّا لو قيل: إنّ المستعمل فيه فيما نحن فيه واحد، فإن لزم(4)

ص: 421


1- كذا في الأصل، والصواب: بتخيّل، كما في المفاتيح.
2- ينظر غاية الوصول: 1/ 168، ونهاية الوصول: 1/ 304، ومفاتيح الأصول: 96، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 566، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 85.
3- التمليح هو الإتيان بما فيه ملاحة وظرافة، يقال: ملح الشاعر إذا أتى بشيء مليح. وأمّا الإشارة إلى قصة أو مَثَل أو شعر، فإنّما هو التلميح بتقديم اللام على الميم. والتهكّم: الاستهزاء، والنسبة بينهما العموم والخصوص الوجهيّ. وقيل: إنّ التمليح إيراد القبيح في صورة شيء مليح للاستظراف (ينظر مختصر المعاني: 200، والمطوّل: 475).
4- في «ق»: لزوم.

المحذور يلزم مطلقًا ولو على تقدير المجازيّة، وإلّا فلا ولو على تقدير الاشتراك، مع أنّه يمكن أن يقال: ليس المقصود لزومه في محلّ الكلام، بل المراد أنّ مع الاشتراك يمكن تحقّق المحذور، بخلافه على المجاز، فالحمل على ما لا يلزم المفسدة مطلقًا أولى، فتأمّل.

وقد عارض مرجّح الاشتراك فقال بأنّ للاشتراك فوائد لا توجد في المجاز وللمجاز مفاسد لا توجد في الاشتراك(1)، لكن لمّا طال زمام الكلام عدلنا عن التعرّض لها والنقض والإبرام، مع أنّك إن أمعنت النظر فيما حقّقنا في أبلغيّة المجاز إلى هذا المقام، لعلّك تستغني عن التكلّم في بقيّة الأقسام، ومن الله الاستعانة في الفاتحة والختام. 

ص: 422


1- ينظر مفاتيح الأصول: 94 - 96، وإرشاد الفحول: 27.
والبحث الثاني: في تعارض الاشتراك مع الثلاثة الباقية من النقل والإضمار والتخصيص
اشارة

ففيه مباحث:

في تعارض الاشتراك والنقل

المبحث الأوّل: معارضة الاشتراك والنقل
اشارة

تنقيح المقام يستدعي التكلّم في مطلبين:

المطلب الأوّل: في تصوير المسألة والإيماء إلى ما يترتّب عليها من الثمرة

فنقول: قد مثّل لذلك بقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «الطواف في البيت صلاة»(1)، بناءً على أنّا نعلم أنّ الدعاء معنى حقيقيّ للفظ «الصلاة»، كالأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، لكن لم يعلم كون المعنى الثاني كذلك(2) بعد المهجوريّة عن المعنى الأوّل، أم قبلها.

فعلى الأوّل: يكون مقتضى الحديث لزوم الطهارة في الطواف، بناءً على امتناع إرادة الحقيقة، فاللازم الحمل على أقرب المجازات، ومقتضاه مشاركة الطواف مع

ص: 423


1- مستدرك الحاكم: 1/ 459، وسنن البيهقيّ: 5/ 87، وعوالي اللآلئ الحديثيّة: 2/ 372، والجامع الصغير، للسيوطيّ: 2/ 56، وكنز العمّال: 3/10، الرقم 206، ومستدرك الوسائل: 9/ 410، الباب 38 من أبواب الطواف، ح 2.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي معنى حقيقيًّا.

الصلاة في جميع الأحكام الثابتة لها، إلّا ما دلّ الدليل على عدمه، ومن الأحكام الثابتة للمشبّه به لزوم الطهارة، فيجب أن يحكم بلزومه في المشبّه.

وعلى الثاني: لا يمكن الحكم بذلك؛ لاحتمال أن يكون المراد من الصلاة الدعاء، وهو غير مشروط بالطهارة.

هذا حاصل ما قيل في هذا المقام، ويجري ما ذكر في جميع الألفاظ الشرعيّة كما لا يخفى(1).

وهو منظور فيه؛ لأنّ احتمال الاشتراك بين الدعاء والمعنى الشرعيّ في لفظ «الصلاة» إنّما يتصوّر إذا كان في اللغة موضوعًا للمعنى الشرعيّ أيضًا، وهو غير صحيح؛ لظهور أنّ وضع اللفظ لمعنى فرع معرفته وتعقّله، والمعاني الشرعيّة لكونها من المعاني التوقيفيّة، لم تكن معروفة لأهل اللغة حتّى يقوم احتمال وضع اللفظ لها كما لا يخفى، فاحتمال الاشتراك فيها على النحو المذكور ممّا لا معنى له.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ الاحتمال المذكور يمكن ابتناؤه على القول بتوقيفيّة اللغات، أو على اصطلاحيّتها، لا بأن يكون المعنى الشرعيّ من موضوعات أهل اللغة، بل من موضوعات الشارع، لكن من غير أن يبنى الأمر على هجر المعنى اللغويّ، بل بأن يكون المعنى اللغويّ من معناه الحقيقيّ عنده وجعل المعنى الشرعيّ معنى آخر لذلك اللفظ، فحينئذٍ يكون اللفظ مشتركًا عنده.

لكن هذا الاحتمال ممّا لا وجه له؛ لانعقاد الاتّفاق على خلافه؛ لأنّ المثبتين

ص: 424


1- ينظر مفاتيح الأصول: 92، ومنية اللبيب: 1/ 250، ونهاية الوصول: 1/ 300 -301، وإشارات الأصول: 1/ 55، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 211.

للحقيقة الشرعيّة أطبقوا على لزوم حمل الألفاظ الشرعيّة على معانيها الشرعيّة عند التجرّد عن القرائن الصارفة، كما أنّ النافين لها اتّفقوا على لزوم حملها على المعاني اللغويّة حينئذٍ(1)، فيعلم من اتّفاق هؤلاء الفريقين على هذين المطلبين اتّفاقهم على فساد الاحتمال المذكور؛ إذ على التقدير الأوّل يكون اللازم حمل اللفظ على المعنى الشرعيّ، كما أنّه يجب على الثاني حمله على المعنى اللغويّ، وعلى التقديرين لا يكون اللفظ إلّا ذا معنى واحد، فلا وجه لاحتمال الاشتراك كما لا يخفى على ذي مسكة وسداد.

مضافًا إلى أنّ احتمال الابتناء على القول بتوقيفيّة اللغات إنّما يصحّ إذا كان الوضع في الحقائق الشرعيّة مستندًا إليه تعالى، وسيجيء تحقيق الحال في ذلك.

والمطلب الثاني: في أنّ أيًّا من الاحتمالين يترجّح بالاختيار في البين

فنقول: قد اختلف في ذلك، فقيل بترجيح الاشتراك نظرًا إلى أنّ الألفاظ المشتركة في اللغات أكثر وجودًا من المنقولة، والظنّ يحكم بإلحاق المشتبه على الأغلب(2).

وقيل بترجيح النقل؛ لأنّه مع الاشتراك ربما يحصل الاختلال بالفهم، بخلافه على تقدير النقل(3).

ص: 425


1- نقل إطباقهم على ذلك في معالم الأصول: 35، وقوانين الأصول: 1/ 96، ومفاتيح الأصول: 148.
2- ينظر النهاية: 1/ 300، ونقله عنه في مفاتيح الأصول: 92.
3- ينظر التهذيب: 75، والمبادئ: 81، والرازي في المحصول: 1/ 352، ونقله عن العلّامة في منية اللبيب: 1/ 250 -251، ومفاتيح الأصول: 92، قال في المفاتيح بعد نقل هذا القول: لا يخلو عن قوّة لمصير المعظم إليه ولإمكان دعوى أغلبيّة النقل، انتهى.

والثالث أن يقول: على هذا يكون لكلّ من الاحتمالين جهة رجحان ومرجوحيّة، فيتحقّق التعارض، وهو يوجب التساقط، فيجب التوقّف(1).

وربما قيل في وجه رجحان الاشتراك بعد تسليم أكثريّته: بأنّه لو لم يكن أرجح من النقل، لكان مساويًا له، أو مرجوحًا بالنسبة إليه؛ وهما باطلان؛ لأنّه إمّا(2) يلزم ترجيح المرجوح على الراجح، أو الترجيح من غير مرجّح، فتعيّن الأوّل، وهو المطلوب.

وردّ بأنّ ذلك إنّما يلزم إذا كان المشترك من واضع واحد، وأمّا إذا كان من متعدّد فلا؛ لجواز أن تكون الألفاظ المشتركة بالنسبة إلى كلّ واضع أقلّ من الألفاظ المنقولة(3).

ويتوجّه عليه: انّه بعد تسليم الأكثريّة في الألفاظ المشتركة نقول: لا وجه لهذا الكلام، إذ أكثريّتها من الألفاظ المنقولة يمكن أن يكون من وجهين:

الأوّل: أن تكون الألفاظ المشتركة من كلّ واضع أكثر من الألفاظ المنقولة بالنسبة إليه.

والثاني: أن يكون مجموع الألفاظ المشتركة أكثر من مجموع الألفاظ المنقولة وإن لم يكن بالنسبة إلى كلّ واضع كذلك.

ص: 426


1- ينظر مفاتيح الأصول: 93.
2- في «ق»: إمّا.
3- ينظر منية اللبيب: 1/ 251.

وعلى تقدير الأوّل يتمّ المرام، وكذلك على الثاني؛ لأنّه لمّا كان المفروض أكثريّة المجموع من المجموع، يلزم أن تكون الألفاظ المشتركة من بعض الواضعين أكثر من الألفاظ المنقولة بالنسبة إليه لو لم يسلّم الأكثريّة بالنسبة إليهما، فهناك نقول: أنّه لو لم تكن الألفاظ المشتركة أكثر فائدة من المنقولة يلزم أحد المحذورين، فيتمّ المدّعى، إذ المشترك لو كان في موضع أكثر فائدة يكون كذلك مطلقًا لعدم الافتراق.

ويمكن الجواب بمنع أكثريّة الاشتراك من الألفاظ المنقولة لو لم ندّع الأغلبيّة في خلافه؛ لظهور أنّ غالب الألفاظ الدائرة في الاصطلاحات المختلفة من العلوم والحرف والصنائع ألفاظ منقولة، والألفاظ المشتركة فيها ليست بتلك المثابة قطعًا، فيبقى ما دلّ على أولويّة النقل سالمًا عمّا يصلح للمعارضة، فيجب العمل على مقتضاه.

ويتوجّه عليه: أنّ أكثريّة النقل من الاشتراك في(1) الاصطلاحات الخاصّة وإن(2) كانت مسلّمة، لكنّ ذلك لا يوجب أكثريّته منه في اللغة والعرف العامّ، بل إنّما يجدي في تلك الاصطلاحات الخاصّة فيما إذا دار الأمر بينهما فيها، وجعل ذلك ثمرة في المسألة غير لائق، إذ ليس ذلك ممّا يعتني به العلماء.

قول الحقّ في المسألة

فالتحقيق أن تجعل المسألة مبتنية على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه، بناءً على أنّ المقصود الأصليّ من تدوين المباحث الأصوليّة معرفة أحوال

ص: 427


1- في «ق»: من.
2- في «ق»: فإن.

المخاطبات الشرعيّة، فعلى القول بالحقيقة الشرعيّة يكون النقل في كلام الشارع أكثر من الاشتراك قطعًا، فيجب حمل مشتبه الحال عليه.

وأمّا على القول بالعدم فلم يظهر أكثريّة أحدهما من الآخر في كلامه، فحينئذٍ لو ثبتت الأكثريّة لواحد منهما في العرف، أو اللغة، أو فيهما دون الآخر، يحمل المشتبه الحال في كلام الشارع عليه؛ وإلّا فإن تخالفا بأن تحقّقت الكثرة لواحد منهما في واحد منهما وللآخر في الآخر يشكل الأمر، لكنّ الظاهر الإلحاق بالعرف وإلّا فيتوقّف، وإن كان ترجيح النقل نظرًا إلى الاصطلاحات الخاصّة لا يخلو من رجحان.

في تعارض الاشتراك والإضمار

والمبحث الثاني: في معارضة الاشتراك والإضمار

فنقول: قد مثّل لذلك بقوله (علیه السلام): «في خمسٍٍ من الإبل شاة»(1)؛ بناءً على أنّ كون «في» للظرفيّة ممّا لا شبهة فيه، وامتنعت إرادتها في المقام، فاللازم إمّا حملها على السببيّة، فيكون المعنى: بسبب خمس من الإبل شاة، أو حملها على الظرفيّة، فيقال: إنّ في الكلام مقدّرًا، والتقدير: في خمس من الإبل مقدار شاة، هكذا قيل(2).

ص: 428


1- رواه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في سنن ابن ماجة: 1/ 573، برقم 1798، وسنن الترمذيّ: 2/ 66، ح 617، وسنن أبي داود: 1/ 351، برقم 1568، ومسند أحمد: 2/ 14، وعوالي اللآلئ الحديثيّة: 1/ 85 و 157 و211، و2/ 229، ومستدرك الوسائل: 7/ 60، ح 4، نقلًا عن العوالي.
2- ينظر نهاية الوصول: 1/ 306، ومنية اللبيب: 1/ 252، ومستند الشيعة: 9/ 219، وأنيس المجتهدين: 1/ 76، وقوانين الأصول: 1/ 32، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 213.

وفيه تأمّل؛ لأنّا لم نجد فرقًا في الكلام بعد التقدير بما ذكر وقبله، فإن استقام الكلام بعد التقدير يستقيم قبله، وإلّا فلا كذلك، نعم، لو قدّر المحذوف «الواجب» فيقال: في خمس من الإبل الواجب شاة؛ لا استقام(1)، لكن ظاهر كلماتهم في مقام الإضمار تقدير المضاف، وهو على ما ذكرناه غير متحقّق، لكنّه غير مضرّ، إذ لزوم كون المقدّر مضافًا غير ظاهر.

مضافًا إلى أنّه يمكن أن يقال: إنّ التقدير: في خمس من الإبل ثمن شاة، وحينئذٍ يكون المقدّر مضافًا، والفرق بين التقديرين هو أنّ في الأوّل يستفاد تعيّن الشاة، وفي الثاني ثمنها.

ويظهر من بعضهم الفرق بين حمل «في» على السببيّة وتقدير «المقدار» بأنّه على الأوّل يكون المعنى: بسبب خمس من الإبل شاة، فلا يسقط(2) الزكاة بهلاك النصاب بعد الحول، وعلى الثاني يكون المعنى: في خمس من الإبل مقدار شاة، فتسقط بهلاكه بعده؛ لكون الواجب جزءًا من النصاب(3).

وفيه تأمّل؛ لأنّ الجزئيّة غير معلومة، إلّا إذا أريد بالمقدار قطر الشاة، لكنّه ممّا يقطع بعدم إرادته كما لا يخفى.

بقي الكلام في ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر، فنقول: قد استدلّ العلّامة -أحلّه الله محلّ الكرامة- في النهاية وغيره(4) على ترجيح الإضمار

ص: 429


1- كذا في الأصل، والصواب: لاستقام، كما في «ج».
2- كذا في الأصل، والصواب: فلا تسقط.
3- مناهج العقول: 1/ 287، وينظر أنيس المجتهدين: 1/ 89.
4- نهاية الوصول: 1/ 306- 307، وتهذيب الوصول: 75، ينظر منية اللبيب: 1/ 252، وقوانين الأصول: 1/ 89، ومفاتيح الأصول: 93، وإشارات الأصول: 1/ 55، والمحصول، للرازيّ: 1/357، وإرشاد الفحول: 27.

على الاشتراك بوجهين:

الأوّل: أنّ الإجمال على تقدير الإضمار مختصٌّ ببعض الصور، وهو ما إذا كان القابل للتقدير أمرين أو أكثر ولا رجحان للبعض على الآخر، فهناك لا بدّ من قرينة دالّة على خصوص المقدّر، ومع انتفائها يتحقّق الإجمال.

وأمّا في غير تلك الصورة، كما إذا كان القابل للتقدير واحدًا، ليس إلّا كما في قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾(1)، أي حكمه، أو متعدّدًا، لكن يكون البعض راجحًا على غيره، كما في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ الآية(2)، فإنّ المتبادر منه أكلها، فلا إجمال، أمّا في الأوّل فظاهر، وأمّا في الثاني فلقضاء الرجحان بالتعيين، بخلافه على تقدير الاشتراك، فإنّ الإجمال حينئذٍ لازمٌ في جميع الصور، ومعلوم أنّه كلّما كان الكلام أكثر فائدة كان أولى.

ثمّ أورد على نفسه إيرادًا حاصله: أنّ الأمر في الإضمار وإن كان كما ذكر، لكنّه قد أوجب الافتقار(3) إلى ثلاث قرائن: ما يدلّ على أصل الإضمار وموضعه وتعيين المضمر؛ بخلاف الاشتراك، فإنّه لا يستدعي إلّا قرينة معيّنة للمراد، فكان الاشتراك أولى.

وأجاب عنه بأنّه وإن كان مسلّمًا، لكنّه في صورة واحدة، بخلاف الاشتراك،

ص: 430


1- سورة الفجر: 22.
2- سورة المائدة: 3.
3- في «ق»: الاقتصار.

فإنّ افتقاره إليها دائميّ(1).

والثاني: أنّ الإضمار أوجز وأخصر، فكان أولى، أمّا الأوّل فظاهر، وأمّا الثاني فلأنّ الاختصار من محاسن الكلام(2)، قال (صلی الله علیه و آله و سلم): «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارًا»(3).

لا يقال: يمكن الاستدلال أيضًا بأنّ المشترك يستدعي تعدّد الوضع، وهو مدفوع بالأصل؛ لأنّ الإضمار يستدعي التقدير والأصل عدمه، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

[في تعارض الاشتراك والتخصيص]

والمبحث الثالث: في معارضة الاشتراك والتخصيص

واشتهر التمثيل فيما بينهم لذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ﴾(4)، بناءً على أنّ النكاح حقيقة في العقد، فإطلاق الآية وإن اقتضى حرمة منكوحة الأب مطلقًا وإن كان بعقد فاسد، لكنّها مخصّصة بغير المعقودة بالعقد الفاسد، فتبقى الآية دالّة على تحريم المعقودة بالعقد الصحيح.

ص: 431


1- ينظر نهاية الوصول: 1/ 307.
2- ينظر نهاية الوصول: 1/ 307، وتهذيب الوصول: 75، ومنية اللبيب: 1/ 252، وقوانين الأصول: 1/89، والمحصول، للرازيّ: 1/ 357.
3- عوالي اللآلئ الحديثيّة: 4/120، برقم 194، وكنز العمّال: 16/112، ح 44087، وفتح الباري: 13/438، ومجمع الزوائد: 1/ 173 و182، باختلاف.
4- سورة النساء: 22.

أو يقال: إنّ لفظ «النكاح» مشترك بين العقد والوطئ، ولم يعلم من الآية حرمة المنكوحة بمجرّد العقد حتّى يحتاج(1) إلى دعوى التخصيص(2).

وفيه تأمّل لا يخفى على المتأمّل، فالأولى أن يقرّر المطلوب في لفظ «النكاح» بمعنى العقد بأن يقال: إنّ لفظ «النكاح» حقيقة في العقد صحيحًا كان أو فاسدًا، لكن في الآية تعيّن إرادة الصحيح؛ لانتفاء الحرمة في المنكوحة بالعقد الفاسد، وهو يمكن إمّا بكون(3) النكاح له وضع واحد للأعمّ من الصحيح والفاسد، لكن خصّص في الآية بالصحيح؛ أو وُضِعَ آخر لخصوص الصحيح، وهو المراد بالآية، فيلزم الاشتراك.

ومنه قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾(4)، بناءً على أنّ «الصلوات» جمعٌ محلّى باللام، فيشمل المفروضة والمندوبة في أصل الوضع، لكن في الآية مخصّصة بالمفروضة؛ لعدم وجوب المحافظة للصلوات المندوبة.

أو يقال: كون المراد بالصلوات في الآية الصلوات المفروضة مسلّم، لكن لا بأن يكون له وضع واحد، وهو الأعمّ، فيلزم التخصيص، بل لكونه كما وضع تارةً للأعمّ وضع أخرى للمفروضة، وهي المرادة من الآية.

ص: 432


1- في «ق»: يحتاج.
2- ينظر نهاية الوصول: 1/ 307، ومنية اللبيب: 1/ 254، وأنيس المجتهدين: 1/ 73 و76، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 211، وإشارات الأصول: 1/ 54، وأصول السرخسيّ: 1/ 177.
3- في «ق»: أن يكون.
4- سورة البقرة: 238.

فالحقّ ترجيح التخصيص؛ لما يأتي من أنّه أولى من المجاز الأولى من الاشتراك، فيكون التخصيص أولى من الاشتراك، إذ الأولى من الأولى من الشيء أولى من ذلك الشيء قطعًا(1).

ص: 433


1- ينظر نهاية الوصول: 1/ 307- 308، ومبادئ الوصول: 82، وتهذيب الوصول: 76، وإرشاد الفحول: 27، والمحصول، للرازيّ: 1/ 358، وقوانين الأصول: 1/ 32.
والبحث الثالث: في بقيّة أقسام المعارضة
اشارة

وهي ستّة:

في تعارض المجاز والنقل

القسم الأوّل: معارضة المجاز والنقل

[القسم] الأوّل: معارضة المجاز والنقل(1)

فنقول: إنّ هذا الكلام كغيره من عنوانات الصور المتعارضة يحتمل معنيين:

الأوّل: أن يكون كلّ من النقل والمعنى المجازيّ ثابتًا، لكن لم يعلم المستعمل فيه وتردّد بين كون المراد منه المعنى المنقول إليه أو المجازيّ، والحكم فيه يستدعي التفصيل بأن يقال: إنّه لا يخلو إمّا أن علم أنّ صدور الخطاب بعد تحقّق النقل، أو قبله، أو لا هذا ولا ذاك، بل كلّ منهما محتمل.

وعلى الأوّل: يتعيّن الحمل على المعنى المنقول إليه؛ لأنّه معنى حقيقيّ له، ومقتضى كون الأصل في الاستعمال الحقيقة، لزوم حمل الألفاظ على المعاني الحقيقيّة عند التجرّد عن القرائن المجازيّة، كما أقمنا عليه البرهان في المباحث السالفة.

وعلى الثاني: لا يخلو إمّا أن يكون ذلك المعنى المجازيّ المعنى المنقول منه، أو غيره، وهو إنّما يتحقّق إذا أقيمت القرينة على عدم إرادة المعنى المنقول منه، وعلى الأوّل يتعيّن الحمل عليه لعين ما ذكر، وعلى الثاني لا يخلو إمّا أن يكون أحدهما

ص: 434


1- ينظر تهذيب الوصول: 76، ونهاية الوصول: 1/ 308، ومبادئ الوصول: 82، ومنية اللبيب: 1/ 254، ومفاتيح الأصول: 91-92، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 209، والمحصول، للرازيّ: 1/ 358، وقوانين الأصول: 1/ 32، وإرشاد الفحول: 27.

أقرب إلى المعنى المنقول منه، أو لا، وعلى الأوّل يتعيّن الحمل على الأقرب، وعلى الثاني يكون اللفظ مجملًا ولا يمكن حمله إلّا على ما دلّت القرينة عليه كما لا يخفى.

وعلى الثالث: - أي إذا لم يعلم أنّ صدوره بعد تحقّق النقل أو قبله - الظاهر لزوم حمله على المعنى المنقول منه؛ لما ذكر بعد أن لوحظ أصالة تأخّر الحادث.

والمعنى الثاني: أن يكون المستعمل فيه معلومًا وتردّد اللفظ بين كونه مجازًا فيه أو منقولًا إليه، وهذا قد يمكن تشخيص الحال فيه من غير إشكال، كما إذا كان المتكلّم والمخاطب في زمان واحد، فإنّ لكلّ من المجاز والنقل علامة تخصّه، فاللازم الرجوع إليها والعمل بمقتضاها.

وأمّا مع اختلاف الزمان - والظاهر أنّه المراد بالمقام؛ لكونه المناسب للأغراض الموجبة لتدوين علم الأصول والبحث عن قواعده - فالراجح المصير إلى المجازيّة؛ لأكثريّة المجاز من النقل، وقد عرفت مرارًا أنّ الأولى إلحاق المشتبه بالأغلب؛ ولكون النقل مستلزمًا لمهجوريّة الوضع الأوّل وتعيّن اللفظ للمعنى الثاني، وكلاهما مخالف للأصل، بخلاف المجاز، فيكون أولى.

واستدلّ عليه بافتقار النقل إلى اتّفاق أهل اللسان عليه، والاطّلاع عليه في غاية الصعوبة؛ بخلاف المجاز، فإنّه يتوقّف على العلاقة، والعلم بها في غاية السهولة(1).

وفيه ما لا يخفى؛ لأنّ دلالة صعوبة الاطّلاع على المرجوحيّة وسهولته على الرجحان غير ظاهرة؛ نعم، لو قُرّر المقال على نحو أخر بأن -يقال: إنّ النقل

ص: 435


1- ينظر تهذيب الوصول: 76، ونهاية الوصول: 1/ 308، ومبادئ الوصول: 76، ومنية اللبيب: 1/ 254، وقوانين الأصول: 1/ 32، ومفاتيح الأصول: 92، والمحصول، للرازيّ: 1/ 358، وإرشاد الفحول: 27.

يتوقّف على اتّفاق أهل اللسان عليه، وهو غير معلوم، فالأصل عدمه، بخلاف المجاز-، لكان وجيهًا، لكنّه يرجع إلى ما ذكرنا.

إن قلت: بعد ما تبيّن المستعمل فيه كما هو المفروض، لا ثمرة مهمّة في تشخيص كونه على سبيل النقل أو التجوّز؛ إذ أهمّ الدواعي لتشخيص هذه الأمور إنّما هو معلوميّة المراد.

قلنا: تشخيص الأمرين ليس لأجل ذلك الموضع، بل لأجل المواضع الأُخر، بناءً على أنّه إذا كان على سبيل النقل وجب الحمل على المعنى المنقول إليه كلّما استعمل مجرّدًا عن القرينة المجازيّة، والحمل على المعنى المنقول منه يتوقّف على الاقتران بها، ويتعاكس الأمر على تقدير التجوّز كما لا يخفى.

ويمكن التمثيل له بجميع الألفاظ الشرعيّة بالمقايسة إلى معانيها الشرعيّة على القول بنفي الحقيقة الشرعيّة، بناءً على ترجيح المجاز كما هو المختار، وكذلك الحال بناءً على ثبوتها لو رجّح النقل في المقام.

لا يقال: إنّ ترجيح المجاز في هذا المقام ينافي القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة، فاللازم على من رجّح المجاز في هذا المقام اختيار القول بالعدم، كما أنّ اللازم على من رجّح الثبوت في تلك المسألة المصير إلى النقل فيما نحن فيه.

لأنّ ذلك إنّما هو إذا لم يقم دليل من وجه آخر على الثبوت وقد أقمنا الأدلّة للثبوت فيها، يخرج عن مقتضى ما ذكرنا في هذه المسألة.

وبالجملة: رجحان التجوّز إنّما هو إذا لم يقم على النقل دليل، وأمّا إذا وجد فتعيّن القول به، والأمر في الحقيقة الشرعيّة من هذا القبيل، كما لا يخفى على من أرخى النظر في سواء السبيل، والحمد للموفّق المؤيّد الجليل.

ص: 436

في تعارض المجاز والإضمار

والقسم الثاني: معارضة المجاز والإضمار

كما في قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾(1)، فإنّ عدم إمكان توجّه السؤال إلى «القرية» يستدعي ارتكاب خلاف الظاهر إمّا في لفظ «القرية» بأن يقال: إنّ المراد منه الأهل تسميةً للمتمكّن باسم المكان، أو بتقدير مضاف في العبارة، والتقدير: اسئل أهل القرية(2).

إذا علمت ذلك فاعلم: أنّه حكم العلّامة - عطّر الله تعالى مرقده - في التهذيب والنهاية(3) بالتسوية بينهما؛ لافتقار كلّ منهما إلى قرينة(4)، والظاهر ترجيح المجاز لكونه أكثر وللفوائد المتكثّرة فيه، بخلاف الإضمار(5).

ولا يخفى عليك أنّه لا ثمرة مهمّة في ترجيح أحد الأمرين على الآخر في الآية المذكورة ونحوها، كما لا يخفى على من له أدنى تأمّل، فالثمرة تظهر في المواضع

ص: 437


1- سورة يوسف: 82.
2- ينظر منية اللبيب: 1/ 256، ومفاتيح الأصول: 92، وإشارات الأصول: 1/ 55، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 210، وأنيس المجتهدين: 1/ 75.
3- تهذيب الوصول: 76، ونهاية الوصول: 1/ 309.
4- قال المحقّق النراقيّ (قدس سره): قيل: الظاهر كون الإضمار أقرب؛ لأنّه لا يفتقر إلّا إلى قرينة، والمجاز مع افتقاره إليها يفتقر إلى الوضع اللاحق أيضًا. ولا يخفى ما فيه، ولذا حكم الأكثر بتساويهما، انتهى كلامه رفع مقامه (أنيس المجتهدين: 1/ 75). ومن القائلين بالتسوية: الفخر الرازيّ في المحصول: 1/ 359، والبيضاويّ في منهاج الأصول المطبوع مع نهاية السؤل: 2/ 180، والأسنويّ في نهاية السؤل: 2/ 181.
5- ينظر مبادئ الوصول: 82، ومفاتيح الأصول: 92.

الّتي لم تكن على هذا المنوال بأن يختلف المعنى على تقدير التجوّز والإضمار، كما في قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾(1)، فإنّه لمّا لم يجب محافظة الصلوات بأسرها، تعيّن إمّا حمل الأمر على الرجحان، أو تقدير مضاف في الكلام بأن يقال: التقدير: حافظوا على بعض الصلوات.

ومثله الحال في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾(2)، بناءً على أنّه لمّا لم يحرم نكاح المعقودة بالعقد الفاسد، وجب إمّا حمل النهي على المرجوحيّة، أو تقدير(3) محذوف في الآية بأن يقال: ولا تنكحوا بعض ما نكح آباؤكم، وهي المعقودة بالعقد الصحيح، فعلى المختار من أولويّة التجوّز من الإضمار لا يمكن الاستدلال بهما على وجوب المحافظة وحرمة نكاح المعقودة.

ثمّ لا يخفى أنّ ذلك إنّما هو من حيث التجوّز والإضمار، وأمّا إذا لوحظ الأوّل مع التخصيص كما تقدّم الكلام فيه، فيتمّ(4) الاستدلال لأولويّة التخصيص من المجاز كما مرّ مرارًا ويجيء الكلام فيه؛ وتظهر الثمرة فيما لم يكن على هذا المنوال.

في تعارض المجاز والتخصيص

والقسم الثالث: معارضة المجاز والتخصيص
اشارة

كما في الآيتين المذكورتين على ما عرفت آنفًا ونحوهما، وقد مثّل له في النهاية

ص: 438


1- سورة البقرة: 238.
2- سورة النساء: 22.
3- في «ق»: أو على تقدير.
4- في «ق»: يتمّ.

وغيره(1) بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾(2)، بناءً على أنّه يمكن أن يكون المراد الحقيقةَ، خُصّ عنه أهل الذمّة، أو المراد غيرهم، فيكون مجازًا من باب إطلاق اسم الكلّ على الجزء(3).

ثمّ استدلّ على أولويّة التخصيص من المجاز بأنّ مع التخصيص لا يفوت المقصود مطلقًا ولو مع انتفاء القرينة، أمّا مع وجود القرينة على التخصيص فظاهر، وأمّا مع انتفائها فللزوم حمل اللفظ حينئذٍ على العموم الشامل للمراد وغيره(4).

وفيه تأمّل، أمّا أوّلًا: فلأنّ قوله - روّح الله روحه -: «يمكن أن يكون المراد الحقيقة، خُصّ عنه أهل الذمّة»، ينافي ما اشتهر بينهم من التفرقة بين التخصيص والنسخ: بأنّ الأوّل دفع والثاني رفع، والمقصود منه أنّ المخصّص دالّ على أنّ المتكلّم بالعامّ ما أراد عمومه حين التكلّم، بل المراد منه بعضه، فيظهر من المخصّص عدم ثبوت الحكم للعموم ودفعه، لا أنّه(5) ثابت في أوّل الأمر ثمّ يرفع كما في النسخ، بل الأمر في التخصيص كذلك؛ لظهور أنّه ليس المراد من العامّ عند إرادة التخصيص إلّا بعض أفراده وأنّ المتكلّم لم يستعمله حينئذٍ إلّا في ذلك البعض.

ص: 439


1- نهاية الوصول: 1/ 310، ينظر منية اللبيب: 1/ 256، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/210، وأنيس المجتهدين: 1/ 73، وإشارات الأصول: 1/ 54.
2- سورة التوبة: 5.
3- ينظر المحصول، للرازيّ: 1/ 360، وتهذيب الوصول: 76، ونهاية الوصول: 1/ 310، ومنية اللبيب: 1/ 256، وأنيس المجتهدين: 1/ 73، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 210، وإشارات الأصول: 1/ 54.
4- نهاية الوصول: 1/ 310.
5- في «ق» بدل «لا أنّه»: لأنّه.

فعلى هذا لا يصحّ أن يقال: يمكن أن يكون المراد الحقيقة، خُصّ عنه أهل الذمّة، أو المراد غيرهم؛ لما عرفت من أنّه على التقديرين يلزم أن يكون المراد غيرهم، نعم، ربما يمكن أن يتخيّل له وجه، بناءً على أنّ القول بأنّ العامّ المخصّص حقيقةٌ في الباقي، لكنّه غير صحيح.

وأمّا ثانيًا: فلخفاء تحقّق الكلّ والجزء فيه، إذ مدلول العامّ كلّ فرد فرد، وممّا يدلّك على ذلك عدّهم في جملة العلائق: إطلاق العامّ على الخاصّ، وعدم اكتفائهم بالكلّ والجزء عنه، فتأمّل.

وأمّا ثالثًا: فلأنّ الوجه المذكور في ترجيح التخصيص على المجاز غير مستقيم فيما نحن فيه، إذ لا يتفاوت الحال على تقدير وجود القرينة وعدمها فيه بين احتمال التخصيص والتجوّز، إذ المجمل على التقديرين العموم، فلو سلّم عدم لزوم الحمل على غير المراد على تقدير التخصيص نقول: بأنّ الأمر كذلك على تقدير التجوّز.

على أنّه يمكن أن يقال: إنّه على تقدير الحمل على العموم فيما إذا كان المراد الخصوص، يلزم الحمل على غير المراد أيضًا، فلا يتفاوت الحال بين ما إذا كان المراد في ضمن غير المراد، أو لم يكن بعد إن كانت الخصوصيّة ملحوظة كما هو المفروض.

ومن هنا تبيّن ضعف الوجه المذكور ولو مع الإغماض عن خصوص المثال بأن يقال: إنّ المقصود ليس خصوص المثال المذكور كما لا يخفى على المتأمّل.

في أولويّة التخصيص من المجاز

فالأولى أن يستدلّ لرجحان التخصيص على المجاز بأنّ التخصيص أكثر، فالحمل عليه أجدر؛ وكفاك في أكثريّته ما شاع وذاع حتّى خرق الأسماع ملأ

ص: 440

الأصقاع من أنّه: «ما من عامّ إلّا وقد خصّ»(1).

ولم يدّع أحدٌ - بل ولا يكاد يدّعيه - أنّه ما من لفظٍ إلّا وقد استعمل في المعنى المجازيّ، وما ادّعاه بعضهم من أنّ غالب اللغات مجازات(2)، فقد مرّ تحقيق الحال في الاحتمالات المتصوّرة في هذا المقال في أوائل الباب.

مضافًا إلى أنّه على فرض إمكان حمله على ما يتوهّم منه في هذا المقام يمكن أن يقال: إنّ أكثريّة المجاز؛ لكون التخصيص نوعًا من أنواعه، فلا منافاة، فتأمّل.

وأمّا الحمل على الأكثر(3) فلأنّه إذا دار الأمر بين إلحاق المشتبه بالأكثر أو الأقلّ، فإلحاقه بالأوّل أولى؛ لكون المظنون أنّه منه، وهذا معنى قولهم: «إنّ الظنّ يلحق الشيء بالأغلب»(4)، وأمّا(5) التعويل على الظنّ في أمثال المقام، فإنّ الظاهر أنّه محلّ وفاق بين الأعلام(6)، فلا التفات إلى ما ذكره بعض الأفاضل(7)، فإنّه بمعزل عمّا يظهر من سيرة الأماجد.

ص: 441


1- ينظر معالم الأصول: 103، والفوائد الحائريّة: 159، ومفاتيح الأصول: 88.
2- نقله الزركشيّ عن ابن جنّي في البحر المحيط: 1/ 537، والرازيّ في المحصول: 1/ 143، ينظر النهاية: 1/ 281 وقوانين الأصول: 1/ 80، ومفاتيح الأصول: 31.
3- في «ق»: الأكثريّة.
4- ينظر البحر المحيط: 4/ 187، وقوانين الأصول: 1/ 62، ومفاتيح الأصول: 69 و219، وأنيس المجتهدين: 2/ 835.
5- في «ق»: وإنّما.
6- ينظر قوانين الأصول: 1/ 91 -92.
7- ربّما يظهر من صاحب المعالم المخالفة والتوقّف في الترجيح، كما حكاه عنه في مفاتيح الأصول: 88.

مضافًا إلى أنّه لو لم يعوّل على الظنّ إمّا أن يُقضى بإلحاقه بالموهوم، فيلزم ترجيح المرجوح على الراجح؛ أو يتوقّف بين الأمرين، فيلزم الحكم بالتسوية بين الراجح والمرجوح في البين، وهو غير ملائم لمسلك الإنصاف، كما لا يخفى على من وفّق للاهتداء إلى سداد(1).

على أنّا نقول: إنّه بناءً على المسلك الّذي لا محيص عنه من الاكتفاء في دلالة الألفاظ بالظنون، لو سمعنا لفظًا من أيّ كلام يكون وظننّا بأيّ طريق كان أنّ مراد المتكلّم ذلك، يجوز الحمل والبناء عليه، كما إذا استعمل لفظٌ وأُقيمت القرينة على عدم إرادة ظاهره، وتعدّد مجازه، لكن أحد المجازين يكون أشهر من الآخر، يتعيّن الحمل عليه من غير نكير؛ وذلك إنّما هو للشهرة وكثرة استعماله فيه، فيظنّ أنّه المراد، فيُكتفى به، ونحن لا نجد فرقًا بين هذه المسألة والّتي كلامنا فيها أصلًا، والمناط فيهما واحد من غير تفاوت كما يظهر للمتأمّل.

مضافًا إلى أنّ الاكتفاء بالظنّ في أمثال المقام يظهر من فحوى بعض النصوص الواردة في الأحكام الشرعيّة، كالموثّقة المرويّة في زيادات التهذيب عن إسحاق بن عمّار، عن العبد الصالح (علیه السلام) أنّه قال: «لابأس بالصلاة في الفرو(2) اليمانيّ وفيما صنع في أرض الإسلام. قلت له: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين(3) فلا بأس»(4).

ص: 442


1- كذا في الأصل، والصواب: السداد كما في «ج».
2- في التهذيب: القزّ؛ وفي الوسائل: الفراء.
3- في التهذيب: المسلمون.
4- تهذيب الأحكام: 2/ 368، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز، ح64، ووسائل الشيعة: 3/491، باب طهارة ما يشترى من مسلم ومن سوق المسلمين، ح5، و 4/ 456، باب جواز الصلاة فيما يشترى من سوق المسلمين من الثياب والجلود ما لم يعلم أنّه ميتة أو نجس، ح3.

والمقصود الأهمّ في القواعد الأصوليّة والقوانين اللفظيّة إنّما هو التوصّل إلى الأحكام الشرعيّة، فتلك فروع وهذه أصول، والاكتفاء بالغلبة(1) والشيوع في الأصل يقتضي الاكتفاء به في الفرع بطريق أولى.

وبعبارة أخرى: الاكتفاء بالظنّ في الفرع الّذي هو الأصل يستدعي الاكتفاء به في الأصل الّذي هو الفرع بالفحوى.

لا يقال: إنّ دلالة الحديث على ما ذكر إنّما هو إذا كان المراد بالغالب الأكثر، وهو ممنوع؛ لجواز أن يكون المراد به السلطان، أي: إذا كان السلطان الغالب، إلى آخره.

لأنّا نقول: إنّ هذا الاحتمال وإن استظهره الفاضل السميّ المجلسيّ(2) - عطّر الله تعالى مرقده - في هذا الحديث وبناه(3) عليه، لكنّه ليس كذلك ولا من الاحتمال الّذي يضرّ بالاستدلال؛ لكونه خلاف الظاهر؛ لأنّ الظاهر من سياقه أنّه (علیه السلام) لمّا نفى البأس عن الصلاة في اللباس المصنوع في بلاد الإسلام، اشتبه الأمر على الراوي في أنّ مقصوده (علیه السلام) من أرض الإسلام ما إذا كان أهلها أجمع من المسلمين، أو يعمّه وغيره، فقال: «إن كان فيها غير أهل الإسلام؟»، أي: إن لم يكن أهلها منحصرًا في الإسلام ما حكمها.

ص: 443


1- في «ق»: بالأغلبيّة.
2- استظهره في ملاذ الأخيار: 4/ 600.
3- في «ق»: بناؤه.

وظاهرٌ أنّ مقصوده إذا كان فيها غير أهل الإسلام، لا أن يكون السلطان غير المسلم، فبعد مراعاة مطابقة الجواب للسؤال يكون المقصود من الجواب ما ذكرنا، لا السلطان كما لا يخفى.

إن قلت: لو كان الأمر على ما ذكرت، ينبغي العدول من «عليها» في كلامه (علیه السلام) إلى «فيها»، فيكون المراد: إذا كان الغالب والأكثر فيها المسلمين(1) فلا بأس، فذِكر «على» دالٌّ على أنّ المراد بالغالب السلطان، فالمعنى: إذا كان المسلّط عليهم، إلى آخره.

قلنا: يعارضه ذكر «في» في السؤال، لا «على».

وبالجملة: إنّ الاحتمال المذكور مرجوح من وجوه: ذكر «عليها» لا «عليهم»؛ إذ السلطان إنّما هو على أهل الأرض لا عليها، فتأمّل، وإتيان «المسلمين» بصيغة الجمع لا المفرد، فلو كان المراد ما ذكر ينبغي أن يقال: إذا كان الغالب عليهم مسلمًا، كما لا يخفى، والقول بالحذف على تقديره في السؤال بأن يقال: إنّ التقدير فيه: إن كان السلطان فيها غير أهل الإسلام، وهو مدفوع بالأصل؛ والظاهر منه أن ليس المقصود منه إلّا السؤال عن أصل كون غير أهل الاسلام فيها كما لا يخفى، فتأمّل.

مضافًا إلى أنّا نقول: على فرض تسليمه أيضًا يثبت المرام، فإنّ نفي البأس عن الصلاة مع كون غير أهل الإسلام في البلد فيما إذا كان السلطان مسلمًا، إنّما هو من جهة أنّ المظنون كون العمل في الجلود وغيرها على ما يقتضيه مذهب السلطان، كما يؤمي إليه: «الناس على دين ملوكهم»(2)، فيظهر منه جواز العمل

ص: 444


1- في «ق وج»: للمسلمين.
2- ذكره الملّا عليّ القاري وقال: قال السخاويّ: لا أعرفه حديثًا «الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة: 367»، وقال الإربليّ: «والناس على دين ملوكهم كما ورد في الحديث والمَثَل» (كشف الغمّة: 2/230)، وفي معناه ما رواه في عن أمير المؤمنين (علیه السلام): «الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم» (تحف العقول: 208).

بالظنّ(1) والتعويل عليه، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ هنا احتمالًا آخر، وهو أن يكون الضمير المجرور في قوله (علیه السلام): «إذا كان الغالب عليها المسلمين»، عائدًا إلى غير أهل الإسلام، والعدول من «عليهم» إلى «عليها» للتنبيه على أنّ غير أهل الإسلام ليس ممّا ينبغي أن يعاد ضمير ذوي العقول إليهم؛ والمعنى: إذا كان الغالب والمسلّط المسلمين على غيرهم وهم مغلوبون(2)، فلا بأس في الصلاة حينئذٍ في اللباس المعمول في ذلك البلد.

وعلى هذا أيضًا يثبت المرام، إذ المسلمون لو كانوا غالبين على غيرهم ومسلّطين عليهم، يكون المظنون حينئذٍ أنّ الثياب المعمولة والجلود المصنوعة إنّما هي على مقتضى مذهبهم، فيستفاد منه حجّيّة الظنّ في الحكم الشرعيّ؛ وبالتقريب المتقدّم يُعدّى(3) الحكم إلى الحكم الأصوليّ، فلا تغفل.

ومن هنا تبيّن أنّ الاكتفاء في جواز الاستعمال بمجرّد كون السلطان مسلمًا، ليس على ما ينبغي، بل غير صحيح، إذ قد يكون السلطان مسلمًا، لكن يُخفي مذهبه اتّقاءً منهم، فلا يحصل الظنّ بكون الجلود معمولة على مقتضى مذهبه، كما لا يخفى.

وهكذا الحال فيما إذا كان أكثر أهل البلد مسلمين، فإنّهم قد يتّفق أن يكونوا

ص: 445


1- في «ق»: على الظنّ.
2- في «ق»: يغلبون.
3- في «ق»: تعدّي.

مغلوبين، فحينئذٍ أيضًا لا يحصل الظنّ مطلقًا بكون العمل في الجلود على مقتضى الإسلام، فالظاهر هو المعنى الثالث، وهو قد يجتمع مع أكثريّة أهل الإسلام وقد يفترق عنه، كما لا يخفى على المتأمّل.

ثمّ إنّ البحث عن احتمالات الحديث وإن كان في الكتب الفروع أنسب، لكن لمّا جرّتنا الحاجة إلى ذكره في المقام أرخينا المقال في تحقيقه ومعناه.

في بقيّة أقسام المعارضة

ثمّ إنّه بقي من أقسام المعارضة ثلاثة: معارضة التخصيص مع الإضمار، ومعارضته مع النقل، ومعارضة الإضمار والنقل، لكن لمّا يمكن استفادة الحال فيها ممّا ذكر من الأقسام، فلا افتقار فيها إلى نقل الكلام، فعليك(1) بالتأمّل في المباحث السالفة لينكشف لك حال الأقسام المذكورة، ولله الحمد والشكر والمنّة.

ص: 446


1- في «ق»: فيكون.

فهرس المحتويات

مقدّمة المركز5

مقدّمة التحقيق9

لمحةٌ من حياة المؤلّف9

اسمه ونسبه9

ولادته ونشأته10

إطراء العلماء له14

زهده وعبادته15

إقامته الحدود الشرعيّة16

مشايخ روايته16

تلامذته17

أولاده18

تآليفه القيّمة20

«الكتب والرسائل الفقهيّة»20

«الكتب والرسائل الحديثيّة»28

«الكتب والرسائل الأصوليّة»29

«الكتب الرجاليّة»29

«الكتب والرسائل المتفرّقة»30

وفاته ومرقده31

ص: 447

بين يدي الكتاب33

فهرست ما في الكتاب34

تأريخ تصنيف الكتاب35

عملنا في التحقيق36

النسخ المعتمدة36

منهجنا في التحقيق:37

كلمة شكر وثناء37

المقدّمة51

في بيان ماهيّتهما51

في بيان ماهيّة الحقيقة51

عقد وحلّ52

في بيان ماهيّة المجاز54

في تحقيق معنى الحقيقة والمجاز بحسب الاصطلاح57

قيد «اصطلاح التخاطب» لا يكفي لدفع الانتقاض58

في اللفظ المشترك58

في النقل التعيّنيّ59

في النقل التعيينيّ59

قيد «الحيثيّة» لا يدفع الانتقاض61

حدّ آخر للحقيقة والمجاز64

أخذ «اللفظ» في حدّ الحقيقة والمجاز أولى من أخذ «الكلمة»70

في بيان تحقّق الوضع في المركّبات70

ص: 448

في أنّ «الوضع» المأخوذ في حدّي الحقيقة والمجاز هل هو شخصيّ أو نوعيّ أو أعمّ منهما؟73

كشفُ إجمال لتوضيح مقال76

تحقيق في الوضع النوعيّ77

المقام الأوّل77

المقام الثاني77

معنى آخر للوضع النوعيّ79

الفرق بين هذين القسمين للوضع النوعيّ80

الوضع المأخوذ في الحدّين أعمّ من الشخصيّ والنوعيّ82

شبهة في أنّ الألفاظ المشتركة عند استعمالها في معانيها يلزم أن يكون مجازًا لا حقيقة، مع الجواب عنها83

إشكالات وتفصّيات83

الإشكال الأوّل83

الجواب عن الإشكال الأوّل84

توضيح وتكميل86

في الفرق بين القرينة الّتي في المشترك والّتي في المجاز87

اعتبار الإرادة في معنى الدلالة لا وجه له87

الدلالة لم تكن مشروطة بالإرادة89

الإشكال الثاني90

الجواب عن الإشكال الثاني91

الإشكال الثالث92

ص: 449

الجواب عن الإشكال الثالث93

الوجه الأوّل93

الوجه الثاني93

الإشكال الرابع94

الجواب عن الإشكال الرابع95

تعريف الاسم والحرف عند النحاة96

القسم الأوّل96

القسم الثاني97

القسم الثالث98

القسم الرابع98

القسم الخامس99

القسم السادس99

القسم السابع99

القسم الثامن99

الجواب عن الإشكال الرابع100

الجواب الأوّل100

الجواب الثاني عن الإشكال الرابع108

الجواب الثالث عن الإشكال الرابع110

الجواب الرابع عن الإشكال الرابع117

في أنّ الفعل لا يلزم أن يكون حقيقة ولا مجازًا مع الجواب عنه119

الإشكال الخامس119

ص: 450

الجواب عن الإشكال الخامس120

الجواب الأوّل120

الجواب الثاني120

الجواب الثالث121

الجواب الرابع122

لِمَ عدم وقوع الفعل مسندًا إليه ووقوع الاسم مسندًا ومسندًا إليه123

في الفرق بين اسم الفاعل والفعل123

الباب الأوّل

في تحقيق العلاقة/ 127

المبحث الأوّل: في وجه اعتبار العلاقة في المجازات128

وجه اشتراط العلاقة في المعاني المجازيّة128

والتحقيق أنّ الدالّ في المجازات اللفظ بشرط القرينة لا مجموعهما131

رأي المؤلّف (قدس سره) 132

المبحث الثاني: في تحقيق العلاقة وبيان أنواعها138

الأوّل والثاني: الجزئيّة والكلّية138

يشترط في إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكلّ أمران140

الأمر الأوّل140

سرّ الاشتراط المذكور141

الأمر الثاني142

الكلام في اندراج هاتين العلاقتين تحت الحدّ المذكور للعلاقة143

ص: 451

الثالث من أنواع العلاقة: المشابهة في الشكل والصفة143

الكلام في اندراج هذه العلاقة تحت حدّها المتقدّم146

النوع الرابع من العلاقة: كون المستعمل فيه على صفة148

الإشكال في أنّ حكمهم بمجازيّة اللفظ باعتبار ما كان، ينافي حكمهم: أنّ إطلاق المشتقّ على الذات لا يتوقّف على بقاء المبدأ، مع الجواب عنه151

الجواب عن الإشكال151

الجواب الأوّل151

الجواب الثاني152

النوع الخامس من العلاقة: إطلاق اللفظ على ما يؤول إلى ما وضع ذلك اللفظ له153

وهمٌ وإزاحةٌ154

النوع السادس من العلاقة: المجاورة155

عقدٌ وحلٌّ155

في تحقيق المجاورة وبيان أقسامها155

الكلام في اندراج هذه العلاقة تحت حدّها المتقدّم158

النوع السابع والثامن من العلاقة: الحالّيّة والمحلّيّة158

تحقيق المقام يستدعي بيان أمور159

الأمر الأوّل: في معنى الحلول وتقسيمه إلى القسمين160

الحلول على قسمين163

تعريف آخر للحلول164

الأمر الثاني: في أنّ المصحّح للتجوّز هو القسم الأوّل منهما فقط165

ص: 452

الأمر الثالث: في الفرق بين الحالّ والمحلّ والكلّيّة والجزئيّة والظرف والمظروف والمجاورة165

الفرق بين الحالّ والمحلّ وبين الظرف والمظروف166

الفرق بين الحالّ والمحلّ وبين المتجاورين167

الفرق بين الظرف والمظروف وبين المتجاورين167

التنبيه على عدم صحّة التمثيل بالآيات المذكورة لما نحن فيه168

رفع إبهام لتتميم مرام171

الاشتراك في المحلّ لا يكون مصحّحًا للتجوّز172

تنبيه تفريعيّ172

تحقيق المقام يستدعي بيان أمور173

الأمر الأوّل: في كون المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في محلّ واحد173

الأمر الثاني: في كون المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في محلّين177

الأمر الثالث: في كون المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في حيّزين متقاربين177

النوع التاسع والعاشر من العلاقة: العلّيّة والمعلوليّة178

في تعريف العلّة التامّة والناقصة178

في أقسام العلّة الناقصة179

التنبيه على أمور184

الأمر الأوّل184

الأمر الثاني: ذكر اختلاف الأعلام في التعبير عن هذه العلاقة185

الأمر الثالث: في أنّ جواز التجوّز في المقام عامّ في جميع الأقسام186

المبحث الثالث: في أنّه هل يكتفي في التجوّز بوجدان العلاقة أو يشترط مع ذلك

ص: 453

نقل الآحاد عن أهل اللغة190

الدليل الأوّل للقول بعدم الاشتراط190

الدليل الثاني للقول بعدم الاشتراط191

الدليل الثالث للقول بعدم الاشتراط193

الدليل الرابع للقول بعدم الاشتراط195

دليل القائلين بالاشتراط مع الجواب عنه196

الدليل الأوّل للقول بالاشتراط196

دفع إيراد لتسديد مقام199

الجواب عن الإيراد199

الردّ على الجواب من دليل القائلين باشتراط نقل الآحاد201

الدليل الثاني للقول بالاشتراط203

الدليل الثالث للقول بالاشتراط204

الباب الثاني

في الأمارات الّتي بها يحصل الامتياز بين الحقيقة والمجاز/ 209

الفصل الأوّل211

فيما يتوصّل إلى الحقيقة والمجاز من كلمات أهل اللغة211

الفصل الثاني213

في صحّة السلب وعدمها213

المقامات الّتي يتشبّث فيها بصحّة السلب والعدم215

وهمٌ وإزاحة216

ص: 454

توضيح مراد الفاضل العضديّ216

قيد «نفس الأمر» في صحّة السلب غير مفتقر إليه217

الاعتراضات الواردة على جعل «صحّة السلب وعدمها» علامة218

الاعتراض الأوّل218

الاعتراض الثاني218

الجواب عن الاعتراض الأوّل221

الجواب عن الاعتراض الثاني223

الجواب الأوّل223

الجواب الثاني عن الاعتراض الثاني228

الجواب الثالث عن الاعتراض الثاني229

الاعتراض الثالث229

الجواب عن الاعتراض الثالث230

الفصل الثالث233

في التبادر وعدمه أو عدم تبادر الغير وتبادره233

إيرادات وتفصّيات234

الإيراد الأوّل على التبادر مع الجواب عنه234

نقل الجواب الظاهر من بعض المحقّقين مع تزييفه وإبطاله237

تقرير الإيراد على النحو الصحيح239

الإيراد الثاني على التبادر مع الجواب عنه242

الجواب عن الإيراد الثاني243

الجواب الأوّل243

ص: 455

الجواب الثاني244

الإيراد الثالث على التبادر مع الجواب عنه246

الجواب عن الإيراد الثالث248

المواضع الّتي يتمسّك فيها بالتبادر لإثبات الحقيقة وما لايتمسّك به فيه248

الوجه الأوّل248

الوجه الثاني249

الوجه الثالث250

الوجه الرابع251

الوجه الخامس252

التبادر المظنونيّ هل يمكن الاستدلال به على الحقيقة أم لا؟253

الإيراد الرابع على التبادر مع الجواب عنه255

الجواب عن الإيراد الرابع255

الجواب الأوّل255

الجواب الثاني257

الفصل الرابع259

في الاطّراد وعدمه259

في دلالة الاطّراد على الحقيقة260

جعل الاطّراد دليلًا للحقيقة فاسد261

الوجه الأوّل261

الوجه الثاني263

الوجه الثالث264

ص: 456

في دلالة عدم الاطّراد على المجاز266

الإيراد الأوّل267

الجواب عن الإيراد الأوّل268

الإيراد الثاني270

الجواب عن الإيراد الثاني271

في بيان عدم الاطّراد في: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾275

الفصل الخامس279

في بيان الأمور الّتي زادها بعضهم في هذا المقام وجعلها علامة للمجاز279

الأمر الأوّل: جمعُ اللفظ على صيغة مخالفة لجمع حقيقته دليلُ المجاز279

التمسّك بالتخالف بين صيغتي الجمع وجعله علامة للمجاز لا وجه له282

الأمر الثاني: التزامُ تقييد اللفظ بالنسبة إلى المعنى دليلٌ على مجازيّته فيه286

تطويل قال لإفضاح مقال286

الاحتمالات المتصوّرة في «نار الحرب»288

الأمر الثالث: توقّف إطلاق اللفظ على معنى على تعلّقه بالآخر دليل المجاز291

إعادة كلام لتحقيق مقام293

تذنيب: عدم افتقار فهم المعنى من اللفظ علامةُ الحقيقة وعكسه المجاز.295

الإيراد على هذه العلامة296

الإيراد الأوّل مع الجواب عنه296

في الفرق بين القرينة الّتي في الحقيقة المرجوحة وبينها في المجازات297

الحقيقة قد تصير مجازًا وبالعكس299

الإيراد الثاني مع الجواب عنه299

ص: 457

في أنّ ما اشتهر من عدم ثبوت اللغات بالاستدلال لا ينافي إثباتها بالتبادر ونحوه300

الباب الثالث

في تحقّق الواسطة في الألفاظ/ 305

الفصل الأوّل305

في تحقّق الواسطة بينهما وجواز انفكاك كلّ منهما عن الآخر305

المبحث الأوّل: في تحقّق الواسطة بين المجاز والحقيقة305

الموضع الأوّل305

الموضع الثاني306

الموضع الثالث306

المبحث الثاني: في جواز انفكاك الحقيقة من المجاز308

الاحتمالات في معنى أنّ المجاز أكثر من الحقيقة310

المعنى الأوّل310

المعنى الثاني310

المعنى الثالث313

المعنى الرابع314

المعنى الخامس316

المقام الأوّل316

المقام الثاني317

المقام الثالث317

ص: 458

المقام الرابع318

المبحث الثالث: في عدم استلزام المجاز للحقيقة321

دليل القائلين بالاستلزام321

دليل القائلين على أنّ وضع الألفاظ المفردة ليس لإفادة المعاني المفردة مع الجواب عنه322

الجواب عنه323

الوجه الأوّل323

وضع الألفاظ المفردة لأجل إفادة المعاني المركّبة يحتمل معنيين324

وضع الألفاظ المفردة ليس لإفادة المعاني المفردة326

الوجه الثاني327

الوجه الثالث327

الوجه الرابع327

ذكر اختلاف القائلين بعدم الاستلزام ومستندهم329

انفكاك الحقيقة عن المجاز في الألفاظ المفردة336

الفصل الثاني341

في تعارض الأحوال وغيره ممّا يتعلّق بذلك المقال341

المبحث الأوّل: في معارضة الاشتراك والمجاز345

الصور المتصوّرة في كلّ لفظ إذا وقع في كلام348

في لزوم حمل الألفاظ على المعاني الحقيقيّة عند انتفاء القرينة349

الصورة الأولى349

الصورة الثانية356

ص: 459

المقام الأوّل: أن يكون المستعمل فيه المعلوم واحدًا356

الوجه الأوّل356

الاستدلال على كون المجاز مخالفًا للأصل360

والمقام الثاني: أن يكون المستعمل فيه المعلوم متعدّدًا364

القسم الأوّل364

الصورة الأولى364

الصورة الثانية369

الصورة الثالثة371

القسم الثاني372

أدلّة القائلين بأنّ الاشتراك خير من المجاز373

الدليل الأوّل373

المعنى الأوّل للدليل الأوّل374

المعنى الثاني للدليل الأوّل376

الدليل الثاني للقول بالاشتراك380

الجواب النقضي عن الدليل الثاني380

الجواب الحَلّي عن الدليل الثاني382

الدليل الثالث للقول بالاشتراك383

الجواب عن الدليل الثالث384

تحقيق المقام في الجواب عن الدليل الثالث386

المواضع الّتي يتمسّك فيها بأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة389

الدليل الرابع للقول بالاشتراك390

ص: 460

الدليل الخامس للقول بالاشتراك391

فيما يدلّ على رجحان المجاز عند معارضته مع الاشتراك:393

الدليل الأوّل393

الدليل الثاني395

إيراد كلام لدفع تضادّ398

الدليل الثالث399

فوائد المجاز399

الفائدة الأولى399

تحرير قال لإفضاح مقال401

إعادة كلام لتحقيق مقام403

الحقّ في المسألة404

دفع إيراد لتسديد كلام407

الفائدة الثانية للمجاز408

الأمر العائد إلى جوهر اللفظ على أقسام409

الكلام في الأمر العائد إلى المعنى411

عدم صحّة دعوى انحصار الزيادة في البيان في المجازات412

الكلام في الأمر العائد إلى اللفظ بواسطة الخارج عنه412

مفاسد الاشتراك416

المفسدة الأولى: افتقاره إلى القرينتين416

المفسدة الثانية للاشتراك: حصول الاختلال بالفهم420

المفسدة الثالثة للاشتراك: إفضاؤه إلى مستبعد من ضدّ أو نقيض421

ص: 461

والبحث الثاني: في تعارض الاشتراك مع الثلاثة الباقية من النقل والإضمار والتخصيص423

المبحث الأوّل: معارضة الاشتراك والنقل423

المطلب الأوّل: في تصوير المسألة والإيماء إلى ما يترتّب عليها من الثمرة423

والمطلب الثاني: في أنّ أيًّا من الاحتمالين يترجّح بالاختيار في البين425

قول الحقّ في المسألة427

والمبحث الثاني: في معارضة الاشتراك والإضمار428

والمبحث الثالث: في معارضة الاشتراك والتخصيص431

والبحث الثالث: في بقيّة أقسام المعارضة434

القسم الأوّل: معارضة المجاز والنقل434

والقسم الثاني: معارضة المجاز والإضمار437

والقسم الثالث: معارضة المجاز والتخصيص438

في أولويّة التخصيص من المجاز440

في بقيّة أقسام المعارضة446

فهرس المحتويات447

ص: 462

المجلد 2

هویة الکتاب

الزُهَرَةُ البَارِقَة

لِمَعرِفَةِ أَحوَالِ المَجَازِ وَالحَقِيقَة

تَألِيْفُ

الْعَلَّاْمَةِ المُحَقّقِ الْفَقِيْهِ الْأُصُوْلِيّ

الحَاْجّ السَّيِّد مُحَمَّد بَاْقِر المُوْسَوِيّ الشَّفْتِيّ قُدِّسَ سِرُّه

المَعْرُوْف بِحُجَّةِ الْإِسْلَاْمِ عَلَى الْإِطْلَاْق

(1180 - 1260 ق)

تَحْقِيْقُ

السَّيِّد مُحَمَّد الرِّضَا الشَّفْتِيّ

ص: 1

اشارة

ص: 2

الباب الرابع

ص: 3

ص: 4

الباب الرابع: في تقسيم الحقيقة والمجاز إلى الأقسام المعروفة وما يتعلّق بها من الأمور المهمّة

اشارة

اعلم: أنّ الوضع ينقسم باعتبارات مختلفة إلى أقسام متعدّدة؛ لأنّه بالنسبة إلى الموضوع ينقسم إلى: الشخصيّ والنوعيّ، وقد تقدّم تحقيقهما في المقدّمة.

وباعتبار الوضع والموضوع له ينقسم بحسب الاحتمالات العقليّة إلى أقسام أربعة؛ لأنّ الوضع -أي المعنى المتصوّر حال الوضع(1)- والموضوع له كليهما إمّا خاصّ أو عامّ، أو الثاني الأوّل والأوّل الثاني، أو بالعكس، ويجيء تحقيقها في الخاتمة بإعانة الله سبحانه(2).

لا يقال: إنّ المعنى المتصوّر والموضوع له متّحد، فلا معنى لهذه القسمة، وأيضًا لمّا كان المعنى المتصوّر والموضوع له متّحدًا، فلا محالة إن كان المعنى خاصًّا كان الموضوع له كذلك، وإن كان عامًّا فكذلك، فلا يتصوّر الاختلاف.

لأنّا نقول: الاتّحاد ممنوع؛ لأنّ المعنى المتصوّر إنّما يطلق عليه لفظ الموضوع له إذا عيّن له اللفظ، وأمّا عند تصوّره مع عدم التعيين فإنّما يسمّى بالوضع، لا

ص: 5


1- جاء في حاشية الأصل: ولفظ «الوضع» في المقامين مختلف بحسب المعنى، إذ في الأوّل عبارة عن المعنى المتصوّر، وفي الثاني عبارة عن تعيين اللفظ للدلالة على المعنى، ولفظ «الوضع» في الاصطلاح يطلق عليهما وإن كان في الثاني أشهر. منه.
2- مع الأسف أنّه (قدس سره) لم يوفّق لإتمام الكتاب.

الموضوع له، وهما قد يتّحدان بالذات، كما إذا كان الوضع عامًّا والموضوع له كذلك، أو كلاهما خاصًّا، لكنّهما مختلفان بالاعتبار على ما عرفت من أنّه باعتبار تعقّله حال الوضع يسمّى بالوضع، ومن حيث إنّه عيّن له اللفظ يسمّى بالموضوع له، وقد يفترقان ذاتًا أيضًا كما في غيرهما، وهو ظاهر.

وباعتبار الواضع ينقسم إلى: وضع شرعيّ، وعرفيّ خاصّ أو عامّ، ولغويّ(1)؛ لأنّ تعيين اللفظ بإزاء المعنى إمّا مستند إلى الشارع، أو العرف، أو أهل اللغة، ويسمّى التعيين في الأوّل بالوضع الشرعيّ، والثاني بالعرفيّ، والثالث باللغويّ، واللفظ بالحقيقة الشرعيّة والعرفيّة واللغويّة على التفصيل المذكور.

والكلام في هذا المقام في بيان هذه الأقسام وما يترتّب عليها من الأحوال والأحكام، فنقول: تحقيق الحال فيها يستدعي التكلّم في فصول:

ص: 6


1- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): اعلم: أنّ تقسيم الحقائق إلى هذه الأقسام بناءً على اصطلاحيّة اللغات ظاهرٌ، وأمّا على توقيفيّة اللغات فلا يخلو من الإشكال؛ إذ الحقيقة الشرعيّة حينئذٍ تكون قسمًا من الحقيقة اللغويّة، فكيف يجعل قسيمًا لها؟! ويمكن الجواب عنه من وجوه، أحدها: أنّ الإشكال إنّما يتوجّه إذا قلنا بأنّ الوضع في الحقيقة الشرعيّة مستندٌ إليه تعالى، وأمّا إذا قلنا بأنّ الوضع فيها مستندٌ إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) فلا كما لا يخفى، وعلى تقدير أن يكون الوضع فيها مستندًا إليه تعالى، يمكن رفع الإشكال أيضًا بأنّ الحقائق الشرعيّة منقولات، بخلاف الحقيقة اللغويّة، فإنّها مستعملة في معانيها الابتدائيّة، فافترقتا، فيصحّ جعل أحدهما مقابلًا للآخر. والثاني: أنّ التقسيم إلى الأقسام المذكورة يمكن أن يكون على القول باصطلاحيّة اللغات، لكنّه غير صحيح؛ لإطباقهم على هذا التقسيم، والظاهر منه كون التقسيم المذكور مرضيًّا عند كلّ أحد كما لا يخفى.

الفصل الأوّل: في الحقيقة الشرعيّة

اشارة

وتحقيق الكلام فيها يقتضي التكلّم في بيان الشارع وماهيّتها وثبوتها والثمرة المترتّبة عليها، فهنا مباحث:

في تعيين الشارع

المبحث الأوّل: في تعيين الشارع
اشارة

[المبحث] الأوّل: في تعيين الشارع(1)

اعلم: أنّ المستفاد من جملة من الآيات القرآنيّة أنّه هو الله سبحانه، منها: قوله تعالى في سورة الجاثية مخاطبًا إلى سيّد رسله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾(2)، وجه الدلالة ظاهر؛ إذ الشارع هو جاعل الشرع وقد دلّت الآية الشريفة أنّه هو الله تعالى، وهو المطلوب.

ومنها: قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾(3).

الشرعة والشريعة بمعنى(4)، والشريعة على ما قال بعضهم:

ص: 7


1- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 15- 16، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 169.
2- سورة الجاثية: 18.
3- سورة المائدة: 48.
4- جاء في حاشية «ق»: أي بمعنى واحد. وعليه علامة «م».

الطريقة إلى الماء، استعيرت للطريقة المتحقّقة في الدين؛ لكونها موجبة للحياة الأبديّة(1).

قال ابن أثير في تفسير الآية الشريفة حاكيًا عن ابن عرفة:

الشرعة والشريعة سواء، وهو الظاهر المستقيم من المذاهب(2).

ومثله قال في القاموس(3).

وجه الدلالة على المدّعى ظاهر.

ومنها: قوله تعالى في سورة الشورى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾(4)، وجه الدلالة: هو أنّ الضمير في «شرع» عائد إلى الله سبحانه، فيكون الشارع هو الله تعالى.

وأيضًا أنّ «شرع» على ما في القاموس وغيره(5) بمعنى سَنَّ(6)، والظاهر المتبادر من قولك: «سَنَّ فلان الأمر» وضعه وقرّره، فيكون الشارع بمعنى واضع الشرع

ص: 8


1- ينظر تفسير أبي مسعود: 3/ 45، وتفسير الآلوسيّ: 6/ 153.
2- ينظر تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 161، نقله النوويّ عن الهرويّ عن ابن عرفة، والزبيديّ في تاج العروس: 11/ 237، عن ابن عرفة، ومجمع البيان: 4/ 380، والقاموس المحيط: 3/ 44.
3- القاموس المحيط: 3/ 44.
4- سورة الشورى: 13.
5- القاموس المحيط: 3/ 44، ومجمع البحرين: 2/ 500.
6- جاء في حاشية الأصل: قال الجوهريّ في الصحاح [3/ 1236]: الشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، وقد شرع لهم يشرع شرعًا، أي سَنَّ. منه.

والسنّة والطريقة ومقرّرها؛ ومعلوم أنّه الله سبحانه.

وهذه جملة من الآيات القرآنيّة يستفاد منها أنّ الشارع هو الله سبحانه، وهو المتبادر من لفظ «الشارع» أيضًا، إذ المفهوم منه جاعل الشرع، وهو الله تعالى.

لكن قال في مجمع البحرين: «إنّ الشارع هو النبيّ » (صلی الله علیه و آله) (1).

وهو الّذي يظهر من جماعة من الأعلام(2)، قال في كشف اللثام بعد أن حكم بأنّ قطع همزة «الله» في تكبيرة الإحرام أحوط:

لأنّه المعهود من الشارع ونوّابه(3).

بل نسبه بعض أماجد عصره وأواحد زمانه(4) إلى الأصوليّين، حيث قال: والظاهر من كلام القوم وغيرهم أنّ الشارع هو النبيّ (صلی الله علیه و آله) (5).

فحينئذٍ يكون الشارع بمعنى صاحب الشريعة، أي لم يكن تابعًا لشريعة غيره، ويكون اللفظ من المنقولات العرفيّة.

ص: 9


1- مجمع البحرين: 2/ 500.
2- جاء في حاشية الأصل: وهو الّذي يظهر من المحقّق التفتازانيّ في مطوّله [: ص 8] إذ قال في شرح «والصلاة على سيّدنا محمّد خير من نطق بالصواب» ما هذا كلامه: دعاء للشارع المقنّن للقوانين. منه.
3- كشف اللثام: 3/ 418.
4- هو العلّامة المحقّق السيّد محمّد مهدي الطباطبائيّ النجفيّ المعروف ببحر العلوم (قدس سره) .
5- شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 15 و17، ونقله عنه السيّد القزوينيّ في تعليقته على معالم الأصول: 2/ 252.
في ثبوت التفويض في الأحكام إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله)

ويمكن أن يكون إطلاقه عليه (صلی الله علیه و آله) بالمعنى الأوّل أيضًا، بأن يكون الشارع بمعنى جاعل الشرع مشتركًا بينه تبارك وتعالى وبين نبيّه (صلی الله علیه و آله)؛ بناءً على ما يستفاد من النصوص المستفيضة من ثبوت التفويض إليه في جملة من الأحكام الشرعيّة، كالنصوص الدالّة على أنّه (صلی الله علیه و آله) زاد في عداد الصلاة اليوميّة، وجعل النافلة في الصلاة والصوم ضعف الفريضة، ونصب للجدّ السدس في الإرث، وحرّم المسكر عدا الخمر، وأثبت الدية للعين والنفس(1).

منها: الصحيح المرويّ في الكافي والفقيه، في باب «فرض الصلاة»، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) أنّه قال في عداد ركعات الصلاة: «كان الّذي فرض الله (عزوجلّ) (2) على العباد عشر ركعات وفيهنّ القراءة وليس فيهنّ وَهْم -يعني(3) سهوًا- فزاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) سبعًا وفيهنّ السهو(4) وليس فيهنّ قراءة»(5)، الحديث(6).

ومنها: الصحيح المرويّ في الباب المذكور من الكافي، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «عشر ركعات، ركعتان من الظهر وركعتان من العصر وركعتا الصبح وركعتا المغرب

ص: 10


1- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 15- 19.
2- «عزّ وجلّ» لم ترد في الكافي.
3- جاء في حاشية «ق»: أي يقصد.
4- في الكافي: الوهم.
5- في الفقيه: القراءة.
6- الكافي: 3/ 272، باب فرض الصلاة، ح2، والفقيه: 1/ 201، باب فرض الصلاة، ح605.

وركعتا العشاء الآخرة لا يجوز الوهم فيهنّ، ومَن وهم في شيء منهنّ استقبل الصلاة استقبالًا، وهي الصلاة الّتي فرضها الله (عزوجلّ) على المؤمنين في القرآن وفوّض إلى محمّد (صلی الله علیه و آله) فزاد النبيّ (صلی الله علیه و آله) في الصلاة سبع ركعات، وهي سنّة ليس فيهنّ قراءة»(1).

ومنها: صحيحة فضيل بن يسار المرويّة في الكافي في باب «التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) »، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: «إنّ الله (عزوجلّ) أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: ﴿إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(2)، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأمّة ليسوس(3) عباده، فقال (عزوجلّ): ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(4)، وإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان مسدّدًا موفّقًا مؤيّدًا بروح القدس، لا يزلّ ولا يخطئ في شيء ممّا يسوس به الخلق، فتأدّب بآداب الله.

ثمّ إنّ الله (عزوجلّ) فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات، فأضاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة، فصارت عديل الفريضة، لا يجوز تركهنّ إلّا في سفر، وأفرد الركعة في المغرب، فتركها قائمة في السفر والحضر، فأجاز الله (عزوجلّ) له ذلك كلّه، فصارت الفريضة سبع عشر ركعة.

ثمّ سنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) النوافل أربعًا وثلاثين ركعة مِثْلَي الفريضة، فأجاز الله (عزوجلّ) له

ص: 11


1- الكافي: 3/ 273، باب فرض الصلاة، ح7.
2- سورة القلم: 4.
3- جاء في حاشية الأصل: ساس الناس يسوسهم سياسة: أمرهم ونهاهم وملك أمورهم. منه [ينظر لسان لعرب: 6/ 108، وشرح أصول الكافي، للملّا صالح المازندرانيّ: 6/ 56].
4- سورة الحشر: 7.

ذلك، والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالسًا تعدّ(1) بركعة مكان الوتر، وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان، وسنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) صوم شعبان وثلاثة أيّام في كلّ شهر مِثْلَي الفريضة، فأجاز الله (عزوجلّ) له ذلك، وحرّم الله (عزوجلّ) الخمر بعينها، وحرّم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المسكر من كلّ شراب، فأجاز الله له ذلك كلّه.

وعاف(2) رسول الله (صلی الله علیه و آله) أشياء وكرهها ولم ينهِ عنها نهي حرام، إنّما نهى عنها نهي إعافة(3) وكراهة، ثمّ رخّص فيها، فصار الأخذ برخصته(4) واجبًا على العباد، كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه، ولم يرخّص لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما نهاهم عنه نهي حرام ولا فيما أمر به أمر فرض لازم، فكثيرُ المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام لَمْ يرخّص فيه لأحد، ولم يرخّص رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأحد تقصير الركعتين اللّتين ضمّهما إلى ما فرض الله (عزوجلّ)، بل ألزمهم ذلك إلزامًا واجبًا لم يرخّص لأحد في شيء من ذلك إلّا المسافر(5).

وليس لأحد أن يرخّص [شيئًا](6) ما لم يرخّصه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوافق أمرُ رسول

ص: 12


1- في بعض النسخ: تعدّان. جاء في حاشية الأصل: والضمير في «تعدّ» يعود إلى الركعتين ومع ذلك لم يقل: «تعدّان»، لعلّ وجهه هو أنّ الركعتين كانتا بمنزلة ركعة. منه.
2- جاء في حاشية الأصل: وعاف بمعنى كره، وما ذكره بعد ذلك: «وكرهها»، عطف تفسيريّ له. منه.
3- جاء في حاشية الأصل: لمّا كان أعاف بمعنى عاف، صحّ إقامة إعافة مقام عِيافًا بكسر العين مصدر عاف في قوله (صلی الله علیه و آله): «نهي إعافة». منه.
4- في المصدر: برخصه، وفي بعض النسخ كما في المتن: برخصته.
5- في المصدر: للمسافر.
6- في جميع النسخ ليست لفظة «شيئًا»، وإنّما هي موجودة في المطبوع.

الله (صلی الله علیه و آله) أمرَ الله (عزوجلّ) ونهيُهُ نهيَ الله -عزّ وجلّ ذكره- ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى»(1).

ومنها: الخبر المرويّ في الباب أيضًا عن محمّد بن سنان، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى أدّب نبيّه (صلی الله علیه و آله) فلمّا انتهى به إلى ما أراد قال له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(2)، ففوّض إليه دينه فقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(3)، وإنّ الله (عزوجلّ) فرض الفرائض ولم يقسم للجدّ شيئًا، وإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أطعمه السدس، فأجاز الله -جلّ ذكره- له ذلك، وذلك(4) قول الله (عزوجلّ): ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(5)»(6).

ومنها: الخبر المرويّ في الباب أيضًا عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ديّة العين وديّة النفس، وحرّم النبيذ وكلّ مسكر، فقال له رجل: وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من غير أن يكون جاء فيه شيء؟ قال: نعم، ليعلم من يطيع الرسول ممّن يعصيه»(7).

ص: 13


1- الكافي: 1/ 266، باب التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى الأئمّة (علیهم السلام) في أمر الدين، ح 4. وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
2- سورة القلم: 4.
3- سورة الحشر: 7.
4- جاء في حاشية الأصل: أي تفويض الأمر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
5- سورة ص: 39.
6- الكافي: 1/ 267، باب التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى الأئمّة (علیهم السلام) في أمر الدين، ح6.
7- الكافي: 1/ 267، باب التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى الأئمّة (علیهم السلام) في أمر الدين، ح7.

وهذه جملة من النصوص الواردة في هذا الباب، والمستفاد منها ومن غيرها ثبوت التفويض في الأحكام إلى النبيّ - عليه وآله الصلاة والسلام - ومقتضاه أنّ الأحكام المفوّضة إليه (صلی الله علیه و آله) لم يسبق فيها من الله تعالى وحيٌ ولا خطاب بتحريم أو إيجاب، بل الحاكم فيها وواضعها النبيّ، ولا شبهة أنّ تلك الأحكام من السنّة والشريعة، فيكون واضعها شارعًا بالمعنى المذكور، أي جاعل الشرع.

في الإشكالات الواردة على تفويض الأحكام إليه (صلی الله علیه و آله)

ثمّ إنّ التفويض بهذا المعنى وإن دلّت عليه النصوص المذكورة وأمثالها، إلّا أنّه يتوجّه عليه الإشكال من وجوه(1):

الأوّل: أنّ المفهوم من الحديث الأوّل والثاني أنّ التفويض المذكور إليه (صلی الله علیه و آله) إنّما هو بعد أن تشرّف بخطاب: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(2)، وهو في سورة القلم، فيلزم أن يكون قبل نزول تلك السورة لم تكن صلاة الظهر مثلًا أربع ركعات، بل ركعتين، وهو ممّا لا يُلتزم.

والثاني: أنّه لا يخفى أنّ أحكام الله تعالى هو ما حكم الله تعالى به ووضعه، والمفروض أنّ الأحكام المذكورة لم يرد فيها منه تعالى وحيٌ ولا خطاب، فلا يكون حكم الله تعالى، والضرورة قاضية بفساده.

والثالث: هو أنّه ينافي قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ

ص: 14


1- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 19-20.
2- سورة القلم: 4.

يُوحَى﴾(1)، أي ليس منطوق النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلّا وحيًا يوحى من الله تعالى إليه، وهو لا يجتمع مع جعل الأحكام من قبل نفسه.

الجواب عن الإشكالات الواردة على تفويض الأحكام إليه (صلی الله علیه و آله)

ويمكن الجواب، أمّا عن الأوّل: فبأنّه ما المانع عن التزام كون صلاة الظهر مثلًا(2) ركعتين قبل نزول سورة القلم، وبعد نزولها صارت أربع ركعات، وقد نقل عن ابن عبّاس(3) أنّ أوّل ما أنزل بمكّة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾(4)، ثمّ ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾(5) إلى آخره(6).

مضافًا إلى أنّه روى ثقة الإسلام -نوّر الله تعالى روضته- في باب النوادر من أواخر كتاب صلاة الكافي، عن عبد الله بن سليمان العامريّ، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «لمّا عرج برسول الله (صلی الله علیه و آله) نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين، فلمّا ولد الحسن والحسين (علیهما السلام) زاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) سبع ركعات شكرًا لله، فأجاز الله له ذلك، وترك الفجر لم يزد فيها لضيق

ص: 15


1- سورة النجم: 3- 4.
2- «مثلًا» لم ترد في «ق».
3- ينظر مجمع البيان: 10/ 211.
4- سورة العلق: 1.
5- سورة القلم: 1.
6- جاء في حاشية الأصل: ويمكن أن لا يكون بين بدو البعثة وبين نزول سورة «ن» امتداد كثير حتّى يشتهر ذلك. منه.

وقتها؛ لأنّه تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار»(1)، الحديث(2).

وعلى فرض تسليم ذلك نقول: إنّ جزئيّة قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(3) لسورة القلم غير مستلزمة لعدم توجّهه(4) إليه (صلی الله علیه و آله) قبل نزولها حتّى يلزم أن لا تكون صلاة الظهر أربع ركعات قبل نزولها كما لا يخفى.

وأمّا عن الثاني: فبأنّه تعالى حكيم والحكيم لا يفوّض الأمر إلّا بعد علمه بأنّ المفوّض إليه قد بلغ في الكمال والرتبة والشرف والفضيلة حدًّا يمكن اتّصاله به تعالى اتّصالًا معنويًّا وقربه منه سبحانه غاية القرب قربًا روحانيًّا، فيطّلع بذلك إلى مرضيّاته ومزجوراته، فيخبر بذلك ويحكيه عنه، ولا شبهة في صدق حكم الله تعالى بالنسبة إلى أمثاله، ولذا كان الله تعالى يجيزه(5) ويمضيه في أمثال ذلك، ومنه يعلم الجواب عن الثالث.

ص: 16


1- جاء في حاشية الأصل بخطّ غيره: والمستفاد من هذا الحديث أنّه (صلی الله علیه و آله) زاد الركعات السبع بعد تولّد الحسنين (علیهما السلام) وتولّدهما (علیهما السلام) كان في المدينة، أمّا ولادة الحسن (علیه السلام) ففي سنة اثنتين من الهجرة في شهر رمضان، وفي بعض الروايات في سنة ثلاث؛ وأمّا ولادة الحسين (علیه السلام) ففي سنة ثلاث من الهجرة وعلى بعض الروايات في سنة أربع، وقد نقلوا أنّه (صلی الله علیه و آله) أقام بمكّة -زادها الله شرفًا- بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، ثمّ هاجر إلى المدينة، فعلى هذا يكون الامتداد بين بدو بعثته وولادة الحسين (علیه السلام) ستّ عشرة سنة أو أكثر، فعلى ما تقتضيه الرواية المذكورة [لا بدّ] أن تكون الصلوات في تلك المدّة ركعتين ركعتين. منه (دام ظله) العالي.
2- الكافي: 3/ 487، باب النوادر، ح2.
3- سورة القلم: 4.
4- أي توجّه قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
5- في «ج»: يخبره.
إشكال آخر أصعب ممّا ذكر

ثمّ هنا إشكال آخر أصعب ممّا ذكر، وهو أنّ وضع الأحكام من النبيّ (صلی الله علیه و آله) وتقريرها منه إنّما يتأتّى إذا لم يرد فيها من الله تعالى وحيٌ ولا خطاب، وهو فاسد، إذ المفهوم من جملة من الآيات القرآنيّة وتظافرت به النصوص المعتبرة أنّه تعالى ما فرّط في الكتاب من شيء، كما قال سبحانه: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(1) ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(2)، وقال (عزوجلّ): ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾(3).

وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا (علیه السلام) في وصف الإمامة والإمام وذكر فضل الإمام ورتبته: عن قاسم بن مسلم، عن أخيه عبد العزيز بن مسلم، قال: «كنّا في أيّام عليّ بن موسى الرضا (علیه السلام) بمَرْوَ، فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم الجمعة في بدو(4) مَقْدَمِنَا، فأدار الناس(5) أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلافهم(6) فيها، فدخلت على سيّدي ومولاي الرضا (علیه السلام) فأعلمته ما خاض الناس فيه، فتبسّم (علیه السلام) ثمّ قال: يا عبد العزيز، جهل القوم وخُدعوا عن أديانهم، إنّ الله لم يقبض نبيّه (صلی الله علیه و آله) حتّى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن، فيه تفصيل كلّ شيء، بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام

ص: 17


1- سورة الأنعام: 38.
2- سورة النحل: 89.
3- سورة الأنعام: 59.
4- في المصدر: بدء.
5- في المصدر: فإذا رأى الناس.
6- في المصدر: اختلاف الناس.

وجميع ما يحتاج إليه كملًا، فقال (عزوجلّ): ﴿فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(1)»(2).

وروى في الكافي عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئًا تحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله » (صلی الله علیه و آله) (3).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، أنّه قال: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب الله (عزوجلّ) (4)، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(5).

وعنه (علیه السلام) أيضًا أنّه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء، حتّى والله ما ترك الله شيئًا يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبدٌ يقول: لو كان أُنْزِلَ هذا(6) في القرآن إلّا وقد أنزله الله فيه»(7).

وفي الكافي أيضًا في باب أنّه لا يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة (علیه السلام): عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «والله، إنّي لأعلم كتاب الله من

ص: 18


1- سورة الأنعام: 38.
2- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 1/ 216، ح 1.
3- الكافي: 1/ 59، باب الرد إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنّة، ح2.
4- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
5- الكافي: 1/ 60، باب الرد إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنّة ح6.
6- في المصدر: هذا أنزل.
7- الكافي: 1/ 59، باب الرد إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنّة، ح1.

أوّله إلى آخره كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، قال الله (عزوجلّ): فيه تبيان كلّ شيء»(1).

وفيه في باب أنّ الأئمّة (علیه السلام) يعلمون علم ما كان وما يكون: «عن أبي عبدالله (علیه السلام) يقول: إنّي لأعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنّة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون. قال: ثمّ مكث هُنَيَّة(2)، فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه، فقال: علمت ذلك من كتاب الله (عزوجلّ)، إنّ الله (عزوجلّ) يقول: فيه تبيان كلّ شيء»(3). وغير ذلك من النصوص الكثيرة في هذا الباب.

حاصل الإشكال

وحاصل الإشكال: أنّه لو ثبت التفويض في الأحكام المذكورة؛ لما كانت تلك الأحكام مفهومة من كتاب الله تعالى، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الشرطيّة فلأنّ المفروض أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وضعها من غير خطاب منه تعالى، فلو كانت مفهومة من الكتاب لكان واضعها الله سبحانه بذلك الخطاب، فيخرج عن محلّ الكلام؛ وأمّا بطلان التالي فلما عرفت من الآيات والأخبار أنّه ليس شيء إلّا وقد يفهم من كتاب الله تعالى.

ص: 19


1- الكافي: 1/ 229، باب انّه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة (علیهم السلام) وانّهم يعلمون علمه كلّه، ح4.
2- في المصدر: هنيئة.
3- الكافي: 1/ 261، باب أنّ الأئمّة (علیهم السلام) يعلمون علم ما كان وما يكون وانّه لا يخفى عليهم الشيء -صلوات الله عليهم-، ح2، وليس فيه: «إنّ الله»(، والآية الشريفة هكذا: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، سورة النحل 89.
الجواب عن الإشكال

ويمكن الجواب عنه أيضًا بمنع الملازمة بأن يقال: إنّ وضع النبيّ (صلی الله علیه و آله) تلك الأحكام غير منافٍ لمفهوميّتها من كتاب الله تعالى.

بيان ذلك: هو أنّا نقول: إنّ ذلك إنّما يكون منافيًا لو كان التفويض بعد نزول القرآن بجملته، وليس الأمر كذلك؛ لما عرفت من الصحيح المذكور أنّه بعد تشرّفه (صلی الله علیه و آله) بخطاب: ﴿إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(1)؛ وهو جزء من سورة القلم على ما عرفت، وهي الثانية من السور النازلة على النبيّ (صلی الله علیه و آله) فيمكن أن يكون النبيّ (صلی الله علیه و آله) بعد أن فوّض الأمر إليه وقبل نزول سائر السور وضع تلك الأحكام، ثمّ نزلت هي على التدريج المبيّن في محلّه، وكان من جملة ما يفهم منها تلك الأحكام، فعلم عدم التنافي بين وضع النبيّ (صلی الله علیه و آله) الأحكام واندراجها في مفاهيم القرآن(2).

ثمّ لا يخفى أنّه قد مرّ أنّ من جملة الأحكام الّتي ورد النقل فيها بالتفويض: الزيادة في عداد الصلوات اليوميّة، ولا ينافيه الحديث المشهور الدالّ على أنّه تعالى أمر نبيّه في معراجه بخمسين صلاة وأنّه (صلی الله علیه و آله) قد مرّ بالنبيّين ولم يسألوه شيئًا

ص: 20


1- سورة القلم: 4.
2- جاء في حاشية الأصل: هذا الجواب لا بأس به بالنسبة إلى غير الآية الثانية، وأمّا بالنسبة إليها فلا يخلو من إشكال؛ لأنّ مدلولها أنّ القرآن مبيّن لكلّ شيء، ومقتضاه أن لا يكون قبل القرآن مبيّنًا، وهو ينافي كون بعض الأحكام من موضوعاته (صلی الله علیه و آله) . ويمكن الجواب عنه بأنّ غاية ما يستفاد منها كون القرآن مبيّنًا لكلّ شيء، وأمّا كونه مبيّنًا لكلّ شيء للنبيّ (صلی الله علیه و آله) فلا، كما لا يخفى، فتأمّل. منه.

حتّى انتهى إلى موسى بن عمران (علیه السلام) فقال: بأيّ شيء أمرك ربّك؟ فقال: بخمسين صلاة، فقال: اسأل ربّك التخفيف، فإنّ أمّتك لا يطيق(1) ذلك، فسأل ربّه، فحطّ عنه عشرًا.

وهكذا صار الأمر بينه (صلی الله علیه و آله) وبين موسى (علیه السلام) إلى أن انتهى الخمسون إلى العشر، فقال موسى (علیه السلام): بأيّ شيء أمرك ربّك؟ فقال: بعشر صلوات، فقال: اسأل ربّك التخفيف، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك، فإنّي جئت إلى بني إسرائيل بما فرض الله (عزوجلّ) عليهم، فلم يأخذوا به ولم يقدروا(2) عليه، فسأل النبيّ ربّه (عزوجلّ)، فخفّف عنه، فجعلها خمسًا.

ثمّ سأله (علیه السلام): بأيّ شيء أمرك ربّك؟ فقال: بخمس صلوات، فقال: اسأل ربّك التخفيف عن أمّتك، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك، فقال: إنّي لأستحيي أن أعود إلى ربّي، فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) بخمس صلوات، انتهى الحديث ملخّصًا(3).

وجه عدم التنافي ظاهرٌ؛ فإنّ غاية ما يستفاد منه أنّ ما أمر الله تعالى به خمس صلوات ونحن نقول بموجبه، لكن نقول: إنّ المستفاد من جملة من النصوص أنّ تلك الصلوات الخمس كانت عشر ركعات وأضاف النبيّ (صلی الله علیه و آله) إليها سبعًا.

إن قيل: يمكن أن يستفاد منه أنّه لم يصدر من النبيّ (صلی الله علیه و آله) الزيادة، بل كان مجموع السبع عشرة ممّا أمره الله تعالى به، بناءً على أنّه (صلی الله علیه و آله) سأل الله (عزوجلّ) التخفيف حتّى

ص: 21


1- في المصدر: لا تطيق.
2- في المصدر: ولم يقرّوا.
3- كتاب من لا يحضره الفقيه: 1/ 197، باب فرض الصلاة، ح602.

وصلت إلى ذلك الحدّ، بناءً على أنّ أمّته لا تطيق ذلك، فكيف يزيد عليه ما خفّف الله تعالى بسؤاله؟

قلنا: هذا إنّما يصلح أن يكون قرينة على ذلك إذا ثبت أنّ الصلوات الخمس الّتي خفّفها الله تعالى في الآخر كانت سبع ركعات ومساوية في الأذكار والأقوال لما زاده (صلی الله علیه و آله) وأنّى لك بإثبات ذلك، وحينئذٍ نقول: يمكن أن يكون المسئول(1) لتخفيفه أكثر وما زاده (صلی الله علیه و آله) أقلّ، فلا تنافي.

وقد ظهر من جميع ما ذكر أنّ إطلاق «الشارع» بمعنى جاعل الشرع في الجملة على النبيّ (صلی الله علیه و آله) صحيح، ولا تنافيه الآيات المتقدّمة أيضًا؛ لأنّ غاية ما يستفاد منها كون الله (عزوجلّ) شارعًا بهذا المعنى، وهو ممّا لا ريب في صحّته، وأمّا انحصاره بالمعنى المذكور فيه تعالى فلا؛ إذ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه. نعم، لو قيل باختصاص الشارع بذلك المعنى بالرسول (صلی الله علیه و آله) لكان التمسّك بتلك الآيات لردّه وجيهًا، لكن لم نقل به.

محصّل الكلام في هذا المقام

ومحصّل الكلام في هذا المقام هو أن يقال: إنّ الشارع إمّا بمعناه المتبادر، وهو جاعل الشرع، أو صاحب الشرع؛ وأيّ منهما كان يكون إطلاقه على الله تعالى وعلى رسوله حقيقة وإن كان بالمعنى الأوّل ظاهرًا في الأوّل وبالمعنى الثاني ظاهرًا في الثاني، ويمكن أن يكون إطلاق الشارع عليه-صلوات الله عليه وآله- لكونه آتيًا بالشرع.

ص: 22


1- في «ق»: السؤال.
في عدم ثبوت التفويض في الأحكام إلى الأئمّة (علیه السلام)

وكيف ما كان، فلا يكون الأئمّة الأطهار الّذين بهم يتوصّل إلى رضاء(1) الجبّار ويتخلّص من عقاب القبر وعذاب النار شارعًا بشيء من المعاني المذكورة، بل هم من المتشرّعين، أي متعبّدين بشريعة جدّهم صلوات الله عليهم.

والحكم بكونهم (علیه السلام) من المتشرّعين بالمعنى المذكور، لا يوجب الإهانة بالنسبة إليهم؛ إذ انتسابهم (علیه السلام) إليه - صلوات الله عليه وآله - فخر لهم، كما يظهر من أخبارهم المرويّة وأدعيتهم المأثورة.

وكون غيرهم مشاركًا معهم في الوصف المذكور أيضًا غير مضرٍّ في ذلك؛ لثبوت المشاركة معهم (علیه السلام) لغيرهم في كثير من الأمور كما لا يخفى، فليكن هذا من ذاك.

هذا هو الظاهر من جماعة من الأعلام، قال شيخنا الشهيد في الذكرى: «اللَّبِنَةُ وَالآجُرّةُ هي المعتادة في بلد صاحب الشرع وأهل بيته» (علیهم السلام) (2).

وقال سلطان العلماء في حاشية المعالم:

«يبقى(3) التأمّل في أنّ الاستعمالات الشائعة في كلام أهل البيت (علیه السلام) هل لها حكم الاستعمال في كلام الشارع(4)، أو لها حكم الاستعمال في كلام المتشرّعة»(5).

ص: 23


1- كذا في الأصل، والصواب: رضا.
2- ذكرى الشيعة: 3/ 150.
3- في المصدر: ينبغي.
4- في المصدر هنا زيادة: حتّى يحمل على اللغويّة بدون القرينة بناءً على هذا التحقيق.
5- حاشية سلطان العلماء على المعالم: 268.

وقال في كشف اللثام ما تقدّم نقله عنه في أوائل المبحث، فليلاحظ(1).

الإشكال الوارد على تفويض الأحكام إلى الأئمّة (علیه السلام)

إن قلت: إنّ عدم كونهم (علیه السلام) شارعًا بالمعنى الثاني مسلّم، وأمّا بالمعنى الأوّل مثلًا فلا؛ لدلالة النصوص على ثبوت التفويض بالنسبة إليهم أيضًا، فكما أنّ بالتفويض في الأحكام صحّ إطلاق الشارع بمعنى جاعل الشرع على النبيّ (صلی الله علیه و آله) فليصحّ ذلك بالنسبة إلى الأئمّة (علیه السلام)؛ لدلالة الآثار على اشتراكهم معه (صلی الله علیه و آله) في ذلك(2).

بعض النصوص الدالّة على ثبوت التفويض إلى الأئمّة (علیه السلام)

فمنها: ما رواه في الكافي في باب التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، «عن أبي إسحاق النحويّ قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فسمعته يقول: إنّ الله (عزوجلّ) أدّب نبيّه على محبّته فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(3)، ثمّ فوّض إليه فقال (عزوجلّ): ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(4)، وقال (عزوجلّ): ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾(5)، ثمّ قال: وإنّ نبيّ الله فوّض إلى عليّ (علیه السلام) وأئمّته»(6).

ص: 24


1- كشف اللثام: 3/ 418، وفيه: «... لأنّه المعهود من الشارع ونوّابه».
2- جاء في حاشية الأصل: أي في ثبوت التفويض. منه.
3- سورة القلم: 4.
4- سورة الحشر: 7.
5- سورة النساء: 80.
6- في المصدر: وائتمنه، الكافي: 1/ 265، باب التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى الأئمّة (علیهم السلام) في أمر الدين، ح1، وبصائر الدرجات: 1/ 384، ح4.

ومنها: ما رواه في الباب المذكور عن عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «لا والله ما فوّض الله إلى أحد من خلقه إلّا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى الأئمّة»(1).

ومنها: ما رواه في الباب عن محمّد بن الحسن الميثميّ، عن أبي عبدالله (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «إنّ الله (عزوجلّ) أدّب رسوله حتّى قوّمه على ما أراد، ثمّ فوّض إليه، فقال عزّ ذكره: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(2)، فما فوّض الله إلى رسوله (صلی الله علیه و آله) فقد فوّضه إلينا»(3).

هذه جملة من النصوص الواردة في هذا المطلب، والمستفاد منها ومن غيرها أنّه كما فوّض الأمر إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) فوّض إلى الأئمّة -عليهم آلاف السلام والتحيّة- فينبغي أن يصحّ إطلاق الشارع بالمعنى المذكور عليهم أيضًا.

الجواب عن الإشكال الوارد على تفويض الأحكام إلى الأئمّة (علیه السلام)

قلنا: ثبوت التفويض بنفسه غير كافٍ لصحّة إطلاق الشارع كما لا يخفى، بل الّذي له مدخليّة في ذلك جعل الشرع(4) ووضعه.

وبالجملة: المستفاد من هذه النصوص -وهو ثبوت التفويض إلى الأئمّة (علیهم السلام) - لا يوجب صدق الشارع عليهم، وما يوجبه ذلك -وهو جعل الشرع(5) ووضعه-

ص: 25


1- الكافي: 1/ 268، باب التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى الأئمّة (علیهم السلام) في أمر الدين، ح8.
2- سورة الحشر: 7.
3- الكافي: 1/ 268، باب التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى الأئمّة (علیهم السلام) في أمر الدين، ح9.
4- في «ق»: الشارع.
5- في «ق»: الشارع.

غير مستفاد منها، فالمفهوم منها غير موجب، والموجب له غير مفهوم(1).

وأيضًا: إنّ التفويض بالمعنى المذكور لا يمكن القول به بالنسبة إلى الأئمّة - عليهم آلاف السلام والتحيّة - لما عرفت من أنّ التفويض بذلك المعنى إنّما يكون فيما لم يرد فيه من الله تعالى وحيٌ، ولم يدلّ عليه كتاب وليس ممّا احتيج إليه العباد إلّا وقد نطق به الفرقان ودلّت عليه الآيات على ما دلّ عليه كثير من الآيات واستفاض(2) به النصوص والروايات، وقد تقدّمت إلى جملة منهما الإشارة.

وأيضًا: إنّ تفويض الأحكام إلى الأئمّة (علیهم السلام) ينافيه ما دلّ عليه الكتاب والسنّة من أنّه في زمانه (صلی الله علیه و آله) قد استكملت الشريعة، كما قال سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾(3)، وقد تقدّم قول مولانا الرضا -عليه آلاف التحيّة والثناء-: أنّه تعالى لم يقبض نبيّه (صلی الله علیه و آله) حتّى أكمل له الدين، الحديث(4).

ص: 26


1- جاء في حاشية الأصل: إن قلت: يمكن أن يكون إطلاق الشارع على الأئمّة - عليهم آلاف السلام والتحيّة - بمعنى مبيّن الشرع [في «ق»: مبيّنين للشرع]، قلنا: لو بني الأمر عليه، يلزم أن يطلق الشارع على الفقهاء أيضًا؛ لكونهم مبيّنين للشرع أيضًا. لا يقال: إنّ الفقهاء وإن كانوا مبيّنين للشرع أيضًا، لكن بيانهم بطريق الظنّ، فنقول: الشارع مبيّن الشرع [في «ق»: مبيّنين للشرع] بطريق العلم؛ لأنّا نقول: على ذلك يلزم إطلاق الشارع على المنكرين للعمل بأخبار الآحاد، كالسيّد المرتضى وابن إدريس ونحوهما (الذريعة: 2/ 528 و554، وحكاه الشيخ حسن عن ابن زهرة وابن البرّاج وابن إدريس في المعالم: 189). منه.
2- كذا في الأصل، والصواب: واستفاضت.
3- سورة المائدة: 3.
4- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 1/ 216، ح 1.

وأيضًا: قد ثبت أنّ الشريعة النبويّة - عليه آلاف السلام والتحيّة - لا يتطرّق إليها النسخ والنقصان والزيادة، وهو ينافي ثبوت التفويض في الأحكام بالمعنى المذكور إلى الأئمّة (علیهم السلام)، كما لا يخفى على ذي فطنة ودراية.

وبعض هذه الوجوه المذكورة وإن ورد بالنسبة إلى سيّد رسل الله سبحانه، لكنّك قد عرفت الجواب بما سبقت إليه الإشارة، ولا يمكن التنطّق به بالنسبة إلى الأئمّة (علیهم السلام)، كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل وكلفة(1).

وبالجملة: قد علم من هذه النصوص المذكورة أنّ التفويض بذلك المعنى لا يمكن القول به بالنسبة إلى الأئمّة (علیهم السلام) وإن كان الظاهر من جملة من النصوص الواردة في الباب أنّ التفويض الثابت بالنسبة إلى الرسول والأئمّة (علیهم السلام) بمعنى واحد، فاللازم حمله على معنى آخر، فنقول: يمكن أن يكون المراد به التفويض في الأحكام الظاهريّة كما في التقيّة(2).

كما يظهر ذلك ممّا رواه في الكافي في الباب المتقدّم عن موسى بن أشيم، قال:

ص: 27


1- جاء في حاشية الأصل: إذ حاصل الجواب هناك أنّه يمكن ثبوت التفويض بالنسبة إلى النبىّ (صلی الله علیه و آله) وجعله بعض الأحكام قبل نزول تمام القرآن، ولا يمكن التنطّق به بالنسبة إلى الأئمّة (علیهم السلام)؛ لأنّ القرآن نزل جملةً في زمان النبيّ (صلی الله علیه و آله) وانقطع زمان الوحي بعد زمانه (صلی الله علیه و آله) . منه.
2- جاء في حاشية الأصل: ولقائل أن يقول: إنّ التفويض في الأحكام الظاهريّة يكفي في إطلاق الشارع بمعنى جاعل الشرع على الأئمّة (علیهم السلام) إذ لا شبهة في أنّ تلك الأحكام أحكام شرعيّة، والمفروض أنّ جاعلها الأئمّة - عليهم آلاف السلام [والتحيّة] - فيصدق على كلّ منهم (علیهم السلام) أنّه شارع بذلك المعنى، إلّا أن يقال: إنّ المتبادر من الشريعة ما كان مطابقًا للواقع ونفس الأمر، والأحكام الّتي للتقيّة ليست كذلك. منه.

«كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فسأله رجل عن آية من كتاب الله (عزوجلّ)، فأخبره بها، ثمّ دخل عليه داخل، فسأله عن تلك الآية، فأخبره بخلاف ما أخبر به الأوّل، فدخلني من ذلك ما شاء الله حتّى كأنّ قلبي يُشْرَحُ بالسكاكين(1)، فقلت في نفسي: تركت أبا قتادة بالشام لا يُخطئ في الواو وشبهه وجئت إلى هذا ليخطئ(2) هذا الخطأ كلّه، فبينا أنا كذلك إذ دخل عليه آخر، فسأله من تلك الآية، فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبيّ، فسكنت نفسي، فعلمت أنّ ذلك منه تقيّة.

قال: ثمّ التفت إليّ [فقال لي](3): يا بن أشيم! إنّ الله (عزوجلّ) فوّض إلى سليمان بن داود (علیه السلام) فقال: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(4)، وفوّض إلى نبيّه فقال: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(5)، فما فوّض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقد فوّضه إلينا»(6).

إشكال آخر على تفويض الأحكام إلى الأئمّة (علیه السلام)

إن قلت: إنّ القول باختصاص الشارع بالنبيّ وعدم كون الأئمّة من ذلك،

ص: 28


1- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): الشرح: الكشف، ومنه: تشريح اللحم، والسكاكين بالفتح والتخفيف: جمع السِكّين بالكسر، أي: كان قلبي يقطّع ويكشف بالسكّين.
2- في المصدر: يخطئ.
3- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
4- سورة ص: 39.
5- سورة الحشر: 7.
6- الكافي: 1/ 265، باب التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى الأئمّة (علیهم السلام) في أمر الدين، ح2.

ينافيه ما ذكره جمعٌ من المتأخّرين من التفصيل في ثبوت الحقيقة الشرعيّة بين الأزمان، حيث ادّعوا القطع بثبوتها في زمان الصادقين (علیهما السلام) وتأمّلوا أو نفوا قبله(1)؛ ولا يصحّ ذلك إلّا مع شمول الشارع للأئمّة عليهم آلاف الثناء والتحيّة.

الجواب عن الإشكال

قلنا: يمكن الجواب عنه من وجهين:

الأوّل: أنّ هؤلاء الجماعة قد غفلوا عن تعيين الشارع، فعدّوا منه من لم يكن كذلك من غير نظر إلى برهان، فلا تعويل على كلامهم ولا اعتداد بمقالهم.

والثاني: أنّه ليس المراد من هذا الكلام ما يفهم منه في بادي الأنظار والأفهام، بل لمّا كانت الثمرة المترتّبة على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمها: حمل الألفاظ في الأحاديث حال التجرّد عن القرينة على المعاني المستحدثة، بخلافه على القول بالعدم، يمكن أن يكون مرادهم ممّا ذكروا ثبوت مطلق الحقيقة لتلك الألفاظ في تلك المعاني في زمانهما (علیهما السلام) حتّى يحمل عليها حال التجرّد عن القرينة في أخبارهما، ويكون حملها على المعاني اللغويّة حينئذٍ متوقّفًا على القرينة.

ولا يمكن أن يكون المراد ما أفاده ظاهر ذلك الكلام؛ لأنّ الحقيقة الشرعيّة هي ما وضعه الشارع، سواء كان الوضع بالتعيين أو التعيّن، والمفروض أنّ هذا الوضع غير ثابت قبل زمانهما (علیهما السلام) .

ص: 29


1- ينظر الفوائد الحائريّة: 102 و107، وقوانين الأصول: 1/ 98، وتعليقة على معالم الأصول: 2/ 271، وهداية المسترشدين: 1/ 413، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 166.

وثبوت الوضع في زمانهما (علیهما السلام) إمّا بالتعيين، بأن يكون تلك الألفاظ من زمان النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلى زمانهما (علیهما السلام) مستعملة في تلك المعاني المستحدثة على سبيل المجاز، وهما (علیهما السلام) في بدو زمانهما عيّناها لتلك المعاني، ولا شبهة في بُعد ذلك.

وإمّا بالتعيّن، وهو إنّما يكون إذا صدر الاستعمال منهما (علیهما السلام) على سبيل المجاز أوّلًا في المعاني المستحدثة، ثمّ لكثرة الاستعمال صار حقيقة فيها، وهو يقتضي التفصيل في زمانهما (علیهما السلام) أيضًا بأن يقال بعدم الثبوت في أوائل زمانهما أيضًا والثبوت بعدها(1)، وهم لا يقولون بذلك.

إلّا أن يقال: إنّ تحقّق الوضع التعيّنيّ غير متوقّف على صدور الاستعمال على سبيل التجوّز منهما (علیهما السلام) فيقال: إنّ الاستعمال قبل زمانهما كان على سبيل المجاز وكثر الاستعمال إلى حدّ بلغ في زمانهما حدّ الحقيقة، فعلى هذا تكون الحقيقة الشرعيّة ما ثبت الوضع له في زمان الشارع وإن لم يكن الواضع ذلك، وهو مع ما فيه غير ملائم لكلماتهم، كما لا يخفى على المطّلع الفطن(2).

ص: 30


1- في «ق»: بعدهما.
2- جاء في حاشية الأصل: إذ الحقيقة الشرعيّة على ما عرّفوها هي ما نقله الشارع عن المعاني اللغويّة إلى المعاني الشرعيّة، والنقل قد عرفت إمّا بالتعيين أو بالتعيّن، وقد عرفت أنّ شيئًا منهما غير متحقّق من الصادقين (علیهما السلام) لما ذكرنا، ولو اكتفى في ثبوتها بثبوت الاستعمال المجازيّ من النبيّ (صلی الله علیه و آله) يلزم أن تكون الحقيقة المتشرّعة حقيقة شرعيّة، على أنّه لا يلزم منه إطلاق الشارع على الأئمّة (علیهم السلام)، فتأمّل. منه.

في تعريف الحقيقة الشرعيّة

المبحث الثاني: في ماهيّة الحقيقة الشرعيّة
اشارة

فاعلم: أنّها عبارة عمّا نقله الشارع عن المعاني اللغويّة إلى المعاني المستحدثة، بحيث لو تنطّق به أو الناطقُ بلسانه(1)، كان المفهوم منها المعاني المستحدثة، هذا هو المستفاد من كلمات جماعة في هذا الباب(2).

وفيه نظر؛ لأنّ ذلك منقوض طردًا وعكسًا، أمّا الأوّل: فلأنّ ذلك يقتضي أن يكون كلّما نقله الشارع عن المعنى اللغويّ حقيقة شرعيّة وإن لم يكن في بيان الحكم الشرعيّ، بل كان من الأعلام المنقولة وشبهها، مع أنّ الظاهر أنّه ليس من أفراد المحدود؛ لأنّ الظاهر أنّ الحقيقة الشرعيّة يعتبر فيها كونها بحيث تتعلّق بالحكم الشرعيّ.

وأمّا الثاني: فلأنّ مقتضاه اعتبار النقل في الحقيقة الشرعيّة، فلو اخترع الشارع لفظًا وكان مرتبطًا بالحكم الشرعيّ، يلزم أن لا يكون حقيقة شرعيّة، مع أنّ الظاهر أنّه من أفراد المحدود، فيدخل في الحدّ ما لم يكن من أفراده ويخرج عنه ما كان منها.

ص: 31


1- أي ينطق الناطق بلسان الشارع.
2- ينظر تهذيب الوصول: 65- 67، ونهاية الوصول: 1/ 245- 247، ومعالم الأصول: 35، وزبدة الأصول: 80، والفوائد الحائريّة: 107، وقوانين الأصول: 1/ 94، وإشارات الأصول: 1/ 28، وأنيس المجتهدين: 1/ 55 و56، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 166.

ويمكن الجواب عن الأوّل بعدم تسليم اختصاص الحقيقة الشرعيّة بما يستفاد منه الحكم الشرعيّ؛ وما المانع عن القول بأنّ الحقيقة الشرعيّة ما كان الوضع فيه من الشارع، سواء كان من متعلّقات الحكم الشرعيّ أم لا؟! بل الظاهر التعميم؛ لأنّ الحقيقة الشرعيّة في قابلها: الحقيقة العرفيّة واللغويّة، فكما لم يعتبر فيهما قيد، بل اللغويّة ما كان من موضوعات أهل اللغة، والعرفيّة ما كان من موضوعات أهل العرف، ينبغي أن لا يعتبر في أختهما أيضًا.

وأيضًا أنّ المقتضي لصدق الحقيقة الشرعيّة -وهو الوضع من الشارع والاستعمال- موجودٌ، والمانع عنه غيرُ معلوم، فوجب القول به.

وأيضًا لو لم تكن تلك الألفاظ حقيقة شرعيّة، لزم تربيع القسمة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، أمّا الملازمة؛ فلأنّه لا شبهة في أنّ تلك الألفاظ بالنسبة إلى ذلك الوضع الشرعيّ لم تكن من الحقيقة اللغويّة ولا من العرفيّة كما لا يخفى، فلو لم تكن من الحقيقة الشرعيّة لكانت لا محالة قسمًا آخر من الحقيقة وراء الأقسام الثلاثة، وأمّا بطلان التالي؛ فلاتّفاقهم على تقسيم الحقيقة إلى اللغويّة والشرعيّة والعرفيّة.

وعن الثاني: بأنّ الأمر على النحو المذكور وإن كان محتملًا، لكن لمّا كانت الحقائق الشرعيّة الّتي وصلت إلينا من قبيل المنقولات ولم يوجد فيها لفظ مخترع، [و] لم يعرف في(1) اللغة له معنى اقتصروا على ذلك، ويجيء الكلام في تحقيق ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ص: 32


1- «في» لم ترد في «ق».

على أنّه يمكن أن يقال: إنّ الحقيقة الشرعيّة هو ما كان استفادة المعنى منه بوضع الشرع على ما يظهر من كلمات جماعة أخرى؛ وحينئذٍ يعمّ القسمين ولم يرد عليه إلّا الإيراد الأوّل، وقد عرفت اندفاعه.

إن قلت: إنّ تعميم الحقيقة الشرعيّة بحيث يعمّ الأعلام المنقولة غير صحيح؛ إذ الاختلاف في ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه شائع، فيلزم بناءً على التعميم أن يكون النافي للحقيقة الشرعيّة نافيًا للأعلام المنقولة، والظاهر أنّه ممّا لا يلزم.

ثمّ إنّ التعاريف والحدود للمفاهيم والماهيّات، فكيف يصحّح التعريف بأنّه للحقائق الشرعيّة الواقعيّة؟!

قلنا: يمكن الجواب عن الأوّل: بأنّ نزاعهم في الثبوت والعدم الظاهر(1) انّه في خصوص الحقائق الشرعيّة الّتي في بيان الأحكام الشرعيّة، لا مطلقًا، وهو ظاهر.

وعن الثاني: بأنّ الأمر وإن كان كذلك، لكن الثمرة المعروفة في ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه لمّا كانت بالإضافة إلى الحقائق الشرعيّة الواقعيّة كما لا يخفى، فلهذا(2) اختصّت بالتعريف.

مع أنّ هذا إنّما يرد بناءً على اعتبار النقل في الحقيقة الشرعيّة، وأمّا على التعريف الّذي ذكرنا فلا، كما لا يخفى.

ثمّ لمّا كانت معرفة الحقيقة الشرعيّة متوقّفة على معرفة الشارع، ضرورة أنّ معرفة

ص: 33


1- في «ق»: والظاهر.
2- في «ق وج»: ولهذا.

المحدود موقوفة على معرفة الحدّ ومعرفة الحدّ لا تتحصّل إلّا بمعرفة أجزائه، فلهذا قدّمنا الكلام في بيان الشارع على الكلام في بيان ماهيّة الحقيقة الشرعيّة.

الاحتمالات في وضع الحقيقة الشرعيّة ثلاثة
اشارة

ولمّا عرفت أنّ الشارع لم يخرج عن الله تعالى ونبيّه (صلی الله علیه و آله) انحصرت الاحتمالات العقليّة في وضع الحقيقة الشرعيّة في ثلاثة:

الأوّل: أن يكون الوضع مستندًا إلى الله تعالى في جميع تلك الألفاظ.

والثاني: أن يكون مستندًا إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) كذلك.

والثالث: بالتفصيل بكون الوضع في البعض مستندًا إلى الله تعالى وفي الآخر إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

وفي الأوّلين إشكال.

أمّا في الأوّل: فلأنّ نسبة الوضع إلى الله تعالى إنّما يمكن في الألفاظ الواردة في الكتاب العزيز، وأمّا في غيرها من الألفاظ الواردة في الآثار النبويّة، فلا.

وجوابه ظاهر، فإنّ عدم الورود في القرآن لا يستلزم عدم الوضع منه سبحانه؛ لجواز أن يكون وضع الجميع منه تعالى وأعلم نبيّه ذلك إمّا بطريق الوحي، أو بطريق الإلهام، أو ذاك في بعض وهذا في الآخر(1) كما لا يخفى.

وأمّا في الثاني: فلأنّ الأمر فيه بالعكس، أي استناد الوضع إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) إنّما

ص: 34


1- في «ق»: الأخرى.

يمكن في الألفاظ الواردة في أخباره من الّتي لم تقع في الكتاب، وأمّا في الألفاظ الواردة فيه فلا؛ لوضوح أنّ وضع اللفظ للمعنى متوقّفٌ على تعقّله ومسبوقٌ عليه، والأحكام المأخوذة من الكتاب العزيز إنّما يعلم بدلالة آياته الشريفة وألفاظه الكريمة عليها، فتعقّلُ تلك المعاني مسبوقٌ على ورود تلك الألفاظ فيه وبواسطتها.

فنقول: تعقّل النبيّ (صلی الله علیه و آله) تلك الأحكام والمعاني المدلول عليها بالكتاب مسبوقٌ بدلالة ألفاظها عليها(1)، ودلالة ألفاظها عليها مسبوقة بوضعها بإزائها(2)، فلو كان وضعها بإزائها منه (صلی الله علیه و آله) يلزم أن يكون وضعه (صلی الله علیه و آله) إيّاها بإزائها مسبوقًا بتعقّلها، فيلزم أن يكون تعقّل تلك المعاني مسبوقًا بتعقّل تلك المعاني، فيلزم توقّف الشيء على نفسه.

فعلم أنّ وضع الألفاظ الواردة في القرآن من النبيّ (صلی الله علیه و آله) غير ممكن، بل يمكن القول بعدم صحّة استناد الوضع في شيء من الألفاظ إليه (صلی الله علیه و آله) إلّا بالنسبة إلى الأحكام الموضوعة منه (صلی الله علیه و آله) إن وجد لها لفظ خاصّ؛ لأنّ أحكام الله تعالى توقيفيّة، لا يعلم إلّا بتوقيف الله تعالى، إلّا ما أشرنا إليه، فإذا كان التوقيف والإعلام في الجميع منه تعالى، يكون الوضع في الجميع أيضًا منه تعالى، فتعيّن الاحتمال الأوّل وبطل الثاني، بل الثالث أيضًا.

والجواب عنه: إنّ مسبوقيّة الشيء على نفسه على تقدير استناد الوضع في الألفاظ الواردة في الكتاب إليه (صلی الله علیه و آله) إنّما يلزم إذا لم يحصل فهم تلك المعاني للنبيّ إلّا

ص: 35


1- أي بدلالة ألفاظ المعاني على المعاني.
2- أي وضع الألفاظ بإزاء المعاني.

من تلك الألفاظ، وحينئذٍ استناد وضعها لتلك المعاني إلى النبيّ مجازفة محضة ويترتّب عليه الاستحالة المذكورة.

لكنّه لم يتعيّن الأمر في ذلك؛ لجواز توقيفه تعالى تلك المعاني للنبيّ بغير تلك الألفاظ، وعيّن النبيّ (صلی الله علیه و آله) إيّاها لأجلها كما في الغسل والوضوء، فإنّه تعالى عبّر عن الغسل بقوله تعالى: ﴿فَاطَّهَّرُوا﴾، كما قال (عزوجلّ): ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾(1)، وعن الوضوء بقوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ الآية(2)، ولم يعبّر في شيء من الآيات القرآنيّة عنهما بلفظ الغسل(3) والوضوء كما لا يخفى.

فيمكن أن تكون جميع الألفاظ الواردة في القرآن ممّا ادّعي ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه من هذا القبيل، بأن تكون معانيها ملقاة إلى النبيّ وعيّن النبيّ تلك الألفاظ لأجلها، بل القرينة قائمة على عدم إمكان التوقيف فيما ورد من الكتاب به في كثير من المقام، كما في قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ الآية(4)، فإنّها جزء من سورة بني إسرائيل الّتي هي التاسعة والأربعون من السور المنزلة على النبيّ في مكّة على ما نقل عن ابن عبّاس(5)، ولا شبهة في أنّه (صلی الله علیه و آله) كان مصلّيًا قبل ذلك.

ص: 36


1- سورة المائدة: 6.
2- سورة المائدة: 6.
3- جاء في حاشية الأصل: وإن عبّر عن الغسل بالاغتسال في قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ [سورة النساء: 43]. منه.
4- سورة الإسراء: 78.
5- ينظر مجمع البيان: 6/ 213، والدر المنثور: 4/ 136.

وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ الآية(1)، فإنّها جزء من سورة الحجّ الّتي هي السادسة والعشر من السور المنزلة عليه (صلی الله علیه و آله) في المدينة، والحال أنّ كلّ من الركوع والسجود جزء من الصلاة الّتي قد أمر بها في بني إسرائيل الّتي هي مكّيّة على ما عرفت، ولا ريب أنّ صلاتهم كانت مشتملة على ركوع وسجود قبل نزول الحجّ، بل قبل نزول بني إسرائيل أيضًا، كما أشرنا.

وأيضًا أنّ الأمر بالوضوء للصلاة مستفاد من قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ الآية(2)، وهي جزء من سورة المائدة(3) الّتي هي -على ما حُكي عن ابن عبّاس- آخر السور القرآنيّة المنزلة في المدينة إلّا التوبة، فإنّها بعدها(4)؛ فإن قلنا بكون التوقيف على الوضوء بتلك الآية، يلزم أن تكون صلاتهم قبل نزولها من غير وضوء، وهكذا الكلام في أمثالها، ونحن قاطعون بفساد ذلك.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ توقيفيّة الأحكام الشرعيّة لا تستدعي(5) لزوم استناد الوضع في الألفاظ الّتي ادّعي ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيها إلى الله تعالى؛ إذ غاية ما يلزم من ذلك كون التوقيف منه تعالى، ولا يلزم منه أن يكون ذلك بتلك

ص: 37


1- سورة الحجّ: 77.
2- سورة المائدة: 6.
3- جاء في حاشية الأصل: ولا يخفى أنّ ذلك إنّما يتوجّه إذا كانت جزئيّة آية لسورة مستلزمة لعدم نزول تلك الآية قبل نزول سورة أخرى سابقة عليه في النزول. منه.
4- ينظر الدرّ المنثور: 2/ 263، والاتقان في علوم القرآن: 1/ 84.
5- في «ق»: لا يستدعي.

الألفاظ؛ لجواز أن يكون بغير تلك الألفاظ، بل من غير لفظ أصلًا كما لا يخفى ويكون تعيين تلك الألفاظ منه (صلی الله علیه و آله) تسهيلًا للأمر وتيسيرًا للتعبير عنها بها.

وبالجملة: إنّ الوضع إمّا مستند إلى الله سبحانه في جميع تلك الألفاظ، أو إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) كذلك، أو التفصيل، ولا رابع، لكن على الثالث يمكن أن يكون على وجهين، أحدهما: أن تكون الألفاظ المذكورة في القرآن من الله تعالى وفي السنّة منه (صلی الله علیه و آله)، والثاني: عكس ذلك، لكنّه بعيد.

ولهذا نقتصر على الثلاثة، فنقول: إنّ الوضع في كلّ واحد من الاحتمالات الثلاثة إمّا بالتعيين في جميع الألفاظ، أو بالتعيّن كذلك، أو في بعضها هذا وفي الآخر ذاك، فالاحتمالات المتصوّرة تسعة، فبالحريّ أن نتكلّم في جميع تلك الأقسام؛ ليظهر لك إمكان إرادة الجميع في المقام أو عدمه، فنقول:

الاحتمال الأوّل

الأوّل من تلك الاحتمالات: أن يكون الوضع في الجميع مستندًا إلى الله تعالى ويكون بالتعيين، وأوقف النبيّ (صلی الله علیه و آله) ذلك بالوحي أو الإلهام(1).

ولا شبهة في إمكان ذلك وأوفقيّته بما يتبادر من لفظ «الشارع»، وهو جاعل الشرع.

ص: 38


1- جاء في حاشية الأصل: بأن يكون التوقيف بالوحي في بعض وبالإلهام في الآخر، أو يكون التوقيف في الجميع بالإلهام، واحتمال التوقيف في الجميع بالوحي غير صحيح، كما يظهر بعد التأمّل. منه.
الاحتمال الثاني

والثاني: كالأوّل، إلّا أنّ الوضع فيه بالتعيّن.

وهذا الاحتمال غير صحيح؛ لأنّ الوضع التعيّنيّ على ما عرفت في المقدّمة هو الّذي يكون إفادة المعنى فيه بالغلبة والاشتهار وكثرة الاستعمال؛ وهذا لا يخلو إمّا أن يكون المعتبر في صدق الواضع بالوضع التعيّنيّ على أحدٍ تحقّقَ الكثرة والشهرة منه، أم لا، بل المعتبر في ذلك كونه أوّل من استعمل اللفظ في المعنى، سواء تحقّقت الكثرة منه، أم منه ومن متابعيه.

وإنّما ينسب الوضع على التقدير الثاني إلى المستعمل الأوّل، مع أنّ لاستعمال المتابعين أيضًا مدخليّة في تحقّق الغلبة والاشتهار؛ لكونه الأصل في ذلك والداعي لاستعمالهم وفرعيّة استعمالهم لاستعماله وترتّبه عليه، وعلى كلّ من التقديرين لا يمكن إرادة هذا الاحتمال؛ لأنّ أصل الاستعمال في جميع تلك الألفاظ لم يثبت منه تعالى، فضلًا عن الكثرة فيه، فتأمّل.

على أنّه يمكن أن يقال بعدم كفاية كونه أوّل من استعمل اللفظ في المعنى في صدق الواضع عليه(1)، بل لا بدّ مع ذلك من تحقّق الغلبة والاشتهار منه؛ إذ لو لم

ص: 39


1- جاء في حاشية الأصل: ولا يخفى عليك أنّه يظهر من اتّفاقهم على ثبوت الحقيقة المتشرّعة أنّه لا يعتبر فيصدق الواضع بالوضع التعيّنيّ كونه أوّل من استعمل، بل المعتبر تحقّق الغلبة والاشتهار، فإذا صدر ذلك من طائفة يمكن انتساب الوضع إليهم وإن كان أوّل من استعمل اللفظ غيرهم، وإلّا لا وجه للقول بالحقيقة المتشرّعة، كما لا يخفى. منه.

يعتبر ذلك، بل اكتفي في ذلك بكونه ممّن صدر منه(1) الاستعمال أوّلًا، يلزم أن تكون الحقيقة المتشرّعة حقيقة شرعيّة؛ لوضوح أنّ المستعمل الأوّل هو الشارع بأيّ معنى كان، وهو السبب الداعي والموجب الباعث لاستعمالهم، واستعمالهم متفرّع على استعماله ومترتّب عليه كما لا يخفى، وبطلان التالي معلوم بالاتّفاق، فالمقدّم مثله.

الاحتمال الثالث
اشارة

والثالث(2): أن يكون الوضع في الجميع مستندًا إليه تعالى أيضًا، لكن في البعض بالتعيين وفي الآخر بالتعيّن.

وهذا الاحتمال ربما يمكن إرادته في المقام بأن يكون بعض من الألفاظ الواردة في الكتاب استعماله أوّلًا على سبيل التجوّز ويكون المعنى مفهومًا منه بمعونة القرينة، ثمّ بتكرير الذكر فيه حصل الاشتهار والغلبة فيه، كما تكرّر ذكر الصلاة والزكاة، فتأمّل.

هذا على تقدير أن يعتبر في صدق الواضع بالوضع التعيّني تحقّق الغلبة والاشتهار منه، وإلّا فالأمر بالنسبة إلى إرادة هذا الاحتمال سهلٌ جدًّا.

هذا كلّه في إثبات الوضع التعيّني في البعض، وأمّا الوضع التعييني في الآخر فيعلم حاله ممّا ذكر في الاحتمال الأوّل من غير افتقار إلى تجشّم فكر وتأمّل.

ص: 40


1- في «ق»: عنه.
2- جاء في حاشية الأصل هنا بخطّه (قدس سره): كالأوّل أيضًا، إلّا في وضع البعض فكالثاني. وعليه علامة خ ل.
الإيراد على الاحتمالات الثلاثة مع الجواب عنه

ويمكن الإيراد على الوجوه الثلاثة بأنّ جميعها مشتركة في استناد الوضع في جميع الألفاظ إلى الله تعالى، وهو ينافي ما تقدّم من ثبوت التفويض إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) في بعض الأحكام؛ إذ حينئذٍ يكون الوضع في ألفاظ(1) ذلك البعض مستندًا إليه (صلی الله علیه و آله) لا إلى الله تعالى.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ ذلك إنّما يتوجّه إذا وجد لفظ مختصّ لتلك الأحكام المفوّضة ولم نجده.

إن قيل: سلّمنا انتفاء لفظ خاصّ لها، لكنّه لا يحسم مادّة الإيراد؛ إذ الألفاظ المشتركة أيضًا تفتقر إلى وضع.

قلنا: لسنا بمنكرين لذلك، لكنّه لا يضرّ بالمدّعي؛ إذ المدّعي أنّ الوضع في جميع الألفاظ مستندٌ إلى الله تعالى، لا في جميع الألفاظ بالنسبة إلى جميع المعاني، فلا يضرّ تحقّق الوضع منه (صلی الله علیه و آله) في بعض الألفاظ لبعض المعاني الّذي يكون مغايرًا لما وضعه الله تعالى لأجله، وعلى تقدير التسليم لا نسلّم التنافي بين كون الحكم من موضوعاته (صلی الله علیه و آله) و(2) كون وضع اللفظ له منه تعالى، كما في عكسه على ما تقدّم.

الاحتمال الرابع

والرابع: كالأوّل إلّا في الواضع، فهو فيه النبيُّ (صلی الله علیه و آله) .

ص: 41


1- في «ق»: الألفاظ.
2- في «ق»: وبين.

وهو ممكن ولا يرد عليه شيءٌ إلّا ما تقدّم من أنّ كثيرًا من تلك الألفاظ واردة في القرآن، ومعانيها إنّما علمت منها، فكيف يتصوّر الوضع؟! وأنّ الأحكام الشرعيّة توقيفيّة موقوفة على التوقيف منه تعالى، فكيف يتصوّر الوضع فيها لغيره سبحانه؟! لكنّك قد عرفت الجواب عنه بما لا مزيد عليه.

الاحتمال الخامس
اشارة

والخامس: كالرابع إلّا في الوضع فكالثاني.

وهذا أيضًا ممكن لما علمت من أنّه يمكن أن يكون الله تعالى أوقف نبيّه جميع الأحكام الشرعيّة بغير تلك الألفاظ، بل من غير طريق لفظ أصلًا، ثمّ النبيّ استعمل تلك الألفاظ في تلك المعاني على سبيل المجاز، ثمّ اشتهرت فيها إلى أن بلغت حدّ الحقيقة.

وكفاية هذا الاحتمال في صحّة انتساب الوضع في جميع الألفاظ إلى النبيّ - عليه الصلاة والسلام - بناءً على الاكتفاء في ذلك بتحقّق الاستعمال الأوّل وإن كانت الغلبة والاشتهار بانضمام استعمال الغير ممّا لا يخفى.

وأمّا على توقّف انتساب الوضع التعيّني إلى أحد على تحقّق الغلبة والاشتهار منه، فصحّة الاحتمال المذكور محلّ تأمّل؛ لبعد اشتهار جميع تلك الألفاظ في تلك المعاني من محض استعماله (صلی الله علیه و آله) لكن يمكن أن يقال بعدم اعتبار ذلك والاكتفاء في انتساب الوضع المذكور إلى أحد بكونه أوّل من استعمل بشرط أن يكون استعماله داعيًا ومتبوعًا لاستعمال غيره واعتبار تحقّق الغلبة والاشتهار في زمانه.

ص: 42

طرق إثبات الوضع التعيّنيّ

فعلى هذا نقول: إنّ الطريق في ثبوت الوضع التعيّنيّ ثلاثة:

الأوّل: الاستعمال الأوّل مع تحقّق الغلبة والاشتهار من ذلك المستعمل، هو أقواها.

والثاني: كالأوّل إلّا أنّ لاستعمال الغير مدخليّة في تحقّق الاشتهار، لا مطلقًا، بل بانضمام استعمال الغير إلى استعمال المستعمل الأوّل في زمانه يتحقّق الاشتهار والغلبة، ففي هاتين(1) الصورتين يسند الوضع إلى المستعمل الأوّل.

والثالث: أن يشتهر اللفظ عند طائفة بعد انقضاء زمان المستعمل الأوّل، وهذا الوضع تعيّنيّ، لكن يسند الوضع في هذه الصورة إلى تلك الطائفة.

ولا يخفى أنّ الحقيقة المتشرّعة من هذا القبيل، فعلى هذا اندفع النقض السابق(2)، لكن يرد على هذا الاحتمال والثاني: أنّ صحّته تتوقّف على انتفاء اللفظ المخترع في الألفاظ الشرعيّة؛ إذ معه يبعد الاستعمال التجوّزي، وعلى تحقّق المناسبة بين المعاني الشرعيّة واللغويّة واعتبارها كما لا يخفى، وهو محلّ كلام.

ص: 43


1- في «ج»: تلك.
2- جاء في حاشية الأصل: ولا يذهب عليك أنّ اندفاع النقض إنّما هو على تقدير أن يكون الشارع هو النبيّ (صلی الله علیه و آله)؛ إذ حينئذٍ يتصوّر انقضاء الزمان وعدمه، وأمّا على تقدير أن يكون هو الله تعالى فلا كما لا يخفى، نعم، يمكن أن يفصّل في حقّه سبحانه بالنسبة إلى زمان نزول الخطاب وعدمه. منه.
الاحتمال السادس

والسادس: كالثالث إلّا في الواضع فكالرابع، أي يكون الوضع في بعض الألفاظ بالتعيين، وفي بعض آخر(1) بالتعيّن، ويكون الواضع في الجميع النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

وهذا الاحتمال لا شبهة في إمكان إرادته في المقام وإن كانت إرادته بالنسبة إلى الله تعالى محلّ كلام عند توقّف نسبة هذا الوضع إلى أحد تحقّق الغلبةُ والاشتهار منه.

الاحتمال السابع

والسابع: أن يكون الوضع فيما ذكر في الكتاب من تلك الألفاظ مستندًا إلى الله تعالى وفي غيره إلى النبيّ - عليه الصلاة والسلام - ويكون في الجميع على سبيل التعيين.

وحال هذا القسم يظهر ممّا ذكر في الاحتمال الأوّل والرابع، لكن يتوجّه على استناد الوضع فيما ذكر من الكتاب إلى الله تعالى أنّه يلزم حينئذٍ أن لا تكون تلك المعاني والأحكام قبل نزول الآيات معلومة للنبيّ - عليه وآله السلام - فيرد عليه ما أشرنا إليه سابقًا من أنّه يلزم بناءً عليه أن لا يكونوا مصلّين قبل نزول آية الصلاة وهكذا.

ويمكن الجواب عنه بمنع الملازمة؛ لجواز أن يوقف الله تعالى نبيّه تلك الأحكام من غير هذه الألفاظ وهم كانوا ممتثلين بها وآتين عليها من غير إطلاق تلك

ص: 44


1- في «ق»: الآخر.

الألفاظ عليها إلّا بعد نزول الآيات.

وبالجملة: واللازم على تقدير استناد الوضع فيما ذكر في الكتاب إليه تعالى، عدم إطلاق تلك الألفاظ عليها، لا عدم معلوميّة المعاني والأحكام الّتي يستنبط منها، ولا محذور فيه، والمحذور عدم الإتيان بالصلاة مثلًا قبل نزول الآية المتعلّقة بها، وأين هذا من ذلك؟! فاللازم غير محذور والمحذور غير لازم.

الاحتمال الثامن

والثامن: كالسابع إلّا أنّ الوضع في الجميع تعيّني.

وهذا الاحتمال عند عدم توقّف انتساب الوضع التعيّني إلى أحد على تحقّق الاشتهار منه، ظاهرٌ في كلّ من الألفاظ المذكورة في الكتاب والسنّة، وأمّا مع توقّفه عليه فيشكل الأمر، لاسيّما بالنسبة إلى الألفاظ المذكورة في الكتاب، إذ قد لا يكون اللفظ مذكورًا فيه إلّا في موضع واحد ولم يكرّر أصلًا، فضلًا عن الكثرة والاشتهار، لكنّك قد عرفت أنّه يمكن القول بعدم اعتبار ذلك، فإرادة الاحتمال المذكور ممكنة.

الاحتمال التاسع

والتاسع: أن يكون الأمر في الواضع كالسابع والثامن، لكنّ الوضع في الألفاظ المذكورة في الكتاب بالتعيين وفي السنّة بالتعيّن، أو بالعكس. وحال هذا القسم على كلّ من الاحتمالين يظهر ممّا ذكر من الكلام في البين.

ص: 45

احتمال آخر

ثمّ لا يخفى عليك أنّ هنا احتمالًا آخر، وهو أن يكون الكلام في الواضع كالثلاثة الأخيرة، لكن على تفصيل في كلّ من الكتاب والسنّة بأن يقال: إنّ الوضع في بعض الألفاظ المذكورة في الكتاب بالتعيين وفي بعض آخر بالتعيّن، وكذا الكلام في السنّة، ويظهر حاله أيضًا ممّا تقدّم، فلا يحتاج إلى الذكر.

ولا يخفى أيضًا أنّ الحقيقة الشرعيّة على الثلاثة الأُوَل مستندةٌ إلى الله تعالى، وعلى الثلاثة الوسطى إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعلى الثلاثة الأخيرة إليهما، والشارع بالنسبة إليه تعالى يكون بمعناه المتبادر، أي جاعل الشرع، وبالنسبة إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) بمعنى صاحب الشرع، أو آتيًا به، أو جاعل الشرع في الجملة، أي بالنسبة إلى أحكامه وموضوعاته (صلی الله علیه و آله) .

وبالجملة: إطلاقُ الشارع على النبيّ (صلی الله علیه و آله) خلافٌ لظاهر اللفظ، أمّا بالنسبة إلى المعنيين فظاهر، وأمّا بالنسبة إلى جاعل الشرع فلأنّ الظاهر من الشارع أن يكون مستقلًّا في ذلك من غير افتقار إلى إمضاء غيره، كما في حقّ الله سبحانه، وأيضًا إطلاقُهُ وإرادة جاعل الشرع في الجملة خلافٌ لظاهر اللفظ من وجه آخر.

حاصل الكلام في تعريف الحقيقة الشرعيّة

وكيف كان فقد تحصّل(1) بما تقرّر: أنّ الحقيقة الشرعيّة ما نقله الشارع عن

ص: 46


1- في «ق»: يحصل.

المعنى اللغويّ إلى المعنى المستحدث على ما يظهر من كلام جماعة(1)، أو ما كان استفادة المعنى منه بوضع الشارع كما يظهر من أخرى(2).

والفرق بينهما أنّ الثاني أعمّ من الأوّل من وجهين:

الأوّل: هو ما تقدّم من صدق الثاني على الألفاظ المخترعة والأسامي المبتدعة.

والثاني: هو أنّ النقل عند أئمّة الأصول ما لوحظ فيه المناسبة بين المعنيين، فلو(3) لم يلاحظ فيه ذلك - سواء تحقّقت المناسبة، أو لم يلاحظ، أو لم يتحقّق أصلًا - لم يكن منقولًا، فلو تحقّق لفظٌ بين الألفاظ الشرعيّة انتفت فيه المناسبة أو الملاحظة، يلزم أن لا يكون حقيقة شرعيّة على التعريف الأوّل، بخلافه على الثاني.

ويمكن رفع النزاع بين المقامين ودعوى الوفاق بين الفرقتين بأن يقال: إنّ التعريف الأوّل إنّما هو بالنظر إلى الواقع، والثاني بالنظر إلى المفهوم، بناءً على ما صرّح به بعضهم من أنّه لم يوجد في الألفاظ الواقعة في الشريعة لفظ مخترع لم يعرف(4) له معنى في اللغة، بل التتبّع شاهد على أنّ كلًّا من تلك الألفاظ له معنى فيها(5) ووجدت بينه وبين المعنى الشرعيّ المناسبة.

ويتوجّه عليه: أنّه على تقدير تسليمه غير كافٍ لتحقّق النقل؛ لما علمت من أنّ

ص: 47


1- ينظر: تهذيب الوصول: 65، وإشارات الأصول: 1/ 28.
2- ينظر الوافية: 59، ونهاية الوصول: 1/ 245، والمحصول، للرازيّ: 1/ 119.
3- في «ق»: ولو.
4- في «ق»: ولم يعرف.
5- أي: في اللغة.

اعتبارها شرطٌ في ذلك، إلّا أن يقال: إنّه يظهر من تحقّقها بين جميع تلك المعاني اعتبارها، وإلّا فلِمَ لم يوجد في المعاني الشرعيّة معنى لم يتحقّق المناسبة بينه وبين المعنى في اللغة(1)؟!

هذا كلّه في ماهيّة الحقيقة الشرعيّة وما يترتّب عليها.

في بيان الحقيقة الدينيّة
اشارة

ونقل ابن الحاجب وغيرُه عن المعتزلة القول بالحقيقة الدينيّة أيضًا، وعرّفها جماعةٌ(2) ب- «ما لا يعرف أهل اللغة لفظه، أو معناه، أو كليهما»(3).

ونقل عنهم: أنّهم زعموا أنّ أسماء الذوات كالمؤمن والكافر والإيمان والكفر كذلك(4)، دون أسماء الأفعال كالصلاة والزكاة والمصلّى والمزكّى(5).

ص: 48


1- في «ق»: اللفظ.
2- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 580، والإحكام، للآمديّ: 1/ 27، والبحر المحيط: 1/ 518.
3- جاء في حاشية الأصل: ويرد على هذا التعريف زيادة على ما يأتي: أنّ الحقيقة في اصطلاحهم: اللفظ المستعمل في الموضوع له، وحينئذٍ يكون معنى التعريف: أنّ الحقيقة الدينيّة لفظٌ مستعملٌ في المعنى الموضوع له في الدين، يكون لفظ ذلك اللفظ غير معلوم لأهل اللغة، مع أنّه غير مراد في المقام. ويمكن التوجيه بارتكاب حذف مضاف في لفظه، أي: الحقيقة الدينيّة ما لا يعلم أهل اللغة لفظ معناه، لكن لا يخفى ما فيه من الركاكة؛ منه.
4- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي من الحقيقة الدينيّة.
5- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 580، ونهاية الوصول: 1/ 246، وغاية الوصول: 1/ 171، ومنية اللبيب: 1/ 207، وإشارات الأصول: 1/ 28 و420، والمعتمد: 1/ 18، والبحر المحيط: 1/ 517، وإرشاد الفحول: 21، والمحصول، للرازيّ: 1/ 299 والإحكام، للآمديّ: 1/ 31.

وحكى جماعةٌ: أنّهم أرادوا بأسماء الذوات ما هو من أصول الدين أو ما يتعلّق بالقلب، ومن أسماء الأفعال ما هو من الفروع أو ما يتعلّق بالجوارح(1).

هذا هو الّذي وصل إلينا منهم في هذا المقام.

أقول: تحقيق المقام يستدعي أن يقال: إنّ الحقيقة الدينيّة إمّا أن يكون(2)مباينة ومغايرة للحقيقة الشرعيّة عندهم بحيث لم يمكن الاكتفاء بذكرها عنها، أو لا، احتمالان:

الاحتمال الأوّل

الأوّل: هو الّذي يظهر من كلام ابن الحاجب وغيره، حيث قالا بعد الحكم بثبوت الحقيقة الشرعيّة:

«وأثبت المعتزلة الحقيقة الدينيّة أيضًا»(3).

والمباينة تظهر من هذا الكلام من وجهين:

الأوّل: أنّها لو لم يكن(4) مباينة لها بالمعنى المذكور، لكانت إمّا مساوية لها، أو

ص: 49


1- ينظر حاشية الجرجانيّ على شرح مختصر المنتهى: 1/ 587.
2- كذا في الأصل، والصواب: تكون.
3- شرح مختصر المنتهى: 1/ 580، وإرشاد الفحول: 21.
4- كذا في الأصل، والصواب: لم تكن.

أخصّ منها، وعلى التقديرين لا وجه لهذه الحكاية، أمّا على تقدير التسوية فظاهر، وأمّا على تقدير الأخصّيّة فلأنّ ذكر العامّ مغنٍٍ عن ذكر الخاصّ، فلا حاجة لذكر ذلك الكلام بعد الحكم بثبوت الحقيقة الشرعيّة، لاسيّما بذلك الكلام المشتمل على لفظة: «أيضًا» كما لا يخفى.

والثاني: أنّ الحقيقة الدينيّة على التقديرين من الحقيقة الشرعيّة، فكلّ من قال بها يلزمه القول بها، فلا وجه للقائل بثبوت الحقيقة الشرعيّة بعد الحكم بثبوتها نسبةَ القولِ بالحقيقة الدينيّة إلى المعتزلة خاصّة، إلّا من جهة إطلاق هذا اللفظ وعدمه، وهو مع كونه مخالفًا لظاهر النقل المذكور لا يليق أن يُذكر في الكتب المختصرة.

الاحتمال الثاني

والثاني: هو الّذي يظهر من جماعة منهم كالفاضل التفتازانيّ والعالم الباغنويّ وغيرهما، حيث قالوا بعد ذكر الحقيقة الدينيّة:

إنّها اسم لنوع خاصّ من الشرعيّة(1).

فينبغي التكلّم في كلّ من الاحتمالين حتّى يظهر(2) حقيقة الحال في البين، فنقول: على تقدير المباينة بالمعنى المذكور بينهما إمّا أن يكون التباين بينهما كلّيًّا بأن يقال: إنّ الحقيقة الشرعيّة على ما مرّ: الألفاظ الّتي نقلها الشارع، إلى آخره، والنقل استلزم المناسبة بين المعنيين وملاحظتها حالته، فتحقّق الحقيقة الشرعيّة متوقّفٌ

ص: 50


1- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 584. لم نعثر على كلام الباغنويّ.
2- كذا في الأصل، والصواب: تظهر.

على ذلك ويكون(1) الحقيقة الدينيّة: الألفاظ الّتي وضعها الشارع على غير النهج المذكور؛ لأنّها على التفسير المذكور على ثلاثة أقسام، الأوّل: ما لا يعلم عند أهل اللغة لفظه؛ والثاني: معناه، والثالث: هما معًا.

أمّا كون الوضع في الأوّل والثالث على غير النهج المذكور؛ فلعدم تصوّر النقل فيهما(2)، وأمّا في الثاني فلأنّه وإن احتمل أن يكون الوضع فيه بالنقل كما احتمل بغيره، لكنّه يقيّد بما إذا انتفت المناسبة بين المعنيين، أو الملاحظة، أو لا يكون التباين بينهما كلّيًّا، بل يكون(3) الدينيّة أعمّ، بناءً على إبقاء القسم الثاني من الأقسام الدينيّة على إطلاقه.

والفرق بينهما: هو أنّ الحقيقة الدينيّة بجميع أقسامها بناءً على الأوّل يكون(4) من الموضوعات المبتدئة، وعلى الثاني تكون المنقولة أيضًا، وعلى الحالين وإن يظهر(5) المباينة بين الحقيقتين، لكنّه يرد عليه: أنّ هذا التعريف للحقيقة الدينيّة إمّا أن يكون باعتبار المفهوم، أو الواقع.

وعلى الأوّل نمنع(6) المغايرة والمباينة بين الحقيقتين؛ لأنّ الحقيقة الشرعيّة

ص: 51


1- كذا في الأصل، والصواب: وتكون.
2- جاء في حاشية الأصل: لأنّ نقل اللفظ المستعمل عند طائفة في معنى إلى غيره لا يجتمع مع مجهوليّته لتلك الطائفة كما لا يخفى. منه.
3- كذا في الأصل، والصواب: تكون.
4- كذا في الأصل، والصواب: تكون.
5- كذا في الأصل، والصواب: تظهر.
6- في «ق»: فمنع.

باعتبار المفهوم يصدق(1) على جميع تلك الأقسام.

وكيف لا؟! مع أنّ الحقيقة: اللفظ المستعمل في الموضوع له، واحتمال مدخليّة النقل في مفهوم الحقيقة ممّا لا يذهب إليه وهمٌ ولم يقل به أحد، فإذا كان الواضع هو الشارع يكون(2) الحقيقة شرعيّة، فعلى هذا يكون(3) الحقيقة الشرعيّة: اللفظ المستعمل فيما وضع له الشارع، ولا شبهة في صدقه بالنسبة إلى جميع تلك الأقسام.

وعلى الثاني نمنع وقوع تلك الأقسام، وقد صرّح الفاضل التفتازانيّ والعالم الباغنويّ وغيرهما بأنّ الثابت من أقسام الدينيّة هو الثاني(4).

لكن يتوجّه عليه: أنّ وقوع القسم الثاني كافٍ للافتراق؛ لما عرفت من أنّ الواقع من الحقيقة الشرعيّة ما كان من الموضوعات المنقولة، والقسم الثاني من الدينيّة إمّا موضوعات مبتدئة، أو منقولة أيضًا، لكن قد عرفت الكلام في عدم معلوميّة لفظ في الألفاظ الشرعيّة لم يتحقّق بين معناه الشرعيّ واللغويّ مناسبة وملاحظتها على ما تقدّم، وعلى فرض تسليم وجوده يكون حقيقة شرعيّة أيضًا لما علمت.

الكلام على تقدير أخصّيّة الدينيّة من الشرعيّة

وعلى تقدير كون الدينيّة أخصّ من الشرعيّة بناءً على ما تقدّم من تصريح جماعة

ص: 52


1- كذا في الأصل، والصواب: تصدق.
2- كذا في الأصل، والصواب: تكون.
3- كذا في الأصل، والصواب: تكون.
4- صرّح به التفتازانيّ في حاشيته على شرح مختصر المنتهى: 1/ 584. لم نعثر على كلام الباغنويّ وغيره.

أنّها اسم لنوع خاصّ منها، نقول مع الإغماض عمّا يرد عليه ممّا تقدّم ذكره: أنّ أعميّة الشرعيّة متوقّفة على شمولها لبعض ما لم تكن تشمله(1) تلك، والّذي يتخيّل أن يكون ذلك هو القسم الّذي يكون اللفظ والمعنى فيه كلاهما معلومين لأهل اللغة، فالحقيقة الشرعيّة عبارة عمّا لم يعلم لفظه، أو معناه، أو كلاهما، أو علم كلاهما، والدينيّة عبارة عن الثلاثة الأُوَل فقط، وعلى هذا وإن تحقّقت الأعمّيّة والأخصّيّة، لكنّه متوقّف على صحّة إرادة هذا الاحتمال.

تحقيق المقام يقتضي أن يحقّق الحال فيما قالوا في تفسير الحقيقة الدينيّة، فنقول: إنّ كلامهم في بيانها يفيد أنّها على ثلاثة أقسام، الأوّل: أن يكون المعنى معلومًا لأهل اللغة دون لفظه، والثاني: عكسه، والثالث: أن يكون كلاهما مجهولًا.

إذا علمت ذلك فاعلم: أنّه لا يجوز أن يكون مرادهم من المعنى الّذي يكون معلومًا في قسم منها ومجهولًا في الباقي هو المعنى اللغويّ؛ إذ القسم الأوّل هو ما كان المعنى معلومًا لأهل اللغة دون اللفظ، فحينئذٍ يكون اللفظ من مخترعات الشارع وموضوعاته.

ومعلومٌ أنّه إنّما وضعه للمعنى الشرعيّ، فحينئذٍ لا يكون لذلك اللفظ إلّا المعنى الشرعيّ، فإضافة ذلك اللفظ إلى المعنى وإرادة المعنى اللغويّ غير صحيحة؛ إذ المفروض أنّ اللفظ غير معلوم لأهل اللغة، فكيف يتصوّر تعيين المعنى للفظٍ عند طائفة مع مجهوليّة ذلك اللفظ عندهم؟!

ص: 53


1- في «ق»: يشتمله.

فتعيّن أن يكون المراد من المعنى المعلوم أو المجهول في تلك الأقسام المعنى الشرعيّ؛ فحينئذٍ نقول: إنّ القسم الّذي به صارت الحقيقة الشرعيّة أعمّ من الدينيّة ما كان اللفظ والمعنى الشرعيّ فيه معلومين لأهل اللغة، وهو فاسد، إذ حينئذٍ يكون المعنى الشرعيّ عين المعنى اللغويّ، فكيف يتصوّر النقل؟!

وأيضًا قد اتّفقوا أنّ الثمرة المترتّبة على ثبوت الحقيقة الشرعيّة حمل اللفظ على المعنى الشرعيّ، لا اللغويّ عند انتفاء القرينة، وعكسه بناءً على عدمه، وهو لا يتصوّر إلّا مع اختلاف المعنيين، فلو كان الاحتمال المذكور حقًّا لما كان لهذا الكلام على إطلاقه وجه، وأيضًا لو كان المعنى الشرعيّ عين المعنى اللغويّ، فما الفائدة لوضع الشارع؟

ويمكن أن يقال: إنّ جميع ما ذكر إنّما هو إذا كان المراد من كون اللفظ والمعنى الشرعيّ معلومين لأهل اللغة كون المعنى بوصف كونه معنى لذلك اللفظ معلومًا لهم؛ ولا يلزم أن يكون المراد ذلك؛ لجواز أن يكون المراد كون كلّ من اللفظ والمعنى معلومًا لا من حيث كون اللفظ لفظًا لذلك المعنى، فيمكن أن يكون المعنى معنى للفظ آخر واللفظ لفظًا لمعنى آخر، فحينئذٍ يتصوّر النقل والثمرة والفائدة للوضع، كما يظهر للمتأمّل.

على أنّه يمكن أن يقال: إنّ ما اعتبروه من النقل والثمرة إنّما هو بالنسبة إلى ما كان واقعًا من الحقيقة الشرعيّة، لكن يرد عليه مثل ذلك بالنسبة إلى الحقيقة الدينيّة أيضًا؛ وإن كانت أعمّيّة الحقيقة الشرعيّة باعتبار أنّها تكون من الموضوعات المنقولة والمبتدئة، بخلاف الدينيّة فإنّها مختصّة بالأخير كما صرّح بهما الفاضل

ص: 54

التفتازانيّ(1)، يرد عليه منع هذا الاختصاص، وما الدليل على ذلك؟

على أنّ ما ذكروه في بيانها ظاهرٌ في خلافه؛ إذ القسم الثاني من أقسامها أن يكون المعنى مجهولًا لأهل اللغة واللفظ معلومًا؛ وذلك اللفظ المعلوم لا يلزم أن يكون موضوعًا عندهم لمعنى انتفت المناسبة بينه وبين المعنى الشرعيّ، بل أعمّ من ذلك، ولا يلزم في الوضع أيضًا عدم ملحوظيّة المناسبة، فعلى هذا لا يلزم أن يكون(2) الحقيقة الدينيّة من الموضوعات المبتدئة فقط.

وعلى تقدير التسليم(3) نقول: يرد حينئذٍ ما أشرنا إليه آنفًا من أنّ ذكر العامّ مغنٍ عن الخاصّ وأنّ القائل بالعامّ يلزمه القول بالخاصّ، فلا وجه لذكرها بعد الحكم بثبوت الحقيقة الشرعيّة وإسنادها(4) إلى المعتزلة فقط.

وأيضًا أنّ ذلك إمّا بالنسبة إلى الواقع أو المفهوم؛ وعلى كلٍّ من التقديرين قد عرفت الكلام في البين.

ثمّ لا يخفى أنّ المعاني الشرعيّة كلّها توقيفيّة متلقّاة من الشارع، لا يمكن الاطّلاع عليها إلّا من جهة الشرع، كما مرّ مرارًا وصرّح عليه غير واحد، فكيف

ص: 55


1- صرّح بهما في حاشيته على شرح مختصر المنتهى: 1/ 584.
2- كذا في الأصل، والصواب: تكون.
3- جاء في حاشية الأصل: بأن يقيّد المعنى المعلوم بالمعنى الغير المناسب، أو يقال: إنّ معنى قولهم: «أو لا يعلم معناه» أنّه لا يعلم له معنى أصلًا، فعلى هذا لا يتصوّر النقل كما لا يخفى، لكنّه بعيد، بل فاسد كما يظهر للمتأمّل. منه.
4- في «ق وج»: واستنادها.

يمكن لأهل اللغة الاطّلاع على بعضٍ منها حتّى يصحّ أن يجعل قسم من الحقيقة الدينيّة ما يكون المعنى الشرعيّ فيه معلومًا لأهل اللغة دون لفظه وكذا الشرعيّة، وأن يجعل قسم من الشرعيّة ما يكون المعنى الشرعيّ واللفظ كلاهما معلومًا لهم ولو كان بمحض الاحتمال؟!

ثمّ إنّ ما تقدّم من حكمهم بأنّ مثل المؤمن والكافر والإيمان والكفر من الدينيّة، دون المصلّي والمزكّي والصلاة والزكاة، إن أرادوا منه أنّه من القسم الأوّل والثالث منها، فهو ظاهر الفساد؛ وإن جعلوه من القسم الثاني منها، يرد عليه أنّ المصلّي وما ذُكر معه بعينه مثل ذلك، فالتفرقة بينهما تحكّم.

الكلام على ما ذكروا في تفسير الدينيّة

ويمكن أن يقال مع الإغماض عمّا تقدّم من أنّ المعاني التوقيفيّة لا يمكن الاطّلاع عليها من غير جهة الشرع: إنّ النزاع بين المعتزلة وغيرهم في هذا الباب لفظيّ، فإنّ غيرهم اصطلحوا الحقيقة الشرعيّة في جميع تلك الألفاظ، سواء كانت في الأصول أو الفروع؛ وإنّهم اصطلحوها في الأخير أو فيهما، والأوّل أنسب بمقالاتهم، واصطلحوا الحقيقة الدينيّة في الأوّل، ولا مشاحّة في الاصطلاح؛ إذ لكلّ أحد أن يصطلح بما شاء.

على أنّه يمكن أن يقال: إنّ الشرع بمعنى الطريقة، فيكون أنسب بالفروع وأفعال الجوارح والدين؛ لمّا يتقوّم ويتحصّل بالأصول، فإطلاق الدينيّة عليها أولى، فتأمّل(1).

ص: 56


1- جاء في حاشية الأصل: وجه التأمّل وجوه، يظهر أكثرها للمتأمّل فيما سبق وما يأتي. منه.

ثمّ إنّه لا يخفى ما في تفسيرهم المتقدّم لأسماء الذوات وتمثيلهم بما تقدّم من المؤمن والكافر والإيمان والكفر.

أمّا أوّلًا: فلأنّ هذه الألفاظ إمّا أن يكون كلّ واحد منها مثالًا لما ذكروا من أصول الدين، أو لما يتعلّق بالقلب، أو بعض منها لهذا والآخر لذاك، وعلى التقادير لا يستقيم الكلام.

أمّا على الأوّل: فظاهر؛ إذ جعل المؤمن والكافر والكفر من أصول الدين غلطٌ محضٌ لا يتطرّق إليه وهم واهم.

وأمّا على الثاني: فلأنّ الحكم بكون المؤمن والكافر من الأمور المتعلّقة بالقلب ممّا لا يرجى صحّته، فكان اللازم حينئذٍ الاقتصار بالإيمان والكفر.

وأمّا على الثالث: فلأنّه يتصوّر على وجوه لا يكاد يصحّ شيء منها: الأوّل: أن يكون المؤمن والكافر للأوّل، والأخيران للآخر، فقد عرفت الحال فيه.

والثاني: عكسه، وفساده يظهر ممّا ذكر.

والثالث: أن يكون الإيمان من الأوّل والباقي من الثاني.

وهو أيضًا غير صحيح في كلّ من المقامين.

أمّا بالنسبة إلى الأوّل: فلأنّ الإيمان عبارة عن التصديق بما جاء به النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وهو أعمّ من أصول الدين وغيره.

وأمّا بالنسبة إلى الثاني: فلأنّ جعل المؤمن والكافر من الأمور المتعلّقة بالقلب لا يخفى فساده.

ص: 57

وغير ما ذكر من الوجوه الثلاثة وإن كان محتملًا، لكنّه يظهر حاله ممّا ذكر.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ أصول الدين - كالإذعان بوجود الله تعالى وتوحيده وصفاته الجلاليّة والجماليّة(1) وغيرها - كلّها من الأمور الاعتقاديّة المتعلّقة بالقلب، فجعل أحدهما مقابلًا للآخر كما في قولهم: (أنّ المراد بأسماء الذوات ما هو من أصول الدين، أو ما يتعلّق بالقلب)(2)، ممّا لا وجه له.

وأمّا ثالثًا: فلأنّ الأمر المتعلّق بالقلب كما يمكن أن يكون من الأمور الدينيّة، كذا يمكن أن يكون من غيرها، فالحكم بأنّ ما يتعلّق بالقلب على سبيل الإطلاق من هذا القبيل ممّا لا وجه له.

وبما ذكرنا ظهر لك ما في تفسيرهم المذكور لأسماء الأفعال وتمثيلهم بما تقدّم من المصلّي والمزكّي والصلاة والزكاة؛ إذ جميع ذلك إمّا أن يكون مثالًا لما يكون من الفروع، فيرد عليه: أنّ جعل المصلّي والمزكّي من الفروع ممّا لا يخفى ما فيه، وكذا إذا كان مثالًا لما يتعلّق بالجوارح، أو على التفصيل.

وأيضًا إنّ مقابلة الفروع بما يتعلّق بالجوارح يقتضي أن لا يكون(3) الفروع

ص: 58


1- جاء في حاشية الأصل: صفته الجلاليّة ما جلّت ذاته تعالى عن مشابهة الغير المعبّر عنها بالصفات السلوبيّة، وجميعها يرجع إلى سلب الإمكان عنه تعالى المستلزم لسلب جميع النقائص والأعدام، وصفته الجماليّة ما تجمّلت ذاته وتكرّمت بها، ويقال لها: صفة الإكرام، كما في قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [سورة الرحمن: 78]. منه.
2- ينظر حاشية الجرجانيّ على شرح مختصر المنتهى: 1/ 587.
3- كذا في الأصل، والصواب: لا تكون.

متعلّقًا(1) بالجوارح، وفساده بيّن.

وكيف كان فتصحيح مقالهم في هذا المقام دونه خرط القتاد، فاللازم الرجوع إلى ما هو أهمّ من ذلك.

ص: 59


1- كذا في الأصل، والصواب: متعلّقةً.
متمسّك النافين للحقيقة الشرعيّة
اشارة

ومتمسّك النفاة وجوه:

الدليل الأوّل
اشارة

الأوّل: أنّ تلك الألفاظ لو كانت حقائق شرعيّة، لكانت غير عربيّة؛ لأنّ اختصاص الألفاظ باللغات بحسب دلالتها بالوضع فيها، والمفروض أنّ العرب لم يضعوها، فلا تكون عربيّة، والتالي باطل، إذ لو لم تكن عربيّة لزم أن لا يكون القرآن عربيًّا؛ لاشتماله على جملة من تلك الألفاظ، فما لا يكون بعضه عربيًّا لا يكون كلّه عربيًّا؛ والتالي باطل لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا﴾(1)(2).

الجواب عن الدليل الأوّل

وفيه: منع الملازمة الأولى؛ لما قيل من أنّ هذه الألفاظ الّتي هي حقائق شرعيّة مجازات لغويّة، والمجازات الحادثة عربيّة وإن لم يصرّح العرب بآحادها؛ إذ يكفي في صحّة التجوّز وجود العلاقة الثابت نوعها في استعمالات العرب، ولا يشترط فيه نقل الآحاد عنهم، والعلاقة المصحّحة موجودة في هذه الألفاظ قطعًا، فلا يلزم

ص: 60


1- سورة يوسف: 2.
2- احتجّ بهذا الوجه القاضي أبو بكر الباقلانيّ، ينظر معالم الأصول: 37، وزبدة الأصول: 81، ونهاية الوصول:1/ 258، والتقريب والإرشاد: 1/ 391 -392، وإرشاد الفحول: 22، والمحصول، للرازيّ: 1/ 298، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 168، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 582، والإحكام، للآمديّ: 1/36.

خروجها عن العربيّة(1).

أقول: إنّ الّذي ذكروه في بيان الملازمة الأولى إمّا أن يكون مسلّمًا عند هذا القائل، أو لا، وعلى الأوّل: يكون مآل الكلام أنّ ما ذكر من أنّ اختصاص الألفاظ باللغات إنّما هو بحسب دلالتها بالوضع فيها، وإن كان(2) مسلّمًا، لكن لا يلزم منه عدم اتّصاف تلك الألفاظ بالعربيّة؛ لأنّ تلك الألفاظ مجازات لغويّة، والمجازات موضوعة بالوضع النوعيّ، والوضع المأخوذ في دليل الملازمة أعمّ من النوعيّ والشخصيّ.

وفيه نظر؛ لعدم إمكان شمول الوضع المأخوذ في الدليل للوضع المتحقّق في المجازات، أمّا أوّلًا: فلأنّ الظاهر من الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى لذاته، ولفظ «الوضع» حقيقة فيه للتبادر، فلو أريد من الوضع المذكور هذا المعنى والمعنى المتحقّق في المجاز، يلزم الجمع بين المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في آنٍ واحد.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ القرينة في الدليل المذكور موجودة؛ على أنّ الوضع المأخوذ فيه هو ما تحقّق في الحقائق؛ لأنّ الدلالة في المجازات ليست بسبب الوضع المتحقّق فيها كما لا يخفى.

وعلى الثاني: يكون مآل الكلام أنّ ما ذكر في بيان الملازمة غير تامّ؛ لأنّ المجازات في لغة العرب مثلًا عربيّة، فلو كان اختصاص الألفاظ باللغات بحسب

ص: 61


1- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 582.
2- في «ق»: كانت.

دلالتها بالوضع فيها، يلزم أن تكون الألفاظ المجازيّة في كلّ لغة خارجة عن تلك اللغة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، فكما لا تخرج الألفاظ المجازيّة في لغة العرب عن تلك اللغة مع عدم كون دلالتها بالوضع فيها، ينبغي أن لا تخرج الحقائق الشرعيّة منها أيضًا.

وحاصل الكلام: أنّ ما ذكروه من أنّ اختصاص الألفاظ باللغات بحسب دلالتها بالوضع فيها، إن أريد من ذلك أنّ اختصاص الألفاظ باللغات بحسب دلالتها بالوضع في كلّ ما استعملت فيه، يلزم أن تكون الألفاظ المجازيّة في كلّ لغة خارجة عن تلك اللغة، ولو أريد أنّ اختصاصها بها بحسب دلالتها بالوضع في الجملة، لا يلزم المفسدة المذكورة في تلك الألفاظ، بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة؛ لأنّ دلالتها في لغة العرب بالوضع بالنسبة إلى معانيها اللغويّة ثابتة.

وفيه أيضًا(1) نظر؛ لأنّا نختار الأوّل ونمنع خروج المجازات المستعملة في كلّ لغة عنها، بناءً على أنّ الدالّ في الألفاظ المجازيّة على المعاني المجازيّة اللفظ بشرط القرينة، واللفظ إنّما يدلّ عليها بوضعه لمعناه على ما تقدّم تحقيقه بما لا مزيد عليه، فلا يلزم خروج الألفاظ المجازيّة، بخلاف الحقيقة الشرعيّة.

الاحتمالات في الحكم بكون الحقائق الشرعيّة مجازات لغويّة
اشارة

ثمّ أقول: إنّ الحكم بكون الحقائق الشرعيّة مجازات لغويّة، لا يخلو إمّا أن يكون بالنسبة إلى المعنى اللغويّ، أو الشرعيّ، وعلى التقديرين إمّا بالنسبة إلى أهل اللغة،

ص: 62


1- «أيضًا» لم ترد في «ق».

أو الشارع، فالاحتمالات لا تخلو من هذه الأقسام:

الاحتمال الأوّل

الأوّل: أن يكون الحكم بالمجازيّة اللغويّة بالنسبة إلى المعنى اللغويّ وأهل اللغة، وفساده غنيّ عن البيان، مع أنّه لا دخل له في المقام.

الاحتمال الثاني

والثاني: أن يكون ذلك بالنسبة إلى الشارع؛ وهو فاسد أيضًا، أمّا أوّلًا: فلأنّ تحقّق المجاز المنتسب إلى أهل كلّ صناعة يمكن أن يكون من وجهين:

الأوّل: أن يكون استعمال اللفظ من أهل الصناعة في غير ما وضع له عندهم؛ لعلاقة بينه وبين الموضوع له، فالمجاز اللغويّ على هذا هو اللفظ المستعمل من أهل اللغة في غير معناه الموضوع له عندهم.

والثاني: أن لا يكون المستعمل من أهل تلك الصناعة، لكن يكون استعماله تبعًا لاستعمالهم.

إذا علمت ذلك نقول: إنّ الألفاظ المستعملة من الشارع في معانيها اللغويّة لا تكون مجازات لغويّة بشيء(1) من المعنيين المذكورين، أمّا على المعنى الأوّل فظاهر، وأمّا على المعنى الثاني فلأنّ استعمال الشارع ليس تبعًا لاستعمال أهل اللغة؛ إذ الكلام على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعيّة، بل تلك الألفاظ حينئذٍ مجازات شرعيّة على المعنى الأوّل.

ص: 63


1- في «ق»: لشيء.

وأمّا ثانيًا: فلأنّه لا دخل له فيما نحن فيه؛ إذ الكلام في الألفاظ المستعملة من الشارع في المعاني الشرعيّة.

الاحتمال الثالث

والثالث: أن يكون ذلك بالنسبة إلى أهل اللغة والاستعمال في المعنى الشرعيّ، وهذا لا يخلو إمّا أن يكون استعمالهم فيه تبعًا لاستعمال الشارع، أو لا، بل لأجل المناسبة بينه وبين المعنى اللغويّ، وعلى الأوّل يكون اللفظ حقيقة شرعيّة ولا يكون مجازًا لغويًّا، وعلى الثاني وإن كان اللفظ مجازًا لغويًّا، لكن لا دخل له فيما نحن فيه لما عرفت.

الاحتمال الرابع

والرابع: أن يكون ذلك بالنسبة إلى الشارع والمعنى الشرعيّ، وهذا هو الّذي يكون الكلام فيه، واللفظ حينئذٍ إنّما يكون حقيقة شرعيّة ولا يكون مجازًا لغويًّا بشيء(1) من المعنيين المذكورين كما لا يخفى، فمن أين تحقّق المجاز اللغويّ حتّى يتّصف اللفظ بالعربيّة بسببه؟!

إلّا(2) أن يختار الرابع ويقال: إنّ للمجاز اللغويّ معنى آخر، وهو أن يكون اللفظ مستعملًا في الموضوع له عند غير أهل اللغة مع ملاحظة المناسبة بينه وبين الموضوع له لغة، وعلى هذا تكون تلك الألفاظ حين كونها مستعملة في المعاني الشرعيّة عند

ص: 64


1- في «ق»: لشيء.
2- في «ق»: وإلّا.

الشارع مجازات لغويّة؛ لملاحظة المناسبة بين معانيها الشرعيّة واللغويّة.

لكن فيه نظر، أمّا أوّلًا: فلأنّه يستلزم أن يكون اللفظ حقيقة ومجازًا بالنسبة إلى معنى واحد في استعمال واحد، فيلزم اجتماع المتنافي؛ إذ الحقيقة: اللفظ المستعمل في الموضوع له، والمجاز: المستعمل في غيره.

لا يقال: إنّ المستحيل كون اللفظ حقيقة ومجازًا باعتبار واحد، وأمّا إذا كان باعتبارين فلا؛ وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ اللفظ باعتبار الوضع الشرعيّ حقيقة وباعتبار الوضع اللغويّ مجاز.

لأنّا نقول: تعدّد الاعتبار بعد وحدة الاستعمال لا يجدي في رفع الإشكال؛ إذ المجاز: اللفظ المستعمل في غير الموضوع له من حيث إنّه غير الموضوع له، واللفظ فيما نحن فيه مستعمل في الموضوع له من حيث إنّه موضوع له كما لا يخفى.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ الحكم بمجازيّة اللفظ متوقّفٌ على تحقّق مصحّحه، ومصحّح المجاز تحقّق العلاقة بين المعنيين مع ملاحظتها حال الاستعمال، والمتحقّق فيما نحن فيه وجودها، وأمّا ملاحظتها فغير معلومة.

إن قلت: إنّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة بالنقل، وهو في اصطلاحهم لا يكون إلّا بملاحظة المناسبة.

قلنا: فرق بين الملاحظتي؛ إذ المدار في النقل ملاحظتها حالة الوضع والنقل، وفي المجاز حال الاستعمال، والقدر المتيقّن في الحقيقة الشرعيّة ملاحظتها حال الوضع، وأمّا حال الاستعمال فلا.

ص: 65

ويمكن الجواب باختيار الثالث بأن يقال: إنّ المراد أنّ تلك الألفاظ في حال استعمالها في المعاني الشرعيّة حقائقٌ شرعيّةٌ، مجازاتٌ لغويّةٌ في تلك المعاني عند صدور الاستعمال فيها من أهل اللغة، فيكون المراد: أنّ تلك الألفاظ حقائق شرعيّة بالفعل مجازات لغويّة بالقوّة؛ وهذا القدر كافٍ في اتّصافها بوصف العربيّة؛ إذ بعد صيرورة القوّة فعلًا تكون عربيّة لا محالة.

ويمكن الجواب عنه أيضًا: بأنّ عدم اتّصاف تلك الألفاظ بالعربيّة إنّما يلزم إذا اشترط في اختصاص اللفظ بلغة صدور الوضع عن كلّ مَن يتحاور بتلك اللغة، أو عن كلّ بُلَغائها، أو يكون للوضع زمان مخصوص بحيث إذا انقضى ذلك لا يجوز في غيره.

لكنّ الأمر ليس كذلك؛ إذ اشتراط الأوّل يستلزم عدم اختصاص لفظ بلغة أصلًا كما لا يخفى، وكذا الثاني؛ لكون البلغاء متجدّدين في الأعصار ومتفرّقين في الأمصار؛ أمّا الثالث: فلأنّ وجه الاشتراط غير معلوم، فعلى من يدّعيه الإثبات.

وكيف؟! مع أنّ الاصطلاحات في العلوم المدوّنة وغيرها حادثة، فعلى هذا نقول: إنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد وضع تلك الألفاظ، وهو من أفصح العرب وسيّدهم، فتكون عربيّة، وكان الخلط والاشتباه وقع بين اللغويّة والعربيّة، والمنفي على التقدير المذكور الأُولى لا الثانية.

لكن هذا إنّما يتمّ إذا قلنا بأنّ الشارع هو النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وأمّا إذا كان الله تعالى فلا.

إلّا أن يقال: إنّ اتّصافها بالعربيّة -أمّا(1) لكون المخاطب بها من العرب، بناءً

ص: 66


1- «أمّا» لم ترد في «ق».

على أنّ نسبته تعالى إلى جميع اللغات سواء، فاتّصاف خطاباته تعالى بصفة بالمقايسة إلى حال المخاطبين، أو لاستعمالها في تلك المعاني بين العرب(1)، هذا على تقدير استناد الوضع في جميع اللغات إلى الله تعالى- لا شبهة فيه.

وأمّا على تقدير اصطلاحيّة اللغات وكون الوضع في خصوص الحقيقة الشرعيّة إلى الله تعالى، فيشكل الأمر؛ إذ مجرّد الاستعمال على ذلك التقدير لا يصير سببًا للاتّصاف بالعربيّة، وإلّا لزم أن تكون الألفاظ العجميّة المستعملة في لغتهم عربيّة.

فيجاب حينئذٍ بما تقدّم، أو بما يأتي، وهو جواب ثالث عن الإشكال، بيانه: هو أنّ الحقائق الشرعيّة كلّها ألفاظ منقولة عن معانيها اللغويّة على ما عرفت ممّا تقدّم، فتكون(2) تلك الألفاظ بأسرها من الموضوعات العربيّة بالأصل، فهي حالة استعمالها في المعاني الشرعيّة عربيّة؛ لكونها في أوضاعها الأوّليّة عربيّة.

هذا كلّه في منع الملازمة الأولى، وعلى فرض تسليمها نمنع بطلان التالي، قولكم(3) في بيانه: «لو كانت غير عربيّة لزم أن لا يكون القرآن عربيًّا»، أجيب: بالتزام ذلك لعدم مانع عنه.

والاستدلال بالآية المذكورة في بطلانه غير تامّ(4)؛ لما قيل من أنّه مبنيٌّ على كون

ص: 67


1- في «ق»: العرف.
2- في «ق»: فيكون.
3- في «ق»: وقولكم.
4- في «ق»: تمام.

القرآن مرجعًا لضمير: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾(1) غير لازم؛ لجواز أن يكون عائدًا إلى السورة، وذكر القرآن لا ينافي ذلك؛ لأنّه كما يطلق على الكلّ يطلق على البعض؛ ولذلك لو حلف قراءة القرآن كلّ يوم، لا يحنث مع قراءة سورة، بل أقلّ منها، والحكم بالبعضيّة غير منافٍ لذلك؛ لأنّه باعتبار المجموع.

والحاصل: كلّما شارك الجزء الكلّ في معناه، يمكن الحكم عليه بالفرديّة والبعضيّة بالاعتبارين، فباعتبار المشاركة وتحقّق أصل المعنى يحكم بالفرديّة، وباعتبار الجزئيّة والكلّيّة يحكم بالبعضيّة، كالماء والعسل والدهن والسمن وأمثالها، بخلاف الغير المشارك(2)، كالمائة والرغيف(3).

لكنّ الجواب بهذا المنوال لا يقبله الإنصاف، إذ قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا﴾(4) على ما يحضرني الآن مذكور في سورتين، إحداهما: سورة طه، ولفظ «الصلاة» و«السجدة» قد ذكرا فيها مكرّرًا، قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾(5)، وقال أيضًا: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ﴾(6)، والثانية: سورة يوسف، وسياق الكلام فيها كالصريح في أنّ المرجع مجموع القرآن، لا السورة فقط، قال

ص: 68


1- سورة يوسف: 2.
2- في «ق»: المشاركة.
3- ينظر نهاية الوصول: 1/ 250، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 582.
4- سورة طه: 113.
5- سورة طه: 14.
6- سورة طه: 132.

سبحانه: ﴿الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا عربيًّا﴾(1). وعلى فرض التسليم نقول: قد ذكر في تلك السورة «السجدة» و«الإيمان» مكرّرًا.

لا يقال: إنّه وإن ذكر لفظ «الصلاة» مكرّرًا في سورة طه، لكنّ المذكور فيها: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾(2)، وما ذكر في مقام الاستدلال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾، وهو مذكور في سورة يوسف، ولفظ(3) «السجدة» المذكور فيها المراد منه المعنى اللغويّ، لا المعنى الشرعيّ.

لأنّا نقول على فرض تسليم ذلك: للمستدلّ أن يتمسّك في بطلان التالي بما ذكر في سورة طه، فيتمّ مدّعاه، سواء كان المرجع السورة، أو مجموع القرآن، كما لا يخفى على المتأمّل، على أنّك قد عرفت أنّ المذكور في سورة يوسف يكفي في إثبات المطلوب؛ لكون السياق كالصريح في أنّ المرجع مجموع القرآن، كما عرفت.

وأيضًا قال الله تعالى في سورة السجدة من الحواميم:﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾(4)، وفي سورة الزخرف: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾(5)، والظاهر كالصريح منهما أنّ المحدَّث عنه فيهما هو المجموع.

وأيضًا قال سبحانه في سورة الزمر: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ

ص: 69


1- سورة يوسف: 1-2.
2- سورة طه: 113.
3- في «ق»: ولفظة.
4- سورة فصّلت: 3.
5- سورة الزخرف: 1- 3.

مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾(1)، فتسليم كون القرآن غير عربيّ لا وجه له.

نعم، أجابوا في المقام بأنّه غاية ما يلزم من ذلك كون القرآن عربيًّا، ولا يلزم من ذلك كونه عربيّ المفردات حتّى ينافي اشتماله بغير الألفاظ العربيّة، فيجوز أن يكون المراد بعربيّته كونه عربيّ النظم والأسلوب، فلا ينافي اشتماله على ما ليس بعربيّ مع كون الأسلوب عربيًّا(2).

وبأنّ المراد من كونه عربيًّا كون أغلب ألفاظه كذلك، فلا ينافي كون النادر منها غير عربيّ، ومثل هذا الإطلاق شائع، كما يقال: إنّ هذا الكتاب عجميّ، مع أنّه ليس جميع ألفاظه عجميًّا، وهكذا بالنسبة إلى الكتاب العربيّ(3).

الدليل الثاني للّنافين للحقيقة الشرعيّة
اشارة

والثاني: أنّها لو نقلها الشارع إلى المعاني الشرعيّة لفهّمها المخاطبين بها؛ لكونهم مكلّفين بما تضمّنه(4) تلك الألفاظ، والفهم شرط التكليف، ولو فهّمها لنقل إلينا؛ لأنّا مشاركون معهم في التكليف؛ والنقل إمّا بالتواتر أو بالآحاد، والأوّل لم يوجد

ص: 70


1- سورة الزمر: 27 -28.
2- ينظر قوانين الأصول: 1/ 74.
3- ينظر نهاية الوصول: 1/ 249، وغاية الوصول: 1/ 175 -176، ومنية اللبيب: 1/ 210، ومفاتيح الأصول: 20 -21، وإشارات الأصول: 1/ 32، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 582، والإحكام، للآمديّ: 1/ 38.
4- كذا في الأصل، والصواب: تضمّنته.

وإلّا لم يقع الخلاف، والثاني لا يفيد، مع أنّ العادة تقضي في مثله بالتواتر(1).

الجواب عن الدليل الثاني

وفيه نظر؛ لأنّ الضمير في قولهم: «لفهّمها» إمّا يعود إلى المعاني، كما هو ظاهر الكلام والمناسب للفظ «التفهيم»، أو إلى الأوضاع المفهومة من نقلها.

وعلى الأوّل نقول: إنّ ذلك بعينه جارٍ فيما إذا كان الاستعمال على سبيل التجوّز، وما ذكر في بيان الملازمة(2) دليل عليه، وبالجملة: لا اختصاص له في صورة النقل.

وعلى الثاني نمنع الملازمة، والمذكور في بيانها غير دالّ على ذلك؛ لأنّ اشتراط الفهم للتكليف إنّما يقتضي معلوميّة تلك المعاني؛ وهو كما يحصل بالإعلام بالوضع، يحصل بإعلام إرادتها من تلك الألفاظ بالبيانات النبويّة قولًا وفعلًا وتقريرًا.

لكنّه منظور فيه، أمّا أوّلًا: فلأنّ ذلك إنّما يصحّ إذا تحقّق البيان على سبيل العموم، وهو ينافي ما ذكروه في ثمرة هذا النزاع من أنّه عند التجرّد من القرائن يحمل على المعاني الشرعيّة بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة، وعلى المعاني اللغويّة بناءً على العدم، فلو لم يتحقّق موضع إلّا وقد وجد فيه البيان، انتفت تلك الثمرة،

ص: 71


1- احتجّ بهذا الوجه القاضي أبو بكر الباقلانيّ، ينظر التقريب والإرشاد: 1/ 391 -392، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 582، والإحكام، للآمديّ: 1/ 35، ونهاية الوصول: 1/ 258، ومعالم الأصول: 36، وزبدة الأصول: 81، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 168.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): ولهم أن يلتزموا ذلك.

فيلزم منه انتفاء هذه(1) الفائدة، وهو مستلزم لعراء النزاع من الفائدة.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ هذا الاستدلال إنّما هو من النافي للحقيقة الشرعيّة، والردّ على النهج المذكور من المثبت غير صحيح؛ لأنّ تسليمه أنّ إعلامَ تلك المعاني بالقرينة لا بالإعلام بالوضع منافٍ لما اختاره، فتأمّل.

فالأولى أن يقال في الجواب: إنّ مراد المستدلّ من إعلام الوضع وتفهيمه عند ثبوت النقل إمّا أن يكون بتصريح الشارع بأنّي وضعت هذه الألفاظ بإزاء تلك المعاني، فالملازمة ممنوعة، واشتراط الفهم للتكليف إنّما يقتضي إعلام الوضع، وأمّا كونه على هذا الوجه الخاصّ فلا؛ لجواز أن يكون الإعلام بالترديد بالقرائن، كالأطفال والجاهل باصطلاح خاصّ مطلقًا إذا أريد تعليمه ذلك من غير الاستعانة باللغات المعلومة له، فإنّ طريق التعليم حينئذٍ لا يمكن إلّا بالترديد بالقرائن؛ إذ لو كان باللفظ يلزم الدور أو التسلسل(2).

وإن كان المراد أعمّ من ذلك، فالملازمة مسلّمة، لكن بطلان التالي ممنوع، وما ذكر في بيانه من أنّه لو فهّم لنقل إلينا، غير تامّ؛ لأنّه على فرض التسليم إنّما يلزم إذا كان التفهيم على النهج الأوّل، وأمّا إذا كان بالترديد بالقرائن فلا؛ لأنّ ذلك ليس ممّا ينقل.

ص: 72


1- «هذه» لم ترد في «ق».
2- ينظر نهاية الوصول: 1/ 258، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 582، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 168- 169.

وعلى فرض أن يكون التعليم(1) على النهج الأوّل، يمكن منع لزوم النقل أيضًا، و ما ذكر في بيانه من اشتراكنا معهم في التكليف لا يدلّ على ذلك؛ لأنّ مشاركتنا معهم فيه توجب علينا الاجتهاد في تحصيل فهمهم والعلم بما كلّفوا به، لا نقلهم بالنسبة إلينا؛ وكيف؟! مع أنّ الأحكام الشرعيّة كانت معلومة عند الحاضرين المشافهين، فلو كانت هذه الدعوى صحيحة يلزم أن تكون جميعها معلومةً عند جميع المكلّفين، وفساده غنيّ عن البيان.

ثمّ على تقدير لزوم النقل بناءً على أنّ التبليغ كان واجبًا عليهم نقول: إنّ اللازم حينئذٍ النقل، وهو غير مستلزم للبلوغ إلينا، كما في أكثر الأحكام الغير المعلوم عندنا، على أنّ اللازم من ذلك وجوب التبليغ بالنسبة إليهم وتكليفهم بذلك، والتكليف بشيء لا يستلزم الامتثال به، وعلى فرض الامتثال نقول: إنّ المسلّم وجوب التبليغ في الجملة، وأمّا كونه بحيث يبلغ التواتر فلا؛ وقولهم: «والآحاد لا ينفع» ممنوع.

ثمّ إنّ كلّ ذلك إنّما هو إذا كان الإعلام بالوضع بالتصريح به، وأمّا إذا كان بالترديد بالقرائن كما هو الظاهر، فيمكن عدم التبليغ أصلًا وعدم تكليفهم بذلك أيضًا؛ لإمكان الاطّلاع بذلك للمعدومين من غيره، ويظهر وجه ذلك ممّا مرّ في أدلّة الثبوت.

ص: 73


1- في «ق»: التعميم.
الدليل الثالث للّنافين للحقيقة الشرعيّة
اشارة

والثالث: الاستصحاب، وقد ظهر ممّا تقدّم مرارًا، تقريره: هو أنّ تلك الألفاظ كانت موضوعة في اللغة لمعانيها المعلومة، وقضيّة الأصل بقائها إلى أن يعلم النقل، والمعلوم تحقّقه في زمان المتشرّعة، وأمّا في زمان الشارع فلا، وعدم العلم بالثبوت كافٍ للحكم بعدم الثبوت.

الجواب عن الدليل الثالث

وهذا الدليل هو أقوى الأدلّة في المقام، وجوابه: هو أنّا ندّعي الثبوت بالأدلّة السابقة.

ص: 74

في ثمرة الحقيقة الشرعيّة

البحث الثالث: في ثبوت الحقيقة الشرعيّة
اشارة

قد وقع الخلاف بين الأعلام في هذا المرام، فالأكثر على الثبوت، وذهب بعضهم إلى عدمه(1)، ونحن نذكر محلّ النزاع اقتفاء(2) بغير واحد من الأعلام، ثمّ نتعرّض إلى تحقيق الحقّ في المقام.

فنقول: لا شبهة في أنّ تلك الألفاظ كانت حقيقة عند أهل اللغة في معاني، وأنّه قد ثبت استعمال الشارع إيّاها في المعاني الشرعيّة، وأنّها بلغت حدّ الحقيقة عند المتشرّعة في تلك المعاني.

وإنّما الكلام في أنّ استعمال الشارع إيّاها لأجل وضعها بإزائها، أو لا؟ وبالجملة: إنّه بطريق الحقيقة أو المجاز؟ وبعبارة أخرى: إنّ المصحّح في استعمالات الشارع أهو الوضع، أم العلاقة؟

ويظهر من تقريرهم محلّ النزاع على النحو المذكور ما أشرنا إليه سابقًا من عدم تحقّق اللفظ المخترع في تلك الألفاظ وانتفاء معنى غير مناسب، وإلّا لم يتصوّر

ص: 75


1- من المنكرين للحقيقة الشرعيّة القاضي أبوبكر الباقلانيّ من الشافعيّة على ما نسب إليه بعضهم، كالفخر الرازيّ في المحصول: 1/ 298، والعلّامة في نهاية الوصول: 1/ 246، وينظر: التقريب والإرشاد: 1/387. وجوّزه المعتزلة مطلقًا، ينظر: المعتمد: 1/ 18، وأنيس المجتهدين: 1/ 56، ومفاتيح الأصول: 147.
2- كذا في الأصل، والصواب: اقتضاءً كما في «ق».

احتمال التجوّز في الجميع.

ثمّ إنّ ما ذكروا في المقام من تحقّق المعاني لتلك الألفاظ في اللغة وبلوغها حقيقة عرفيّة في المعاني المستحدثة عند أهل الشرع ممّا لا شبهة فيه ولا نزاع، وأمّا استعمال الشارع إيّاها فيها، فهو وإن كان مقطوعًا به أيضًا، لكنّه ليس كما يفهم من كلماتهم عدم الخلاف فيه؛ لما سيجيء من إنكار القاضي(1) ذلك، وادّعائه(2) أنّ استعمال الشارع إنّما هو في المعاني اللغويّة(3) على نحو يجيء إليه الإشارة.

تنبيهٌ نبيه

تنبيهٌ نبيه(4)

اعلم: أنّ المعروف من أئمّة الأصول من العامّة والخاصّة أنّ نزاعهم هنا يرجع إلى الإيجاب والسلب الكلّيّين بأنّ المثبت للحقيقة الشرعيّة يدّعي ثبوتها في جميع الألفاظ، والنافي لها يدّعي نفيها كذلك.

ص: 76


1- هو أبو بكر محمّد بن الطيّب المعروف بابن الباقلانيّ، المتوفّى 403 ق، وليد البصرة وساكن بغداد، المتكلّم على مذهب الأشعريّ، انتهت إليه الرئاسة في مذهبه، ذُكر في فهرس تآليفه أنّ له 52 كتابًا غير أنّه لم يصل إلينا منها إلّا ما طبع، وهي: إعجاز القرآن، التمهيد، الإنصاف. ينظر ترجمته في بحوث في الملل والنحل: 2/ 404 - 409.
2- في «ق»: إذعانه.
3- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 580- 581، والتقريب والإرشاد: 1/ 387، والإحكام، للآمديّ: 1/31، ونهاية الوصول: 1/ 246، وغاية الوصول: 1/ 171، ومنية اللبيب: 1/ 207، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 168.
4- في «ج»: تنبيه.

قال العلّامة -طاب ثراه- في النهاية بعد دعوى الاتّفاق على إمكان الحقيقة الشرعيّة:

وإنّما النزاع في وقوعها، فمنعه القاضي أبو بكر مطلقًا، وجوّزه المعتزلة مطلقًا، ثمّ قسّم المعتزلة والخوارج وبعض الفقهاء الأسماء الشرعيّة إلى ما أجريت على الأفعال، كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ وغيرها، وإلى ما أجريت على الفاعلين، كالمؤمن والفاسق والكافر؛ وسمّوا الأخير بالدينيّة، فرقًا بينها وبين الأوّل(1).

قال ابن الحاجب: الشرعيّة واقعة خلافًا للقاضي(2).

وقال المحقّق العضديّ بعد تقرير محلّ النزاع: ثمّ لم يذكر في الإحكام والمحصول سوى مذهبين: كونها حقيقة شرعيّة ونسبه إلى المعتزلة؛ ونفيه ونسبه إلى القاضي، والحقّ أنّه لا ثالث لهما(3).

ويستفاد ممّا ذكر وغيره: أنّ كلام المثبتين يرجع إلى الإيجاب الكلّي، والنافين إلى السلب كذلك؛ إذ لو لم يكن مرادهم ذلك لكان كلّ من المثبتين والنافين قائلًا بثبوتها ونفيها في الجملة، فحينئذٍ يلزم أن تكون نسبة القول بالثبوت إلى طائفة والنفي إلى أخرى فاسدة كما لا يخفى.

وأظهر من ذلك في أنّ مرادهم الإيجاب والسلب الكلّيّان: ما ذكروا في تحرير محلّ النزاع من أنّ النزاع أنّ الألفاظ المتداولة على لسان أهل الشرع الّتي بلغت حدّ

ص: 77


1- نهاية الوصول: 1/ 246.
2- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 580.
3- شرح مختصر المنتهى: 1/ 581.

الحقيقة عندهم قطعًا في أنّ صيرورتها حقائق أهو بوضع الشارع إيّاها بإزائها فتكون حقيقة شرعيّة، أو لا فتكون حقيقة متشرّعة كما تقدّم؟ ووجه الأظهريّة ظاهر.

تفصيل جمعٍ من متأخّري الأصحاب في المسألة

وجَمَعَ جَمْعٌ من متأخّري الأصحاب بين القولين، فقالوا بالثبوت في بعض الألفاظ، وهو الّذي يكثر دورانه في كلام الشارع، كلفظ الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والوضوء والغسل والتيمّم والنكاح والطلاق وأشباهها؛ وبالنفي في أخرى(1)، وهو ما لم يكن كذلك، كالخلع والمبارات والإيلاء واللعان وما ضاهاها(2).

بناءً على أنّ المقتضي لتحقّق الوضع الكثرة والاشتهار، فالحكم بثبوت الوضع متوقّف على العلم بتحقّقهما(3)، وهو منحصرٌ في القسم الأوّل؛ إذ غيره إمّا علم عدم تحقّق الكثرة فيه، أو اشتبه حاله، وعلى التقديرين لا يمكن الحكم بثبوت الوضع، أمّا على الأوّل فظاهر؛ لأنّ تحقّق المقتضى مع انتفاء المقتضي ممّا لا يعقل، وأمّا على الثاني؛ فلأنّ الشكّ في المقتضي يوجب الشكّ في المقتضى، ومع الشكّ لا يمكن رفع اليد عن وضع اللغة الّذي كان معلومًا؛ لعدم جواز نقض اليقين بالشكّ أبدًا.

ص: 78


1- في «ق»: أخرى.
2- ينظر الفوائد الحائريّة: 107، وكشف الغطاء: 1/ 146، وقوانين الأصول: 1/ 97- 98.
3- في «ق»: بتحقّقها.
وجوه النظر في القول بالتفصيل
اشارة

وفيه نظر من وجوه:

الوجه الأوّل

الأوّل: أنّ حاصل الاستدلال يرجع إلى أنّه لو كانت(1) الحقيقة الشرعيّة ثابتة في جميع الألفاظ، يلزم أن يتحقّق الغلبة والاشتهار فيها، والتالي باطل لما تقدّم، فالمقدّم مثله.

ونحن نقول: سلّمنا بطلان التالي، لكنّ الملازمة ممنوعة؛ لأنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كان طريق ثبوت الحقيقة منحصرًا في الوضع التعيّني، أو كان الموجب والمقتضي لثبوت الحقيقة الشرعيّة منحصرًا فيما ذكر، إذ الحكم بثبوت الحقيقة الشرعيّة بعنوان العموم -بعد تسليم انحصار الموجب فيما ذكر وانتفائه في بعض الألفاظ- ما لا يخفى فساده، لكنّه غير مسلّم؛ إذ ثبوت الوضع كما يمكن أن يكون بالغلبة والاشتهار، يمكن أن يكون بغير(2) ذلك.

إن قيل: إنّ عدم انحصار طريق ثبوت مطلق الوضع فيما ذكر وإن كان مسلّمًا، لكن في خصوص الحقيقة الشرعيّة ما يمنع القول بأن يكون الوضع بغيره، بناءً على أنّ تلك الألفاظ كانت حقائق لغويّة في المعاني اللغويّة.

ولا يمكن رفع اليد عن ذلك؛ لأصالة عدم النقل والتغيّر، إلّا بعد العلم

ص: 79


1- في «ق»: كان.
2- في «ق»: لغير.

بخلافه، وهو إنّما يتحقّق في الألفاظ الّتي تحقّقت الغلبة والاشتهار فيها، لا في غيرها؛ لأنّ طريق ثبوت الوضع منحصرٌ في الوضع التعيينيّ والتعيّنيّ، والمفروض عدم تحقّق الثاني، وأمّا الأوّل فهو أيضًا غير معلوم، وإلّا لم يتحقّق الخلاف؛ ولأنّ ذلك لم يصل إلينا بنقل يمكن التعويل عليه، فمقتضى الأصل بقاء المعاني اللغويّة.

والحاصل: أنّ كلام المفصّل يرجع إلى منع ثبوت مقتضى الوضع في جميع الألفاظ على ما مرّ، فمقابلته بالمنع غير مستحسنة عند النظّار.

قلنا: هذا الكلام وإن كان حقًّا، لكن حاصل الجواب: هو أنّا ندّعي ثبوت الوضع في جميع الألفاظ وأنّ الثبوت غير منحصر في الوضع التعيّنيّ، وسيجيء البرهان والكلام عليه مفصّلًا إن شاء الله تعالى.

هذا كلّه على فرض تسليم بطلان التالي ومنع الملازمة، ولك أن تمنع بطلانه بناءً على أنّ نصب(1) النبيّ (صلی الله علیه و آله) لترويج الشريعة وتبليغ الأحكام بالنسبة إلى جميع العباد والبلدان، وحصوله مع عدم تحقّق الكثرة في الاستعمال بعيدٌ جدًّا، فتأمّل.

الوجه الثاني

والثاني: هو أنّهم ذكروا أنّ الثمرة المترتّبة على ثبوت الحقيقة الشرعيّة: الحمل على المعاني الشرعيّة عند ورودها في كلام الشارع مجرّدة عن القرينة، وهي مع التفصيل المذكور وكون الوضع الشرعيّ بالغلبة والكثرة غير ممكنة غالبًا؛ لوضوح أنّ تحقّقها حينئذٍ متوقّفٌ على معلوميّة تلك الألفاظ الّتي تحقّقت فيها الغلبة ومعلوميّة الزمان

ص: 80


1- في «ق»: منصب.

الّذي تحقّقت فيه؛ لأنّ الغلبة والاشتهار يفتقران إلى زمان ممتدّ حتّى يحصل الاشتهار بتكرّر الاستعمال، وهما غير معلومين، ولم يتكلّم أحدٌ بتعيينهما.

وعلى تقدير إمكان العلم بالنسبة إلى الألفاظ يبقى الكلام في الأزمان، والظاهر انسداد باب العلم بالنسبة إليه، ومع عدمه لا يمكن تحقّق الثمرة المذكورة؛ لاحتمال أن تكون الأخبار المتضمّنة لتلك الألفاظ صادرة قبل ذلك الزمان، فلا يمكن الحمل على تلك المعاني عند فقد القرينة والبيان، إلّا بالنسبة إلى أخبار علم صدورها في أواخر زمان الشارع، وهي نادرة جدًّا، بخلاف ما إذا لم يكن الأمر كذلك، وسيجيء الكلام فيه على التفصيل بالاستمداد من الله الموفّق الجليل.

الوجه الثالث

والثالث: هو أنّك قد عرفت أنّ العلماء في الحقيقة الشرعيّة على قولين: ثبوتها مطلقًا، ونفيها كذلك، فمن قال بالثبوت قال به في جميع الألفاظ، ومن قال بالنفي قال به كذلك، والتفصيل قول ثالث حدث في هذه الأعصار، يدفعه الإجماع المركّب(1).

وفي هذا تأمّل؛ لأنّ عدم جواز مخالفة مثل هذا الإجماع في أمثال هذه المقامات بعد دلالة البرهان منظورٌ فيه.

إن قيل: إنّ ما تمسّكوا به في إثباتها الاستقراء، وهو عبارة عن تتبّع موارد استعمالات الشارع بحيث حصل الظنّ بالاشتهار والكثرة؛ ومعلوم أنّ ذلك إنّما

ص: 81


1- اختار هذا القول المحقّق القمّي في قوانين الأصول: 1/ 95، والمحقّق النراقيّ في أنيس المجتهدين: 1/57.

يمكن في الألفاظ الكثيرة الدوران، لا مطلقًا، فيلزمهم القول على التفصيل المذكور وإن لم يصرّحوا به.

قلنا أوّلًا: إنّ دليل المثبتين غير منحصر في الاستقراء، فلا يضرّ أخصّيّة بعض الأدلّة من المدّعى بعد وجود غيره ممّا يفيد تمامه، وستقف عليه.

وثانيًا: إنّ التقرير في الاستقراء غير منحصر فيما ذكر، بل له تقرير آخر أيضًا يعمّ جميع الألفاظ كما سيجيء إن شاء الله تعالى، فالتفصيل المذكور غير صحيح.

رأي المصنّف في المسألة

وحيث قد ثبت بطلانه، تعيّن الأمر في الإيجاب والسلب الكلّيّين، فينبغي التكلّم عليهما، فأقول: التحقيق(1) الأوّل.

ص: 82


1- كذا في الأصل، والصواب: والتحقيق كما في «ق».
متمسّك المثبتين للحقيقة الشرعيّة
الدليل الأوّل
اشارة

واستدلّ على ذلك بأنّا نقطع أنّ «الصلاة» اسم للركعات المخصوصة بما فيها من الأقوال والهيئات، وأنّ صلاة الظهر أربع ركعات بالإجماع، و«الزكاة» اسم لأداء مال مخصوص، و«الصوم» اسم لإمساك مخصوص، و«الحجّ» لقصد مخصوص؛ وأنّها سابقة منها متبادرة إلى الفهم عند إطلاقها، وهي علامة الحقيقة بعد أن كانت في اللغة «الصلاة» للدعاء، و«الزكاة» للنماء، و«الصيام» للإمساك مطلقًا، وهذا لم يحصل إلّا بتصرّف الشارع ونقله لها إليها، وهو معنى الحقيقة الشرعيّة(1).

وجوه النظر في استدلال المثبتين
اشارة

وفيه نظر من وجوه:

الوجه الأوّل

الأوّل: أنّ قولهم: «إنّ الصلاة اسم للركعات المخصوصة»، يغني عن قولهم: «بما فيها من الأقوال والهيئات».

الوجه الثاني

والثاني: أنّ مقتضى قولهم: «إنّها اسم للركعات»، عدم كونها اسمًا لركعة أو

ص: 83


1- ينظر معالم الأصول: 35، وتهذيب الوصول: 65، ومنية اللبيب: 1/ 206، ونهاية الوصول: 1/ 246- 247، وغاية الوصول: 1/ 172، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 167، وشرح مختصر المنتهى:1/ 581.

ركعتين، فيلزم أن لا يكون إطلاق اسم «الصلاة» على الوتر وصلاة الصبح حقيقة، وهو فاسد.

الجواب عن الوجهين

ويمكن الجواب عنهما(1): بأنّ المراد من الركعات الأركان إطلاقًا لاسم الكلّ على الجزء، ويكون المراد من قولهم: «مع(2) ما فيها» مع ما يتعلّق بها، أعمّ من أن يكون فيها أو بينها أو بعدها.

الوجه الثالث مع الجواب عنه

والثالث: أنّ الاستدلال المذكور يتضمّن ثلاث مقدّمات، الأولى: أنّا نقطع بكون «الصلاة» اسمًا للركعات، والثانية: كون المعاني الشرعيّة متبادرة من تلك الألفاظ، والثالثة: أنّ ذلك لم يحصل إلّا بتصرّف الشارع.

فحينئذٍ نقول: لا يخلو إمّا أن يكون المراد من كون «الصلاة» اسمًا للركعات، أنّها حقيقة فيها كما هو الظاهر من العبارة، أو مستعملة فيها، فإن كان المراد الأوّل نقول: لا يخلو إمّا أن يكون المراد أنّها حقيقة فيها في زمان الشارع، أو في زمان المتشرّعة، وعلى الأوّل نقول: إنّه ممّا لا يخفى فساده؛ لكونه مصادرة على المطلوب، وأيضًا يلزم حينئذٍ استدراك المقدّمة الثانية كما لا يخفى.

ص: 84


1- كذا في الأصل، وفي «ق وج»: عنه.
2- «مع» لم ترد في «ق».

وعلى الثاني(1) لا يخلو إمّا أن يكون المراد من سبق المعاني الشرعيّة من تلك الألفاظ الّذي هو مدلول المقدّمة الثانية، سبقها في زمان الشارع أو المتشرّعة، والأوّل مع كونه في محلّ المنع مستلزم لاستدراك المقدّمة الأولى كما لا يخفى، والثاني فهو وإن كان مسلّمًا، لكنّ التشبّث به ممّا لا فائدة فيه؛ إذ ثبوت الحقيقة المتشرّعة في تلك الألفاظ ممّا لا نزاع فيه.

وأيضًا بعد الإغماض عمّا ذكر لا يتمّ المطلوب؛ إذ حاصل الاستدلال حينئذٍ: حصول القطع بثبوت الحقيقة المتشرّعة وبسبق تلك المعاني منها عندهم وأنّ ذلك لم يحصل إلّا بتصرّف الشارع، فنقول: إنّ ذلك وإن كان مسلّمًا، لكن لا يلزم منه الحقيقة الشرعيّة؛ لجواز أن يكون تصرّف الشارع على سبيل التجوّز.

وإن كان المراد الثاني(2)، نقول حينئذٍ: يبقى الترديد في المقدّمة الثانية بحاله بأن يقال: إن كان المراد من سبق المعاني سبقها في زمان المتشرّعة، يرد عليه ما تقدّم من عدم تماميّة المطلوب؛ وإن كان المراد سبقها في زمان الشارع، يرد عليه أيضًا ما تقدّم من منع ذلك، ويرد عليهما أنّه يلزم حينئذٍ استدراك المقدّمة الأولى(3).

ويمكن أن يقال في إثبات المقدّمة الثانية: بأنّه لا شبهة في شدّة افتقار الصحابة في استعمال تلك الألفاظ في المعاني الشرعيّة، وهي موجبة لتحقّق كثرة الاستعمال

ص: 85


1- جاء في حاشية الأصل: أي كون المراد أنّها حقيقة في زمان المتشرّعة؛ منه.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي كون المراد من كونها اسمًا لها كونها مستعملة فيها.
3- جاء في حاشية الأصل: إذ تبادر المعنى من اللفظ يكفي لكونه حقيقة فيه، فلا افتقار إلى التمسّك باستعماله فيه أوّلًا ثمّ دعوى التبادر كما لا يخفى. منه.

بحيث تستلزم مهجوريّة المعاني اللغويّة.

لكن يتوجّه عليه: أنّ ذلك لا يمكن أن يقال به في جميع الألفاظ، فغاية ما يثبت منه القول بالتفصيل، وقد عرفت أنّ المدّعى العموم، فتأمّل. وأيضًا يلزم أن يكون الوضع في ذلك البعض بالتعيّن، فيرد عليه ما أشرنا إليه في ردّ القائل بالتفصيل.

الوجه الرابع مع الجواب عنه

والرابع: ما ذكروه في المقام(1)، وهو راجع إلى منع المقدّمة الأولى، وهو أنّ استعمال تلك الألفاظ في المعاني المستحدثة في زمان الشارع غير مسلّم، بل هي مستعملة عند الشارع في معانيها اللغويّة، والزيادات شروط لوقوعها عبادات معتبرة مقبولة شرعًا.

فيقال: كما لم يدّعِ أحدٌ بأنّ التوجّه إلى القبلة والاحتراز عن النجاسة ونحوهما داخلٌ في مفهوم الصلاة، بل هي شرائط لوقوعها عبادات معتبرة شرعًا، كذا نقول: إنّ لفظ «الصلاة» مستعملٌ عند الشارع في المعنى اللغويّ، وهو الدعاء، وكونه مبتدأ بالتكبير ومختتمًا بالتسليم؛ وبالجملة: كونه على الكيفيّة المعلومة من شرائط وقوعه عبادة مقبولة شرعًا.

وكذا الكلام في «الصوم»، فإنّه استعمل في معناه اللغويّ، أي الإمساك، وكونه عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص شرط وقوعه مقبولًا شرعًا، وهكذا الأمر في غيرهما، فمفاد هذا الكلام أنّ تلك الألفاظ بالنسبة إلى معانيها

ص: 86


1- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 581.

اللغويّة تقييد(1)، بخلاف الأوّل، فإنّها بناءً عليه منقولة كما تقدّم.

وتظهر الثمرة بين القولين فيما إذا شكّ اشتراط العبادة بشيء بناءً على القول ببقائها في المعاني اللغويّة، وكونه من المعنى المنقول إليه بناءً على القول الآخر، فإنّه على الأوّل يدفع بالأصل، بناءً على أنّ ما لم يثبت الاشتراط به يكون الأصل عدمه، بخلافه على القول بالنقل، فإنّ المستعمل فيه لمّا كان من الأمور التوقيفيّة، فكلّ ما احتمل أنّه داخل في ذلك بحسب الإتيان به، وإلّا لم يحصل الامتثال.

هذا إذا لم يتحصّل المعنى المستعمل فيه، وأمّا إذا علم ذلك وشكّ في أمر خارج - أي في اشتراط ذلك المعنى بذلك الخارج - فيدفع بالأصل أيضًا.

وردّ ذلك: بأنّه لو كانت «الصلاة» باقية في المعنى اللغويّ عند الشارع، لزم أن لا يكون الأخرس المنفرد مصلّيًا أبدًا، والتالي باطل، فالمقدّم مثله(2).

أمّا الشرطيّة فلأنّ «الصلاة» في اللغة(3) إمّا بمعنى الدعاء، كما فيما روي

ص: 87


1- في «ق»: يقيد.
2- ينظر نهاية الوصول: 1/ 248.
3- جاء في حاشية الأصل: اعلم: أنّه ذكر في القاموس للصلاة معاني، قال: «الصلاة: الدعاء، والرحمة، والاستغفار، وحسن الثناء من الله تعالى على رسوله (صلی الله علیه و آله) وعبادة فيها ركوع وسجود، اسم يوضع موضع المصدر، وصلّى صلاة لا تصلية: دعا، وصلّى الفرس: تلى السابق؛ وصلّى الحمار أُتنَه: طردها»، انتهى [القاموس المحيط: 4/ 353]. الأتن: الأنثى من الحمار، يعني: راند اولاغ مادّه خود را. وقوله: «صلّى صلاة لا تصلية» بيان لقوله: «اسم يوضع موضع المصدر»، أي يقال: صلّى صلاة، ولا يقال: صلّى تصلية. اعلم: أنّ المعنى الأوّل الّذي ذكره للصلاة وهو الدعاء، ليس المراد منه الدعاء المصطلح عليه، أي طلب الداني من العالي، بل هو أعمّ، ومعناه في الفارسيّة: خواندن است؛ يقال: صلّى زيد عمروًا، أي دعاه. ثمّ إنّه يمكن أن يقال: إنّ الظاهر من كلام القاموس إذ قال: «صلّى الفرس، أي تلى السابق» أنّه ليس المراد منه مطلق المتابعة، بل متابعة السابق من جنسه في المشي السريع، فعلى هذا يمكن دفع النظر المذكور من كون الأخرس متابعًا لله تعالى، فيتمّ الإيراد. ويمكن أن يقال: لما يظهر من كلام المورد المجيب عدم تسليم انحصار المتابعة فيما ذكر، إذ يظهر منه تحقّق المتابعة في الأخرس المؤتم، يتوجّه عليه النظر المذكور، إلّا أن يخصّص المتابعة في الحركات الصادرة عن الجوارح مع حضور المتبوع ومشاهدته، فيندفع الأمر بالتأمّل الّذي سيجيء إشارة إليه. منه.

عنه (صلی الله علیه و آله): «من دعي إلى طعام فليجب، وإن كان صائمًا فليصلّ»(1) أي: فليدع لصاحب الطعام. وإمّا الاتّباع، ومنه المصلّي(2) في الحَلْبة(3) لاتّباعه السابق(4)، ولم يتحقّق

ص: 88


1- السنن الكبرى: 2/ 263، وسنن الترمذيّ: 2/ 139، ح 777، ب 63، وفيه: «إذا دعي أحدكم إلى طعام» إلخ، وبحار الأنوار: 87/ 125، وفيه: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرًا فليأكل، وإن كان صائمًا فليصلّ». وفي عوالي اللآلئ الحديثيّة: 4/ 37، ح124 ورد هكذا: قال النبيّ (صلی الله علیه و آله): من دعي إلى طعام فليجب، وإلّا فليصلّ». وفيه أيضًا: «قال (صلی الله علیه و آله): إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها إن كان مفطرًا وإن كان صائمًا فليدع»، العواليّ: 1/ 164، ح 165.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّه: كما يقال: فرس مصلّي، أي يتبع السابق.
3- جاء في حاشية الأصل: قيل: الحَلْبة بفتح الحاء وسكون اللام: خيل يجمع للسباق؛ منه [ينظر: معارج نهج البلاغة، لعليّ بن زيد البيهقيّ: 215، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، لقطب الدين الراونديّ: 2/ 371، واختيار مصباح السالكين، لابن ميثم البحرانيّ: 281، وشرح مختصر المنتهى(حاشية الجرجاني): 1/ 589].
4- جاء في حاشية الأصل: قال في القاموس [: 1/ 58]: الحَلبة بالفتح: الدفعة من الخيل في الرهان، يعني: به يك بار آمدن اسبان است در گرو بستن. قال فيه [: 1/ 58] أيضًا: «الحلبة: خيل تجتمع للسباق من كلّ أوب». وفي بعض نسخه: «لا تخرج من اصطبل واحد» [ينظر الصحاح: 1/ 115]، يعني: حلبه اسبانىاست كه فراهم مى آيند از براى سباق از هر جايى، يعنى از براى دوانيدن با يكديگر كه ببينند كه كدام پيشمى افتد واين اسبان از يك طويله نباشند. منه.

شيء منهما بالنسبة إليه، أمّا الدعاء فظاهر، وأمّا الاتّباع فكذلك؛ إذ المفروض أنّه منفرد؛ وأمّا بطلان اللازم فبالاتّفاق.

وفيه نظر، أمّا أوّلًا: فلأنّا لا نسلّم انتفاء المعنى الثاني بالنسبة إليه؛ لوضوح أنّه مأمور بإتيان الأفعال، فهو في فعله متابع لله تعالى والرسول، وربما ادّعي تحقّق الدعاء بالنسبة إليه أيضًا؛ لوضوح تحقّق الدعاء القلبيّ، وهو الكلام النفسيّ منه.

وفيه بحثٌ؛ لانّا بعد تسليم ذلك نقول: إنّ الكلام النفسيّ عبارة عن مدلول الكلام اللفظيّ، وتحقّقه بالنسبة إلى الأخرس يتوقّف على اقتداره على فهم تلك الأدعية، وانتفاؤه بالنسبة إلى كثير من الأخرس ظاهر.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ ذلك مشترك الورود؛ إذ على القول بالنقل لا شبهة في أنّها منقولة إلى الأقوال والأفعال، ولا ريب في عدم إمكان تحقّق الأوّل بالنسبة إلى الأخرس، فيلزم أن لا تتحقّق «الصلاة» بالنسبة إليه أيضًا؛ لأنّ انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكلّ.

ويمكن الجواب عنه: بأنّا لا نسلّم بناءً على النقل أنّ «الصلاة» منقولة إلى الأقوال والأفعال مطلقًا، بل هو بالنسبة إلى المتمكّن منهما، وأمّا غير المتمكّن من

ص: 89

الأوّل فالصلاة بالنسبة إليه إنّما هي الأفعال فقط، فيندفع النقض بناءً على القول بالنقل ويبقى بناءً على غيره.

لكنّه يندفع بما مرّ من عدم تسليم انتفاء كلّ من المعنيين اللغويّين للصلاة في حقّ الأخرس، فتأمّل.

ويمكن أن يقال في ردّ أصل المنع: بأنّ القطع حاصل بأنّ «الصلاة» مستعملة عندنا في الأقوال والأفعال مثلًا؛ ونقطع أيضًا بأنّه ليس استعمال أهل الشرع إلّا تبعًا لاستعمال الشارع واستعمالهم إيّاها ليس إلّا فيما استعمله الشارع، فاحتمال عدم استعماله في غير المعنى اللغويّ مقطوع الفساد، وتصفّح الأخبار يشهد عليه بأبلغ بيان.

الوجه الخامس

والخامس: ما ذكروه أيضًا في المقام، وهو راجع إلى تسليم المقدّمة الممنوعة، وهو أنّا سلّمنا استعمال تلك الألفاظ في معانيها الشرعيّة، لكن لا يلزم من استعمالها إيّاها الحقيقة الشرعيّة؛ لجواز كونها مجازات(1).

وفيه ما لا يخفى؛ لأنّ المستدلّ لم يستدلّ بالاستعمال المطلق على الحقيقة، بل ادّعى سبق تلك المعاني منها، كما هو إحدى مقدّمات دليله، فحقّ الإيراد أن يردّد فيه، فيمنع(2) بالنسبة إلى زمان الشارع، وغيره لم ينفع على ما تقدّم.

ص: 90


1- ينظر معالم الأصول: 35، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 581.
2- في «ق»: ويمنع.

ويمكن أن يرجع ذلك إلى منع المقدّمة الثانية، أي منع سبق المعاني المستحدثة من تلك الألفاظ في زمان الشارع، بناءً على أنّ منع الملزوم كما يمكن بمنع نفسه كذا يمكن بمنع لازمه، ومعلوم أنّ تبادر المعنى من اللفظ ملزوم لكونه حقيقة فيه، وهو لازم له، ومآل هذا الإيراد منعه، ومنع(1) اللازم يستلزم منع الملزوم، فتكون دعوى السبق ممنوعة بالحقيقة.

لكن يمكن أن يتشبّث في إثباته بالاستقراء بأن يقال: يظهر من التتبّع في كلمات الشارع أنّ كلّ موضع استعملت تلك الألفاظ في معانيها الجديدة لم تكن مقترنة بالقرينة، وكلّ موضع استعملت وأريد منها المعاني اللغويّة تكون مقترنة بالقرينة(2).

وبعبارة أخرى وهي: أنّه قد ظهر لنا أنّ تلك الألفاظ كلّما وردت في كلمات الشارع مجرّدة عن القرينة قد حملها المخاطبون بها على المعاني المستحدثة، وحملهم إيّاها على المعاني اللغويّة إنّما يكون عند الاقتران بالقرينة، وبضميمة أصالة عدم الاقتران بها مطلقًا وإن كانت حاليّة، يظهر عدم افتقار المخاطبين في فهم تلك المعاني منها إلى القرينة؛ ولا يكون ذلك إلّا عند كونها متبادرة منها، وهو المطلوب.

وحينئذٍ لا يرد على الدليل المذكور إلّا ما أشرنا إليه آنفًا من استدراك المقدّمة الأولى؛ إذ كان الممكن أن يقال في تقريره: لنا القطع بسبقها منها في زمان الشارع؛ وذلك لم يحصل إلّا بتصرّف من الشارع، فذلك(3) معنى الحقيقة الشرعيّة، فمآل

ص: 91


1- في «ق»: فمنع.
2- ينظر المحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 167.
3- في «ق»: فتلك.

هذا الدليل على النحو المقرّر يرجع إلى الاستقراء، وهو أحد أدلّة الإثبات والمثبتين.

ويمكن أن يقرّر على نحوين آخرين أيضًا:

الأوّل: هو أنّه لا شبهة في أنّ العلم بمصطلحات أرباب العلوم والصنائع حاصل، كالصحيح والمعتلّ والمضاعف والمثال واللفيف والأجوف والمهموز والناقص والرفع والنصب والجرّ والفاعل والمفعول والحال والتميز والتابع والعطف والفعل والاسم والحرف والصغرى والكبرى والقضيّة والشكل والوجوب والندب والجوهر والعرض وغير ذلك عند أرباب العلوم المعلومة.

ولا شبهة في أنّ ذلك ليس بالتصريح بالوضع من أربابهم في جميع الموادّ، وكيف؟! مع أنّ كثيرًا من أرباب الصنائع لا يعرفون معنى الوضع أصلًا، فضلًا عن التصريح به لغيره، بل إنّما يتحدّس بالوضع بالتصفّح في استعمالاتهم والتفحّص في محاوراتهم، فإنّه لمّا يظهر بعد التصفّح كثرة استعمالهم إيّاها في معاني معيّنة وندرته في غيره، يتحدّس بأنّها في الأوّل حقائق، فكما يظهر معاني حقيقيّة بكثرة الاستعمال في هذه الموادّ، فليظهر ذلك في المعاني الشرعيّة بالنسبة إلى استعمالات الشارع ومخاطباته.

فإنّ تلك الألفاظ نجدها في مخاطبات الشارع مستعملة في معاني شرعيّة، إمّا على سبيل الدوام، أو على سبيل الأغلبيّة والأكثريّة، فاستعمالها في غيرها في كلامه إمّا غير واقع، أو واقع على سبيل الشذوذ والندرة، فيتحدّس من ذلك أنّ بناء الشارع على تعيين تلك الألفاظ لتلك المعاني وهجر غيرها من المعاني اللغويّة.

والثاني: التصفّح في الاصطلاحات، فإنّ التتبّع فيها يشهد بأنّ أربابه يستعملون

ص: 92

فيها ألفاظًا على سبيل الحقيقة؛ ومعلوم أنّ الشارع سيّدهم، فينبغي أن يكون استعماله تلك الألفاظ في تلك المعاني على الحقيقة، وهو المدّعى(1).

الدليل الثاني لإثبات الحقيقة الشرعيّة

والثاني: ممّا دلّ على ثبوت الحقيقة الشرعيّة: هو أنّه لا شبهة في أنّ بعثة النبيّ (صلی الله علیه و آله) إنّما هي لهداية الناس وترويج الأحكام من العبادات والمعاملات، فكما يكون منصبه بيان الأحكام ليحصل العلم للمكلّفين بها، يكون المناسب لذلك أن يضع ألفاظًا خاصّة لما جاء به(2)؛ ليمكن لهم التعبير بها عنها في الاستعمال ويحصل لهم الاستغناء عن تجشّم القرائن.

وبالجملة: فكما إنّ الشارع مستقلّ فيها من غير متابعة للشرائع السابقة، ينبغي أن يكون في إطلاق اللفظ عليها مستقلًّا أيضًا بأن لا يكون إطلاقه اللفظ عليها لتبعيّة وضع الغير ومناسبته بأن لا يكون مصحّح الإطلاق العلاقة، بل الوضع(3).

الدليل الثالث لإثبات الحقيقة الشرعيّة

والثالث: هو أنّ كلام النافين يرجع إلى عدم العلم، بناءً على أنّ عمدة أدلّتهم في المقام هو أنّه لمّا كانت تلك الألفاظ موضوعة في اللغة لمعاني معلومة ولم يعلم في زمان الشارع نقلها منها، فمقتضى الأصل بقاؤها على معانيها اللغويّة؛ وكلام

ص: 93


1- ينظر المحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 167.
2- في «ق»: جاء به النبيّ (صلی الله علیه و آله) .
3- ينظر المحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 168.

المثبتين يرجع إلى دعوى العلم بالثبوت والنقل أو الظنّ، فمتى تعارض قول المثبت والنافي على النهج المذكور يقدّم الأوّل؛ لوضوح عدم التنافي بين دعوى العلم بشيء ودعوى عدم العلم به.

والبحث الرابع: في الثمرة المترتّبة على ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه
اشارة

اعلم: أنّ الثمرة المترتّبة على القولين وإن أشرنا إليها مرارًا، لكن أعدنا الكلام إليها في هذا المقام للتنبيه على بعض الفوائد، فنقول: لا شبهة(1) في أنّ الحجّة في الآيات والأخبار إنّما هو فهم الحاضرين المخاطبين(2) بها؛ إذ لو لم تكن الحجّة بالنسبة إلى الغائبين والمعدومين ذلك، لا يخلو إمّا أن يكون كلّ أحد مكلّفًا بما(3) يفهمه منها، أو التكليف منحصر بالنسبة إلى الحاضرين، وكلّ منهما فاسد.

أمّا الأوّل: فلاستلزامه الهرج والمرج(4) في الدين، ولمخالفته الإجماع والأخبار

ص: 94


1- جاء في حاشية الأصل: والحاصل: لا شبهة في أنّ المقصود من الآيات والأخبار إيصال المكلّفين إلى ما ينتظم به أمور معاشهم ومعادهم ممّا كلّفوا به وغيره، ولا ريب أنّ الوصول إلى ما ذكر بواسطتها إنّما هو باستفادتهم المعاني منها، فعلى هذا نقول: إنّه لا يخلو إمّا أن تكون الحجّة بالنسبة إلى الحاضرين والغائبين والمعدومين ما يفهمه كلّ واحد وإن كان مفاد كلّ واحد مخالفًا للآخر، أو تكون الحجّة بالنسبة إلى الحاضرين ما يفهمه المعدومون منها، أو عكسه، والأوّل والثاني فاسد، أمّا الأوّل فلما ذكر في المتن، وأمّا الثاني فغير مفتقر إلى البيان، فتعيّن الثالث، فتكليف المعدومين أبدًا متوقّف على تحصيل فهم الحاضرين. منه.
2- في «ق»: والمخاطبين.
3- في «ق»: بما هو.
4- جاء في حاشية الأصل: الهرج والمرج بالراء المهملة الساكنة، كما يظهر من القاموس [1/ 207]: الفساد والقلق والاختلاط. منه.

الدالّين على ثبوت المشاركة في التكليف.

وأمّا الثاني: فلاستلزامه الخروج من الدين المنفيّ بإجماع المسلمين، بل الضرورة من الدين، وبما ورد من أنّ: «حلال محمّد (صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(1)، فتعيّن أن تكون الحجّة بالنسبة إلى المعدومين فهم الحاضرين، فتكليف المعدومين إنّما يحصل بتحصيل فهم الحاضرين(2).

أقسام الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة
اشارة

إذا علمت ذلك فاعلم: أنّ الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة لا تخلو من أقسام أربعة:

القسم الأوّل

الأوّل: أنّا نعلم بأنّ المعاني المفهومة منها عندنا عين المعاني المفهومة حال الخطاب ولم يتطرّق إليها نقل وتغيير، كالسماء والأرض والحجر والشجر والقيام

ص: 95


1- بصائر الدرجات: 1/ 147، ح 7، وفي «الكافي: 2/ 17- 18، باب الشرائع، ح2»: «...فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة».
2- جاء في حاشية الأصل: والأولى أن يقرّر هكذا فيقال: لا شبهة أنّ المقصود من الآيات والأخبار هداية المكلّفين إلى ما كلّفوا به وغيره، والتوصّل إليه بواسطتهما إنّما هو بفهم المعاني منها، والفهم قد يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، فهل المناط حينئذٍ فهم الحاضرين بالنسبة إلى الكلّ، أو المعدومين كذلك، أو بالنسبة إلى كلّ فهم نفسه؟ والثاني والثالث باطل، فتعيّن الأوّل. منه.

والقعود وغيرها.

والحكم في هذا القسم لزوم الحمل على المعاني المفهومة منها عندنا؛ لأنّها عين المعاني المفهومة منها حال الخطاب، فالتكليف يحصل بحملها على تلك المعاني.

إن قيل: إنّ المسلّم هو حجّيّة فهم المخاطبين الحاضرين من الخطابات الشرعيّة، ومجرّد العلم باتّحاد مدلول اللفظ عند الغائبين والحاضرين لا يكفي في تحقّق(1) ذلك؛ إذ قد يتحقّق ذلك معه، كما إذا لم تقترن الخطابات بالقرينة الصارفة عن تلك المعاني، إذ لو لم تكن حينئذٍ تلك المعاني مرادة للشارع، يلزم مع إرادة غيرها الإغراء بالجهل والتكليف بما لا يطاق، ومع عدم إرادة شيء منهما اللغو والعبث، وقد يتخلّف عنه كما إذا كانت مقترنة بالقرينة الحاليّة أو المقاليّة الصارفة عن حمل اللفظ على تلك المعاني، فعلى هذا لا يلزم من حمل تلك الألفاظ على المعاني المفهومة منها عندنا الّتي هي عين المعاني المفهومة عند المخاطبين تحصيل(2) فهم الحاضرين الّذي هو مناط ثبوت التكليف بالنسبة إلى الغائبين(3).

قلنا: هذه القرائن إن كانت معلومة لنا، فلا كلام فيه، إذ المُتَّبَع حينئذٍ ما

ص: 96


1- في «ق»: تحقيق.
2- في «ق»: تحصّل.
3- جاء في حاشية الأصل: وحاصل الإيراد: أنّ المناط في تحصيل المكلّف به، تحصيل فهم الحاضرين، لا تحصيل المعاني الحقيقيّة لهم، وعند العلم باتّحاد المعاني الحقيقيّة للمعدومين والحاضرين إنّما يعلم المعاني الحقيقيّة للحاضرين، لا فهمهم، فالمتحصّل غير مناط للتكليف والمناط غير متحصّل. منه.

أفادتها، وإلّا نحمل(1) الألفاظ على معانيها الظاهرة وندفع احتمال وجود القرائن بالأصل، فتكون المعاني المفهومة منها للمخاطبين تلك المعاني، فيتمّ المرام.

القسم الثاني

والثاني: خلاف ذلك، أي تكون المعاني المفهومة منها عندنا مغايرة للمعاني المفهومة حال الخطاب، كالرطل والمثقال والدرهم ونحوها.

والحكم في هذا القسم: أنّه إن كانت المعاني المفهومة حال صدور الخطاب معلومة، يجب حمل الخطابات عليها، وقد عرفت وجهه؛ وإلّا يكون ذلك من قبيل المجملات الّتي لا يجوز بها الاستدلال في إثبات الأحكام، ولا يجوز الحمل على المعاني المفهومة عندنا؛ للعلم بعدم إرادتها منها كما عرفت.

القسم الثالث

والثالث: أن تكون المعاني لتلك الألفاظ معلومة عندنا ومفهومة في محاوراتنا ولم يعلم أنّها موضوعة حال الخطاب وقبلها بإزاء تلك المعاني المفهومة منها عندنا أو غيرها، كالأمر والنهي والعامّ والخاصّ.

والظاهر أنّ الحكم في هذا القسم لزوم الحمل على المعاني العرفيّة وأنّها معانيها حال الخطاب وقبلها، إذ لو لم تكن(2) تلك المعاني معانيها الموضوعة لها فيها، يلزم أن يكون وضعها بإزاء غيرها، فيلزم النقل، وهو خلاف الأصل والظاهر، فتعيّن الأوّل.

ص: 97


1- في «ق»: تحمل.
2- في «ق»: لم يكن.
القسم الرابع

والرابع: أن يعلم وضع الألفاظ بإزاء معاني معيّنة وعلم نقلها منها إلى المعاني المخصوصة، لكن حصل الاشتباه والشكّ في مبدأ النقل أهو قبل صدور الخطابات فتكون المعاني المفهومة للحاضرين من تلك الخطابات المعاني المتجدّدة، أم بعده فتكون المعاني المفهومة لهم منها معانيها القديمة؟

وهذا هو الّذي كلامنا فيه، فعلى القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة، يكون النقل قبل صدور الخطابات، فتكون المعاني المفهومة للمخاطبين من تلك الألفاظ حال التجرّد المعاني الشرعيّة، فالواجب علينا الحمل على تلك المعاني حينئذٍ لما تقدّم، وعلى القول بالعدم يكون النقل بعده، فاللازم حينئذٍ الحمل على المعاني القديمة؛ لأنّها المفهومة منها للمخاطبين حال الخطاب عند التجرّد عن القرائن.

وهذه هي الثمرة بين القولين، وحيث قد عرفت حقيقة قول المثبتين، ظهر لك الحال في البين.

دفع إيراد لاستحكام مقام
اشارة

اعلم: أنّ مظهر الثمرة المذكورة في القسم الرابع من الأقسام المذكورة إمّا في الألفاظ الواردة في الكتاب، أو السنّة، أو في كليهما، والأوّل والثاني فاسد؛ لإطباق العلماء قاطبة على عدم الافتراق بينهما، فإنّ المثبتين للحقيقة الشرعيّة أطبقوا على حمل تلك الألفاظ على المعاني الشرعيّة عند التجرّد عن القرينة، سواء كانت في القرآن أو السنّة، والنافين لها اتّفقوا على الحمل على المعاني اللغويّة حينئذٍ كذلك، والفارق بين الفارقين غير موجود، فتعيّن الثالث.

ص: 98

فعلى هذا نقول: إنّه لا إشكال فيه عند كون الشارع هو الله تعالى، أمّا في الخطابات القرآنيّة فظاهر، وأمّا في الخطابات النبويّة فلأنّه حينئذٍ تابع كالمتشرّعة، فخطاباته تابعة لخطاباته تعالى وعلى نهج خطاباته، وكذا على احتمال أنّ الواضع في الألفاظ الواردة في الكتاب هو الله تعالى وفي الألفاظ الواردة في السنّة هو النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

وأمّا عند كون الشارع هو النبيّ (صلی الله علیه و آله) فيشكل الأمر في حمل الألفاظ الواردة في الكتاب على المعاني الشرعيّة عند التجرّد؛ لأنّ المتكلّم بها - وهو الله تعالى - لم يضعها لتلك المعاني، ووضع النبيّ (صلی الله علیه و آله) إنّما يقتضي حمل خطاباته وخطابات من تابعه عليها.

وجوابه: أنّ مدلول خطاب الله تعالى يتعيّن بتعيّن المخاطب بذلك الخطاب، فإن كان من أهل اللغة فالمراد منه المعنى اللغويّ، وإن كان من أهل العرف فالمراد منه المعنى العرفيّ، وإن كان من أهل الشرع فالمراد منه المعنى الشرعيّ، فخطاب الله تعالى مع كلّ قوم جارٍ على مقتضى اصطلاحهم، فالخطابات القرآنيّة لمّا كانت متوجّهة إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) والمتشرّعة، وجب حملها على المعنى الشرعيّ الّذي هو مصطلحهم.

نعم، بقي في المقام شيء، وهو أنّ الخطاب المتوجّه إلى أهل اصطلاح(1) إنّما يجب حمله على المعنى المصطلح عندهم إذا كان اصطلاحهم سابقًا على توجّه الخطاب، وفيما نحن فيه ليس كذلك، بل الأمر بالعكس؛ لأنّ ورود تلك الألفاظ في القرآن سابق عن وضع النبيّ (صلی الله علیه و آله)؛ لأنّ المعاني الّتي هي مدلولاتها توقيفيّة لا يمكن الاطّلاع عليها إلّا من قبل الله تعالى، وإيقاف الله تعالى تلك المعاني بواسطة تلك الخطابات.

ص: 99


1- في «ق»: الاصطلاح.

فلا يتمّ الجواب؛ لأنّ استعمال الله تلك الألفاظ في تلك المعاني إمّا لأجل الوضع، فيخرج من محلّ الكلام، إذ حينئذٍ يكون الوضع مستندًا إليه تعالى، لا إليه (صلی الله علیه و آله)، أو لأجل العلاقة، فتكون تلك الألفاظ في تلك المعاني مجازات وإنّما وضعها النبيّ (صلی الله علیه و آله) بعد ورودها في الكتاب، فحينئذٍ لا تكون تلك الألفاظ الواردة في الكتاب بالنسبة إلى ذلك الاستعمال حقيقة شرعيّة؛ لأنّ اتّصافها بها مسبوق بالوضع، والوضع حينئذٍ مسبوق بورودها فيه، بل اتّصافها بها إنّما يكون بالنسبة إلى الخطابات النبويّة، فلا يمكن تحقّق الثمرة المذكورة في الألفاظ الواردة في الكتاب من حيث ورودها فيها.

وجوابه، هو ما تقدّم في البحث الثاني عند احتمال كون الوضع في جميع الألفاظ مستندًا إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) وملخّصه: أنّ ذلك إنّما يتوجّه إذا كان توقيف النبيّ (صلی الله علیه و آله) للمعاني المدلول عليها بتلك الألفاظ من تلك الخطابات، وهو غير مسلّم؛ لجواز التوقيف بغير تلك الألفاظ، ثمّ وضع النبيّ (صلی الله علیه و آله) تلك الألفاظ بإزائها ليتيسّر التعبير، ثمّ توجّه الخطابات القرآنيّة إليه(1)، فيكون الوضع والاصطلاح سابقًا على ورودها في القرآن، فلا إشكال وقد تقدّم الكلام في ذلك بما لا مزيد.

ص: 100


1- «إليه» لم ترد في «ق».
الدليل الأوّل للمعتزلة لإثبات الحقيقة الدينيّة
اشارة

إبراز كلام لختم مقام

اعلم: أنّ المنقول من المعتزلة(1) في إثبات الحقيقة الدينيّة هو أنّ «الإيمان» في اللغة: التصديق، وفي الشرع: العبادات المخصوصة، ولا مناسبة مصحّحة للتجوّز قطعًا.

أمّا أنّ «الإيمان» في اللغة ذلك فبالإجماع؛ وأمّا أنّه في الشرع ما ذكر؛ فلأنّ العبادات هي الدين المعتبر، والدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان، فالعبادات هي الإيمان.

أمّا أنّ العبادات هي الدين، فلقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾(2)، واسم الإشارة للمذكور، وهو إمّا العبادات المدلول عليها بقوله: ﴿لِيَعْبُدُوا الله﴾، بناءً على أنّه بتأويل: لعبادة الله، والمصدر المضاف يفيد العموم إمّا مطلقًا، أو هنا بقرينة المقام، أو الصلاة والزكاة؛ وأيّ منهما كان يثبت المطلوب، أمّا على الأوّل فظاهر، وأمّا على الثاني فلأنّه إذا ثبت إطلاق الدين على هذين النوعين من العبادتين يثبت على جميع الأنواع؛ لعدم القول بالفصل، أو يقال: إنّ الدين اسم لمجموع العبادات، أطلق على هذين النوعين تنبيهًا على أفضليّتهما حتّى كأنّهما مجموعها.

ص: 101


1- ينظر نهاية الوصول: 1/ 250، غاية الوصول: 1/ 176، ومنية اللبيب: 1/ 207 و211، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 170، والمحصول، للرازيّ: 1/ 303، وشرح مختصر المنتهى: 1/580، والبحر المحيط: 1/ 517، والإحكام، للآمديّ: 1/ 42.
2- سورة البيّنة: 5.

وأمّا أنّ الدين هو الإسلام، فلقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلَامُ﴾(1).

وأمّا أنّ الإسلام هو الإيمان؛ فلأنّه لو كان غير الإيمان لزم أن لا يقبل الإيمان من مبتغيه، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، أمّا الملازمة فلقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾(2)، ولقوله(3) تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(4).

وجه الدلالة أمّا بالنسبة إلى الآية الأُولى فظاهر، وأمّا بالنسبة إلى الثانية فتوضيح ذلك يقتضي أن يقال: إنّ الآية الشريفة وردت في قوم لوط، وضمير المجرور في الموضعين فيها عائد إلى البلدة الّتي كان (علیه السلام) فيها، والمراد بالمؤمنين المخرجين لوط ومن آمن معه، كما أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾الآية(5)، وبقوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ الآية(6).

فعلى هذا نقول: الظاهر أنّ قوله تعالى: ﴿فَمَا وَجَدْنَا﴾ الآية، في بيان كمّيّة المؤمنين المخرجين أهم أهل بيت واحد، أم أهل بيوت متعدّدة؟ وقد دلّ قوله

ص: 102


1- سورة آل عمران: 19.
2- سورة آل عمران: 85.
3- جاء في حاشية الأصل: عطف على قوله: «فلأنّه لو كان غير الإيمان»، لا على «قوله» في قوله: «فلقوله تعالى»، فيكون دليلًا على أصل المطلب، لا على الملازمة؛ ولهذا أعيد الجارّ. منه.
4- ينظر نهاية الوصول: 1/ 251، وغاية الوصول: 1/ 177، والمحصول، للرازيّ: 1/ 304، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 582 -583، سورة الذاريات: 35- 36.
5- سورة هود: 81.
6- سورة العنكبوت: 32.

تعالى: ﴿غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أنّهم أهل بيت واحد، وذلك البيت منزل لوط، كما روي في العلل(1) عن النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وكلمة «غير» من أدوات الاستثناء، والمستثنى مفرّغ، والتقدير بمعونة السياق: فما وجدنا فيها أهل بيت من المؤمنين أصلًا إلّا أهل بيت واحد منهم.

وذلك إنّما يكون إذا صدق المسلم على المؤمن واتّحد معه، وإلّا كان اللائق أن يقال: غير بيت من المؤمنين، واتّحاد المسلم مع المؤمن يستلزم اتّحاد الإسلام مع الإيمان، وهو المطلوب.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ القدر اللازم ممّا ذكر أنّ العبادات هي الإيمان، والمدّعى عكس ذلك، لكن أجيب عنه: بأنّ صحّة الحمل بين الصفات تقتضي(2) اتّحاد المفهوم، ولهذا لا تصحّ: «الكتابة ضحك»، كما تصحّ: «الكاتب ضاحك»، فقولنا: «العبادات هي الإيمان» وعكسه واحد(3).

وردّ ذلك بصحّة قولنا: «الضرب فعل»، و«المشي حركة» ونحوهما مع انتفاء الاتّحاد.

ويمكن أن يقال بكفاية هذا القدر في الاستدلال وإن لم يثبت أنّ الإيمان هو العبادات، إذ يكفي في الاستدلال أن يقال: إنّ العبادات يصدق عليها الإيمان لما تقدّم، وهذا الصدق لا يمكن أن يكون على سبيل التجوّز، لما تقدّم من انتفاء

ص: 103


1- ينظر علل الشرائع: 2/ 550، ح5.
2- في المصدر: تقتضي.
3- شرح مختصر المنتهى (حاشية التفتازانيّ): 1/ 586.

المصحّح، فتعيّن أن يكون على سبيل الحقيقة؛ وهو إمّا على سبيل النقل، أو الارتجال، أي الوضع الابتدائيّ، لا سبيل إلى الأوّل؛ لما عرفت من انتفاء المناسبة، فتعيّن الثاني، فثبتت(1) الدينيّة لما تقدّم من أنّها: ما لا يعرف أهل اللغة لفظه، أو معناه، أو كليهما؛ وما نحن فيه من القسم الثاني، وأمّا الأوّل والثالث فغير واقع، فالواقع من الدينيّة ما يعلم أهل اللغة لفظه، لا معناه.

والفرق بينها وبين الشرعيّة إمّا بالخصوص والعموم بأنّ الشرعيّة أعمّ منها؛ لأنّ الشرعيّة تكون على سبيل النقل والارتجال بخلافها، أو بالمباينة بأنّ الوضع في الشرعيّة نقليّ فقط وهنا ارتجاليّ كذلك، وقد تقدّم الكلام بما لا مزيد عليه.

الجواب عن الدليل الأوّل للمعتزلة

وبالجملة: هذا حاصل ما ذكروا في المقام، لكن فيه نظر؛ لأنّا لا نسلّم أنّ «الإيمان» في الشرع عبارة عمّا ذكر، بل هو التصديق بما جاء به النبيّ (صلی الله علیه و آله)، والاستعمال إمّا على سبيل الحقيقة أو التجوّز، بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمها، والمناسبة بين المعنيين بالإطلاق والتقييد.

وعلى فرض التسليم لا نسلّم انتفاء المناسبة بين العبادات والتصديق الّذي هو المعنى اللغويّ للإيمان، بناءً على أنّ التصديق من لوازم العبادات المقبولة وشرائطها المسلّمة، فيكون إطلاقه عليها إطلاقًا لاسم اللازم على ملزومه.

ص: 104


1- في «ج»: فتثبت.

هذا هو الّذي أفاده المحقّق التفتازانيّ(1)، لكنّه مردود عليه بأنّ التصديق الّذي هو من شرائط العبادات هو التصديق الخاصّ، أي التصديق بما جاء به النبيّ (صلی الله علیه و آله) والإيمان في اللغة معناه: مطلق التصديق، إلّا أن يقال: إنّ التصديق الخاصّ مستلزم للتصديق المطلق، فلعلّ هذا القدر كافٍ في المجازيّة، فتأمّل.

وما ذكر في بيان أنّ الإيمان العبادات، غير تامّ، أمّا ما استدلّ به على أنّ العبادات هي الدين؛ فلأنّا لا نسلّم أنّ المشار إليه لاسم الإشارة هو ما ذكر، بل الظاهر أنّه الدين المخلص، أي الدين المخلص لله هو دين الملّة القيّمة.

وأمّا ما استدلّ به على أنّ الإسلام هو الإيمان؛ فلأنّ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾(2) إنّما يدلّ على النهي عن ابتغاء المغاير للإسلام بحيث يخرج بابتغائه عن الإسلام، والإيمان ليس كذلك، بل يؤكّده.

وقوله تعالى: ﴿غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(3) إنّما يعلم بقرينة المقام أنّ المسلمين بمعنى المؤمنين، ولا شبهة في جواز استعمال كلّ منهما مقام الآخر عند قيام القرينة، ولا يلزم منه اتّحاد مفهومي اللفظين، وكيف؟! مع أنّ ذلك يستلزم انسداد باب المجاز بالمرّة، إذ كلّ لفظ إذا استعمل في مقام الآخر يمكن أن يقال باللسان باتّحاد مفهوميهما، ولا ارتياب في فساده.

ص: 105


1- ينظر شرح مختصر المنتهى (حاشية التفتازانيّ): 1/ 586.
2- سورة آل عمران: 85.
3- سورة الذاريات: 36.

هذا، على أنّ قوله تعالى: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾(1) صريحٌ في تخالفهما، فمن أين ثبت أنّ الإيمان هو العبادات؟!

الدليل الثاني للمعتزلة لإثبات الحقيقة الدينيّة
اشارة

واستدلّوا أيضًا في أنّ الإيمان الأعمال، بأنّه لو لم يكن كذلك بل كان الإيمان هو التصديق، لزم أن يكون قاطع الطريق المصدِّق مؤمنًا، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة فظاهرة؛ لوضوح أنّ قطّاع الطريق المعبّر عنهم في ألسنة الفقهاء بالمحاربين، يمكن أن يكونوا مصدّقين لما جاء به النبيّ (صلی الله علیه و آله) فعند ذلك يكونون مؤمنين؛ لأنّ المفروض أنّ الإيمان عبارة عن ذلك.

وأمّا بطلان التالي؛ فلأنّ قاطع الطريق مخزيٌّ يوم القيامة، والمؤمن ليس بمخزيّ، فقاطع الطريق ليس بمؤمن.

أمّا الصغرى؛ فلقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(2).

وأمّا الكبرى فلقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ﴾(3)، وحيث قد ثبت أنّ الإيمان ليس بتصديق، تعيّن أنّه الأعمال والعبادات؛ لانتفاء

ص: 106


1- سورة الحجرات: 14.
2- سورة المائدة: 33.
3- سورة التحريم: 8.

القول الثالث؛ ولمّا لم يتحقّق مناسبة بين المعنى اللغويّ للإيمان والعبادات، انتفى احتمال المجازيّة والنقل، فلم يبقَ إلّا أن يكون ذلك من الموضوعات المبتدئة، وهو المطلوب(1).

الجواب عن الدليل الثاني للمعتزلة

وفيه نظر، أمّا أوّلًا(2): فلأنّ ذلك مشترك الورود؛ لجواز أن يقال: إنّ الإيمان لو كان عبارة عن العبادات، لكان قاطع الطريق المؤدّي لها مؤمنًا، واللازم باطل، فالملزوم مثله، أمّا الملازمة فبيّنة، إذ المفروض أنّ الإيمان العبادات، فلا محالة يكون المؤمن هو الآتي بها، وأمّا بطلان اللازم فبعين ما ذكر حرفًا بحرف.

إن قيل: إنّهم وإن ذكروا في الاستدلال الأوّل أنّ الإيمان العبادات، لكنّهم لم يذكروا ذلك في الاستدلال الثاني، بل حكموا أنّ الإيمان الأعمال، فيمكن أن يكون مرادهم منها أعمّ منها، فحينئذٍ لا يرد عليهم النقض المذكور، إذ من جملة الأعمال كفّ النفس عن قطع الطريق، وقاطع الطريق لم يأتِ بذلك، فلا يكون مؤمنًا، فالنقض مندفع بناءً على أنّ الإيمان الأعمال، وغير مندفعٌ بناءً على أنّه التصديق، فحصل الافتراق.

وعلى تقدير أن يكون المراد بالأعمال العبادات نقول: كفُّ النفس عن هذا

ص: 107


1- ينظر نهاية الوصول: 1/ 251، وغاية الوصول: 1/ 178، والمحصول، للرازيّ: 1/ 305، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 583، والإحكام، للآمديّ: 1/ 42.
2- جاء في حاشية الأصل: الأوّل نقض إجماليّ والثاني حلّ، فإيرادهما كذلك أولى. منه.

العمل لكونه مبغوضًا لله تعالى عبادةٌ، والمفروض أنّه قطع الطريق، فلم يصدر عنه هذه الطاعة، فلا يكون مؤمنًا.

قلنا: هذا مبنيٌّ على أنّ المطلوب بالنهي كفّ النفس، وهو محلّ الكلام، وعلى فرض التسليم نقول: إنّ الأعمال غير متناهية، فعند صدور كفّ النفس عن قطع الطريق لا محالة أنّه تارك لبعض الأعمال، فينبغي أن لا يكون(1) مؤمنًا، فلا يبقى للمؤمن مصداق، وهو بديهيّ الفساد، وعلى تقدير أن يكون المراد بالأعمال ما يمكن إرجاعه إلى العبادات بتحويل النيّات، فكذلك.

ثمّ يبقى المطالبة لما دلّ على أنّ الإيمان الأعمال عند كونها أعمّ من الطاعة، ولم يذكروا فيه شيئًا، وعند كونها إيّاها قد عرفت ما تمسّكوا في إثباتها.

وأمّا ثانيًا: فلأنّا لا نسلّم عند كون الإيمان بمعنى التصديق يلزم ما ذكر؛ لأنّ مَن صدّق النبيّ (صلی الله علیه و آله) فيما جاء به حقيقة لا يمكن له الإقدام على خلافه والإتيان بمنافيه ومغايره، ويشاهد من الأشخاص المصدّقين من الإقدام على تلك الأفعال القبيحة والآثار الرديّة والأعمال السيّئة، فليسوا بمصدّقين حقيقة، فتأمّل.

وأمّا ثالثًا: فلأنّ الكبرى ممنوعة، والآية غير دالّة عليها؛ لورودها في الصحابة بدليل لفظة: (مَعَهُ)، فالقدر اللازم حينئذٍ عدم إخزائهم، ولا يلزم منه عدم إخزاء غيرهم ولو كان مؤمنًا.

قيل: سلّمنا عدم اختصاص الآية الشريفة بالصحابة وشمولها لهم ولغيرهم،

ص: 108


1- في «ق»: أن يكون.

لكنّها إنّما تكون دليلًا لما ذكر عند كون ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا﴾ عطفًا على ﴿النَّبِيّ﴾، وهو غير لازم؛ لجواز أن يكون مبتدأ وجملة: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾(1)خبرًا له(2).

وفيه نظر، أمّا أوّلًا: فلأنّ مفاد صدر الآية حينئذٍ الإخبار بعدم إخزاء النبيّ (صلی الله علیه و آله) فقط، ولا فائدة فيه، وأمّا ثانيًا: فلأنّ قاطع الطريق المصدّق وغيره من المصدّقين المباشرين لأنواع المعاصي والمزاولين لأقسام المناهي حينئذٍ يكون مندرجًا في عموم الآية، فيشملهم قوله سبحانه: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ولا يخفى ما فيه.

ص: 109


1- ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾، سورة التحريم: 8.
2- ينظر غاية الوصول: 1/ 179.

ص: 110

في تعريف الحقيقة اللغويّة

الفصل الثاني: في الحقيقة اللغويّة

اشارة

وتحقيق الحال فيها يستدعي التكلّم في تعريفها وثبوتها وواضعها، ففيها مباحث:

البحث الأوّل: في تعريف الحقيقة اللغويّة
اشارة

اعلم: أنّه يمكن أن يقال: إنّها عبارة عن الألفاظ الّتي يكون استفادة المعاني منها بمعونة وضع أهل اللغة(1).

الإيراد على تعريف الحقيقة اللغويّة

ويمكن الإيراد عليه من وجهين:

الأوّل: أنّه من المعلوم أنّ الحقيقة اللغويّة عبارة عن الحقيقة عند أهل اللغة، أو في اللغة، فأخذ ذلك في حدّه لا يغني من جوع؛ لعدم تحصّل معرفة المحدود.

والثاني: أنّه منقوض طردًا وعكسًا.

أمّا الأوّل: فلصدقه على الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة؛ لوضوح أنّ لفظ «الصلاة»

ص: 111


1- ينظر تهذيب الوصول: 65، ونهاية الوصول: 1/ 243، وغاية الوصول: 1/ 152، ومنية اللبيب: 1/ 202، والمحصول، للرازيّ: 1/ 117، والكاشف عن المحصول: 2/ 208، والإحكام، للآمديّ:1/ 27، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 505، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 37 -38.

مثلًا عند استعماله في المعنى الشرعيّ يصدق عليه أنّه استفيد منه المعنى -وهو الدعاء- بمعونة وضع أهل اللغة؛ وذلك عند استعماله فيه، وكذا الكلام في «الدابّة» عند استعمالها في المعنى العرفيّ.

وهو وإن كان ممّا يمكن اندفاعه بإرادة الاستفادة الحاليّة، لكن عند وحدة المستعمل وتعدّد زمان الاستعمال، وأمّا في عكسه فلا كما لا يخفى، وقيد «الحيثيّة» غير مجد، إلّا أن يوجّه بما مرّ في المقدّمة.

وأيضًا يصدق الحدّ المذكور على المجاز اللغويّ؛ لأنّ المعنى المجازيّ هو المستفاد من اللفظ بمعونة وضعه للمعنى الحقيقيّ على ما ظهر ممّا بيّناه في أنّ الدالّ في المجازات هو اللفظ بشرط القرينة.

وأمّا الثاني: فلأنّه لا يجوز أن يكون المراد بالاستفادة الاستفادة بالقوّة، وإلّا يلزم أن يكون اللفظ بمجرّد الوضع حقيقة، وهو غير صحيح كما مرّ مشروحًا، فلا بدّ أن يكون بالفعل؛ وحينئذٍ لو وضع لفظ واستعمل في الموضوع له ولم يستفد(1) منه معنى لعدم التفات المخاطب، يلزم أن لا يكون اللفظ مع استعماله في الموضوع له حقيقة، وهو معلوم الفساد.

تعريف آخر للحقيقة اللغويّة

ويمكن أن يقال في تعريفها أيضًا: بأنّها اللفظ المستعمل في الموضوع له الّذي لم يكن الواضع فيه الشرع والعرف من حيث إنّه مستعمل في الموضوع له الّذي لم

ص: 112


1- في «ق»: لم يستفيد.

يكن كذلك، لكونه موضوعًا له؛ وتكون الحيثيّة تقييديّة.

والحاصل منه: أنّ الحقيقة اللغويّة: اللفظ الّذي استعمل في الموضوع له الّذي لم يكن موضوعًا له للشرع والعرف وقت كونه مستعملًا في ذلك الموضوع له، وذلك الاستعمال لكون ذلك المعنى موضوعًا له.

وحينئذٍ يندفع الإيرادان، أمّا الأوّل فظاهر، وأمّا الثاني، أمّا بالنسبة إلى الانتقاض الطرديّ فلأنّ لفظ «الصلاة» مثلًا حين استعماله في المعنى الشرعيّ مستعمل في الموضوع له الشرعيّ، فلا يصدق في تلك الحالة أنّه غير مستعمل في الموضوع له الشرعيّ.

لا يقال: إنّ ذلك اللفظ قبل الاستعمال في المعنى الشرعيّ قد استعمل في المعنى اللغويّ، فيصدق عليه في حالة استعماله في المعنى الشرعيّ أنّه استعمل في غير الموضوع له الشرعيّ من حيث إنّه غير الموضوع له الشرعيّ، فيلزم أن يكون ذلك اللفظ بالنسبة إلى المعنى الشرعيّ حقيقة لغويّة، وهو بديهيّ الفساد.

لأنّا نقول: قد عرفت أنّ الحقيقة اللغويّة ليس مطلق اللفظ المستعمل في ذلك الموضوع له، بل وقت كونه مستعملًا فيه، ومعلوم أنّ اللفظ المفروض في ذلك الوقت لم يستعمل في ذلك الموضوع له، بل في غير ذلك الوقت.

وكذا الكلام بالنسبة إلى «الدابّة» عند استعمالها في المعنى العرفيّ، لكن هذا لا شبهة فيه عند وحدة المستعمل وتعدّد زمان الاستعمال، وأمّا في عكسه، فنقول: إنّ المقصود بالنسبة إلى ذلك المعنى -أي الحقيقة اللغويّة- اللفظ المستعمل في الموضوع له الّذي هو غير الموضوع له الشرعيّ والعرفيّ وقت كونه مستعملًا في

ص: 113

ذلك المعنى بالنسبة إلى ذلك المعنى، فيندفع الانتقاض عند تعدّد المستعمل ووحدة زمان الاستعمال.

وأمّا بالنسبة إلى الانتقاض العكسيّ، فغير محتاج إلى البيان، وهذا وإن اندفع به بعض النقوض السابقة عن(1) الحدّ الأوّل أيضًا، لكن لمّا لم يندفع به جميعها، فلهذا أغفلنا ذكره هناك.

والتقييد بقولنا: «لكونه(2) موضوعًا له» للاحتراز عن اللفظ الّذي استعمله الشرع أو العرف في المعنى اللغويّ مجازًا، فإنّه لو لم يكن القيد المذكور، يلزم أن يكون حقيقة لغويّة، إذ يصدق عليه أنّه لفظ استعمل في الموضوع له الّذي لم يكن موضوعًا له للشرع له والعرف، وأنّه في هذا الوقت مستعمل في ذلك الموضوع له، لكن ليس الاستعمال لكون المعنى موضوعًا له، بل لكونه معنى مجازيًّا.

الإيراد على التعريف مع الجواب عنه

نعم، يرد في المقام شيء آخر، وهو أنّ الحدّ المذكور إنّما يتمّ إذا كان المراد من الشارع في الحقيقة الشرعيّة غير الله سبحانه، أو لم يكن وضع اللغة مستندًا إلى الله تعالى؛ والأوّل قد تقدّم الكلام فيه، والثاني سيجيء البحث فيه.

فلو قيل: إنّها اللفظ المستعمل في الموضوع له لأهل اللغة وقت كونه مستعملًا فيه بالنسبة إليه لكونه موضوعًا له، يسلم من ذلك أيضًا؛ وليس فيه إلّا أنّ التحديد

ص: 114


1- في «ق»: من.
2- في «ق»: بكونه.

إنّما هو لمعرفة المحدود، ومعرفته متوقّفة على معرفة الحدّ، ومعرفته موقوفة على معرفة أجزائه، ومن أجزائه: «أهل اللغة»، وهو بجزئيها المضاف والمضاف إليه غير معلوم.

والحاصل: أنّ معرفة الحقيقة اللغويّة بناءً على الحدّ المذكور متوقّفةٌ على معرفة أهل اللغة، فلو عرفت(1) بذلك، ثمّ فسّر ذلك، يندفع المحذور بحذافيره، فنقول: إنّ معرفة المضاف يتحصّل ممّا يأتي في تعيين واضع اللغات، فالكلام في هذا المقام في تفسير المضاف إليه - أي اللغة - وهي مفسّرة في كلام جماعة من العلماء باللفظ الموضوع لمعنى، لكن لا شبهة في صدق ذلك بالنسبة إلى كلّ من الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة أيضًا، فعلى هذا يلزم أن يكون كلّ واحد منهما حقيقة لغويّة، فلا يكون الحدّ المذكور مطّردًا.

ويمكن الجواب عنه: بأنّه يمكن أن يكون المراد من الوضع المأخوذ في تفسير اللغة وضعًا مستأنفًا، أي لا يكون مسبوقًا بوضع آخر، ومعلوم أنّ كلًّا من الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة ليس الوضع فيه مستأنفًا، بل مسبوق بوضع آخر.

إن قيل: لا يلزم أن يكون الوضع في الحقيقة الشرعيّة غير مستأنف؛ لوضوح أنّها عبارة عن الألفاظ الّتي يكون استفادة المعاني منها بمعونة وضع الشرع، سواء كان منقولًا أو ابتدائيًّا، وأيضًا يمكن في كلّ زمان لكلّ أحد أن يخترع لفظًا ووضعه لمعنى، فيكون الوضع فيه مستأنفًا.

ص: 115


1- في «ق»: عرفت.

قلنا: إنّ الاحتمال المذكور وإن كان جائزًا، لكنّه محض احتمال؛ لما عرفت من أنّ المتحقّق من الحقيقة الشرعيّة خلاف ذلك؛ والتعريف المذكور للّغة إنّما هو بالنسبة إلى الواقع، فلا تضرّه الأمور المحتملة الغير الواقعة، وعلى تقدير ثبوت اللفظ المخترع الموضوع في هذه الأزمان نقول: إنّ ذلك من اللغة أيضًا، فلا يضرّ دخوله، بل خروجه مضرّ.

لكن يتوجّه هنا شيء آخر، وهو أنّ الأمر لو كان كذلك ينبغي أن يعرف الحقيقة اللغويّة أوّلًا بذلك حتّى لا يحتاج إلى هذا التطويل، ولا يلزم شبهة الدور أيضًا بأن يقال: إنّ الحقيقة اللغويّة اللفظ المستعمل في الموضوع له الابتدائيّ، أو الّذي لم يسبق عليه وضع ونحوهما(1) مع انضمام ما تقدّم من القيود المذكورة.

والحقّ أن يقال: إنّ اللغة لها إطلاقان: خاصّ وعامّ، والإطلاق العامّ يشمل جميع الألفاظ الموضوعة وإن كانت عرفيّة، وفي القاموس:

اللغة: «أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم»(2).

ص: 116


1- جاء في حاشية الأصل: كأن يقال: إنّها اللفظ المستعمل في الموضوع له الّذي لم يسبق بوضع، لكن ينتقض عكس الحدّ حينئذٍ باللفظ المشترك، كما إذا وضع الواضع لفظًا لمعنى، ثمّ وضعه للمعنى الآخر، ولا شبهة في كونه حقيقة لغويّة في كلّ من المعنيين مع أنّ الموضوع له الثانويّ مسبوق بوضع، إلّا أن يقيّد بقيد آخر بأن يقال: لم يكن مسبوقًا بوضع لوحظ فيه الوضع الآخر، كما في الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة، فإنّ الملحوظ فيهما وضع آخر على الظاهر، بخلاف المشترك. لكن يتوجّه عليه: أنّ المعتبر في المشترك عدم اعتبار الملاحظة، لا اعتبار عدمها، والأمر بالتأمّل الّذي سيجيء إشارة إليه. منه.
2- القاموس المحيط: 4/ 386.

فلو كان المعرّف اللغة بهذا الإطلاق، لا بدّ أن يبقى الوضع المأخوذ في حدّها على الإطلاق بحيث يشمل الوضع المسبوق أيضًا.

والإطلاق الخاصّ كما يقال: اللفظ في اللغة كذا، وفي العرف كذا، وتقييد الوضع المأخوذ في حدّها بالسابق إنّما يناسب إذا كان المعرّف اللغة بهذا الإطلاق، فتأمّل.

وأمّا التعريف المذكور في كلام الجماعة(1)، فالظاهر أنّه للّغة بالإطلاق العامّ.

ص: 117


1- المخصص: 1 ق 1 (السفر الأوّل)/ 6، وتاج العروس: 20/ 154، وينظر القاموس المحيط: 1/ 2، و 4/ 386، ولسان العرب: 15/ 251.

ص: 118

في ثبوت الحقيقة اللغويّة

والبحث الثاني: في ثبوت الحقيقة اللغويّة
اشارة

اعلم: أنّ المستفاد من كلام جماعة من الأعلام أنّ ثبوتها من القطعيّات الّتي لا تقبل التشكيك، قال العلّامة -أحلّه الله تعالى دار الكرامة- في النهاية:

«احتجّوا على إثباتها بأنّ هنا(1) ألفاظًا مستعملة في معان، فإن كانت هي الموضوع(2) لها كانت حقائق، وهو المطلوب، وإن كانت غيرها كانت مجازات، والمجاز مسبوق بالحقيقة وفرع عليها، ووجود الفرع يستلزم وجود الأصل، فالحقيقة موجودة قطعًا»(3).

أقول: المراد بالاستعمال في تلك المعاني إمّا عند أهل العرف، أو اللغة، وإن كان المراد الأوّل، فالمناسب أن يقرّر الدليل هكذا: بأنّ هنا ألفاظًا يفهم منها معان، فإن كانت تلك المعاني مفهومة منها عند أهل اللغة ثبت المطلوب، وإلّا كانت مجازات لغويّة، إلخ.

ويتوجّه عليه: أنّ الترديد غير حاصر؛ لجواز أن يكون حقيقة عرفيّة.

ص: 119


1- في المصدر: هاهنا.
2- في المصدر: الموضوعة.
3- نهاية الوصول: 1/ 243.
في الفرق بين المنقول والمجاز مع اشتراكهما في الاستعمال في المعنى المناسب

إن قلت: إنّ الحقيقة العرفيّة مجازات لغويّة؛ لأنّها منقولات من المعاني الأصليّة إلى غيرها لتحقّق المناسبة بينهما، واستعمال اللفظ في المعنى المناسب للموضوع له مجاز.

قلنا: استعمال اللفظ في المعنى المناسب إنّما(1) يكون مجازًا إذا كان الاستعمال للمناسبة، ومطلق الاستعمال في المعنى المناسب لا يكفي لتصحيح المجازيّة، والقدر المسلّم في الحقيقة العرفيّة تحقّق المناسبة، لا أن يكون الاستعمال لأجلها.

لا يقال: إنّ استعمال اللفظ في المعنى المنقول إليه الّذي هو المعنى العرفيّ للنقل، والنقل للمناسبة، فينتج أنّ الاستعمال للمناسبة، فتحقّقت المجازيّة.

لأنّا نقول: على فرض تسليم ذلك يلزم أن تكون الحقائق العرفيّة بأسرها حال كونها حقائق مجازًا ولو عند الناقل، وهو بيّن الفساد، بل الفارق في المقامين أنّ المعتبر في المجاز ملاحظة المناسبة حال الاستعمال، وفي الحقائق العرفيّة حال النقل.

وقولك: «إنّ الاستعمال في المعنى العرفيّ للنقل والنقل للمناسبة، فالاستعمال للمناسبة»، لا يجدي نفعًا؛ لأنّ توقّف الاستعمال في المنقولات على المناسبة إنّما هو لتوقّف النقل عليها، لا لتوقّف أصل الاستعمال، والمجاز هو ما توقّف أصل الاستعمال عليها(2).

ص: 120


1- في «ق» بدل «إنّما»: إمّا أن.
2- جاء في حاشية الأصل: ولقائل أن يقول: إنّ المراد بملاحظة العلاقة والمناسبة حال الاستعمال في المجازات إمّا في الاستعمال الأوّل، أي للمتجوّز حال التجوّز، أو في أيّ استعمال كان بالإضافة إلى أيّ مستعمل كان؛ وعلى الثاني وإن حصل الفرق بين المجاز والنقل على ما ذكر، لكن نمنع لزومه في التجوّز، إذ يجوز للمستعملين استعمال المجاز الصادر من المتجوّز تبعًا لاستعماله من غير أن يلاحظ فيه المناسبة، وكم من الأشعار والخطب الّتي بولغ فيها في التجوّز تؤخذ في الاستعمال من غير علم بالمناسبة وملاحظتها، وعلى الأوّل وإن لزم ملاحظة العلاقة، لكن ليس ذلك من خواصّ المجاز؛ للزوم ملاحظة المناسبة في المنقولات حال النقل كما لا يخفى. ويمكن الجواب عنه من وجهين، الأوّل: أنّا نختار الأوّل ونمنع لزومه في النقل؛ إذ القدر المسلّم فيه ملاحظة المناسبة حين النقل والتعيين للمعنى المنقول إليه، لا حال الاستعمال مطلقًا ولو في الاستعمال الأوّل، لا سيّما إذا كان المستعمل الأوّلي غير الناقل، لكن هذا إنّما يتمّ في النقل التعيينيّ، وأمّا في التعيّني منه فلا كما لا يخفى. والثاني: نختار الثاني، لكن لا مطلقًا، بل في كلّ استعمال متحقّق من المتجوّز، بخلاف النقل، فإنّه لا يلزم فيه ملاحظة المناسبة في أيّ استعمال كان ولو من الناقل كما لا يخفى، وهذا يعمّ القسمين للنقل كما يظهر بأدنى تأمّل، فتأمّل. منه.

والحاصل: أنّ المجاز ما توقّف الاستعمال فيه على المناسبة من غير واسطة، والمتحقّق في النقل توقّفه معها، فافترق الأمران مع اشتراكهما في الاستعمال في المعنى المناسب للموضوع له.

إن قيل: إنّ كون تلك الألفاظ حقائق عرفيّة، يكفي لإثبات المدّعى، بناءً على أنّها حينئذٍ تكون ألفاظًا منقولة عن معانيها اللغويّة، فهي بالنسبة إلى المعاني المنقولة إليها وإن كانت حقائق عرفيّة، لكنّها بالنسبة إلى المعاني المنقول منها حقائق لغويّة، فثبت المدّعى.

ص: 121

قلنا: القدر اللازم من النقل وجود(1) المعاني المنقول منها، وأمّا الاستعمال فيها فلا؛ والحقيقة اللغويّة إنّما يلزم وجودها إذا ثبت الاستعمال فيها، فاللازم غير كافٍ لإثبات المدّعى، والكافي غير لازم.

وإن كان المراد الثاني(2)، نقول -على فرض تسليمه-: إنّها مجازات.

وقولك: «إنّ المجاز مسبوق بالحقيقة» إلخ(3)، قلنا: ممنوع؛ لأنّ القدر المسلّم اللازم من وجود المجاز مسبوقيّته بالوضع والموضوع له، وأمّا مسبوقيّته بالحقيقة فلا، وإنّما يلزم ذلك إذا استلزم الوضع لمعنى الاستعمال فيه، وهو ممنوع وقد مرّ تحقيقه مشروحًا.

دليلٌ آخر لإثبات الحقيقة اللغويّة

ويمكن أن يستدلّ للإثبات بأنّه لا شبهة في أنّ ههنا ألفاظًا مخصوصة حقائق في معانٍ مخصوصة لتحقّق خواصّها فيها، كالأرض والسماء والنار والماء وغيرها ممّا لا يخفى، فهي إمّا حقائق لغويّة، أو عرفيّة؛ لا سبيل إلى الثاني؛ لأنّه متوقّف على النقل

ص: 122


1- جاء في حاشية الأصل: هذا إنّما يتوجّه إذا كان المدّعى ثبوت الحقيقة اللغويّة في الألفاظ بأسرها؛ وأمّا إذا لم يكن كذلك، بل المراد ثبوتها في الجملة ولو في بعض الألفاظ فلا، بل كاد يقطع بفساده، إذ الحكم بوضع قاطبة الألفاظ في اللغة للمعاني وعدم استعمال شيء منها في الموضوع له ممّا لا يقبله الإنصاف، بل يكذّبه الوجدان كما لا يخفى على أولى التأمّل والعرفان. منه.
2- أي: كان المراد بالاستعمال في تلك المعاني عند أهل اللغة.
3- نهاية الوصول: 1/ 243.

ومشروط به، وهو غير معلوم، فيندفع بأصالة العدم، فتعيّن الأوّل وهو المدّعى.

وبالجملة: إنّ المعاني المستعمل فيها مردّدة بين كونها حقائق لغويّة، أو عرفيّة، وحيث قد انتفى الثاني بالأصل تعيّن الأوّل.

لا يقال: كما يمكن انتفاء احتمال العرفيّة بالأصل ليتعيّن(1) اللغويّة، كذا يمكن عكسه بأن ندفع(2) احتمال اللغويّة بالأصل بأن يقال: إنّ الوضع بإزاء هذا المعنى في اللغة غير معلوم، فالأصل عدمه، فيتعيّن(3) العرفيّة، فإذا تعارضا تساقطا، فلم يثبت المدّعى.

لأنّا نقول: التمسّك بالأصل في دفع العرفيّة أولى؛ لأنّ الحقيقة العرفيّة يستلزم(4) الوضع للمعنى المنقول منه والمنقول إليه والاستعمال في الثاني، فيتوقّف على تعدّد الوضع والاستعمال؛ بخلاف اللغويّة، فإنّها متوقّفة على وضع واحد والاستعمال، فهو أولى.

والحاصل: أنّ ما يلزم على تقدير احتمال العرفيّة يلزم على تقدير اللغويّة مع أمر زائد، وهو تعدّد الوضع، فما يلزم على تقدير اللغويّة لاشتراكهما فيه متيقّن الثبوت، والزائد غير معلوم، فيندفع بالأصل، فيثبت المدّعى.

ص: 123


1- كذا في الأصل، والصواب: لتعيين، كما في «ق».
2- كذا في الأصل، والصواب: بأن يُدفع، كما في «ق».
3- كذا في الأصل، والصواب: فتتعيّن.
4- كذا في الأصل، والصواب: تستلزم.
المبحث الثالث: في واضع الحقيقة اللغويّة
اشارة

وتنقيح البحث في هذا المرام يقتضي التكلّم في مقامات:

المقام الأوّل: في أنّ دلالة الألفاظ وضعيّة
اشارة

الأوّل: في أنّ الافتقار إلى تحقيق المسألة وماضاهاها إنّما هو على المشهور المنصور(1) من كون دلالة الألفاظ وضعيّة؛ وأمّا على القول بأنّها ذاتيّة فلا، كما لا يخفى(2).

توضيح المقام في تصوير المرام يستدعي أن يقال: إنّه لا خفاء في أنّ انتقال الذهن إلى معنى من المعاني دون غيره عند سماع اللفظ إنّما هو بسبب دلالته عليه؛ والدلالة لكونها من الأمور الموجودة(3) لا تتصوّر من غير علّة، ضرورة أنّ وجود الممكن مع انتفاء الموجب ممّا يشهد باستحالته العيان، وضرورته كفّت عن إقامة البرهان.

ص: 124


1- في «ق»: المتصوّر، وفي «ج»: المنضور.
2- جاء في حاشية الأصل: لوضوح أنّه بناءً على القول بالدلالة الذاتيّة للألفاظ ليس هناك واضع حتّى يبحث في تعيينه، إلّا أن يقال: إنّ البحث يجري بناءً على هذا القول أيضًا لا لوضع اللفظ للمعنى، بل لتركيب الألفاظ على الهيئات المعلومة؛ لوضوح أنّ تركيبها على تلك الهيئات ليس واجب الوجود، بل من الأمور الممكنة، فيفتقر إلى مركِّب، وذلك المركِّب إمّا الله سبحانه أو البشر، فتأمّل. منه.
3- جاء في حاشية الأصل هنا بخطّه: الممكنة؛ وعليه علامة: خ ل.

وتلك العلّة إمّا مشتركة بين المعنى المفهوم من اللفظ وغيره، أو مختصّة بالأوّل، والأوّل بيّن الفساد ضروريّ البطلان؛ لاستلزامه تخلّف المعلول عن العلّة والترجيح من غير مرجّح، فتعيّن الثاني.

وذلك الموجِب إمّا ذات اللفظ وطبيعته، بمعنى أنّ ذات اللفظ تناسب المعنى المفهوم منه دون غيره، وتلك المناسبة مستدعية لدلالته عليه وفهمه منه دون غيره، فتكون دلالة الألفاظ ذاتيّة، أي مستندة إلى ذاتها لذاتها، فلا يكون اللفظ في دلالته على المعنى المفهوم منه مفتقرًا إلى أمر مغاير له من الوضع وغيره؛ أو وضعه له، أي دلالته على معنى دون غيره إنّما هو لثبوت الوضع له دون غيره.

والفرق بينهما -مع اشتراكهما في أنّ الدلالة وصف للّفظ- أنّ اتّصاف اللفظ بها لم يكن(1) بتوسّط الوضع على الأوّل وبتوسّطه على الثاني.

في احتجاج القائلين بأنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة

والأوّل محكيّ عن عبّاد بن سليمان(2) وجمع من المعتزلة وأهل التكسير(3)، ومستندهم في ذلك أنّه لو لم يكن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعيّة، لزم الترجيح

ص: 125


1- في «ق»: لم يمكن.
2- هو أبو سهل عبّاد بن سليمان الصيمريّ البصريّ المعتزليّ، المتوفّى حدود سنة 250ق، من أصحاب هشام الغوطيّ، صنّف كتاب «إنكار أن يخلق الناس أفعالهم» و«إثبات الجزء الّذي لا يتجزّأ»، سير أعلام النبلاء:10/ 551.
3- أي أرباب علم التكسير. حكاه عنهم الآمديّ في الإحكام: 1/ 109، والمحقّق النراقيّ في أنيس المجتهدين: 1/ 37، والسيّد المجاهد في مفاتيح الأصول: 2.

من غير مرجّح.

وبعبارة أخرى: أنّه لو لم تكن دلالة الألفاظ طبيعيّة، بل وضعيّة، لزم الترجيح من غير مرجّح، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الشرطيّة فلأنّه حينئذٍ يكون(1) نسبة اللفظ إلى مسمّاه كنسبته إلى غيره، وكذا نسبة المسمّى إليه كنسبته إلى غيره، فتعيّن اللفظ لمسمّاه دون غيره ترجيح مع انتفاء المرجّح، وأمّا بطلان التالي فظاهر(2).

القول المذكور مبنيّ على أمور
اشارة

تحقيق المقام في تصوير الفساد لهذا المقال يستدعي أن يقال: إنّ القول المذكور مبنيّ على أمور:

الأمر الأوّل

الأوّل: ثبوت الطبائع للحروف والألفاظ كسائر الموجودات العينيّة، ضرورة أنّ المناسبة المستندة إلى الطبيعة مع عدم تحقّقها غير معقول، وهو في بادي الأنظار

ص: 126


1- كذا في الأصل، والصواب: تكون.
2- ينظر المحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 181 و183، وتهذيب الوصول: 41، وغاية الوصول:1/205، ونهاية الوصول: 1/ 150- 152، ومفاتيح الأصول: 2، وقوانين الأصول: 1/ 439، وأنيس المجتهدين: 1/ 37، وإشارات الأصول: 1/ 10، وتمهيد القواعد: 81، قاعدة 18، والإحكام، للآمديّ: 1/ 73، وشرح مختصر المنتهى: 2/ 13، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 26.

ممّا لا يعقل له معنى، كما يظهر بأدنى تأمّل.

لكنّه ممّا ادّعي إطباق علماء الأعداد عليه من أنّهم حكموا: كما أنّ للعناصر طبائع مختلفة باختلافها يختلف الآثار المستندة إليها، فإنّ طبيعة النار تقتضي الحرارة واليبوسة، والهواء تقتضي الحرارة والرطوبة، والماء البرودة والرطوبة، والأرض البرودة واليبوسة، كذلك للحروف طبائع مختلفة كطبائع العناصر، وقسّموها على الناريّة والهوائيّة والمائيّة والأرضيّة.

أمّا الناريّة: فحكموا أنّها سبعة حروف، وهي هذه: ا ع ﻫ ط ح ف ش، ويجمعها: أعهطحفش، وطبيعتها الحرارة واليبوسة كالنار.

وأمّا الهوائيّة: فكذلك أيضًا، وهي هذه: ق ي ص غ ظ ك ض، ويجمعها: قيصغظكض، وطبيعتها الحرارة والرطوبة كالهواء.

وأمّا المائيّة: فهي أيضًا سبعة: س ل ز ت ن ود، ويجمعها: سلزتنود، وطبيعتها البرودة والرطوبة كالماء.

وأمّا الأرضيّة: فهي أيضًا كذلك، وهي هذه: ج م ر ب خ ث ذ، ويجمعها: جمربخثذ، وطبيعتها البرودة واليبوسة كالأرض.

وفرّعوا على ذلك باعتبار صورها الإفراديّة وتركيبها على الوجوه المختلفة أسرارًا عجيبة وآثارًا غريبة(1).

ص: 127


1- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 26.
الأمر الثاني

والثاني: ثبوت الطبائع للمسمّيات؛ لوضوح أنّ المناسبة الطبيعيّة بين الشيئين مع عدم ثبوتها لهما غير متصوّرة.

وهذا ممّا لا خفاء فيه فيما إذا كان المسمّى من الجواهر من البسائط والمركّبات، مثل النار والهواء والماء والأرض والحيوانات والنباتات وغيرها، وأمّا الأعراض والمعاني كالأكل والضرب والمشي والبياض والسواد ونحوها، فمحلّ كلام.

إلّا أن يقال: إنّ المراد من الطبيعة بالنسبة إلى هذه الأمور الماهيّة، فتحقّقها حينئذٍ ممّا لا يرتاب أيضًا، لكن يتوجّه حينئذٍ عدم معلوميّة المناسبة بين الطبائع المثبتة للحروف وبين ماهيّات تلك المعاني؛ إذ الحكم بكون طبيعة البياض مثلًا الحرارة واليبوسة، بل الرطوبة، ممّا لا يعقل، مع أنّه قد تحقّق فيه بعض الحروف الناريّة والهوائيّة والأرضيّة، وهكذا في غيره.

الأمر الثالث

والثالث: تحقّق المناسبة بين طبائع الحروف والألفاظ وطبائع المسمّيات بأن يكون بين طبيعة كلّ لفظ وطبيعة مسمّاه مناسبة ذاتيّة، ضرورة أنّ المناسبة الطبيعيّة بين اللفظ والمعنى لا تتحصّل إلّا بذلك.

وهذا على وجه العموم ممّا يقطع بفساده، فإنّ لكلّ أحد أن يجعل أيّ لفظ شاء لأيّ معنى يريد من غير أن يدرك معنى الطبيعة، فضلًا عن ثبوتها للحروف، ولا ارتياب في دلالته عليه مع عدم تعقّل المناسبة الطبيعيّة بينهما.

ص: 128

واحتمال اطّراد المناسبة الطبيعيّة ولو مع عدم تعقّلها ممّا لا يرتضيه(1) الأوهام، فضلًا عن الأفهام، مع أنّ الدلالة لو كانت للمناسبة الطبيعيّة؛ لَما يتعقّل حصولها مع انتفاء تعقّلها كما لا يخفى، فلو كانت الدلالة للمناسبة المذكورة لامتنع تعيين لفظ لمعنى إلّا بعد تعقّل الطبيعة فيهما والعلم بتحقّق المناسبة، وهذا ممّا يشهد على فساده العيان ويحكم ببطلانه الوجدان.

وأيضًا يلزم أن يكون - بناءً عليه - بين طبائع حروف الماء وطبيعة مسمّاه مناسبة ذاتيّة، فيلزم أن يكون(2) طبيعة كلّ من الميم والألف مثلًا مناسبة لطبيعة المسمّى، فعلى هذا ينبغي امتناع وجود الألف في اللفظ الّذي للنار؛ لما عرفت من أنّ طبيعة النار حارّة يابسة، وطبيعة الماء باردة رطبة، وطبيعة الحرف الّذي(3) تناسب أحدهما لا يمكن أن يكون مناسبة للآخر(4)؛ للزوم اجتماع الضدّين في طبيعة ذلك الحرف، مع أنّ الألف مشترك بين اللفظين، وكذا كلّ لفظ لمعنى يلزم امتناع وجود شيء منه في اللفظ الّذي لنقيضه أو لضدّه.

وبالجملة: يلزم أن لا تتحقّق الحروف الّتي جعلوها ناريّة إلّا في المسمّى الّذي يكون مقتضى طبيعته الحرارة واليبوسة، وكذا الهوائيّة والمائيّة والأرضيّة، مع أنّ

ص: 129


1- كذا في الأصل، والصواب: لا ترتضيه.
2- كذا في الأصل، والصواب: أن تكون.
3- كذا في الأصل، والصواب: الّتي.
4- جاء في حاشية الأصل: إذ على تقدير المناسبة له إمّا أن تبقى المناسبة للأوّل على حالها، أو لا، وعلى الأوّل يلزم الاختلاف في مقتضى الطبيعة الواحدة، وعلى الثاني التخلّف؛ وقد قرّر في محلّه أنّ ما بالذات لا يختلف ولا يتخلّف. منه.

فساده غنيّ عن البيان ويكذّبه العيان والوجدان؛ وكفاك في هذا الباب ملاحظة الألفاظ للعناصر الأربعة(1).

وعلى فرض تسليم أن يكون المراد مناسبة طبيعة مجموع اللفظ لطبيعة المسمّى وإن اندفع هذا، لكن يرد الانتقاض بالنسبة إلى اللفظ المشترك بين الشيء ونقيضه أو ضدّه، وسيجيء الكلام فيه.

الأمر الرابع

والرابع: أن تكون استفادة المعاني من الألفاظ وإفادتها إيّاها لمناسبة طبائع الألفاظ طبائع المعاني، لا لتعيينها بإزائها؛ وهذا موقوف على ثبوت الأمور المذكورة، وحيث قد عرفت عدم تماميّة بعض منها، ظهر لك حاله(2).

وعلى فرض الإغماض في البين وتسليم ثبوت الأمور المذكورة، نمنع صحّة الأخيرة، إذ لو كانت استفادة المعاني من الألفاظ ودلالتها عليها لأجل مناسبة طبائعها لطبائع المسمّيات، يلزم امتناع الاستفادة مع عدم الاطّلاع على المناسبة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

ص: 130


1- جاء في حاشية الأصل: إذ طبيعة الماء باردة رطبة مع عدم وجود شيء من الحروف الّتي ذكروا أنّها مائيّة في لفظ «الماء»، وكذا الكلام في الأرض، فإنّه لم يوجد في لفظ «الأرض» من الحروف الأرضيّة إلّا الراء، وفي لفظ «الهواء» لم يوجد من الحروف الّتي حكم بأنّها هوائيّة أصلًا، وكذا في لفظ «النار» إلّا الألف، وكذا الكلام في الأشباه والنظائر كما لا يخفى على المتأمّل. منه.
2- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 26.

أمّا الشرطيّة فظاهرة؛ إذ العلم بالمناسبة -بناءً على هذا التقدير- شرطٌ في حصول الاستفادة، وانتفاء المشروط عند انتفاء الشرط من الأمور الضروريّة.

وأمّا بطلان التالي فغير مفتقر إلى البيان، ضرورة حصول الإفادة والاستفادة من الألفاظ مع عدم تعقّل شيء من طبائع الألفاظ والمسمّيات، فضلًا عن تعقّل المناسبة بينهما كما عرفت، فلو كانت الإفادة لأجل المناسبة، يلزم انسداد باب الاستفادة من طريق الألفاظ؛ لعدم إمكان الاطّلاع على تلك الطبائع والمناسبة بعد تسليم تحقّقها على وجه العموم، ولو فرض ذلك فلا شبهة في أنّه على غاية الندرة بالنسبة إلى قليل من الأشخاص.

إن قيل في منع الملازمة بأنّه يمكن أن يكون شرط الإفادة والاستفادة تحقّق المناسبة في نفس الأمر، لا العلم بها، فعلى هذا لا يلزم المفسدة المذكورة.

قلنا: إنّ الدلالة والإفادة حاصلة بالنسبة إلى المخاطب، فلا معنى لاستنادها إلى المناسبة النفس الأمريّة مع عدم علم المستفيد بها، إذ لا علاقة بين فهمه المعنى من اللفظ والمناسبة في نفس الأمر، فلا وجه للتعليق كما لا يخفى.

إن قلت: يمكن الترديد في الشرطيّة المذكورة بأن يقال: إنّ تعليق الاستفادة على الاطّلاع بالمناسبة إمّا أن يكون بالنسبة إلى كلّ أحد، أو في الجملة، وعلى الأوّل وإن كان بطلان التالي مسلّمًا، لكن يمكن منع الملازمة، وعلى الثاني وإن كانت(1) الملازمة مسلّمة، لكن بطلان التالي ممنوع.

ص: 131


1- في «ق»: كان.

توضيح الأمر في ذلك يستدعي أن يقال: إنّه لا يلزم -بناءً على القول بكون الدلالة للمناسبة- أن يكون بالنسبة إلى كلّ أحد كذلك لإتمام مرامه ولو بالنسبة إلى بعض، لكفاية هذا المقدار في الحذر عن الترجيح من غير مرجّح بأن يقال: إنّه يمكن الاطّلاع على تلك المناسبة المستدعية للدلالة لأرباب الأذهان الثاقبة والأفهام الشامخة، واستفادتهم المعاني من الألفاظ كانت لذلك، وأمّا بالنسبة إلى غيرهم فلا، بل من باب الترديد بالقرائن، كتعليم اللغات بالنسبة إلى الأطفال.

والحكم بعدم إمكان الاطّلاع ولو لبعضٍ غير مسموع، فيمكن أن يكون حصول الاستفادة للبعض للمناسبة وللغير بالتعريف والقرائن بأنّه لمّا استفاد المعنى من اللفظ للمناسبة بيّن للغير بأنّ معنى هذا اللفظ هذا وهكذا، أو بالترديد بالقرائن، فعلى هذا تكون دلالة الألفاظ ذاتيّة مع حصول الإفادة للجميع وعدم توقّفها على اطّلاع الكلّ على المناسبة، فتكون الدلالة للمناسبة من غير واسطة بالنسبة إلى بعض، ومعها بالنسبة إلى آخر، وهذا المقدار كافٍ للحكم بذاتيّة الدلالة للألفاظ كما لا يخفى.

هذا، مع أنّ الأمر بناءً على كون الدلالة وضعيّة أيضًا كذلك، أي الاستفادة للعلم بالوضع إنّما هو بالنسبة إلى بعض وللآخر بالترديد بالقرائن، وكما لا يكون ذلك مضرًّا للحكم بكون دلالة الألفاظ وضعيّة، كذلك بناءً على الدلالة الذاتيّة.

قلنا: لا شبهة في أنّ استفادة المعاني بأسرها بالتأمّل في الألفاظ والاطّلاع على مناسبة طبائعها لطبائع المسمّيات المستدعية للدلالة عليها أمرٌ عظيم وخطبٌ

ص: 132

جسيم وابتداعٌ عجيب واختراعٌ غريب، فاق(1) قاطبة مراتب الفضل والكمال، وعلا عامّة مدارج العلم والإفضال، بحيث لو ادّعى الفائز به النبوّة كاد يصدّق.

فلو فاز بهذه المزيّة الكاملة طائفة من أولى الأبصار؛ لاشتهروا اشتهار الشمس رابعة النهار، وامتازوا عن قاطبة أهل الشرف والكمال، وصنّفوا في(2) ذلك كتبًا متشتّتة، ودوّنوا فيه صحفًا متفرّقة، فتشهر الكتب فوق اشتهار أيّ كتاب كان، وكان مرجعًا للخواصّ والعوامّ؛ وعدمه دليل ظاهر على عدمه، وانتفاؤه أمارة بارزة على خلافه.

ألا يرى أنّ من أنشد أبياتًا عديدة متكاثرة لأثبتها في دفاتر وورقة رغبةً في بقائها في أزمنة متطاولة، مع أنّ الأمر في مثله سهل جدًّا، والثمر في ضبطه نزر قطعًا.

وكذا الحال في كلّ علم من العلوم المعروفة، فقد صنّف أربابها في كلّ منها كتبًا متكثّرة، فكيف بهذا الأمر الخطير والشيء العظيم، فرفضوا تلك القاعدة وهجروا تلك السنيّة فيه، مع أنّ الاهتمام فيه أشدّ والغرابة فيه أتمّ.

لا يقال: نمنع انتفاء ذلك، وكيف وقد تصدّى الأكابر والأماجد للتصنيف في علم اللغة، فقد صنّفوا فيه كتبًا معروفة وصحفًا معهودة؛ لوضوح فساده، إذ لا ريب أنّ تدوين اللغات ليس إلّا ضبط موارد الاستعمالات المعلومة من تصفّح محاورات البلغاء وتتبّع مخاطبات الفصحاء، ولقد طال التشاجر والتخاصم بينهم، وكذّب بعضهم بعضًا، وتمسّك في إثبات مرامه وتغليط صاحبه بما تداوله

ص: 133


1- في «ق»: فان.
2- في «ق»: من.

الفصحاء في محاوراتهم، ولم يتصدَّ أحد منهم بأنّ طبيعة اللفظ هذه، وهي مناسبة لهذا المعنى ومقتضية للدلالة عليه، لا غيره.

وأيضًا لا شبهة في أنّ الألفاظ على الهيئة المخصوصة لم تكن عليها لذاتها، وإلّا لخرجت عن حدّ الممكنات وكانت واجبة الوجود، وفساده ممّا لا يفتقر إلى البيان، بل لا بدّ لها من جاعل ومركّب يجعلها ويركّبها كذلك.

وذلك الجاعل إمّا أن يلاحظ المعاني حين التركيب بأن جعل تلك الألفاظ لها، سواء كانت مناسبة لطبائع الألفاظ، أم لا، وسواء لاحظ المناسبة على الأوّل، أم لا، أو لا يلاحظ المعاني مطلقًا، بل ركّبها على الهيئة المخصوصة وأحال فهم المعاني(1) إلى المناسبة بين طبيعة اللفظ والمعنى، بأنّه لمّا كانت لطبائعها مناسبة مع المعاني، يمكن الانتقال من كلّ منها إلى المعنى المناسب لمن توصّل إلى المناسبة.

وعلى الأوّل: تكون الدلالة وضعيّة، لا ذاتيّة، سواء تحقّقت المناسبة بين الدالّ والمدلول، أم لا، وأمّا على الثاني فظاهر، وأمّا على الأوّل: فلوضوح أنّ الانتقال إلى المدلول إنّما هو لتعيين اللفظ بإزائه وجعله علامة له، وغاية ما هناك تحقّق المناسبة بين اللفظ وما عيّن له، وهو لا يقتضي العلم بها، فضلًا عن كون الإفادة لأجلها.

إن قلت: لمّا كان المفروض تحقّق المناسبة، يمكن لغير العالم بالتعيين الاطّلاع عليها، فتكون الدلالة بالنسبة إليه للمناسبة.

قلنا: مرجع هذا الكلام أنّ دلالة الألفاظ بالنسبة إلى العالمين بالأوضاع

ص: 134


1- في «ق»: المعنى.

وضعيّة، وأمّا بالنسبة إلى غيرهم فيمكن أن تتكون ذاتيّة؛ لإمكان الاطّلاع على المناسبة، وأين هذا من كون الدلالة المتحقّقة في الألفاظ ذاتيّة، لا وضعيّة، وإنكار الوضع بالكلّيّة كما هو المدّعى؟!

وإن عمّم ذلك(1) بالنسبة إلى العالم بالتعيين أيضًا، يدفع بأنّه يلزمه الانتقال إلى ما عيّن له لا محالة؛ لأجل علمه بالتعيين، فلا معنى حينئذٍ للدلالة الذاتيّة، بناءً على إمكان الاطّلاع بالمناسبة؛ لظهور تحقّق الدلالة لأجل العلم بالتعيين، فلا معنى لحصول الإفادة للمناسبة بعد حصولها للتعيين، وإلّا لزم توارد العلّتين على معلول واحد.

وعلى فرض التسليم يكون اللازم حينئذٍ بالنسبة إلى العالم بالتعيين والمناسبة اجتماع الدلالتين، والمدّعى ثبوت الدلالة الذاتيّة بدلًا عن الوضعيّة، فاللازم غير المطلوب، والمطلوب غير لازم.

بقي هنا احتمال آخر، وهو أنّ المركِّب عيّن الألفاظ بإزاء المعاني المناسبة ولم يحصل منه الإعلام بالتعيين، فتكون الدلالة حينئذٍ للمناسبة والاطّلاع عليها، لكنّه مدفوعٌ بما يأتي من استلزامه فوات الحكمة الموجبة لتعيين الألفاظ بإزاء المسمّيات.

هذا كلّه على تقدير أن يكون المركِّب للألفاظ معيِّنًا إيّاها بإزاء معانيها، وأمّا احتمال أن يكون الصادر من المركِّب محض التركيب من غير التفات إلى المعاني، بل أحال ذلك إلى المناسبة، فالضرورة قاضية بفساده؛ لوضوح أنّ المقصود من تركيب

ص: 135


1- جاء في حاشية الأصل: أي: إمكان الاطّلاع على المناسبة. منه.

الألفاظ وإحداثها ذكرها في المحاورات والمخاطبات لتعريف بعضهم بعضًا ما في أنفسهم في أمر معاشهم ومعادهم، وذلك إنّما يتحقّق مع التعيين بإزاء المعاني.

وأمّا احتمال احالة استفادة المعاني إلى المناسبة، ففاسد قطعًا؛ لعدم إمكان الاطّلاع عليها بالنسبة إلى أكثر الناس وصعوبته القريبة من الامتناع بالنسبة إلى جميعهم؛ لوضوح عدم تحصّله إلّا بعد الاطّلاع بطبائع الألفاظ، ثمّ ملاحظة طبائع المعاني حتّى يظهر أيّ واحد منها يكون مناسبًا لطبيعة لفظ مخصوص حتّى استفاده منه، وذلك يستلزم فوات الحكمة الموجبة لتركيب الألفاظ كما لا يخفى على من سلك مسلك السداد.

ثمّ كيف ظهر عليه مناسبة طبيعة بعض الألفاظ للنقيضين أو الضدّين حتّى استفادهما منه دون بعض آخر؟!

إن قلت: إنّ الترديد المذكور غير حاصر؛ لاحتمال أنّ مركِّب الألفاظ ركّبها على الهيئات المعلومة من غير أن يعيّنها للمسمّيات، أو(1) أحال فهمها إلى من اطّلع على المناسبة، بل ركّبها، ثمّ استفاد هو المسمّيات منها بمعونة المناسبة، فتكون إفادة الألفاظ كلّها للمناسبة، ولا يضرّ عدم اطّلاع الأكثر عليها في ذلك.

قلنا: هذا أيضًا ليس بشيء؛ لأنّ المركِّب إمّا الله تعالى، وعدم إمكان إرادة المعنى المذكور بالنسبة إليه ظاهر، وإمّا غيره فكذلك؛ لاستلزامه فوات الحكمة الموجبة لتركيب الألفاظ لما عرفت، فتأمّل.

ص: 136


1- في «ق»: و.

وأيضًا أنّ طبيعة الحروف الّتي جعلوها مائيّة مثلًا مقتضية للرطوبة والبرودة، والمعاني والمسمّيات الّتي تكون(1) كذلك متكثّرةٌ جدًّا مختلفةٌ بحسب اختلاف تحقّق هذا المعنى فيه جزمًا، فكيف يوجب الانتقال من تلك الحروف إلى بعضها دون الآخر مع تحقّق المقتضي بالإضافة إلى الكلّ؟! وكذا الكلام بالنسبة إلى الحروف الناريّة وغيرها.

هذا إن كان مرادهم من طبيعة اللفظ المعنى المتقدّم على ما يظهر من بعضهم كما أومأنا إليه؛ وإن كان المراد غيره ينبغي أن يبيّن حتّى ينظر في صحّته وفساده، مضافًا إلى ما مرّ من قضاء العادة بأنّ الأمر لو كان على ما ذكر لنبّهوا عليه وافتخر من فاز بهذا الاختراع الغريب والابتداع العجيب به، وعدمه دليل على العدم.

وبالجملة: لا ينبغي التأمّل في فساد الاحتمال المذكور أيضًا، فبما قرّرناه إلى هنا انهدم بنيان القول المذكور.

في الجواب عن احتجاج القائلين بأنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة

بقي الكلام فيما استندوا إليه من الاستدلال المتقدّم، ويمكن الجواب عنه بالمعارضة والمناقضة.

الجواب عنه بالمعارضة
اشارة

أمّا الأوّل فمن وجوه:

ص: 137


1- في «ق»: يكون.
الوجه الأوّل

منها: ما تقدّم من أنّ دلالة الألفاظ لو كانت للمناسبة الذاتيّة، لزم انتفاؤها عند انتفاء العلم بتلك المناسبة، وقد مرّ الكلام فيه مشروحًا في الشرطيّة وبطلان التالي، فلا وجه للإعادة.

الوجه الثاني

ومنها: أنّه لو كانت دلالة الألفاظ للمناسبة بينها وبين المسمّيات، لزم أن لا تختلف الأمم في الجهل والعلم باللغات، وبطلان التالي في الظهور كالنور في ظلم الديجور؛ أمّا الشرطيّة، فلأنّ علّة الدلالة - وهي المناسبة الذاتيّة - متحقّقة في الجميع بالنسبة إلى الجميع، فلا معنى لاختصاص الاستفادة في جملة من الألفاظ بالنسبة إلى بعض الفرق، وفي جملة أخرى منها بالنسبة إلى فرقة أخرى(1).

واحتمال إمكان العلم بالمناسبة في جملة من الألفاظ لطائفة من الفرق وامتناعه في جملة أخرى وبالنسبة إلى الطائفة الأخرى بعكس ذلك ممّا لا يكاد يرضى العاقل التفوّه بذلك، فضلًا عن جعله(2) من مباني المذهب، كما لا يخفى على من لم تنفتح عليه أبواب التعسّف.

فاستفادة الجسم السيّال المعلوم من لفظ: «الماء» في لغة العرب، دون لفظ:

ص: 138


1- ينظر نهاية الوصول: 1/ 151، والمحصول، للرازيّ: 1/ 183، ومختصر المعاني: 217، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 25.
2- في «ق»: جملة.

«آب» و«سو»، ومن لفظ: «آب» في لغة الفرس، دون اللفظين الآخرين، ومن لفظ: «سو» في لغة الترك دون الأوّلين، مع دلالة الألفاظ الثلاثة على ذلك الجسم بالمناسبة، ممّا لا وجه له.

إلّا أن يقال: إنّ أوّل من تكلّم بلغة العرب لاحظ لفظ «الماء»، فاطّلع على المناسبة، فاستفاده منه واكتفى به، وكذا بالنسبة إلى أوّل من تكلّم بلغة الفرس والترك، لكنّه احتمال نادر، ومع ذلك كيف اطّلع المتكلّم بكلّ لغة على مناسبة الألفاظ المختلفة في تلك اللغة لمعنى واحد ولم يطّلع عليها في اللغات المتعدّدة مع تحقّق الموجب في الجميع وهو المناسبة؟! بخلاف ما إذا كانت الدلالة وضعيّة، فإنّ اختلاف الأمم في العلم والجهل باللغات حينئذٍ لاختصاص العلم بوضع نوع من الألفاظ لطائفة دون نوع آخر، وبالعكس بالنسبة إلى الطائفة الأخرى؛ ولا يتمشّى مثل ذلك في المناسبة كما تقدّم.

ويتفرّع على ذلك عدم اختلاف أصل اللغات في الأعصار والأمصار، بناءً على أنّ(1) حصول الاستفادة من جملة من الألفاظ للمناسبة يستلزم تحصّلها في جميع الألفاظ لما تقدّم، فنسبة طائفة من الألفاظ إلى فرقة ليس بأولى من العكس؛ لأنّ نسبة جميع الألفاظ من حيث الإفادة إلى الجميع واحدة، فنسبة جمّة منها إلى طائفة دون أخرى تخصيص من غير مخصّص.

ص: 139


1- «أنّ» لم ترد في «ق».
الوجه الثالث

ومنها: ما ذكره جمع منهم من أنّ دلالة الألفاظ لو كانت ذاتيّة، لزم أن يفهم كلّ أحد معنى كلّ لفظ، وبطلان التالي غير مفتقر إلى البيان.

أمّا الشرطيّة فلأنّ الألفاظ حينئذٍ بذواتها أدلّة على معانيها، واستحالة انفكاك الدليل عن المدلول بيّنة؛ لأنّه الّذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر(1).

وفيه نظر، يظهر ممّا أسلفناه من أنّ مرادهم من الدلالة الذاتيّة الدلالة للمناسبة الطبيعيّة، وقد علمت ممّا بيّناه أنّه ليس المراد أنّ مقتضى الدلالة المناسبة النفس الأمريّة، بل العلم بها؛ فعلى هذا نقول: إنّ عدم فهم كلّ أحد معنى كلّ لفظ إنّما هو لانتفاء شرطه الّذي هو العلم بالمناسبة.

لا يقال: إنّ الدلالة حينئذٍ غير مستندة إلى ذات اللفظ، فكيف تكون ذاتيّة؟!

لأنّا نقول: ليس المراد أنّ ذات اللفظ من حيث هو دالّ على المعنى، كدلالته على وجود اللافظ، بل المراد أنّه يدلّ على المعنى لتحقّق المناسبة بينهما، وهذا كما يقال: دلالة الألفاظ وضعيّة مع أنّ الوضع من حيث هو لم يكن مقتضيًا للدلالة، بل العلم به.

وبالجملة: إنّ المراد من الدلالة الذاتيّة في مقابلة الوضعيّة، فلا ينافيها كونها لأجل المناسبة، وهو ظاهر سيّما بعد الاطّلاع على ما أسلفناه في تضعيف هذا القول.

ص: 140


1- ينظر مفاتيح الأصول: 1، وأنيس المجتهدين: 1/ 37، ومختصر المعاني: 217، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 25.
الوجه الرابع

ومنها: أنّ دلالتها لو كانت للمناسبة، لزم استفادة المعاني المنقول منها في الألفاظ المنقولة بعد تحقّق النقل واستفادة المعاني المنقول إليها منها قبل النقل، أو امتناع استفادتها منها بعده(1).

والتالي باطل كما لا يخفى؛ أمّا الشرطيّة فظاهرة، أمّا بالنسبة إلى المعاني المنقول منها فلثبوت استفادتها منها قبل النقل، وهي على القول المذكور مستلزمة للمناسبة الذاتيّة، ومعلوم أنّ ما بالذات لا يزول بالغير، فيلزم ثبوتها بعده أيضًا لثبوت المقتضي، بل يلزم حينئذٍ امتناع النقل، أي هجر المعنى الأوّل، لما مرّ من أنّ ما بالذات لا يزول بالغير.

وأمّا بالنسبة إلى المعاني المنقول إليها؛ فلأنّ المناسبة المقتضية للدلالة إمّا أن تكون(2) متحقّقة بينها وبين الألفاظ المنقولة، فيلزم الاستفادة قبل النقل أيضًا، وإلّا فلا ولو بعد النقل.

واحتمال الاطّلاع على المناسبة حينئذٍ وإن اندفع معه الأخير، لكن يبقى الكلام في الأوّل مع أنّه يكون مدار الاستفادة حينئذٍ الاطّلاع على المناسبة، لا النقل، والحال أنّ الأمر متعاكس، فتأمّل.

بخلاف ما إذا كانت الدلالة وضعيّة، فإنّها حينئذٍ لمّا كانت بالغير -أي تعيين

ص: 141


1- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 25.
2- في «ق»: أن يكون.

الواضع- يمكن زوالها بالغير بأن يزول أثر الوضع السابق بالهجر.

ويمكن الجواب عنه بأن يقال: إن كان المراد من قولكم: «لو كانت دلالة الألفاظ ذاتيّة، لزم استفادة المعاني المنقول منها» اللزوم بالإضافة إلى من استفاد المعنى للمناسبة، فالملازمة مسلّمة، لكن بطلان التالي ممنوع، بل المسلّم انتفاء استفادتها بالإضافة إلى عامّة الناس، لا مطلقًا؛ وإن كان المراد اللزوم مطلقًا، فبطلان التالي وإن كان مسلّمًا، لكنّ الشرطيّة ممنوعة، ويظهر الوجه ممّا ذكرنا.

وإن شئت التوضيح فاعلم: أنّه يمكن أن يكون استفادة المعنى أوّلًا للمناسبة، ثمّ بيّنه المستفيد للغير من غير أن يبيّن المناسبة، ثمّ استعمل في غير ذلك المعنى مجازًا، ثمّ اشتهر فيه عندهم بحيث هجر المعنى الأوّل، فاستفيد المعنى الثاني عندهم من غير قرينة، فالهجر إنّما هو(1) بالنسبة إلى هؤلاء، لا بالإضافة إلى من استفاد المعنى لأجل المناسبة.

لكن يتوجّه حينئذٍ: تحقّق الدلالة بالنسبة إلى المعنى المنقول إليه ولم تكن(2) ذاتيّة، فلا يصحّ الحكم مطلقًا أنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة، فتأمّل(3).

ص: 142


1- في «ق»: هي.
2- في «ق»: ولم يكن.
3- جاء في حاشية الأصل: وجهه: أنّ كلماتهم وإن كانت مطلقة، لكن يظهر من دليلهم أنّ مرادهم غير شامل لما نحن فيه؛ لعدم لزوم الترجيح من غير مرجّح فيه، إذ المفروض أنّ المعنى الأوّل قد استفيد من اللفظ للمناسبة، ثمّ استعمل في مناسبه مجازًا، فاشتهر فيه، فاستعماله فيه دون غيره لتحقّق المناسبة فيه دون غيره، فلا يلزم المحذور، لكن يلزمهم القول بانحصار طريق النقل في التخصّص، فلا يتحقّق بالتخصيص، كما يظهر وجهه للمتأمّل، ولهم أن يلتزموا ذلك، والتقسيم إلى القسمين إنّما هو بناءً على القول بالوضع. منه.
الوجه الخامس

ومنها: أنّها لو كانت ذاتيّة لامتنع(1) انفكاكها بالقرينة؛ لما تقدّم من أنّ ما بالذات لا يزول بالغير، والتالي باطل؛ لانتفاء الدلالة على المعاني الحقيقيّة عند الاقتران بالقرائن المجازيّة وعلى بعض المعاني للمشترك(2) عند الاقتران بالقرينة المعيّنة(3).

ويمكن الجواب عنه أمّا بالنسبة إلى الألفاظ المجازيّة؛ فلأنّا لا نسلّم انتفاء دلالتها على المعاني الحقيقيّة؛ وكيف مع أنّه شاع وذاع حتّى خرق الأسماع أنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم، وتلقّاه المحقّقون بالقبول(4)، ولذا حكموا بأبلغيّة المجاز من الحقيقة؛ لأنّه بمنزلة دعوى الشيء ببيّنة، فإنّ قولك: «رعينا الغيث»(5) المراد منه لازمه، يكون ذكر الملزوم فيه دليلًا على وجود لازمه؛ لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم، وإلّا لم يكن الملزوم ملزومًا، ولا اللازم لازمًا، بخلاف قولك: «رعينا النبت»(6)، فإنّه دعوى الشيء لا عن بيّنة.

ص: 143


1- في «ق»: لا امتنع.
2- في «ق»: المشتركة.
3- ينظر مفاتيح الأصول: 1، وإشارات الأصول: 1/ 10، ومختصر المعاني: 217، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 25.
4- ينظر قوانين الأصول: 1/ 77، والإيضاح، للخطيب القزوينيّ: 330.
5- جاء في حاشية «ق»: يعنى چرانيدم باران را، وعليه علامة: م.
6- جاء في حاشية «ق»: يعنى گياه، وعليه علامة: م.

ومن المعلوم أنّ الانتقال من الملزوم إلى اللازم إنّما يكون مع فهم الملزوم، وهو إنّما يحصل مع دلالة اللفظ عليه، فلو لم تكن المجازات دالّة على المعاني الحقيقيّة؛ لما كان لهذا المقال وجه كما لا يخفى، فتأمّل.

والقرينة الصارفة المعتبرة في المجازات ليس معناها أنّها صارفة عن دلالتها على معانيها الحقيقيّة، بل المراد أنّها صارفة عن كونها مرادة.

نعم، يتوجّه ذلك فيما إذا كان انتفاء الإرادة مستلزمًا لانتفاء الدلالة، أو تحقّق الدلالة مستلزمًا لتحقّق الإرادة، لكنّه ليس على شيء منهما دليل، ولا على واحد منهما سبيل، كما مرّ تحقيقه بما لا يكون عليه مزيد، مع أنّه لو سلّم ذلك يمكن إبطال مذهب الخصم بوجه أظهر بأن يقال: إنّ القول بذاتيّة الدلالة مع اعتبار الإرادة في الدلالة، قول بذاتيّة الإرادة للألفاظ، وذلك ممّا لا يكاد يتفوّه به مَن له حظّ من الشعور، فضلًا عن اندراجه من جملة الفضول.

وبالجملة: إنّ المجازات بأسرها دالّة على المعاني المجازيّة المقصودة بواسطة دلالتها على المعاني الحقيقيّة الغير المرادة، فلا يصحّ الحكم بانفكاك الدلالة على المعاني الحقيقيّة عن الألفاظ المجازيّة.

وأمّا عن الألفاظ المشتركة؛ فلأنّ القرينة المعيّنة لبعض المعاني فيها لا تسلب دلالتها على المعاني الأُخر؛ لما تقدّم مشروحًا أنّ دلالتها على جميع المعاني ثابتة، وإنّما تكون القرينة فيها معيّنة للمراد.

نعم، إنّما يتوجّه ذلك بناءً على ما تقدّم، وقد عرفت الحال فيه، ولو سلّم ذلك يمكن منه الاستدلال على بطلان مذهب الخصم من وجه آخر أيضًا بأن يقال: إنّ

ص: 144

دلالة الألفاظ لو كانت ذاتيّة، لما انفكّت عنها؛ والتالي باطل؛ لأنّ الألفاظ المشتركة عند تجرّدها عن القرينة فاقدة للدلالة، لكنّك قد عرفت الحال فيه، فالمعارضة على الوجه المذكور غير صحيحة.

نعم، لو استند بطلان التالي إلى عكس ما ذكر، لكان سالمًا عن المنع المذكور بأن يقال: إنّ الدلالة لو كانت ذاتيّة؛ لامتنع انفكاكها عن اللفظ، والتالي باطل؛ لانتفاء دلالة الألفاظ على المعاني المجازيّة عند انتفاء القرينة؛ وذلك ممّا لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه.

أمّا الشرطيّة فلأنّ المناسبة الذاتيّة إمّا متحقّقة بين الألفاظ والمعاني المجازيّة، فيلزمه امتناع الانفكاك؛ لما تقدّم من أنّ ما بالذات لا يزول بالغير، وإلّا لما تحقّقت الدلالة بالنسبة إليها، إذ المفروض أنّ دلالتها طبيعيّة.

وبالجملة: محصّل الكلام أنّ الدلالة على المعاني المجازيّة قسم من الدلالة، وكلّ دلالة ذاتيّة، فهذه ذاتيّة؛ أمّا الصغرى فظاهرة، وأمّا الكبرى فلأنّ القائلين بالذاتيّة لم يفصّلوا بين الدلالات، بل أطلقوا القول فيها، فحينئذٍ نقول: إنّ هذا القول فاسد؛ لما عرفت من التخلّف، مع أنّ ما بالذات لا يتخلّف.

وغاية ما يمكن للخصم إمّا منع الصغرى بأن يمنع الدلالة على المعاني المجازيّة ولو عند الاقتران بالقرينة، بناءً على أنّ الدلالة كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، وهو غير متحقّق في المقام.

أو منع ما ذكر في بطلان التالي بأن يدّعى ثبوت الدلالة على المعاني المجازيّة ولو عند انتفاء القرينة، بناءً على ما تقدّم من أنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى

ص: 145

اللازم، والدالّ على الملزوم دالّ على اللازم.

أو دعوى أنّ الدالّ على المعاني المجازيّة اللفظ مع القرينة، فعند انتفائها لم يوجد الدالّ حتّى يتحقّق الانفكاك، ومعها الدلالة ثابتة، فلا انفكاك.

لكنّ الاحتمالات المذكورة بأسرها باطلة، يظهر الوجه في بعضها ممّا أسلفناه وفي بعض آخر ممّا سيجيء في محلّ لائق باستمداد الخالق الموفّق.

نعم، هنا احتمال آخر، وهو منع كلّيّة الكبرى بأن يقال: يمكن أن يكون مرادهم أنّ دلالة الألفاظ على مسمّياتها طبيعيّة لا مطلقًا، فتقسيم الألفاظ على الحقيقة والمجاز على هذا القول مبنيٌّ على إفادتها المعاني بالذات وبالغير، فعلى الأوّل حقيقة، وعلى الثاني مجاز.

لكن يتوجّه عليه أيضًا: أنّ دلالة الألفاظ على المعاني إمّا ذاتيّة، أو وضعيّة، والدلالة على المعاني المجازيّة غير مندرجة تحت شيء منهما(1)، أمّا الأوّل فلما ذكر، وأمّا الثاني فلأنّ المفروض انتفاء الوضع.

وأيضًا أنّ الدلالة على غير المسمّى إنّما هي لمناسبته مع المسمّى، وإلّا لما [كان] وجه لدلالته عليه دون غيره، والمفروض تحقّق المناسبة الذاتيّة بين اللفظ ومسمّاه، فيلزمه تحقّق المناسبة بين اللفظ وذلك الغير أيضًا؛ لكونه مناسبًا للمسمّى، والمناسب للمناسب مناسب، فبناءً على هذا القول يلزم تحقّق المناسبة بين اللفظ والمعنى المجازيّ أيضًا، فتلزم الدلالة الذاتيّة بالنسبة إليه أيضًا لتحقّق الموجب،

ص: 146


1- في «ق»: منها.

ومن المعلوم أنّها غير ثابتة عند انتفاء القرينة، فيلزم التخلّف وتتمّ المعارضة.

إلّا أن يجاب، أمّا عن الأوّل: فبمنع(1) الانحصار بأن يقال: إنّها عقليّة، بناءً على ما تقدّم من أنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم، والعقل قاضٍ بأنّ الدالّ على الملزوم دالّ على اللازم.

وفيه تأمّل يحتاج إلى مزيد تحقيق، وسنتعرّض إليه في محلّ أليق إن شاء الله تعالى.

وأمّا عن الثاني: فلأنّ المناسب للمناسب للشيء إنّما يكون مناسبًا له إذا كان ما به التناسب في الجميع واحدًا، أو يكون المناسبة في الجميع من جميع الوجوه؛ وأمّا إذا كان شيء مناسبًا لآخر من وجه ويكون الآخر مناسبًا لثالث من وجه آخر، فلا كما لا يخفى، وسنوضحه لك عن قريب، فعلى هذا يمكن أن يكون ما نحن فيه من هذا القبيل، فلا يتمّ الإيراد.

وفيه أيضًا تأمّل سيظهر لك وجههُ بَعْيد هذا، فتأمّل.

الوجه السادس

ومنها: أنّها لو كانت ذاتيّة لامتنع اشتراك لفظ بين الشيء ونقيضه، أو ضدّه، والتالي باطل؛ لأنّ «القرء» مشتركٌ بين الحيض والطهر، وهما نقيضان(2)،

ص: 147


1- في «ق»: فيمنع.
2- جاء في حاشية الأصل: والحكم بالتناقض بين الحيض والطهر إمّا باعتبار ثبوتهما وسلبهما عن المحلّ القابل لهما حتّى يرجع إلى القضيّة؛ لئلّا يرد أنّ التناقض ليس بين التصوّرات، أو باعتبار أنّ المراد بالتناقض مطلق التقابل بين الشيء الوجوديّ والعدميّ المتناول للعدم والملكة أيضًا، سواء كانا قضيّتين، أم لا. منه.

و«الجون» مشتركٌ بين الأسود والأبيض، وهما ضدّان، أمّا الملازمة فلاستحالة مناسبة شيء واحد بالذات للشيء ونقيضه، أو ضدّه(1).

ويتوجّه عليه: أنّ المستحيل كون المناسب للشيء من جميع الجهات مناسبًا لنقيضه، أو كون المناسب له من جهة مناسبًا لنقيضه أو ضدّه من تلك الجهة، ضرورة أنّ ما به التوافق بين الشيئين لا يمكن أن يكون ما به التوافق بين أحدهما ونقيضه أو ضدّه، وإلّا لم يكن النقيض نقيضًا.

وأمّا كون المناسب للشيء بالذات من جهة مناسبًا لنقيضه أو ضدّه من جهة أخرى كذلك فلا، وكيف؟! مع أنّ الأرض تناسب الماء في البرودة بالذات، مع أنّها تناسب النار كذلك في اليبوسة، وأنّ الهواء مناسب للماء في الرطوبة بالذات مع أنّه مناسب للنار في الحرارة كذلك، والتنافي بين الماء والنار ممّا لا يخفى، فعلى هذا يمكن أن يكون بين اللفظ وبعض المعاني مناسبة ذاتيّة من جهة، ومع ذلك يكون بينه وبين نقيض ذلك المعنى مناسبة ذاتيّة من جهة أخرى تقتضي تلك المناسبة دلالته على كلّ منهما.

ولقائل أن يقول: إنّ المناسبةَ المقتضية للدلالة المناسبةُ من جميع الوجوه، ولذا لا

ص: 148


1- ينظر زبدة الأصول: 61، ومفاتيح الأصول: 1، وأنيس المجتهدين: 1/ 37، وقوانين الأصول: 1/ 440، وإشارات الأصول: 1/ 9- 10، وشرح مختصر المنتهى: 2/ 13، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 25.

يستفاد الماء والنار من الأرض والهواء مع تحقّق المناسبة بين الأوّلين وكلّ من الأخيرين من وجه كما عرفت، فاللفظ المناسب لمعنى بالمناسبة المقتضية للدلالة لا يمكن أن يناسب نقيضه بالمناسبة المذكورة، فتتمّ المعارضة.

لا يقال: إنّ النقض بالأرض والماء والنار مثلًا إنّما يتوجّه إذا كان لفظ «الأرض» مناسبًا لهما، وليس الأمر كذلك، بل الطبيعة الأرضيّة كما لا يخفى، وليس الكلام في ذلك.

لأنّا نقول: أمّا أوّلًا: فلأنّ المناسبة على الوجه المذكور لو كان موجبًا للانتقال، ينبغي أن يكون كذلك أينما تحقّقت، ودعوى التخصيص في أمثال المقام غير مسموعة كما لا يخفى.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ الطبيعة الأرضيّة مدلولة للفظ «الأرض»، فبناءً على القول بكون الدلالة للمناسبة الطبيعيّة لا بدّ أن يكون بينهما مناسبة ذاتيّة، فمناسبة الطبيعة الأرضيّة لأيّ شيء كان يوجب مناسبة لفظ «الأرض» له، فكان اللازم استفادة الماء والنار منه، مع أنّ الأمر ليس كذلك، فيعلم منه أنّ المناسبةَ المقتضية للدلالة المناسبةُ من جميع الوجوه، لا في الجملة.

واعلم: أنّ بعض المحقّقين(1) لمّا زعم عدم صحّة ما تقدّم في بيان الملازمة لعدم استحالة مناسبة شيء واحد للمتنافيين، تصدّى لبيانها بنحو آخر محصّله: أنّه بناءً على القول بالدلالة الذاتيّة يستلزم المشترك بين المتنافيين أن يكون المفهوم من

ص: 149


1- هو التفتازاني في مطوّله: 352.

قولنا: «هو ناهل» المشترك بين العطشان والريان، أو: «جون»(1)، اتّصافَه بالمتنافيين؛ لأنّ لفظة «ناهل» مثلًا لمّا دلّت بالدلالة الذاتيّة عليهما؛ لَمَا أمكن انفكاكهما عنه، فيلزم من حمله على شيء اتّصافه بهما، وهو فاسد.

وفيه ما لا يخفى؛ لأنّ المراد إمّا دلالته على المتنافيين وفهمهما منه، فهو مسلّم ولا فساد فيه أصلًا، مع أنّه لا اختصاص له بما إذا كانت الدلالة ذاتيّة؛ لثبوته فيما إذا كانت وضعيّة؛ لما سلف من أنّ دلالة المشترك على جميع معانيه ثابتة، أو إرادتهما منه واتّصاف ذلك الشيء به في الواقع، فهو ممنوع؛ إذ اللازم على تقدير ذاتيّة الدلالة امتناع انفكاكها، وأمّا الإرادة فلا، كما عرفت مرارًا، فاللازم الدلالة على المتنافيين، وهي ممّا لا ينكر، والمنكر إرادتهما، وهي غير لازمة، فالحقّ في بيان الملازمة ما اشتغل عنه، لا ما اشتغل به.

الوجه السابع

ومنها: أنّها لو كانت ذاتيّة، لا(2) كما اجتهد عند الجهل بالمسمّى العلم(3) بالمناسبة، والشرطيّة بيّنة، وبطلان التالي ممّا يقطع به؛ لِمَا علم من أنّ(4) سيرة العلماء

ص: 150


1- الجَوْن، بالفتح فالسكون، يطلق بالاشتراك على الأبيض والأسود، وهو من الأضداد، وقال بعض الفقهاء: ويطلق أيضًا على الضوء والظلمة بطريق الاستعارة، ينظر المصباح المنير: 1/ 115، ومجمع البحرين: 6/230.
2- كذا في الأصل، والصواب: لَمَا.
3- كذا في الأصل، والصواب: للعلم.
4- في «ق»: أنّ من.

في الأعصار والأمصار على خلافه، واجتهاد تحصيل العلم بالوضع والتعيين، وهو ممّا يشهد به العيان وقضى بصحّته الوجدان.

الوجه الثامن

ومنها: أنّها لو كانت للمناسبة الذاتيّة؛ لما كانت اللغات توقيفيّة، واللازم باطل؛ لاتّفاق العلماء خلفًا عن سلف وحديثًا بعد قديم على توقيفيّتها، أمّا الشرطيّة فظاهرة ممّا سلف آنفًا.

وبالجملة: إنّ بطلان القول المذكور من الأمور الضروريّة الّتي لا يعتريه شكّ وريبة، وإنّما أطنبنا الكلام في ذلك لما اشتمل ما ذكرنا في بطلانه على فوائد عظيمة يفتقر إليها في مواضع عديدة، وينتفع بها في مطالب جليلة، ويعتنى بها في مسالك كثيرة.

الجواب عن احتجاج القائلين بأنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة بالمناقضة

وأمّا المناقضة، فهي أنّا نمنع الملازمة المذكورة بأن لا تكون دلالة الألفاظ للمناسبة، ولا يلزم من تعيين بعض الألفاظ لبعض المعاني ترجيح من غير مرجّح؛ لما ذكر في المشهور من جواز كون المرجّح إرادة الواضع المختار مطلقًا ولو كان الوضع مستندًا إلى الله تعالى، أو سبق خطور ذلك اللفظ عند تعقّل المعنى فيما إذا كان الوضع من غير الله سبحانه(1).

ص: 151


1- ينظر نهاية الوصول: 1/ 152، وزبدة الأصول: 61، وقوانين الأصول: 1/ 439، وإشارات الأصول:1/10، وأنيس المجتهدين: 1/ 37، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 25.

فبناء هذا الكلام على تسليم تساوي نسبة اللفظ إلى المسمّى وغيره وتساوي نسبة المسمّى إلى ذلك اللفظ وغيره، لكن مع ذلك لا يلزم الترجيح من غير مرجّح؛ لأنّ الإرادة أو سبق الخطور مرجّح.

الإرادة غير صالحة للترجيح

وفيه ما لا يخفى، أمّا بالنسبة إلى الإرادة فلأنّها لو كانت ممّا ينتفى(1) به الترجيح من غير مرجّح؛ لَما يتصوّر ترجيح من غير مرجّح أصلًا، ضرورة أنّ ترجيح الشيء لا يتصوّر من غير إرادة، وكيف مع أنّ الإرادة من غير مرجّح لها نفس الترجيح من غير مرجّح، فكيف يجعل دافعًا له؟!

فنقول: إنّ المفروض فيما نحن فيه تساوي نسبة الألفاظ إلى المسمّيات، فإرادة وضع بعضها دون الآخر(2) ترجيح من غير مرجّح، فما يكون نفس الترجيح من غير مرجّح لا يكون دافعًا إيّاه.

وأصل هذا الكلام من جعل الإرادة مرجّحة إنّما هو للأشاعرة المجوّزين للترجيح من غير مرجّح، وإنّما تمسّكوا بها في دفع التخصّص بلا مخصّص ومنع الترجّح بلا مرجّح، لا لمنع الترجيح من غير مرجّح، لتجويزهم إيّاه، وإنّما وقع التمسّك به في أمثال المقام ممّن لا يوافقهم في ذلك الأصل من غير

ص: 152


1- في «ق»: ينبغي.
2- في «ق»: الأخرى.

ملاحظة الأحوال.

نعم، إنّ الإرادة صالحة للترجيح في حقّه سبحانه؛ لرجوعها بالنسبة إليه تعالى إلى العلم بالأصلح، إلّا أنّ الأصلحيّة الّتي هي مناط تعلّق الإرادة إنّما تكون مع الاختلاف، وأمّا مع التساوي كما هو المفروض فيما نحن فيه، فلا.

الخطور أيضًا غير صالح للترجيح

وأمّا بالنسبة إلى الخطور؛ فلأنّه قد يتّفق عند تعقّل معنى خطور ألفاظ كثيرة ولا يعيّن(1) منها إلّا واحدًا، ولا يكون ذلك إلّا لمرجّح يرجّحه على غيره؛ لئلّا يلزم الترجيح من غير مرجّح، مع أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كان تركيب الألفاظ على الهيئات الخاصّة من غير الواضع، أو قبل الوضع، وهو غير معلوم، بل محلّ كلام، لا سيّما الأوّل.

جواب آخر

ويمكن الجواب بأن يردّد في الشرطيّة بأن يقال: إنّ المراد من قولهم: «إنّه لو لم يكن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعيّة، لزم الترجيح من غير مرجّح» إمّا مطلق المناسبة، أو المناسبة المقتضية للدلالة؛ وعلى الأوّل وإن كانت الملازمة مسلّمة وكذا بطلان التالي، لكن لا يلزم منه المطلوب؛ لجواز أن يكون بينهما مناسبة ذاتيّة غير مقتضية للدلالة تكون مرجّحة لوضع البعض، فلا يلزم الترجيح من غير مرجّح، مع كون الدلالات وضعيّة.

ص: 153


1- في «ق»: لا يعيّن.

ويمنع الملازمة على التقدير الثاني؛ لوضوح أنّ نفي الأخصّ غير مستلزم لنفي الأعمّ، فيكفي في دفع المحذور تحقّق المناسبة في الجملة وإن لم تكن(1) كافية للدلالة، فتأمّل.

على أنّه يمكن منع الملازمة على التقدير الأوّل أيضًا؛ لجواز أن لا يكون بين اللفظ والمعنى مناسبة ذاتيّة أصلًا، ومع ذلك لا يلزم الترجيح من غير مرجّح؛ لاحتمال أن يكون المرجّح أمرًا آخر، كالمناسبة الحاصلة باعتبار صفات الحروف وهيئاتها الحسّيّة على ما ذكره أئمّة الاشتقاق والتصريف من أنّ للحروف خواصّ بها تختلف(2)، كالجهر والهمس والشدّة والرخاوة والتوسّط بينهما، وغير ذلك من الاستعلاء والانخفاض والانطباق والانفتاح والقلقلة(3)، وغيرها من الأوصاف المذكورة للحروف في مظانّها(4).

ص: 154


1- في «ق»: لم يكن.
2- في «ق»: يختلف.
3- القلقلة بسكون اللام مصدر قلقل: إنهاء النطق بالحرف الساكن بحركة خفيفة، وحروف القلقلة هي: قطب جد. قال سيبويه: واعلم أنّ من الحروف حروفًا مشربة ضغطت من مواضعها، فإذا وقفت خرج معها من الفم صويت ونبا اللسان عن موضعه، وهي حروف القلقلة، إلى أن قال: والدليل على ذلك أنّك تقول الحذق فلا تستطيع أن تقف إلّا مع الصويت لشدّة ضغط الحرف وبعض العرب أشدّ صوتًا كأنّهم الّذين يرومون الحركة (الكتاب: 4/ 174).
4- ينظر الإيضاح، للخطيب القزوينيّ: 274، ومختصر المعاني: 217، والمطوّل: 352، وقوانين الأصول:1/440، وإشارات الأصول: 1/ 10، والبحر المحيط: 1/ 414.

فيمكن أن يكون المرجّح تحقّق المناسبة على هذا الوجه بأن راعى الواضع في وضع الألفاظ بإزاء المسمّيات المناسبة الحاصلة بينها وبين الألفاظ باعتبار صفات حروفها الّتي ركّبت منها، كالفصم بالفاء الّذي هو حرف رخو، لكسر الشيء من غير أن يبين؛ والقصم بالقاف الّذي هو شديد، لكسر الشيء حتّى يبين.

أو باعتبار هيئاتها الحاصلة من تركيب الحروف، كالفَعَلان والفَعَلى بالتحريك، كالنَزَوان والحَيَدى(1)، لما في مسمّاهما من الحركة، وكذا باب «فَعُلَ» بضمّ العين

-مثل شَرُفَ وكَرُمَ- للأفعال الطبيعيّة اللازمة؛ لأنّ الضمّ يفتقر في حصوله إلى انضمام الشفتين والتزامهما، فيناسب أن يكون مدلوله مضمومًا مع الشخص، أي لازمًا له، وهكذا(2).

الإشكال في الوجهين المذكورين لإثبات الترجيح

وفي كلا الوجهين(3) المذكورين لإثبات الترجيح نظر.

أمّا في الأوّل فمن وجوه يظهر أكثرها ممّا سلف؛ لأنّ ذلك متوقّف على تحقّق الطبائع للألفاظ والمسمّيات والمناسبة بينهما، وقد عرفت الحال لا سيّما في الثالث، واستلزام ذلك مناسبة شيء واحد للنقيضين أو الضدّين.

ص: 155


1- جاء في حاشية الأصل: وأمّا النَزَوان فلأنّه ضراب الفحل، وأمّا الحَيَدى فلأنّه الحمار الّذي يحيد، أي يميل عن ظلّه لنشاطه. منه. [ينظر لسان العرب: 15/ 319، مادّة «نزا»، والصحاح: 2/ 467، والقاموس المحيط: 1/ 290 مادّة «حيد»].
2- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 26.
3- جاء في حاشية الأصل: المراد بالوجهين ما ذكر قبل العلاوة وبعده. منه.

وأيضًا أنّ الترديد في المناسبة بين كونها مقتضية للدلالة أم لا، ممّا لا وجه له؛ لأنّ العلم بالمناسبة إمّا أن يكون متحقّقًا أم لا، وعلى الأوّل يلزم الانتقال كائنة ما كانت المناسبة، فتثبت الدلالة، وعلى الثاني وإن لم يتحقّق الانتقال، لكن ليس ذلك لاختلاف مراتب المناسبة، بل لانتفاء شرط الدلالة، وهو العلم بالمناسبة.

لا يقال: إنّه يتوجّه عليه أيضًا ما تقدّم من أنّه حينئذٍ يلزم فوات الحكمة الموجبة لتركيب الألفاظ؛ لكون الاطّلاع على المناسبة الذاتيّة في جميع الألفاظ متعسّرًا، بل متعذّرًا، فلا يمكن الوضع؛ لتوقّفه على العلم بالمناسبة حينئذٍ.

لأنّا نقول: إنّ ذلك فيما نحن فيه إنّما يتمّ في حقّ غير الله سبحانه، وأمّا بالنسبة إليه فلا كما لا يخفى.

وأمّا الثاني فلعدم اطّراده في جميع الألفاظ المستعملة في لغة واحدة، فضلًا عن اطّراده في جميع اللغات، فالصواب أن يقال: إنّ امتناع الترجيح من غير مرجّح يستدعي أن يكون الوضع لمرجّح؛ وعدم العلم به في جميع الألفاظ لا يقتضي عدمه كما لا يخفى.

وبالجملة: إنّه لمّا ثبت فساد القول بالدلالة الذاتيّة، تعيّنت الدلالة الوضعيّة؛ ولمّا امتنع الترجيح من غير مرجّح، علم افتقار وضع أيّ لفظ كان لمسمّاه إلى مرجّح، وغاية ما في الباب عدم العلم به في جميع الألفاظ، وهو غير مضرّ، إلّا إذا كان مستلزمًا لانتفائه في نفس الأمر، أو كان تحقّقه مستلزمًا للعلم به، لكن ليس على شيء منهما دليل، ولا على وأحد(1) منهما سبيل. 

ص: 156


1- في «ق»: واحد.
والمقام الثاني: في تفسير الوضع وما يترتّب عليه من الفوائد
اشارة

والمقام الثاني: في تفسير الوضع وما يترتّب عليه من الفوائد(1)

اعلم: أنّك قد عرفت ممّا أسلفناه في المقدّمة أنّ الوضع المختصّ بالحقائق: تعيين اللفظ للدلالة على المعنى لذاته، والمشترك بينها وبين المجازات تعيينه للدلالة على المعنى من غير أن يقيّد بالذات؛ وهذا وإن مرّ الكلام فيه في المقدّمة بحيث يشمل التعيين للمنقولات التخصّصيّة(2) أيضًا، لكنّا أعدناه هنا للتنبيه على فائدتين:

الفائدة الأولى: في تفسير الدلالة وما يتوجّه إليه من المناقشة

الأولى: في تفسير الدلالة، فنقول: لمّا كانت الدلالة مأخوذة في تعريف الوضع، ينبغي التعرّض لها، فنقول: إنّها مفسّرة في المشهور بكون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، أي كلّما يحصل العلم به يلزم العلم بشيء آخر؛ والأوّل هو الدالّ، والثاني هو المدلول(3).

ويرد على عكسه أنواع المجازات؛ لأنّها ليست بهذه المثابة؛ لعدم حصول الاستفادة منها عند انتفاء القرينة، فلا يصدق أنّها بحيث كلّما يحصل العلم به يحصل العلم بشيء آخر، بل الحقائق أيضًا؛ لوضوح أنّ العلم بالمدلولات منها إنّما يلزم عند العلم بأوضاعها، لا مع عدمه، فلا تصدق الكلّيّة المذكورة.

وأجاب المحقّق الشريف عن الأوّل: بالتزام ذلك بأنّ التعريف المذكور لأرباب

ص: 157


1- في «ق»: من القول.
2- في «ق»: التخصيصيّة.
3- ينظر كشّاف اصطلاحات الفنون: 2/ 284، والتعريفات: 139، ومفاتيح الأصول: 5.

الميزان، والدلالة المعتبرة عندهم ما كانت كلّيّة، وأمّا إذا فهم من اللفظ معنى في بعض الأوقات بواسطة قرينة، فأصحاب هذا الفنّ لا يحكمون بأنّ هذا اللفظ دالّ على ذلك المعنى، بخلاف أصحاب العربيّة والأصول، فخروج المجازات غير مضرّ، بل لازم(1).

ويتوجّه عليه: أنّ التعريف المذكور قد أطبقت عليه أئمّة العربيّة والأصول في كتبهم، وظاهرهم الارتضاء بذلك وتطابق الاصطلاح هنالك، وحيث ما كانت الدلالة متحقّقة عندهم في المجازات، ينتقض عكس الحدّ بخروجها عنه، وهو ما تقدّم من الإيراد على أنّه بعد تسليم فهم المعنى من اللفظ ولو كانت بواسطة القرينة، لا وجه لانتفاء الدلالة، فيبقى الإشكال.

ولو سلّمنا اختصاص الحدّ بأصحاب الميزان مع أنّ اعتبار الكلّيّة يوجب الانتقاض بالنسبة إلى الحقيقة أيضًا كما عرفت، فلا وجه لتخصيصه بالألفاظ المجازيّة، وجعل العموم منوطًا بالعلم بالوضع كما يمكن في الحقيقة، كذا يمكن جعله منوطًا بالعلم بالقرينة في الألفاظ المجازيّة.

ويمكن الجواب أمّا فيما إذا كان الدالّ في المجازات اللفظ مع القرينة فظاهر، إذ العلم بالدالّ حينئذٍ إنّما يكون مع تحقّق القرينة، لا مع انتفائها، وحينئذٍ لا تتخلّف الدلالة، وإنّما التخلّف في صورة انتفائها، وهنالك لم يتحقّق العلم بالدالّ، بل بجزئه، فلم تتحقّق صورة يتحقّق العلم بالدالّ فيها مع انتفاء الدلالة.

ص: 158


1- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 455، وتحفة الرشدى: 54.

وأمّا على التحقيق من كون الدالّ على المعاني المجازيّة اللفظ بشرط القرينة على ما أسلفنا بيانه؛ فلأنّ الدالّ عليها ليس اللفظ مطلقًا، بل في حالة الاقتران بالقرينة، فعند التجرّد عنها لا يكون العلم بالدالّ على المعنى المجازيّ، بل على المعنى الحقيقيّ، ولذا تحصل الدلالة بالنسبة إليه، وقد عرفت أنّ المراد بالشيء في قولهم: «كون الشيء» الدالّ، وإنّما عدل عنه إليه لئلّا يلزم الدور.

على أنّه يمكن أن يقال: إنّ أصل الإيراد ممّا لا وقع له؛ لأنّ قولهم: «الدلالة كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر»، أنّها كون الشيء بالحيثيّة المذكورة، وحيث ما لم يكن الشيء بتلك الحيثيّة لم تتحقّق الدلالة، وتلك الحيثيّة في الألفاظ المجازيّة عند الاقتران بالقرينة لا مطلقًا، فلا وجه للإيراد بعدم الدلالة عند عدم التحيّث بالحيثيّة المذكورة.

إن قلت: إنّه يمكن الجواب أيضًا عن أصل الإيراد بما تقدّم من أنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم، بناءً على أنّ الدالّ على الملزوم دالٌّ على اللازم، فيلزمه الدلالة على المعنى المجازيّ ولو عند انتفاء القرينة وإرادة المعنى الحقيقيّ، وإنّما المتوقّف على القرينة إرادة المعنى المجازيّ، لا الدلالة عليه، وإلّا لما كان لهذا الكلام وجه، والمعتبر في حدّ الدلالة العلم بالمدلول، لا كونه مرادًا.

قلنا: إنّ الحكم بدلالة الملزوم لذاته على اللازم إنّما يصحّ إذا كان اللزوم بيّنًا بالمعنى الأخصّ، أي يلزم من نفس تصوّر الملزوم تصوّر اللازم مع كلام فيه أيضًا، وليس المراد من اللزوم المفهوم من قولهم: «إنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم

ص: 159

إلى اللازم»(1) هذا المعنى قطعًا.

وكيف؟! مع أنّ كثيرًا من المعاني المجازيّة لا تخطر بالبال أصلًا عند تعقّل المعاني الحقيقيّة، فضلًا عن كفايته لتعقّلها ومفهومها، وإلّا لخرج أكثر المجازات عن كونها مجازات، ولكان الدالّ على المعاني المجازيّة أصل اللفظ من غير مدخليّة للقرينة في الدلالة، لا على وجه الشرطيّة ولا على وجه المعيّة؛ وإطباقهم مضافًا إلى العيان قاضٍ على خلافه، بل المراد اللزوم في الجملة، كما سيجيء إليه الإشارة.

ولقائل أن يقول: إنّ جميع ما ذكر لا يكفي لحسم(2) مادّة الإيراد؛ لأنّ مقتضى قولهم: «كونه بحيث يلزم من العلم به العلم بالآخر» أنّ العلم بنفس ذلك الشيء من غير اعتبار أمر آخر يكفي للعلم بالمدلول، وليس الأمر في شيء من المجازات كذلك وإن قلنا: إنّ الدالّ فيها اللفظ بشرط القرينة لا مجموعهما؛ لوضوح مدخليّة العلم بالقرينة أيضًا في ذلك، فلا يصحّ الحكم بكفاية نفس العلم بالدالّ في العلم بالمدلول كما لا يخفى.

ويمكن الجواب عنه: بأنّه قد ظهر ممّا سبق أنّ الدالّ في المجازات اللفظ في حالة الاقتران بالقرينة، ففي حالة العلم باللفظ والقرينة يكفي نفس العلم باللفظ للعلم بالآخر، فتأمّل.

أو يقال: إنّ المراد من قولهم: «إنّ الدلالة كون الشيء بحيث يلزم من العلم به

ص: 160


1- ينظر قوانين الأصول: 1/ 77، والإيضاح، للخطيب القزوينيّ: 330.
2- في «ق»: تجسم، وهو غلط.

العلم بالآخر»، أعمّ من أن يكون من غير اعتبار أمر آخر كما في الحقائق، أو معه كما في المجازات.

والجواب عن الثاني يظهر ممّا تقدّم من أنّ المراد: أنّ الدلالة كون الشيء بالحيثيّة المذكورة، وحيثما لم يكن الشيء على تلك الحيثيّة لم يتحقّق(1) الدلالة وتلك الحيثيّة في الألفاظ الحقيقيّة عند العلم بأوضاعها؛ أو يقال: إنّ المراد أنّ الدلالة كون الشيء بحيث يلزم من العلم به عند العلم بوضعه العلم بالآخر، كما تقدّم في المجاز.

وبالجملة: ليس المراد من «اللزوم» المأخوذ في حدّ الدلالة اللزوم العقليّ البيّن، بل اللزوم في الجملة، فلا ينافيه الافتقار إلى العلم بالوضع والعلاقة.

وربّما قيل احترازًا عن المحذور: الصحيح أن يقال في تعريفها: هو كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر عند العلم بالعلاقة(2).

وفيه ما لا يخفى؛ لاستلزامه خروج الدلالة المتحقّقة في الحقائق؛ لأنّ العلم بالعلاقة فيها ممّا لا معنى له، بل في المجازات أيضًا، إذ كفاية العلم بالعلاقة في دلالة الألفاظ المجازيّة ممنوعة، إلّا إذا فسّرت العلاقة بحيث تشمل الوضع والقرينة، فيؤول إلى ما ذكر مع ارتكاب مخالفة الظاهر وإمكان إرادة هذا المعنى من غير تغيير في الحدّ المشهور على ما مرّ.

ص: 161


1- كذا في الأصل، والصواب: لم تتحقّق.
2- الأطول: 2/ 107.
الفائدة الثانية: في تقسيم الدلالة إلى الأقسام الثلاثة

والثانية: في تقسيم الدلالة إلى أقسامها الثلاثة المشهورة.

اعلم: أنّك قد عرفت ممّا تقدّم أنّ الدلالة لكونها من الأمور الممكنة لا بدّ لها من مقتضٍ(1)؛ وذلك المقتضي إمّا الوضع بأنّه لمّا وضع اللفظ وعيّن بإزاء المعنى، يلزمه الانتقال منه إليه للعالم بالوضع؛ أو الجزئيّة، أي كون المعنى جزءًا للموضوع له، بناءً على أنّ فهم الكلّ مستلزم لفهم الجزء، فالانتقال إلى الكلّ لا يمكن من غير انتقال إلى الجزء؛ أو اللزوم، أي كون المعنى لازمًا للموضوع له، بناءً على أنّ فهم الملزوم وتعقّله يستلزم فهم اللازم.

فدلالة اللفظ إمّا بالنسبة إلى الموضوع له، أو جزئه، أو لازمه؛ وهي مسمّاة في الأوّل بالمطابقة، لموافقة اللفظ للمعنى، من قولهم: طابق النعل بالنعل؛ وفي الثاني بالتضمّن، لكونها في ضمن الموضوع له. وفي الثالث بالالتزام؛ لكونها في لازمه.

فالمطابقة: دلالة اللفظ على المعنى بتوسّط وضعه له من حيث إنّه وضع له، والتضمّن: دلالته عليه بتوسّط جزئيّته للموضوع له.

والالتزام: دلالته عليه بتوسّط لزومه له.

والكلام في انتقاض كلّ من الأقسام بالآخر في اللفظ المشترك بين شيء وجزئه ولازمه؛ وكذا دفعه مشهورٌ وفي الكتب والألسنة مذكورٌ، فترك الالتفات إليه محبوبٌ؛ لأنّ وضع كتابنا هذا من خفيّ ألطاف الله تعالى ليس في مبتذلات الأوهام، بل فيما لا تتناوله الأفهام.

ص: 162


1- في «ق»: مقتضى.
الكلام هنا في أمور
اشارة

وإنّما الكلام هنا في أمور:

الأمر الأوّل: في أنّ المطابقة والتضمّن والالتزام من الدلالات اللفظيّة، أو بعضها لفظيّ وبعضها عقلي
اشارة

الأوّل: أنّ الأقسام المذكورة للدلالة هل هي بأسرها من الدلالة اللفظيّة الوضعيّة، أو لا، بل بعضها كذلك وبعضها عقليّ؟

فيه خلاف، والمشهور وكأنّه ممّا أطبق عليه علماء الميزان: الأوّل(1).

وذهب بعض علماء البيان إلى أنّ الأوّل وضعيّة، والأخيرين عقليّة(2). وابن الحاجب إلى أنّ المطابقة والتضمّن من الدلالة(3) اللفظيّة الوضعيّة، بخلاف الدلالة الالتزاميّة، فإنّها غير لفظيّة، بل عقليّة(4).

لكن لا يتوهّمن أنّ من قال بالوضعيّة يدّعي استقلال الوضع في الإفادة وانتفاء الواسطة ممّا عدا الوضع في دلالة اللفظ على المدلول في التضمّن والالتزام؛ ولا أنّ من قال بالعقليّة ينكر مدخليّة الوضع في الدلالة، كما في دلالة اللفظ المسموع من وراء الجدار على اللافظ؛ لظهور فسادهما.

ص: 163


1- ينظر شرح الإشارات والتنبيهات: 1/ 28.
2- الإيضاح: 215، ومختصر المعاني: 184.
3- في «ق»: الدلالات.
4- شرح مختصر المنتهى: 1/ 450.

أمّا الأوّل: فلوضوح أنّ استقلال الوضع وكفايته في الإفادة إنّما هو بالنسبة إلى الموضوع له، ومعلوم انتفاؤه في غير الدلالة المطابقيّة؛ لما عرفت من أنّ التضمّن والالتزام: دلالة اللفظ على جزء الموضوع له ولازمه، والتغاير بين الجزء والكلّ واللازم والملزوم بيّن؛ ولو فرض ثبوت الوضع بالنسبة إلى الجزء واللازم أيضًا، لم تكن الدلالة بالنسبة إلى هذا الاعتبار تضمّنيّة ولا التزاميّة، بل مطابقيّة.

وأمّا الثاني: فلأنّه لو لم يكن للوضع مدخليّة في التضمّن والالتزام، لزم انتفاء الدلالة فيهما، والتالي باطل؛ لظهور امتناع فهم الكلّ والملزوم من غير فهم الجزء واللازم.

أمّا الشرطيّة؛ فلأنّه بناءً على فساد القول بالدلالة الذاتيّة، انحصر المقتضي في دلالة اللفظ على المعنى في الوضع؛ وحيثما لم يكن له مدخليّة لا على وجه الاستقلال ولا في الجملة، يكون الموجب منتفيًا، وانتفاء الموجب ملزوم لانتفاء الموجب.

بل القائل بالوضعيّة يدّعي المدخليّة، بمعنى أنّ اللفظ لمّا دلّ على الكلّ والملزوم لوضعه لهما، يلزمه أن يكون الانتقال إلى الجزء واللازم لذلك، فتكون دلالة اللفظ على المدلول المطابقيّ بالوضع من غير واسطة وعلى المدلول التضمّنيّ والالتزاميّ معها؛ لأنّ الوضع ممّا يتوقّف عليه فهم الكلّ، وكلّما يتوقّف عليه فهم الكلّ يتوقّف عليه فهم الجزء؛ لكونه جزءًا له، فالوضع ممّا يتوقّف عليه فهم الجزء؛ لكونه جزءًا للكلّ، ففهم الجزء متوقّف على الوضع بواسطة توقّف فهم الكلّ عليه، وكذلك الحال في فهم اللازم.

فالدلالة الوضعيّة عندهم ما كان بمعونة الوضع أعمّ من أن يكون من غير

ص: 164

واسطة أو معها، والقائل بالعقليّة لا ينكر المعنى المذكور من مدخليّة الوضع في التضمّن والالتزام، بل يدّعي أنّ الوضعيّة ما كان للوضع من غير واسطة، فيلزمه التعميم في العقليّة بحيث يشمل الدلالة التضمّنيّة والالتزاميّة أيضًا(1)، ففي الحقيقة أنّ الاختلاف في هذا المقام يرجع إلى الاختلاف في الاصطلاح، ومن الأمور المشهورة أنّه لا مشاحّة في الاصطلاح، إذ لكلّ أحد أن يصطلح بما شاء.

إن قلت: إنّ المُقسم في التقسيم المذكور الدلالة اللفظيّة، فإن كان الالتزام مثلًا عقليّة، يلزم أن يكون قسم الشيء قسيمًا(2) له.

قلنا: إنّ المقتضي في دلالة(3) اللفظ على المعنى إمّا الوضع، أو العقل كما في التضمّن والالتزام، بناءً على ما عرفت من حكم العقل بأنّ الانتقال إلى الكلّ يستلزم الانتقال إلى الجزء، وإلى الملزوم يستلزم الانتقال إلى اللازم، فالدلالة في الأوّل تسمّى الدلالة اللفظيّة الوضعيّة، وفي الثاني الدلالة اللفظيّة العقليّة، فالحكم بأنّ التضمّن والالتزام من الدلالة العقليّة بالمعنى المذكور لا ينافي جعل المقسم فيهما الدلالة اللفظيّة.

نعم، يتوجّه ذلك بالنسبة إلى ما ذهب إليه ابن الحاجب، حيث صرّح بأنّ الدلالة الالتزاميّة غير لفظيّة(4)، فحينئذٍ لا يمكن أن يقال: إنّ دلالة

ص: 165


1- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي: كما يشمل العقليّة المحضة.
2- في «ق»: قسيمًا.
3- في «ق»: الدلالة.
4- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 450.

اللفظ(1) على تمام ما وضع مطابقة، وعلى جزئه تضمّن، وعلى خارجه التزام، إذ الحكم بكون اللفظ دالًّا على الخارج مع كونها غير لفظيّة ممّا لا يتفوّه به.

إلّا أن يقال: إنّ المقسم حينئذٍ مطلق الدلالة، لا اللفظيّة، أو أنّ الدلالة اللفظيّة في القسم هي أن ينتقل الذهن من اللفظ إلى المعنى ابتداءً، أي بلا واسطة معنى، فيخرج الالتزام حينئذٍ؛ لأنّ الانتقال إلى اللازم فيه بواسطة فهم الملزوم الّذي وضع اللفظ بإزائه، ويراد من الدلالة اللفظيّة في المقسم أعمّ منه، أي ما ينتقل إليه بواسطة اللفظ، سواء دلّ عليه ابتداءً، أو بواسطة دلالته على ملزومه.

في وجه كون المطابقة والتضمّن من الدلالة اللفظيّة دون الالتزام

ثمّ اعلم: أنّه قد ظهر ممّا ذكر وجه القول بكون الدلالات الثلاث لفظيّة، وكذا القول بكون التضمّن والالتزام عقليّة؛ وإنّما الكلام فيما ذهب إليه ابن الحاجب من كون المطابقة والتضمّن لفظيّة وكون الالتزام عقليّة(2).

فنقول: الوجه في ذلك: هو أنّ الدلالة اللفظيّة عنده: كون اللفظ بحيث ينتقل الذهن منه إلى المعنى ابتداءً، أي بلا واسطة معنى، والّذي يخرج من ذلك هو الالتزام فقط؛ لما عرفت من أنّ فيه انتقالًا(3) من الملزوم إلى اللازم، أي الذهن ينتقل عند ملاحظة اللفظ إلى الملزوم، ثمّ إلى اللازم، فالانتقال إلى اللازم بواسطة

ص: 166


1- في «ق»: اللفظيّة.
2- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 450.
3- في «ق»: انتقال.

الانتقال إلى الملزوم، فهناك انتقالان متغايران.

بخلاف التضمّن، فإنّ الدالّ على الكلّ دلالته على الكلّ عين الدلالة على الجزئين مثلًا، ولا مغايرة بينهما إلّا بالإضافة والاعتبار، فهي بالنسبة إلى الكلّ تسمّى مطابقة، وإلى كلّ واحد من الجزئين تسمّى تضمّنًا، فليس فيه إلّا انتقال واحد، إذ يفهم منه الكلّ بصورة وحدانيّة إجماليّة يحلّلها العقل في ظرف التحليل إلى أجزاء.

ألا ترى أنّك إذا تعقّلت من لفظ «الإنسان» معناه، حصل في ذهنك صورة واحدة بالفعل تنحلّ بتحليل العقل إلى أمور، دلالة لفظ «الإنسان» عليها في ضمن دلالتها على تلك الصورة وفهمها في ضمن فهمها، فكما يكون الانتقال إلى تلك الصورة الوحدانيّة الصالحة لأن تكون مبدأً لتلك التفاصيل ابتداء بالمعنى المذكور، كذلك الانتقال إلى كلّ من تلك الأمور؛ ولذا عدّ التضمّن من الدلالة اللفظيّة بالمعنى المذكور كالمطابقة دون الالتزام.

الإيرادات الواردة في هذا المقام
اشارة

وهنا اعتراض من وجوه:

الإيراد الأوّل

الأوّل: أنّ الحكم بأنّ الانتقال في الالتزام إلى الملزوم أوّلًا، ثمّ إلى اللازم، غير صحيح على إطلاقه؛ لأنّ دلالة العمى على البصر بالالتزام، مع أنّ دلالته عليه متقدّمة على الدلالة على العدم المضاف إلى البصر، كما صرّح به شارح المطالع

ص: 167

والمحقّق الشريف وغيرهما(1)؛ لأنّه موضوع للعدم من حيث إضافته إلى البصر، فالتقييد داخل في الموضوع له.

وكذلك الحال في الكوسج، فإنّ دلالته على اللحية متقدّمة على الدلالة على العدم المضاف إلى اللحية، وتعقّل الطرفين متقدّم على تعقّل النسبة.

لا يقال: إنّ دلالة العمى على البصر بالتضمّن، لا بالالتزام، كيف؟! مع أنّ بين العمى والبصر تعاندًا، فكيف يكون أحدهما ملزومًا والآخر لازمًا؟

لأنّا نقول: مدلول العمى كما عرفت: العدم المضاف إلى البصر، بأن يكون(2) الإضافة داخلة في مدلوله، لا العدم والبصر، فلا يكون البصر جزءًا لمدلول العمى، بل خارج(3) عنه(4)، فلا يكون(5) دلالته عليه بالتضمّن؛ والتعاند بينهما إنّما هو في الخارج، واللازم منه انتفاء اللزوم الخارجيّ بينهما، وهو لا يستلزم انتفاء مطلق اللزوم، ضرورة أنّ انتفاء الأخصّ غير مستلزم لانتفاء الأعمّ، فنقول: إنّ التعاند

ص: 168


1- ينظر شرح المطالع: 1/ 112. لم نعثر على قول المحقّق الشريف وغيره.
2- كذا في الأصل، والصواب: بأن تكون.
3- كذا في الأصل، والصواب: خارجًا كما في «ق».
4- جاء في حاشية الأصل: لأنّ المضاف إذا أخذ من حيث الذات، كان كلّ من الإضافة والمضاف إليه خارجًا عنه؛ وإذا أخذ من حيث الإضافة فالإضافة وإن كانت داخلة، لكنّ المضاف إليه خارج، وما نحن فيه من هذا القبيل، فلهذا حكمنا بخروج البصر عن مدلول العمى. منه.
5- كذا في الأصل، والصواب: فلا تكون.

بينهما خارجيّ، واللزوم ذهنيّ.

الإيراد الثاني

والثاني: أنّ ما تقدّم لا يصلح وجهًا لجعل التضمّن من الدلالة اللفظيّة بالمعنى المذكور، إذ الانتقال إلى الأجزاء المحلّلة بعد أن يحلّل المعنى المحلّل فيه، فيكون الانتقال إلى المعنى التضمّنيّ بعد الانتقال إلى المعنى المطابقيّ، كما في الالتزام، فلا يكون الانتقال إلى المعنى التضمّنيّ ابتداءً.

الإيراد الثالث

والثالث: أنّه على تقدير تسليم اتّحاد الدلالة في التضمّن والمطابقة وأنّ الحاصل في الذهن صورة وحدانيّة صالحة لأن يكون(1) مبدأ للتفاصيل، إنّما يصحّ في اللفظ المفرد، وأمّا في اللفظ المركّب -كغلام زيد- فلا؛ لوضوح أنّ فهم بعض الأجزاء في المركّب قبل فهم الجزء الآخر، ففهم الكلّ فيه إنّما يحصل بصور متعدّدة متمايزة متعاقبة، فلا يمكن أن يقال: إنّ دلالة التضمّن والمطابقة متّحدة بالذات ومختلفة بالاعتبار، بل تفسير الدلالة اللفظيّة بما ذكر يستلزم أن لا تكون دلالة الألفاظ المركّبة على معانيها المطابقيّة دلالة لفظيّة؛ لأنّ الانتقال إلى الكلّ بواسطة الانتقال إلى الجزء، فلا يصدق على الانتقال إلى الكلّ أنّه انتقال إلى المعنى ابتداءً.

ص: 169


1- كذا في الأصل، والصواب: لأن تكون.
الجواب عن الإيراد الثاني

والجواب أمّا عن الثاني: فلأنّ الانتقال إلى الصورة الوحدانيّة يستلزم الانتقال إلى الأجزاء إجمالًا بعين ذلك الانتقال، لا بانتقال آخر، فكما يكون الانتقال إلى تلك الصورة ابتدائيًّا، فكذلك الانتقال(1) إلى أجزائها، ومن هذا الاعتبار تسمّى الدلالة بالنسبة إليها تضمّنيّة؛ وأمّا تحليلها إلى تلك الأجزاء فإنّما هو إلتفات تفصيليّ إلى الأمور المفهومة على الإجمال، لا أنّه التفات مستأنف إلى الأمور الغير الملتفت إليها مطلقًا.

ونظير ذلك في المحسوسات مشاهدة وردة واحدة(2) ذات أوراق متكثّرة دفعة واحدة، ولا شبهة أنّ المشاهدة [بالنسبة] إلى الورد وأجزائها واحدة، فإذا نسبت المشاهدة إلى الورد تسمّى مشاهدته، وإذا نسبت إلى الجزء تسمّى مشاهدته؛ وكذلك الحال في المطابقة والتضمّن من حيث الفهم والانتقال.

الجواب عن الإيراد الثالث

وأمّا عن الثالث: فلأنّ التضمّن على ما ظهر ممّا قدّمناه وصرّحوا به أيضًا: دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له، كدلالة الإنسان على الحيوان أو الناطق، لا دلالة جزء اللفظ على جزئه.

ص: 170


1- في «ق»: الانتقال إجمالًا.
2- جاء في حاشية الأصل: التشبيه بالوردة أولى من التشبيه بالشجرة ذات أغصان متكثّرة؛ لأنّ المناسبة بين المشبّه والورد أتمّ من المناسبة بينه وبين الشجرة كما لا يخفى. منه.

فعلى هذا نقول: إنّ المركّب له وضع تركيبيّ ولمفرداته وضع إفراديّ؛ وكما أنّ وضعه التركيبيّ يستدعي إفادته المعنى التركيبيّ، كذا يكون وضع مفرداته مستدعيًا لإفادتها المعاني الإفراديّة.

وفهم بعض الأجزاء في المركّب قبل فهم الجزء الآخر(1) بصور متعاقبة متمايزة وإن كان مسلّمًا، لكنّه إنّما هو لدلالة المفردات بأوضاعها عليها، لا لدلالة المركّب من حيث إنّه مركّب عليها؛ ومعلوم أنّ تلك الدلالة مطابقة بالنسبة إلى المفرد الّذي هو جزء للمركّب، لا تضمّن بالنسبة إلى المركّب، والمتحقّق دلالة جزء المركّب على معناه(2)، لا دلالة المركّب من حيث هو مركّب على جزء معناه، والتضمّن بالنسبة إلى المركّب متوقّف عليه، فالمتحقّق -وهو دلالة الجزء على معناه- لا يكفي لتحقّق التضمّن بالنسبة إلى المركّب، وما يكفي -وهو دلالة المركّب على جزء معناه- غير متحقّق.

وبالجملة: المقصود أنّ التضمّن دلالة اللفظ على جزء الموضوع له، والمركّب من حيث هو ليس له دلالة على أجزائه المفهومة متعاقبة، بل الدالّ عليها أجزاؤه، وهو ليس بتضمّنٍ بالنسبة إلى المركّب، فيعلم منه أنّ الانتقال إلى المعنى التركيبيّ ابتدائيّ، إذ ليس للفظ المركّب من حيث هو دلالة على جزئه حتّى يحصل الانتقال منه إليه أوّلًا، ثمّ منه إلى المعنى التركيبيّ كما عرفت، فلا انتقاض.

ص: 171


1- في «ق»: الأجزاء.
2- أي معنى جزء المركّب.
الإيراد الأوّل وارد

وأمّا الأوّل فهو واردٌ ولا(1) اختصاص له بالعمى، بل يرد الانتقاض أيضًا بالنسبة إلى المتضايفين، فإنّ كلّ واحد من المتضايفين لازم بالنسبة إلى آخر، مع أنّ تعقّلهما في آن واحد، وليس تعقّل الملزوم سابقًا عن تعقّل اللازم، إلّا أن يخصّص التعريف بما إذا لم يكن فهم الملزوم متوقّفًا على فهم اللازم، وفي كلّ من العمى والمتضايفين يكون الأمر كذلك.

ص: 172


1- في «ق»: فلا.
الأمر الثاني: في أنّ حصر الدلالات في الأقسام الثلاثة غير صحيح

والأمر الثاني: في أنّ حصر الدلالات في الأقسام المذكورة غير صحيح؛ لأنّ اللفظ المشترك -كالعين مثلًا- يدلّ على جميع المعاني، مع أنّ هذه الدلالة غير مندرجة تحت شيء من الأقسام الثلاثة؛ أمّا المطابقة والتضمّن فلأنّ اللفظ موضوع لكلّ واحد من تلك المعاني، لا للمجموع، فلا يكون المجموع الموضوع له ولا جزؤه؛ وأمّا الالتزام فلعدم لزومه للموضوع له.

وأيضًا إذا فرض وضع لفظ - كهذا مثلًا - لمتضايفين - كالأبوّة والبنوّة - تكون دلالته على مجموع الجزئين بالمطابقة، وكلّ جزء يستلزم الآخر؛ لامتناع تعقّل البنوّة من دون الأبوّة وبالعكس، فكلّ واحد منهما يفهم بواسطة لزومه للآخر، فلا يكون تضمّنًا لعدم اعتبار الجزئيّة، ولا التزامًا لعدم الخروج، هذا ملخّص ما أورده بعض الأعلام في هذا المقام(1).

ويمكن الجواب أمّا عن الأوّل؛ فلأنّ النقض إنّما كان متوجّهًا إذا فهم مجموع المعاني بصورة وحدانيّة؛ لثبوت الدلالة بالنسبة إليها حينئذٍ، مع عدم اندراجه تحت شيء من الأقسام لما ذكر، لكنّ الأمر ليس كذلك، بل المفهوم كلّ واحد، والدلالة بالنسبة إليه مطابقة؛ لكونه تمام ما وضع له بالنسبة إلى وضعه، وفهم كلّ واحد يستلزم حضور الجميع في الخزانة، فيلتفت إليه إجمالًا، لكن هذا الالتفات من جهة حضور الجميع لدلالة اللفظ على كلّ واحد، لا لدلالته عليه، فتأمّل.

ص: 173


1- ينظر حاشية السيالكوتي على تحرير القواعد المنطقيّة: 138 -139.

وأمّا عن الثاني: فبأنّه لا شبهة في أنّ اللفظ الدالّ على المجموع دالّ على أجزائه، وإلّا لما تحقّق دلالته على المجموع، وإنكار ذلك مكابرة.

نعم، لو أُورِدَ السؤال على نحو آخر، لكان له وجه-والظاهر أنّه مراد المورد وإن كان في عبارته قصور عن إفادته- بأن يقال: إنّ كلّ لفظ موضوع للمتلازمين له دلالتان على كلّ منهما، إحداهما باعتبار الجزئيّة، ولا كلام في ذلك؛ لاندراجها بهذا الاعتبار تحت التضمّن، والأخرى باعتبار لزوم كلّ منهما للآخر، وهذه الدلالة غير مندرجة تحت شيء من الأقسام المذكورة لما سلف، مضافًا إلى أنّ الالتزام: الدلالة على الخارج اللازم للموضوع له، وهنا يكون اللازم لازمًا لجزء الموضوع له.

إلّا أن يقال: باندراجها تحت الالتزام بأن يكون المراد من الخروج المعتبر فيه عدم حيثيّة العينيّة والجزئيّة، فإنّ المدلول في تلك الدلالة وإن كان جزءًا، لكنّ الدلالة ليست باعتبار الجزئيّة، بل باعتبار اللزوم؛ لكنّه مع ما فيه من شدّة مخالفته للظاهر، بل عدم إمكان إرادته في كثير من كلماتهم، لا(1) يندفع معه العلاوة المذكورة من أنّ الالتزام الدلالة على اللازم للموضوع له، لا لجزئه.

ويمكن الجواب: بأنّ الانتقال إلى اللازم إنّما هو من الجزء، وهو يستدعي أن يكون ذلك دلالة التزاميّة بالنسبة إلى الجزء، لا بالنسبة إلى اللفظ الموضوع لمجموع المتلازمين، وهو مسلّم ولا ضرر فيه أصلًا؛ لكونه انتقالًا إلى الخارج

ص: 174


1- في «ق»: لما.

اللازم للموضوع له، فتأمّل(1).

ص: 175


1- جاء في حاشية الأصل: ولا يخفى أنّه لا اختصاص للإيراد المذكور باللفظ الموضوع للمتلازمين؛ لوروده فيما إذا وضع للملزوم أمر مع شيء آخر، ودلالته على مجموع الملزوم وذلك الشيء مطابقة، وعلى الملزوم مثلًا تضمّن، وينتقل منه إلى لازمه مع عدم اندراجه تحت شيء من أقسام الدلالات، أمّا المطابقة والتضمّن فظاهر، وأمّا الالتزام فلكونه لازمًا لجزء الموضوع له، لا لنفس الموضوع له. منه.
الأمر الثالث: في أنّ دلالة الألفاظ المجازيّة على المعاني المجازيّة مطابقة لا التزام

والأمر الثالث: في أنّ دلالة الألفاظ المجازيّة على المعاني المجازيّة هل تكون من دلالة الالتزام، أو المطابقة(1)؟

فيه خلاف بين الأعلام، فالظاهر من المحقّق العضديّ الأوّل؛ لأنّه حكى اعتبار اللزوم الذهنيّ في دلالة الالتزام عن قوم، ثمّ قال:

ويرد عليهم أنواع المجازات(2).

حيث إنّ مقتضاه أنّ كون الدلالة في المجازات التزامًا مسلّم، واعتبار اللزوم الذهنيّ فيه يستلزم خروجها عنه، بناءً على أنّ اللزوم الذهنيّ هو أن يكون تعقّل الملزوم كافيًا في تعقّل اللازم، وليس الأمر في المجازات كذلك؛ لأنّ تعقّلها متوقّف على وجود القرينة.

ص: 176


1- جاء في حاشية الأصل: اعلم: أنّ المدلول من اللفظ قد يكون مستعملًا فيه له، وقد لا يكون؛ وبعبارة أخرى: قد يكون مرادًا وقد لا يكون؛ والمقصود في هذا المقام أنّ المدلول إذا كان موضوعًا له، فلا شبهة في كون الدلالة بالنسبة إليه مطابقة، سواء كان ممّا استعمل فيه اللفظ، أم لا، كما إذا استعمل اللفظ في المعنى المجازيّ؛ وأمّا إذا لم يكن موضوعًا له، فلا شبهة في كون الدلالة بالإضافة إليه تضمّنيّة أو التزاميّة إذا لم يكن ممّا استعمل فيه، كدلالة السكنجبين على الخلّ مثلًا، والنار على الحرارة فيما إذا كان المراد نفس السكنجبين والنار؛ وأمّا إذا كان مستعملًا كما إذا استعمل السكنجبين في الخلّ مثلًا والنار في الحرارة، فهل تكون الدلالة في الأوّل تضمّنيّة وفي الثاني التزاميّة؟ يطلب تحقيق الحال ممّا ذكرناه. منه.
2- شرح مختصر المنتهى: 1/ 450.

والثاني حكاه المحقّق التفتازاني في مطوّله عن الأكثر(1).

الإشكال في القول الثاني

وفي كلّ منهما إشكال، أمّا في الثاني فظاهر؛ لأنّ المطابقة دلالة اللفظ على تمام الموضوع له، والمجازُ لفظٌ مستعملٌ في غير الموضوع له، فلو كانت دلالة المجازات مطابقة، لزم اجتماع النقيضين.

الإشكال في القول الأوّل
اشارة

وأمّا في الأوّل فمن وجوه:

الوجه الأوّل

الأوّل: أنّ دلالة الألفاظ المجازيّة لو كانت التزاميّة، لزم أن يكون الأمر كذلك فيما إذا كان المعنى المجازيّ جزءًا للمعنى الحقيقيّ أيضًا.

أمّا الشرطيّة فظاهرة، وأمّا بطلان التالي فلما تقدّم من أنّ الالتزام دلالة اللفظ على الخارج اللازم للموضوع له، والمعنى المجازيّ فيما نحن فيه لم يكن خارجًا، بل جزء له؛ ومعلوم أنّه ليس بتضمّن أيضًا؛ لما تقدّم من أنّ التضمّن دلالة اللفظ على الجزء في ضمن الكلّ ومفهوم في ضمن فهمه، وأنّها متّحدة مع المطابقة ذاتًا ومختلفة اعتبارًا، وفيما نحن فيه ليس كذلك؛ لوضوح انفهامه مستقلًّا ومخالفة تلك الدلالة

ص: 177


1- ينظر المطوّل: 407.

على الدلالة على المعنى الحقيقيّ؛ وكيف لا؟! مع أنّ إحداهما(1) غير متوقّفة على القرينة والأخرى متوقّفة عليها.

لا يقال: إنّ الانتقال من اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أوّلًا إلى الموضوع له، ثمّ بعد الالتفات إلى القرينة الصارفة ينتقل إلى المعنى المجازيّ، فعلى هذا يكون الانتقال من اللفظ المستعمل في الجزء أوّلًا إلى الكلّ، فيصدق على الجزء أنّه مفهوم في ضمن الكلّ بعين دلالة الكلّ.

لأنّا نقول: إنّ هذا وإن كان مسلّمًا، لكنّ الكلام ليس في تلك الدلالة، بل في الدلالة المستقلّة على الجزء والجزء المفهوم مفصّلًا بمعونة القرينة، فتأمّل(2).

لا يقال: إنّ القرينة إنّما هي لكون المعنى المجازيّ مرادًا، لا لكونه مدلولًا؛ لأنّ اختلافهم في أنّ الدالّ في المجازات هل اللفظ بشرط القرينة أو معها، مكذّب لذلك، كما لا يخفى على المتأمّل.

الوجه الثاني

والثاني: أنّ جمعًا من المحقّقين -كالمحقّق التفتازاني وغيره- استدلّوا على عدم توقّف الدلالة على الإرادة بأنّ المعاني التضمّنيّة والالتزاميّة غير مرادة، مع أنّها مدلول عليها(3).

ص: 178


1- في «ق»: أحدهما.
2- «فتأمّل» لم ترد في «ق».
3- ينظر شرح مختصر المنتهى (حاشية التفتازاني): 1/ 451.

وهذا إنّما يتمّ إذا كانت المعاني الالتزاميّة مفهومة بواسطة فهم الملزوم الّذي هو المراد من الكلام، لا المعنى الالتزاميّ؛ ومعلوم أنّ المراد من الألفاظ المجازيّة المعاني المجازيّة، لا الحقيقيّة، إذ الكلام ليس إلّا في ذلك، فتأمّل(1).

الوجه الثالث

والثالث: هو أنّ دلالة الألفاظ المجازيّة لو كانت التزاميّة، لزم عدم استلزام الالتزام للمطابقة؛ والتالي باطل؛ لإطباقهم ظاهرًا على أنّ كلًّا من التضمّن والالتزام مستلزم للمطابقة؛ أمّا الشرطيّة فلما تقدّم من أنّ المجاز غير مستلزم للحقيقة.

وفيه تأمّل، إذ المطابقة دلالة اللفظ على تمام الموضوع له، والحقيقة: اللفظ المستعمل فيما وضع له؛ والمذكور في بيان الشرطيّة إنّما يتمّ إذا كانت دلالة اللفظ على معنى غير منفكّة عن استعماله فيه، أو عدم الاستعمال مستلزمًا لعدم الدلالة، لكن ليس على شيء منهما دليلٌ ولا على أحد منهما سبيل، فحينئذٍ يمكن أن يكون اللفظ المستعمل في غير الموضوع له دالًا على ما وضع له مع عدم استعماله فيه أبدًا، فهناك تتحقّق(2) المطابقة مع انتفاء الحقيقة، فلا يكون انتفاء الحقيقة مستلزمًا لانتفاء المطابقة، فلا يتمّ المرام.

ص: 179


1- جاء في حاشية الأصل: وجه التأمّل: هو أنّه يمكن أن يقال: إنّ مقصودهم التضمّن والالتزام في الجملة، وذلك فيما إذا كان المراد الملزوم والكلّ، لا كلّ الدلالات الالتزاميّة ولو كانت المعاني الالتزاميّة مرادة كما في المجازات، إذ يكفي ذلك في إثبات ما هم بصدد إثباته، كما لا يخفى على المتأمّل، لكنّ الإنصاف أنّه خلاف ما يقتضيه ظاهر كلماتهم. منه.
2- في «ق»: تحقّق.

ويمكن أن يقال في بيانها: إنّ مقتضى استلزام الالتزام للمطابقة مثلًا أنّه كلّما تحقّق الأوّل تحقّق الثاني، وعلى تقدير أن تكون دلالة المجازات على معانيها المجازيّة التزامًا، لا يلزم أن يكون الأمر كذلك؛ لجواز أن يكون المجاز مقترنًا بالقرينة المعيّنة للمراد بحيث يحصل الانتقال إلى المعنى المجازيّ من غير أن يحصل الانتقال إلى المعنى الحقيقيّ، فحينئذٍ يكون الالتزام متحقّقًا مع انتفاء المطابقة، فتأمّل.

فالحقّ: أنّ دلالة الألفاظ المجازيّة مطابقة، والمناقشة المذكورة(1) على تقديرها مدفوعة بحمل(2) الوضع المعتبر فيها على المعنى العامّ؛ وهو على ما سلف مرارًا: تعيين اللفظ للدلالة على المعنى مطلقًا، فعلى هذا كما يتحقّق كلّ من التضمّن والالتزام بالنسبة إلى المعنى الحقيقيّ، كذا يمكن تحقّقهما بالنسبة إلى المعنى المجازيّ أيضًا بأن يكون المعنى المجازيّ مركّبًا أو ملزومًا، فتكون دلالة ذلك المجاز على الجزء تضمّنًا وعلى اللازم التزامًا(3).

ص: 180


1- في «ج»: المذكور؛ وفي «ق»: المذكورة فيها.
2- في «ق»: بحال؛ وفي «ج» بدل «بحمل»: بأنّه يكون الوضع.
3- جاء في حاشية الأصل: لا يقال: إنّ الظاهر من قولهم: «إنّ المطابقة دلالة اللفظ على تمام الموضوع له»، هو أن يكون اللفظ مستقلًا في تلك الدلالة كما لا يخفى، فلا يمكن أن تكون دلالة المجازات مطابقة، لعدم استقلالها في الدلالة؛ لوضوح أنّ الدالّ فيها إمّا اللفظ مع القرينة أو بشرطها، وأيّ منهما كان لا يكون اللفظ مستقلًّا فيها، وهو ظاهر. لأنّا نقول: إنّ الأمر وإن كان كذلك، لكنّه مشترك الورود، إذ قولهم في الالتزام: «إنّه دلالة اللفظ على الخارج عن الموضوع له»، ظاهره أيضًا ذلك، فيعلم منه عدم إرادة هذا الظاهر من الكلام في المقام، فتأمّل. منه.

والعبارة المحكيّة عن المحقّق العضديّ ممّا لا يعتنى بها بعدما تبيّن فسادها؛ على أنّه يمكن أن لا يكون المراد منها ما سلف، بل يكون المراد: أنّ المعاني المجازيّة مدلولات التزاميّة بالنسبة إلى المعاني الحقيقيّة؛ لما اشتهر بينهم: أنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم(1).

فعلى هذا تكون المعاني المجازيّة بأسرها لوازم للمعاني الحقيقيّة، فلو كان المعتبر في الالتزام اللزوم الذهنيّ، يلزم خروج المعاني المجازيّة عن كونها مدلولات التزاميّة؛ لعدم لزوم تعقّلها مِنْ تعقّل المعاني الحقيقيّة بأنفسها، بل بمعونة القرينة.

فعلى هذا لا يلزم أن تكون دلالة الألفاظ المجازيّة عند استعمالها في المعاني المجازيّة وإرادتها منها، لا المعاني الحقيقيّة التزامًا؛ لوضوح أنّ المعنى الواحد قد يكون مدلولًا التزاميًّا في وقت ومطابقيًّا في آخر، وبالعكس باعتبارات مختلفة(2).

إيراد وتخليص
اشارة

اعلم: أنّه يتوجّه في المقام إشكالان:

الإشكال الأوّل

الأوّل: أنّه على تقدير أن لا تكون دلالة الألفاظ المجازيّة على المعاني المجازيّة

ص: 181


1- ينظر قوانين الأصول: 1/ 77، والإيضاح، للخطيب القزوينيّ: 330.
2- جاء في حاشية الأصل: ومقتضى ذلك أنّ المعاني المجازيّة عند استعمال الألفاظ في معانيها الحقيقيّة تكون مدلولات التزاميّة، وعند استعمالها فيها لا في المعاني الحقيقيّة تكون مدلولات مطابقيّة. منه.

التزامًا، ينتقض طرد حدّ الالتزام بدخول تلك الدلالة فيه؛ إذ يصدق عليها أنّها دلالة اللفظ على الخارج اللازم للموضوع له.

الإشكال الثاني

والثاني: أنّ الحكم بكون الدلالة في المجازات مطابقة، ينافي ما تقدّم من أنّ المطابقة دلالة ابتدائيّة، أي بلا واسطة معنى، وهنا ليس كذلك؛ لأنّ الانتقال إلى المعاني المجازيّة كثيرًا ما يكون بعد الانتقال إلى المعاني الحقيقيّة، فلا يكون الانتقال إليها ابتدائيًّا بالمعنى المتقدّم.

الجواب عن الإشكال الأوّل
اشارة

ويمكن الجواب عن الأوّل من وجهين:

الوجه الأوّل: في أنّ الدلالة على الخارج اللازم ليس التزامًا مطلقًا

الأوّل: أنّا لا نسلّم أنّ مطلق الدلالة على الخارج اللازم التزام، بل فيما إذا كان الخارج غير مراد ومفهومًا بواسطة الملزوم المراد؛ ومعلوم أنّ الكلام في المعاني المجازيّة فيما إذا كان اللفظ مستعملًا فيها ومرادة بخصوصيّاتها، وكلماتهم في مقام التقسيم، حيث لم ينبّهوا على ذلك(1)؛ لعدم كون القصد هناك تعريف الدلالات حتّى يبالغ في ذكر القيود، بل المقصود تقسيمها إلى الأقسام المذكورة بحيث يشعر بالتعريف في الجملة، وما ذكروه فيما مسّت الحاجة إليه ردًّا على من زعم اعتبار

ص: 182


1- جاء في الأصل هنا: «مبنيّ على المسامحة»، لكن شطب عليه.

الإرادة في الدلالة على ما سلف قرينةٌ على ذلك.

وأيضًا ذكر في كثير من الكتب: أنّ التضمّن دلالة اللفظ على جزء الموضوع له، مع أنّ مطلق الدلالة على الجزء ليس من التضمّن في شيء، بل إنّما كانت تضمّنًا إذا كان الجزء غير مراد بخصوصه ومفهومًا في ضمن فهم الكلّ المراد كما عرفت، ولهذا يقال لها: التضمّن؛ لكونها في ضمن الدلالة على الكلّ، ومنه يظهر الحال في الالتزام.

الوجه الثاني: إرادة المعنى العامّ من الوضع في الالتزام يستلزم امتناع تحقّق الالتزام بالنسبة إلى الحقائق، مع الجواب عنه

والثاني: أنّك قد عرفت ممّا أسلفناه أنّ الوضع المأخوذ في المطابقة الوضع بالمعنى العامّ، فبالمقايسة يظهر أنّ الأمر في كلّ من التضمّن والالتزام أيضًا كذلك؛ فعلى هذا نقول: إنّا لا نسلّم أنّه يصدق على دلالة المجازات على المعاني المجازيّة أنّها دلالة اللفظ على الخارج عن الموضوع له بالمعنى المذكور؛ لوضوح أنّها دلالة على الموضوع له بذلك المعنى كما لا يخفى؛ وإنّما يكون خارجًا عن الموضوع له بالمعنى الخاصّ المختصّ بالحقائق، وليس الكلام فيه.

لكن(1) يتوجّه عليه: أنّه لو كان المراد من الوضع الّذي اعتبر خروج المدلول الالتزاميّ عنه الوضع بالمعنى العامّ، لامتنع تحقّق الالتزام بالنسبة إلى المعاني الحقيقيّة؛ لوضوح أنّ كلّ معنى لازم للمعنى الحقيقيّ يكون ذلك معنًى مجازيًّا بالنسبة إليه، فيتحقّق فيه الوضع بالمعنى العامّ، فلا يصدق في دلالة اللفظ

ص: 183


1- في «ق»: ولكن.

المستعمل في المعنى الحقيقيّ على لازمه أنّه دلالة على الخارج عن الموضوع له بالمعنى المذكور؛ لكونه موضوعًا له بالمعنى المذكور.

فحينئذٍ يفسد عليك ما أَذعَنْتَ به آنفًا من تحقّق الالتزام بالنسبة إلى المعنى الحقيقيّ ومن(1) أنّ المعاني المجازيّة مدلولات التزاميّة بالنسبة إلى الألفاظ الحقيقيّة، فينحصر إمكان الالتزام بالنسبة إلى المعاني المجازيّة(2)، وفساده ممّا لا يعتريه شكّ وريبة.

ومنه يظهر فساد القول بما تقدّم من أنّ دلالة المجازات على(3) المعاني المجازيّة مطابقة؛ لأنّ المفسدة المذكورة مترتّبة عليه، إلّا أن يراد من الوضع في حدّ المطابقة كلا المعنيين: الخاصّ بالنسبة إلى الحقيقة، والعامّ بالنسبة إلى المجاز، لكن يلزم حينئذٍ إمّا الجمع بين معنيي المشترك، أو بين المعنى الحقيقيّ والمجازيّ، ومع ذلك لا يندفع معه الانتقاض المذكور، بل هو مبنيٌّ عليه.

أو يراد من الوضع في حدّ المطابقة الوضع بالمعنى العامّ، وفي حدّ الالتزام الوضع بالمعنى الخاصّ أو الأعمّ؛ وهو مع تكلّفه وعدم اندفاع الانتقاض معهما، يكون الثاني منهما مستلزمًا لأحد الأمرين المذكورين(4) على التقدير الأوّل.

ص: 184


1- في «ق»: من.
2- جاء في حاشية الأصل: إذ اللازم للمعنى المجازيّ ليس معنًى مجازيًّا؛ لأنّ المعتبر في المجاز العلاقة بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازيّ، لا بين معنى وبين المعنى المجازيّ، فلا يتحقّق في لازم المعنى المجازيّ من هذه الجهة الوضع مطلقًا ولو كان بالمعنى العامّ. منه.
3- في «ق»: إلى.
4- جاء في حاشية الأصل: وهو إمّا استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد في آن واحد، أو الجمع بين المعنى الحقيقيّ والمجازيّ كذلك. منه.

ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأنّا لا نسلّم لزوم المفسدة المذكورة من امتناع تحقّق الالتزام بالنسبة إلى المعاني الحقيقيّة على تقدير أن يكون المراد من الوضع في حدّي المطابقة والالتزام الوضع بالمعنى العامّ؛ لوضوح عدم التنافي بين المعنيين للوضع؛ لعدم منافاة العامّ للخاصّ؛ لعدم انفكاكه عنه.

فعلى هذا نقول: إنّ اللفظ المستعمل في المعنى الحقيقيّ يصدق على دلالته عليه أنّها دلالة على تمام الموضوع له بالوضع العامّ، لكنّ الوضع بالمعنى العامّ فيه في ضمن الوضع بالمعنى الخاصّ ومتّحد معه في الوجود ومتحقّق بتحقّقه؛ والالتزام بالنسبة إلى كلّ معنى يكون الوضع فيه تابعًا لوضع ذلك المعنى، فلو كان ذلك المعنى معنًى حقيقيًّا للّفظ، يكون الوضع بالمعنى العامّ فيه ما كان متحقّقًا بتحقّق الخاصّ وموجودًا بوجوده، فالالتزام بالنسبة إليه دلالة اللفظ على الخارج عن الموضوع له بالوضع بالمعنى العامّ الّذي يكون متحقّقًا فيه، فلا ينافي ثبوت الوضع بالمعنى العامّ الّذي لم يكن(1) كذلك بالنسبة إلى اللازم.

فعلى هذا لا يلزم انتفاء مطلق الوضع بالمعنى العامّ في المعاني الالتزاميّة مطلقًا، بل اللازم انتفاء الوضع بالمعنى العامّ المتحقّق في ضمن الخاصّ والموجود بوجوده في المعنى الالتزاميّ الّذي يكون بالنسبة إلى المعنى الحقيقيّ، وانتفاء الوضع بالمعنى

ص: 185


1- جاء في حاشية الأصل: أي لم يكن في ضمن الخاصّ وموجودًا بوجوده ومتحصّلًا بتحصّله. منه.

العامّ مطلقًا في المعنى الالتزاميّ الّذي يكون بالنسبة إلى المعنى المجازيّ، فلا يلزم امتناع تحقّق الالتزام بالنسبة إلى المعاني الحقيقيّة، مع كون المراد من الوضع الّذي اعتبر خروج المدلول الالتزاميّ عنه الوضع بالمعنى العامّ.

فاندفعت المفسدة المذكورة، مع عدم لزوم الجمع بين المعنيين للمشترك، أو المعنى الحقيقيّ والمجازيّ، لكن لم يندفع معه الانتقاض المذكور كما لا يخفى، فيكتفى في دفعه بالجواب الأوّل، فلا تغفل.

الجواب عن الإشكال الثاني

والجواب عن الثاني: بأنّ كون(1) المطابقة دلالة أوّليّة، ليس من الأمور الاتّفاقيّة حتّى يقاس(2) في المخالفة، وإنّما هو شيء ذكره بعض، وكيف؟! مع أنّه قد مرّ من المحقّق التفتازانيّ حكاية مطابقيّة المجازات عن الأكثر(3).

على أنّه يمكن أن يقال: إنّ دلالة المجازات على المعاني المجازيّة أيضًا ابتدائيّة بالمعنى المتقدّم؛ لأنّه وإن حصل الانتقال عند استماع اللفظ مع انتفاء ملاحظة القرينة إلى المعنى الحقيقيّ أوّلًا، ثمّ إلى المعنى المجازيّ، لكن لا يبعد أن لا يكون ذلك مُضرًّا بكون الدلالة على المعنى المجازيّ أوّليّة.

ص: 186


1- في «ق»: بأن يكون.
2- كذا في الأصل.
3- ينظر المطوّل: 407.

أمّا على(1) القول بأنّ الدالّ على المعاني المجازيّة اللفظ مع القرينة فظاهرٌ، إذ قبل ملاحظة القرينة وإن انتقل الذهن إلى المعنى الحقيقيّ، لكن ليس ذلك من الدالّ على المعنى المجازيّ، بل من جزئه قبل العلم بالقرينة الّتي هي الجزء الآخر من الدالّ، وبعد العلم بالمجموع وإن حصل العلم بالدالّ على المعنى المجازيّ، لكن حينئذٍ لا ينتقل الذهن إلى المعنى الحقيقيّ أوّلًا، ثمّ بواسطته إلى المعنى المجازيّ حتّى لا يكون الانتقال إلى المعنى المجازيّ ابتدائيًّا كما لا يخفى.

وأمّا على القول بأنّ الدالّ اللفظ بشرط القرينة فكذلك، إذ الدالّ على المعنى المجازيّ حينئذٍ ليس نفس اللفظ مطلقًا، بل مع ملاحظة القرينة، فقبل الملاحظة ليس علمًا بالدالّ، وبعدها لا يحصل الانتقال إلى المعنى الحقيقيّ أوّلًا، ثمّ بواسطته إلى المعنى المجازيّ، بل الانتقال حينئذٍ إلى المعنى المجازيّ، فتأمّل.

إيراد آخر
إيراد كلام لتنبيه مرام

اعلم: أنّ في المقام إيرادًا آخر، وهو أنّ ما تقدّم من أنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم وإن اشتهر فيما بينهم، لكنّه غير صحيح على وجه العموم والإطلاق، بل إنّما يصحّ في قليل من أنواعه، وهو ما إذا كان اللفظ موضوعًا للملزوم واستعمل في لازمه، كما في قولك: «رعينا الغيث»، حيث يكون المراد منه لازمه، وهو النبات؛ وأمّا في غيره من الأقسام المتكثّرة فلا كما لا يخفى.

ص: 187


1- «على» لم ترد في «ق».

فكيف مع أنّه قد يكون الحال في المجاز على عكس ما ذكر بأن يكون اللفظ موضوعًا للّازم واستعمل في الملزوم، كما في قولك: «أمطرت السماء نباتًا»، فهناك يكون الانتقال من اللازم إلى الملزوم، فكيف يصحّ الحكم بأنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم على الإطلاق؟!

وهذا لا دخل لكون الدلالة في المجازات مطابقة في ذلك، بل هو يؤكّده ويفسد القول بأنّها التزام، إذ الالتزام انتقال من الملزوم إلى اللازم، وليس الأمر في جميع المجازات كذلك كما عرفت، والفارق مفقود.

الجواب عن الإيراد

ويمكن الجواب عن ذلك: بأنّ كلّ مجاز لا بدّ له من العلاقة بينه وبين الموضوع له، وقد عرفت فيما سبق أنّ العلاقة اتّصال ما للمستعمل فيه بالموضوع له، والمراد باللزوم المعتبر عند علماء العربيّة هو اللزوم في الجملة، ولعلّ المقدار المذكور في تعريف العلاقة يكفي لتحقّق هذا اللزوم؛ وهذا مراد من قال: إنّ مرجع جميع العلاقات إلى اللزوم(1).

والحاصل: أنّ اللزوم المعتبر في هذا المقام اللزوم في الجملة، وهو أعمّ من أن يفهم الخارج بمحض حصول الموضوع له في الذهن، أو بعد الاطّلاع والتأمّل في القرائن كما في المجازات. 

ص: 188


1- لم نعثر عليه.

في واضع اللغات

والمقام الثالث: في التكلّم إلى أصل المطلب والبحث عن تحقيق المقصد
اشارة

والمقام الثالث: في التكلّم إلى(1) أصل المطلب والبحث عن تحقيق المقصد

وهو الكلام في تعيين الواضع للحقيقة اللغويّة، أي الواضع للألفاظ بإزاء معانيها الأصليّة(2)، فنقول: قد اختلفت الآراء والمذاهب في ذلك إلى(3) أقوال أربعة:

ص: 189


1- كذا في الأصل، والصواب: عن.
2- جاء في حاشية الأصل: فيه تنبيه على أنّ محلّ النزاع في هذه المسألة إنّما هو وضع الألفاظ المتداولة بإزاء معانيها الابتدائيّة، بخلاف الاصطلاحات الخاصّة المستعملة في العلوم والصنائع المتكثّرة والأعلام، فإنّ الواضع فيها هو البشر، وهو ظاهر، وقد ادّعى جماعة منهم على ذلك الاتّفاق، وهكذا الحال في العرفيّة العامّيّة. ومن العجائب ما وقع لبعض في هذا المقام حيث اختار اصطلاحيّة اللغات، واستدلّ على ذلك بأنّا نعلم بالبديهة أنّ كثيرًا من اللغات حدثت من الناس في وقت لم يكن بينهم نبيّ؛ إلى أن قال: وبالجملة: نحن نعلم أنّ لغة واحدة تتغيّر بحيث تخرج عن الوضع الأوّل، كما هو ظاهر من لغة العرب والفرس؛ وهذا التغيير والتبديل لا شكّ في استناده إلى البشر، انتهى [أنيس المجتهدين: 1/ 38]. وهو مسلّم عند الكلّ كما عرفت، فلا وجه لجعله دليلًا على مورد النزاع كما لا يخفى. منه.
3- كذا في الأصل، والأولى: على.
الأقوال في واضع اللغات
القول الأوّل

الأوّل: توقيفيّة الجميع، بمعنى أنّ الوضع في جميع الألفاظ مستند إلى الله تعالى، وعلم العباد به إنّما هو بتوقيفه وإعلامه سبحانه؛ ولذا يسمّى هذا المذهب توقيفيًّا. وهو المنقول عن أبي الحسن الأشعريّ وابن فورك(1) وجماعة من الفقهاء(2).

القول الثاني

والثاني: اصطلاحيّة الجميع، أي الواضع في الجميع مِنْ المخلوقين واحدٌ أو متعدّدٌ، فتكون اللغات على هذا التقدير من اصطلاحاتهم؛ ولهذا يقال: إنّها اصطلاحيّة، أي اصطلاح من المخلوقين؛ لافتقارهم في أمر معاشهم ومعادهم إلى المحاورات والمخاطبات، وذلك لا يتمّ إلّا بتعيين ألفاظ مخصوصة لمعاني معهودة.

ص: 190


1- هو أبو بكر محمّد بن الحسن بن فورك الأنصاريّ الأصبهانيّ الشافعيّ، سمع بالبصرة وبغداد، وحدّث بنيسابور وبنى فيها مدرسة، وتوفّي على مقربة منها سنة 406ق، ونقل إليها. قيل: قتله محمود بن سبكتكين بالسمّ لقوله: كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) رسولًا في حياته فقط وأنّ روحه قد بطلت وتلاشىت. له كتب كثيرة في أصول الدين وأصول الفقه ومعاني القرآن تناهز المائة، منها: الحدود في الأصول، مشكل الحديث وغريبه، وحلّ الآيات المشكلات(الأعلام: 6/ 83).
2- نقله عنهم في المحصول: 1/ 57، والإحكام، للآمديّ: 1/ 109 و111، ومبادئ الوصول: 3، وتهذيب الوصول: 41، وغاية الوصول: 1/ 206، ونهاية الوصول: 1/ 151، ومنية اللبيب: 1/ 111، ومفاتيح الأصول: 3، والتمهيد، للأسنويّ: 137، وتمهيد القواعد: 81، وينظر الإحكام، لابن حزم: 1/ 32.

وهو المحكيّ عن أبي هاشم(1) وأصحابه وجماعة من المتكلّمين(2).

والوضع على هذا التقدير إمّا من واحد من أهل كلّ لغة، أو من جماعة كذلك تواطئوا على وضعها لمعانيها، أو من واحد أو جماعة(3) بالنسبة إلى كلّ اللغات.

إن قلت: لا شبهة على القولين إنّما يكون علم غير الواضع باللغات من إعلام الواضع وإيقافه، فهلّا سمّي القولان توقيفيًّا مع اشتراك مقتضى التسمية بينهما؟

قلنا: التوقيفيّة اللغويّة وإن اشتركت بينهما، إلّا أنّها غير مقتضية للتسمية في الاصطلاح؛ لجريانه في تسمية التوقيف فيما إذا كان من قبل الشرع، فالمتحقّق على القول الثاني - وهو مطلق التوقيف - غير مقتض للتسمية، والمقتضى - وهو التوقيف الخاصّ - غير متحقّق.

القول الثالث

والقول الثالث: التوزيع بأن يكون بعض اللغات توقيفيًّا والآخر اصطلاحيًّا.

ص: 191


1- هو عبد السلام بن محمّد بن عبد الوهّاب الجبّائيّ، أبو هاشم (277 - 321 ق) من كبار متكلّمي المعتزلة، له آراء انفرد بها، وتبعته فرقة سمّيت «البهشميّة»، له مصنّفات، منها: الشامل في الفقه، وتذكرة العالم، والعدّة في الأصول (ينظر الأعلام: 4/ 7، والملل والنحل: 1/ 103، والمعتزلة: 1/ 153).
2- ينظر تهذيب الوصول: 42، ومبادئ الوصول: 64، وغاية الوصول: 1/ 206، ونهاية الوصول: 1/ 150، ومنية اللبيب: 1/ 111، وتمهيد القواعد: 81، وأنيس المجتهدين: 1/ 37- 38، ومفاتيح الأصول: 3، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 182.
3- في «ق»: في جماعة.

وأرباب هذا القول قد افترقوا فرقتين، فبعضهم ذهب(1) إلى أنّ القدر الضروريّ المفتقر إليه في تعريف الاصطلاح توقيفيّ والباقي اصطلاحيّ، وهو ما ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائنيّ(2) على ما حكاه بعضهم(3)، لكن صرّح جمعٌ بأنّ مذهبه في القدر المفتقر إليه في التعريف هو ما ذكر، وأمّا الباقي فيحتمل الأمرين من التوقيف والاصطلاح(4).

والفرقة الأخرى ذهبوا إلى عكس ذلك بأنّ القدر المفتقر إليه في التعريف اصطلاحيّ والباقي توقيفيّ(5).

ص: 192


1- في «ق»: ذهبوا.
2- هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم الإسفرايينيّ، المعروف بالأستاذ والملقّب بركن الدين، ولد في اسفرايين - بين نيسابور وجرجان - ثمّ خرج إلى نيسابور وبنيت له فيها مدرسة عظيمة فدرّس فيها، ومكث في نيسابور حتّى مات فيها سنة 418ق، ودفن في اسفرايين، له رسالة في أصول الفقه (الأعلام: 1/ 61).
3- حكاه عنه العلّامة الحلّيّ في غاية الوصول: 207، ونهاية الوصول: 1/ 151، والآمديّ في الإحكام: 1/111، والأسنويّ في التمهيد: 138، والحلّيّ في منية اللبيب: 1/ 111، والسيّد المجاهد في مفاتيح الأصول: 3، وينظر زبدة الأصول: 61، وأنيس المجتهدين: 1/ 37 -38، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/182.
4- ينظر نهاية الوصول: 1/ 151، ومفاتيح الأصول: 3، وتمهيد القواعد: 82، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 22.
5- ينظر المحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 58.
القول الرابع

والقول الرابع: التوقّف في ذلك؛ لعدم ما يوجب العلم ببعضها معيّنًا مع إمكان الجميع عقلًا، وهو المحكيّ عن القاضي أبي بكر والغزّالي(1)، واختاره العلّامة في النهاية بعد حكايته عن جمهور المحقّقين(2).

مختار المصنّف ومستنده
اشارة

والقول الأوّل هو المختار، والمستند في ذلك وجوه:

الدليل الأوّل
اشارة

منها: قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(3)، وجه الاستدلال: أنّه لا يجوز أن يكون المراد من الاسم في الآية ما هو المعروف بين النحاة؛ لأنّه عرفٌ خاصٌّ حادثٌ، فلا يجوز أن يكون محملًا لكلام الله سبحانه.

وأيضًا أنّ العلم بخصوص الاسم المصطلح عليه عندهم لا يصلح أن يكون

ص: 193


1- نقله عن القاضي في التمهيد: 138، ومن المتوقّفين: الرازيّ في المحصول: 1/ 64، وابن السبكيّ في رفع الحاجب: ج 1، قاعدة 69، واستقر به العلّامة في نهاية الوصول: 1/ 158، وينظر التقريب والإرشاد:1/ 320، والمستصفى: 2/ 10، وغاية الوصول: 1/ 207، والإحكام، للآمديّ: 1/ 57 - 59.
2- نهاية الوصول: 1/ 151، ونسبه الفخر الرازيّ أيضًا إلى جمهور المحقّقين في المحصول: 1/ 182، وهو مختاره أيضًا في: ص 192، وينظر أنيس المجتهدين: 1/ 38.
3- سورة البقرة: 31.

سببًا لتفضيل آدم على الملائكة كما يقتضيه سوق الآية.

ولأنّه لا شبهة في أنّ مِن فوائد تعليم الأسماء استعمالها في المخاطبات والمحاورات؛ والاقتصار بالأسماء في المحاورات من غير الاستمداد من الأفعال والحروف ممّا يتعسّر، بل ربّما يمكن دعوى تعذّره.

بل المراد منه إمّا ما يفهم منه في العرف العامّ، وهو على ما صرّح به جمع من المحقّقين كالفاضل البيضاويّ وغيره(1): اللفظ الموضوع لمعنى، أو معناه اللغويّ بناءً على اشتقاقه من «السمة»، أي العلامة، أو ما يعمّ الألفاظ وغيرها من أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات؛ لبعد أن يكون العلم بخصوص اللغات سببًا لتفضيله (علیه السلام) على الملائكة، وعلى جميع التقادير يثبت المرام(2).

الاعتراض على القول بالتوقيف
اشارة

واعترض عليه من وجهين:

الاعتراض الأوّل
اشارة

الأوّل: بالنسبة إلى لفظ «التعليم»، تقريره: أنّ الاستدلال مبنيٌّ على كون المراد من التعليم التفهيم، وهو غير لازم؛ لجواز أن يكون المراد منه الإلهام، كما في قوله

ص: 194


1- تفسير البيضاويّ: 1/ 69، وينظر تفسير أبي السعود: 1/ 84، وإشارات الأصول: 1/ 11.
2- ينظر تهذيب الوصول: 42 -43، ونهاية الوصول: 1/ 152، ومنية اللبيب: 1/ 112، وزبدة الأصول: 53، وأنيس المجتهدين: 1/ 39، وإشارات الأصول: 1/ 11، ومفاتيح الأصول: 3.

تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾(1)، فحينئذٍ يكون المعنى: وألهم الله تعالى آدم بأن يضع الأسماء؛ أو الإقدار، أي: أقدره على وضعها(2).

سلّمناه، لكنّه غير مستلزم للمطلوب؛ لجواز أن يكون تعالى علّمه ما اصطلح عليه غيره قبل آدم، ويستفاد من النصوص الواردة عن أهل الخصوص وجود الخلق في الأرض قبل آدم (علیه السلام) وقد روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره في الصحيح أو الحسن مثله عن مولانا الصادق (علیه السلام) أنّه قال:

إنّ الله تبارك وتعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، فدخل في أمر(3) الملائكة إبليس، وإنّ(4) إبليس كان مع(5) الملائكة في السماء يعبد الله وكانت الملائكة تظنّ أنّه منهم ولم يكن منهم، فلمّا أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم، أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد، فعلم الملائكة عند ذلك أنّ إبليس لم يكن منهم(6).

فقيل له (علیه السلام): فكيف وقع الأمر على إبليس وإنّما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم؟ فقال: كان إبليس منهم بالولآء(7) ولم يكن من جنس الملائكة؛ وذلك أنّ الله

ص: 195


1- سورة الأنبياء: 80.
2- ينظر تهذيب الوصول: 42، ونهاية الوصول: 1/ 155، ومنية اللبيب: 1/ 114، وزبدة الأصول: 63، ومفاتيح الأصول: 3، وإرشاد الفحول: 13، والإحكام، للآمديّ: 1/ 75.
3- في المصدر: في أمره.
4- في المصدر: وإبليس فإنّ.
5- في المصدر: من.
6- في المصدر: مثلهم.
7- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي يكون مولى وعبدًا وأسيرًا، فالأمر يشمله.

خلق خلقًا قبل آدم وكان إبليس فيهم(1) حاكمًا في الأرض، فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله الملائكة، فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه إلى السماء، فكان(2) مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله تبارك وتعالى آدم(3).

والنصوص الدالّة على وجود الجنّ والنسناس قبل آدم (علیه السلام) كثيرة(4).

أو علّمه تعالى ما وقع من ولده بعده من الاصطلاحات واللغات؛ لأنّ المستقبل والحال والماضي بالنسبة إليه تعالى سواء.

والحاصل: أنّ غاية ما يلزم بعد حمل «التعليم» على المعنى المذكور أن يكون(5) الأسماء ممّا علّمه الله تعالى آدم (علیه السلام) وهو أعمّ من أن يكون من موضوعاته تعالى أو موضوعات غيره، والعامّ لا دلالة له على الخاصّ، فلا يثبت المرام.

وعلى تقدير تسليم أن يكون الوضع مستندًا إلى الله تعالى، إنّما يجدي إذا ثبت أنّ الأسماء الّتي علّمها(6) الله تعالى آدم (علیه السلام) هي الأسماء المتداولة عندنا، وأنّى لكم إثبات ذلك؟!

وكيف؟! مع أنّه قد شاع وذاع حتّى خرق الأسماع أنّ اللغة العربيّة إنّما حدثت

ص: 196


1- في المصدر: منهم.
2- في المصدر: وكان.
3- تفسير القمّي: 1/ 35- 36.
4- ينظر بحار الأنوار: 54/ 316، باب العوالم ومن كان في الأرض قبل خلق آدم (علیه السلام) .
5- كذا في الأصل، والصواب: أن تكون.
6- في «ق»: علّم.

في زمان إسماعيل (علیه السلام) وأنّ العرب من ولده(1)، ومعلوم أنّ النزاع إنّما هو في الألفاظ المستعملة في هذه الأزمان.

الجواب عن الاعتراض الأوّل

ويمكن الجواب: بأنّ حمل التعليم على ما ذكر مجاز والأصل في الاستعمال الحقيقة، فلا يصار إلى التجوّز إلّا مع القرينة الصارفة، وهي في المقام منتفية، وحمله على الإلهام في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾(2) مع القرينة لا يوجب الحمل فيما نحن فيه عليه؛ لوضوح أنّ التجوّز لموجب لا يوجبه مع انتفاء الموجب.

على أنّ الحمل على الإلهام مطلقًا غير منافٍ للمرام؛ لجواز أن يكون الله تعالى واضعًا للألفاظ وألقى موضوعاته تعالى على آدم (علیه السلام) بالإلهام؛ وإنّما يكون منافيًا إذا كان التقدير: وألهم آدم أن يضع الأسماء، فيتعدّد التجوّز، والتجوّز الواحد مرجوح بالنسبة إلى ما لم يلزم فيه ذلك، فضلًا عن المتعدّد، فحمل التعليم على ظاهره أولى.

وأمّا حكاية الاصطلاح السابق أو اللاحق فبعيد.

أمّا أوّلًا: فلبعد استناد الله تعالى أفضليّة آدم من الملائكة إلى علمه بما اصطلح عليه غيره تعالى، وسيجيء ما يؤكّد ذلك.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ التعليم في قول الملائكة فيما بعد ذلك في مقام الاعتذار:

ص: 197


1- ينظر مجمع البيان: 1/ 152، والمزهر، للسيوطيّ: 1/ 28، ومفاتيح الأصول: 3.
2- سورة الأنبياء: 80.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾(1)، الظاهر أنّه ليس في الاصطلاح السابق أو اللاحق، بل من الله سبحانه، فالمناسب أن يكون فيما نحن فيه أيضًا كذلك كما لا يخفى.

وأمّا ثالثًا: فلأنّ الظاهر من سوق الآية أنّ العلم بالأسماء صار سببًا لأفضليّة آدم من الملائكة -كما مرّت إليه الإشارة وسنتعرّض إليه مع بسط في العبارة- فلو كان ذلك التعليم تعليم اصطلاح سابق أو لاحق، يلزم أن يكون أهل ذلك الاصطلاح أيضًا أفضل من الملائكة؛ لتحقّق موجبه، وهو غير صحيح، فتأمّل.

وأمّا احتمال التغاير بين الأسماء الّتي علّمها الله تعالى آدم (علیه السلام) وبين المتداولة بيننا، فمدفوع بالأصل.

ما اشتهر من حدوث لغة العرب في زمان إسماعيل (علیه السلام) غير صحيح

وحكاية حدوث لغة العرب في زمان إسماعيل (علیه السلام) وإن اشتهرت في الألسنة وصرّح به بعض الأجلّة(2)، إلّا أنّها من الأكاذيب المشهورة والأغاليط المعروفة؛ لأنّ الحميريّين والعمالقة(3) وقوم ثمود وعاد كلّهم من العرب، وقد كانوا قبل إسماعيل (علیه السلام) بمدّة متطاولة، ووردت في

ص: 198


1- سورة البقرة: 32.
2- ينظر مجمع البيان: 1/ 152، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 23، ومفاتيح الأصول: 3.
3- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): العمالقة قوم من ولد عمليق -كقنديل- بن لاوَذَ بن إِرَمَ بن سام بن نوح، وهم أمم تفرّقوا في البلاد، مجمع البحرين [: 5/ 218].

النصوص(1): أنّ أوّل من تكلّم بالعربيّة آدم (علیه السلام) (2).

نعم، آل عدنان -وهم طائفة من العرب- من ولد إسماعيل (علیه السلام) (3).

ويمكن أن يكون الوجه في اشتهار تلك الحكاية هو أنّ ذرّيّة آدم (علیه السلام) كانوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح، فلمّا أهلك الله الناس إلّا نوحًا (علیه السلام) ومَن معه في

ص: 199


1- قال السيوطيّ في المزهر: عن ابن عبّاس: أوّل من تكلّم بالعربيّة المحضة هو إسماعيل (علیه السلام)؛ وأراد به عربيّة قريش الّتي نزل بها القرآن، وأمّا عربيّة قحطان وحمير فكانت قبل إسماعيل (المزهر: 1/27). وقال القرطبيّ في تفسيره: واختلف في أوّل من تكلّم باللسان العربيّ، فروي عن كعب الأحبار: أنّ أوّل من وضع الكتاب العربيّ والسريانيّ والكتب كلّها وتكلّم بالألسنة كلّها آدم (علیه السلام)؛ وقاله غير كعب الأحبار. إلى أن قال: وروي عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّه قال: أوّل من فتق لسانه بالعربيّة المبينة إسماعيل، وهو ابن عشر سنين. وقد روي أيضًا: أنّ أوّل من تكلّم بالعربيّة يعرب بن قحطان، وقد روي غير ذلك. قلنا: الصحيح أنّ أوّل من تكلّم باللغات كلّها من البشر آدم (علیه السلام) والقرآن يشهد له، قال الله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ إلخ (تفسير القرطبيّ: 1/ 283).
2- جاء في حاشية الأصل: وعن ابن عبّاس: لمّا قتل قابيل هابيل، أشاك الشجر وتغيّرت الأطعمة وحمضت الفواكه وأمرّ الماء وأغبرت الأرض، فقال آدم: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل، فأنشأ يقول: تغيّرت البلاد ومن عليها *** فوجه الأرض مغبرّ قبيح تغيّر كلّ ذي لون وطعم *** وقلّ بشاشة الوجه الصبيح [ينظر بحار الأنوار: 11/ 219]. ومن هذه الأبيات يظهر كذب الحكاية المشهورة، والحمل على النقل بالمعنى بعيد جدًّا. منه.
3- شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 23.

الفلك، كانوا هم العارفين بتلك اللغات، فلمّا تفرّقوا اختار كلّ قوم منهم لغة، فتكلّموا بها وكان ما اختاروه غير لغة العرب، فبقيت غير مشهورة إلى زمان إسماعيل (علیه السلام) ثمّ اشتهرت في زمانه وتكلّم أولاده بها؛ ولذا اشتهرت حكاية حدوثها في زمانه (علیه السلام) .

الاعتراض الثاني

والثاني: بالنسبة إلى لفظ (الأسماء)، وهو أنّ الاستدلال المذكور مبنيّ على كون المراد من الأسماء في الآية الألفاظ واللغات؛ وهو غير مسلّم؛ لجواز أن يكون المراد منها المسمّيات والحقائق، بل الظاهر ذلك لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملَائِكَةِ﴾(1)، بناءً على أنّه لو كان المراد منها الألفاظ لقيل: عرضها؛ لئلّا يلزم ارجاع الضمير المختصّ بذوي العقول إلى غيرهم.

الجواب عن الاعتراض الثاني

والجواب عنه: أنّ حمل(الأسماء) على المعنى المذكور غير صحيح.

أمّا أوّلًا: فلأنّه معنى مجازيّ لا يصار إليه إلّا بعد قيام القرينة على ذلك، واحتمال إرادة المعنى المجازيّ من اللفظ لو كان مضرًّا بالاستدلال انسدّ باب الإفادة والاستفادة من الألفاظ، والضمير في (عرضهم) غير صالح لذلك؛ لرجوعه إلى المسمّيات، لكن لا لحمل(الأسماء) عليها، بل لكونها دالّة عليها التزامًا

ص: 200


1- سورة البقرة: 31.

كما لا يخفى، فالمرجع حينئذٍ متقدّمٌ معنىً، أو لكون الألف واللام في (الأسماء) عوضًا عن المضاف إليه الّذي هو عبارة عن المسمّيات كما في قوله تعالى: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾(1)، أي رأسه، فكأنّما يكون المرجع موجودًا لوجود عوضه، والمراد من المسمّيات ذوات الأشياء، وتذكير الضمير وكونه من الضمائر العائدة إلى العقلاء للتغليب.

إن قلت: إنّ حمل الاسم على المسمّى كما يكون مخالفًا للظاهر، كذلك ارجاع الضمير إلى غير المذكور في الكلام، فما وجه ترجيح الثاني على الأوّل؟

قلنا: وجهه أكثريّته من الأوّل وأنّ خلاف الظاهر على الأوّل أشدّ، سيّما على تقدير جعل الألف واللام عوضًا لما ذكر وارجاع ضمير(كلّها) في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(2) إليها، وأنّه لا معنى لتعليق التعليم بالمسمّيات إلّا بحذف مضاف(3)؛ مضافًا إلى ما ستقف عليه في الوجه الثاني.

وأمّا ثانيًا: فلقوله تعالى: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾(4)، وقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾(5) إلى آخره، بناء على أنّه لا شبهة في أنّ الظاهر من «الأسماء» المضاف في هذه المواضع: الألفاظ، لا المسمّيات، إذ لو كان المراد

ص: 201


1- سورة مريم: 4.
2- سورة البقرة: 31.
3- جاء في حاشية الأصل: أي علّم خواصّها أو طبائعها. منه.
4- سورة البقرة: 31.
5- سورة البقرة: 33.

منها تلك(1) لما افتقر إلى ذكر الأسماء، بل يكتفي فيها بقوله: أنبئوني بهؤلاء، وأنبئهم بهم، وأنبأهم بهم كما لا يخفى.

إن قلت: كون المراد من (الأسماء) في المواضع المذكورة الألفاظ وإن كان مسلّمًا، لكن لا يلزم منه أن تكون «الأسماء» في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ﴾ كذلك؛ لإمكان أن يكون المراد هناك المسمّيات مع كون المراد هيهنا الألفاظ، فتكون الأسماء التعليميّة مغايرة للأسماء المنبأ بها، بأن يكون الله تعالى علّم آدم المسمّيات، وهو بنفسه عيّن لها أسماء مخصوصة، ويكون استنباء الله تعالى من الملائكة بالأسماء المعيّنة من آدم (علیه السلام) فحينئذٍ لا يلزم استناد الوضع في الألفاظ واللغات إلى الله تعالى.

قلنا: قد ذكر لفظ (الأسماء) في أربعة مواضع متقاربة، وحيث قد ظهر إرادة الألفاظ في ثلاثة منها، يظهر منه إرادتها في ذلك الموضع أيضًا كما لا يخفى.

وأيضًا أنّه تعالى ذكر أوّلًا أنّه (عزوجلّ) علّم آدم الأسماء، ثمّ عرض وأظهر المسمّيات على الملائكة، ثمّ إنّه استنبأ منهم بأسمائهم، ثمّ ذكر عجز الملائكة عن الإنباء وأمر آدم بإنباء أسمائهم، كما قال سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ

ص: 202


1- جاء في حاشية الأصل: بناءً على كون الإضافة بيانيّة، أو إضافة العامّ إلى الخاصّ مع تأمّل في الأوّل. منه.

بِأَسْمَائِهِمْ﴾الآية(1).

والظاهر من سوق الآية بحيث لا يجحده إلّا العادل عن جادّة الإنصاف والسالك مسلك الجور والاعتساف، أنّ الأسماء الّتي أمر الله تعالى آدم بإنبائها هي الّتي علّمها أوّلًا، وإلّا لما [كان] حاجة إلى ذكر أنّه تعالى علّم آدم الأسماء أوّلًا كما لا يخفى، وحيث قد ظهر أنّ الأسماء الّتي أمره تعالى بإنبائها هي الألفاظ، تعيّن إرادتها في: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ﴾ أيضًا، فيثبت المرام.

ومن عجيب ما وقع لبعض(2) في هذا المقام [من] منع تماميّة الاستدلال بالآية بحمل(الأسماء) على أسماء الله الحسنى، وكأنّه غفل عمّا ذكره الله تعالى بعده، وكيف كان لا شبهة في فساده.

وما يدلّ على أنّ المراد من (الأسماء) في الآية الألفاظ واللغات، ما رواه شيخنا أبو الفضل عليّ بن الحسن بن الفضل الطبرسيّ -نوّر الله مرقده- في كتاب «الآداب الدينيّة» عن المعلّى بن الخنيس، عن مولانا الصادق (علیه السلام) في حديث طويل من جملته أنّه (علیه السلام) قال: يابن خنيس، ألا أدلّك على ما هو أبين من هذا؟ قلت: بلى يابن رسول الله، قال: خصّ الله تعالى آدم من تعليم كلّ شيء، قال الله (عزوجلّ) (3): ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ إلى قوله: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾(4)؛ وذلك أنّه (عزوجلّ) علّمه اسم كلّ شيء

ص: 203


1- سورة البقرة: 31- 33.
2- هو المحقّق النراقيّ في أنيس المجتهدين: 1/ 39.
3- في «ق»: تعالى.
4- سورة البقرة: 31- 33.

قبل أن يخلق ذلك الشيء، حتّى علّمه اسم الملح بجميع(1) اللغات(2).

الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة، ودلالته على ما ذكرنا ممّا لا يخفى.

الإيراد في المقام من وجه آخر

نعم، يمكن الإيراد في المقام من وجه آخر أعضل ممّا سلف، وهو أنّ الظاهر من سوق الآية الشريفة على ما أسلفنا إليه الإشارة أنّ العلم بالأسماء من آدم (علیه السلام) وعدم العلم من الملائكة صار موجبًا لأشرفيّته وأفضليّته منهم؛ وهو إنّما يصلح لذلك إذا كان الوضع فيها مستندًا إلى آدم (علیه السلام) ويكون ذلك من مخترعاته ومبتدعاته، حيث تمكّن من هذا الاختراع الغريب المشتمل على دقائق الحكم والابتداع العجيب المتضمّن للطائف البدع، بخلاف الملائكة.

وأمّا إذا كان الوضع فيها مستندًا إلى الله تعالى وكان علم آدم بها بإيقافه وأعلامه تعالى فلا، إذ الإيقاف والإعلام لو كان متوجّهًا بالنسبة إليهم لعلموها، والفضيلة والشرافة إنّما هو على هذا التقدير لله سبحانه، ومعلوم أنّه على أشرف الأنحاء في الذات والصفات.

نعم، إنّ العلم بالتعليم إنّما يصلح سببًا لأفضليّة العالِم من غيره إذا كان العلم من العالم بجدّه وكدّه وجهل غيره بتقصيره وترك طلبه، وكون المقام من هذا القبيل يدفعه سوق الآية، مضافًا في الثاني إلى الأمور الخارجة.

ص: 204


1- في «ق»: لجميع.
2- لم نجده في «الآداب الدينيّة للخزانة المعينيّة»، ولا في المصادر الروائيّة.

لا يقال: إنّ ذلك يمكن أن يكون للتفاوت في الاستعداد بأنّ آدم (علیه السلام) كان له استعداد للعلم بتلك المعلومات وبسببه(1) اختصّ بالتعليم، بخلاف الملائكة، فإنّه ليس لهم ذلك الاستعداد، فعلى هذا لا شبهة في صلاحيّة العلم وإن كان بالتعليم للأفضليّة.

لأنّا نقول: إنّ أصل المطلب وإن كان مسلّمًا، لكن كون المقام من هذا القبيل ممنوع؛ لوضوح أنّ اللغات ليس ممّا لا يكون للملائكة استعداد العلم بها.

ويمكن أن يقال: إنّ الإيراد المذكور متوجّه على قوله سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(2)، سواء كان الوضع مستندًا إليه سبحانه، أم لا؛ لأنّه تعالى نسب تعليم آدم (علیه السلام) إليه (عزوجلّ)، والإيراد متوجّه عليه سواء حمل التعليم على معناه أو الإلهام أو الإقدار، فإن استند إلى التفاوت في الاستعداد يدفع بأنّه كما أنّ العلم باللغات ليس ممّا لا يكون للملائكة استعداد به، كذلك الحال بالنسبة إلى الوضع فيها، فلا يصلح أن يكون وضع اللغات من آدم على تقديره بعد صدور الإلهام به منه سبحانه سببًا لأفضليّته من الملائكة.

نعم، إنّما يصلح ذلك فيما إذا توجّه الإلهام بالنسبة إليهم ولم يتحقّق الوضع منهم، ومن أين يعلم ذلك؟!

والحاصل: أنّ محطّ الإشكال نسبة التعليم إلى الله سبحانه، مع أنّ سوق الكلام يدلّ على أنّ ذلك العلم موجب للأفضليّة، سواء كان الوضع في المعلومات مستندًا

ص: 205


1- كذا في الأصل، وفي «ق»: وبسببه.
2- سورة البقرة: 31.

إليه سبحانه، أو إلى آدم (علیه السلام)؛ فهذا الإيراد على التقديرين متوجّه، لكنّ الظاهر ممّا أسلفناه الأوّل، فلا يرفع اليد عنه بالإيراد المتوجّه على تقدير عدمه أيضًا عملًا بمقتضى ما تقدّم، فتأمّل(1).

الجواب عن أصل الإيراد

ويمكن الجواب عن أصل الإيراد: بأنّه تعالى لمّا أخبر الملائكة بأنّه جاعل في الأرض خليفة، هَجَسَ(2) في نفوسهم أنّ الخليفة لو كانت من غيرهم لتحقّق في الأرض الفساد وسفك الدماء؛ لِمَا شاهدوا من الخلق الّذي كان قبل آدم على ما في الحديث السابق، وأنّها لو كانت منهم لما يقع فيها شيء من ذلك مع اعتقادهم باستحقاقهم لخلافة الأرض وكدخدائيّتها(3) والسياسة فيها، فقالوا: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾(4)، لا اعتراضًا، بل ترغيبًا لكون الخليفة منهم لفرط رغبتهم في ذلك.

ص: 206


1- جاء في حاشية الأصل: وجه التأمّل ظهور الفرق بين وضع اللغات واختراعها وبين العلم بها بتعليم الغير بكون الأمر في الثاني أسهل جدًّا، فيمكن أن لا يكون لهم استعداد الوضع فيها واختراعها، مع أنّ الأمر بعلمها بتعليم الغير أن لا يكون كذلك، فعلى هذا يمكن أن يقال: إنّ الإلهام بوضعها لآدم لتمكّنه بذلك وعدم الإلهام به للملائكة لعدم تمكّنهم منه، فتأمّل. منه.
2- هَجَسَ الأمر من باب قَتَلَ وقَطَعَ: خطر في باله (مجمع البحرين: 4/ 124).
3- كلمة فارسيّة (كد خداي) مشتقّة من (كد خدا) أي: تدبير المنزل، وإدارة البيت، تكملة المجامع العربيّة: 9/ 46.
4- سورة البقرة: 30.

ولمّا كان الله تعالى عالمًا بعدم صلاحيّتهم لكدخدائيّة الأرض وعمارتها والسياسة فيها لافتقارها إلى تدابير وأفعال وأمور لا يمكن صدورها إلّا من بني آدم مع سائر الحِكَم في خلقه الّتي من جملتها ظهور شقاوة إبليس، قال أوّلًا في جوابهم بعنوان الإجمال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(1) في كون الخليفة من غيركم وعدم كونه منكم.

ثمّ خلق آدم وعلّمه الأسماء -أي جميع اللغات- بأنّ كلّ لفظ معناه ماذا، وخواصّ المسمّيات وما يفتقر إليه في كدخدائيّة الأرض وعمارتها من الصناعات المختلفة وغيرها.

ثمّ عرض المسمّيات على الملائكة فقال: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾(2)، ثمّ بعد عجزهم أمر آدم (علیه السلام) بإنبائهم، فلمّا أنبأهم بأسمائهم وخواصّهم وما يفتقر إليه في عمارة الأرض والسياسة فيها من الحِرَف والصنائع ولطائف الحيل والتدابير، ظهر عليهم أنّهم ما كانوا صالحين لكدخدائيّة الأرض وخلافتها.

فعلى هذا لا يكون نفس العلم بتلك الأسماء سببًا للأفضليّة؛ إذ المفروض أنّ العلم بتعليم الله سبحانه، ولو كان التعليم متوجّهًا بالنسبة إليهم أيضًا، لتمكّنوا من العلم، بل العلم بها مع صلاحيّته للكدخدائيّة واستحقاقه للخلافة والسياسة بخلافهم، فلمّا انكشف عليهم حقيقة الحال وتبيّن لهم ما خفي عنهم في مقام

ص: 207


1- سورة البقرة: 30.
2- سورة البقرة: 31.

السؤال، قال سبحانه: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(1).

ومن هنا استبان ثبوت الأفضليّة لآدم (علیه السلام) مع كون الوضع مستندًا إليه تعالى، فاندفع الإيراد، لكن بناءً عليه يتوجّه الاعتراض في بعض المطالب السالفة يظهر(2) للمتأمّل في المباحث السابقة والآتية.

ويمكن أن يجاب أيضًا: بأنّه تعالى لمّا خصّ التعليم بآدم (علیه السلام) دون الملائكة، بل أمر بإنبائه لهم، علم أنّ له مزيّة عليهم، وإلّا لما [كان] وجه لهذا الاختصاص.

والقول بأنّ العلم باللغات وخواصّ المسمّيات ليس ممّا لا يكون للملائكة له استعداد، من قبيل الاجتهاد في مقابلة النصّ والاستبعاد بعد قيام الدلالة، بناءً على أنّ الظاهر من سوق الآية على ما أسلفناه غير مرّة أنّ خصوص العلم موجب للأفضليّة، فتأمّل(3).

إيرادٌ آخر
وجه اختلاف اللغات في ذرّيّة آدم مع علمه بجميع اللغات

ثمّ إنّ هنا إيرادًا آخر، وهو أنّ المفروض أنّه تعالى علّم آدم (علیه السلام) اللغات

ص: 208


1- سورة البقرة: 33.
2- كذا في الأصل، والصواب: كما يظهر، كما في «ق».
3- جاء في حاشية الأصل: وجهه: هو أنّه يمكن أن يقال: إنّ تخصيص تعليم الأسماء بآدم (علیه السلام)؛ لاختصاص صلاحيّته للخلافة واستحقاقه للسياسة، ففي الحقيقة يكون منشأ الأفضليّة تلك الصلاحيّة، فعلى هذا يكون ذلك مؤكّدًا للجواب الأوّل. منه.

بأسرها، فما وجه اختلاف ذرّيّته فيها بحيث إنّ أهل كلّ لغة في الأغلب لا يفهم لغة الآخر(1)؟

الجواب عن الإيراد

والجواب عنه قد ظهر ممّا سلف في وجه اشتهار حدوث لغة العرب في زمان إسماعيل (علیه السلام) وهو أنّه يمكن أن تكون ذرّيّة آدم (علیه السلام) كانوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح (علیه السلام) فلمّا أهلك الله الناس إلّا نوحًا ومن تبعه كانوا هم العارفين باللغات بأسرها، لكن لمّا تفرّقوا اختار كلّ فرقة منهم لغة واحدة تسهيلًا للأمر، ثمّ بقيت تلك اللغة في أعقابهم وجهلوا غيرها.

ويمكن أن يكون الأمر كذلك قبل نوح (علیه السلام) أيضًا بأنّ كلّ فرقة في القرن الأوّل اختاروا لغة واحدة مع علمهم بغيرها أيضًا تسهيلًا للأمر؛ إذ التكلّم بلغة واحدة أسهل من التكلّم بلغات مختلفة، فلمّا انقضى القرن الأوّل مثلًا كان لا يعلم أعقاب كلّ واحدة من تلك الفرقة إلّا اللغة الواحدة، فمن هذا السبب اختلفت اللغات.

وأيضًا يمكن استناد الاختلاف إلى آدم (علیه السلام) أيضًا بأنّه لم يكن علّم كلّ واحد من ولده إلّا لغة واحدة، فبقيت تلك الواحدة في أعقاب ذلك الواحد، وهكذا في باقي اللغات(2).

ص: 209


1- في «ق»: آخر.
2- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 23.
الدليل الثاني
اشارة

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾(1).

وجه الاستدلال أنّه ليس المراد من الألسنة الجارحة المخصوصة؛ لكون بدائع الصنع في غيرها أشدّ وأكثر، فكان ذكره في جملة الآيات أولى وأجدر، فيحمل على اللغات تسمية للمسبّب باسم سببه(2)، فيكون المعنى: أنّ اللغات المختلفة الّتي عندكم من جملة آيات الله سبحانه، فيكون الوضع فيها مستندًا إليه سبحانه، وهو المطلوب(3).

الإيراد على الدليل الثاني

أورد عليه: أنّ تعذّر حمل الألسنة على الجارحة المخصوصة وإن كان مسلّمًا، لكنّه لا يوجب المصير إلى ما ذكر؛ لإمكان إرادة الإقدار من الآية، والحَمْلان سيّان في كونهما آية، فإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال(4).

ص: 210


1- سورة الروم: 22.
2- في «ق»: السبب.
3- ينظر تهذيب الوصول: 41، ونهاية الوصول: 1/ 152، ومنية اللبيب: 1/ 112، وزبدة الأصول: 53، ومفاتيح الأصول: 3، وأنيس المجتهدين: 1/ 39، وإشارات الأصول: 1/ 11.
4- ينظر نهاية الوصول: 1/ 156- 157، ومنية اللبيب: 1/ 115، ومفاتيح الأصول: 3، وإشارات الأصول:1/ 11، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 63.
الجواب عن الإيراد

ويمكن الجواب عنه: بأنّ الإقدار إمّا يكون ممّا يحمل عليه الألسنة، كما يستفاد من كلام العلّامة حيث قال:

وليس حمل الألسنة على اللغات أولى من حملها على الإقدار عليها(1).

أو لا، بل يقدّر الإقدار في الآية.

وفي كلّ منهما نظر.

أمّا في الأوّل فلأنّ مقتضى حمل اللفظ على معنى إرادته منه، فعلى هذا يكون معنى الآية: ومن آياته اختلاف إقداركم؛ وهذا لا معنى له، إلّا أن يجعل المصدر مضافًا إلى المفعول، والفاعل محذوفًا راجعًا إليه تعالى، وحينئذٍ وإن كان المعنى صحيحًا، لكن يطالب بالعلاقة المصحّحة للتجوّز بينهما.

وعلى فرض تحقّقها نقول: إنّ من القواعد المسلّمة تعيّن الرجوع إلى أقرب المجازات وأرجحها عند تعذّر الحمل على الحقيقة، ولا شبهة في أولويّة حمل الألسنة على اللغات من حملها على الإقدار؛ لأنّ استعمال اللسان في اللغة قد بلغ في الكثرة حدًّا يتوهّم أنّها من المعاني الحقيقيّة، كما يقال: فُلان خاطبني بلسان عربيّ، وما أفهم لسان زيد، ولسان أهل هذا البلد فارسيّ، ولسان الترك ثقيل صعب، وغير ذلك.

لا يقال: إنّ هذا إنّما هو إذا كان المراد مطلق الإقدار، وأمّا إذا أريد الإقدار على

ص: 211


1- تهذيب الوصول: 62.

التكلّم باللغات فلا، إذ العلاقة حينئذٍ الحاليّة، أي حاليّة المستعمل فيه للموضوع له، أي الجارحة المخصوصة.

لأنّا نقول: لا معنى لحلول الإقدار على التكلّم في اللسان كما لا يخفى؛ وإنّما الحالّ على فرض التسليم القدرة عليه، وليس الكلام في ذلك، وعلى فرض التسليم إنّما يندفع به المنع الأوّل، وأمّا الثاني فعلى حاله.

ثمّ على تقدير الإغماض عن الجميع لا يكون منافيًا لأصل المطلب؛ لوضوح أنّ الإقدار على التكلّم باللغات لا يستلزم أن لا يكون الوضع فيها مستندًا إليه تعالى كما لا يخفى، فتأمّل.

إلّا أن يحمل الألسنة على الإقدار بوضعها، فحينئذٍ وإن اندفع به الأخير، لكنّ الأوّلين على حالهما؛ إذ الإقدار إنّما هو فعل الله سبحانه، لا فعل الناس، كخلق السماوات والأرض، فلا معنى لحلوله في الجارحة المخصوصة، وعلى تقدير أن يكون المراد القدرة على الوضع، فهو مع منافاته لسوق الآية أيضًا كذلك؛ إذ القدرة على الوضع إنّما هو حالّ في الشخص، لا في الجارحة، والأمر في أقرب المجازات كما تقدّم.

وأمّا في الثاني: فلأنّ التقدير في الآية حينئذٍ يكون: ومن آياته الإقدار على اختلاف ألسنتكم، أو إقداركم على ذلك، أو إقداره إيّاكم عليه، وأيّ ما كان لا بدّ فيه من حمل الألسنة على اللغات؛ لما تقدّم، فالتجوّز في الألسنة بحملها على اللغات مشترك في المقامين مع التضمين والإضمار في الثاني، ولا شبهة في أنّ المصير إلى التجوّز من غير إضمار أولى من المصير إليه معه كما لا يخفى، فيتمّ المطلوب.

ص: 212

إن قلت: لا نسلّم سلامة الكلام من الإضمار على التقدير الأوّل، أي مع عدم حمل الآية على الإقدار أيضًا، إذ [معنى] الكلام حينئذٍ: ومن آياته خلق السماوات والأرض ووضع اختلاف ألسنتكم، أي اللغات المختلفة.

قلنا: هذا الإضمار ممّا لا مخلّص(1) عنه على التقديرين؛ لما عرفت من أنّه بعد إرادة الإقدار من الآية يكون التقدير: ومن آياته إقداركم على التكلّم باللغات، أو على وضعها، بخلاف ذلك، فحمل الألسنة على اللغات على ما ذكر في الاستدلال أولى، بل الأمر في هذه الآية على زعمي القاصر أسهل من الآية السابقة، عكس ما توهّمه جماعة، فيكون المستفاد من الآية حينئذٍ أنّ اللغات المختلفة كخلق السماوات والأرض من آيات الله سبحانه(2)؛ ولمّا كان الخلق في السماوات والأرض مستندًا إليه، يظهر منه بمقتضى السياق أنّ الأمر في اللغات المختلفة أيضًا كذلك، فيتمّ الاستدلال.

وبالجملة: لا شبهة في أولويّة الحمل المذكور في مقام الاستدلال من الاحتمال المذكور آنفًا.

احتمال آخر للآية الشريفة

لكن هنا احتمال آخر يمكن أن يكون محملًا للآية، وهو أن يكون المراد اختلاف اللهجة من الأشخاص ولو كانوا من أرباب لغة واحدة، حيث إنّه لا يشتبه

ص: 213


1- في «ق»: لا يخلص.
2- في «ق»: تعالى.

صوتان ولو كانا من أخوين في لفظٍ واحدٍ في لغة واحدة، ففيه من غرائب الصنع وعجائب الفطرة ما لا يخفى على ذي مسكة؛ وهو أدلّ على القدرة؛ لأنّ بدائع الصنع فيه أكثر وغرائب الفطرة فيه أكمل، إذ الاختلاف هنا في كلّ شخص من الأشخاص وهناك في كلّ فرقة من الفرق وطائفة من الطوائف.

فعلى هذا لا دخل للآية فيما نحن فيه، لكنّه مخالف للظاهر، إذ لا شبهة في بُعد إرادة هذا المعنى والتفاوت من الاختلاف في قوله تعالى: ﴿وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾(1)، فلا يقدح مثل هذا الاحتمال في الاستدلال.

الاستدلالات الّتي ذكرها في النهاية عن أصحاب التوقيف والجواب عنها

ومنها: أنّه لو لم تكن اللغات توقيفيّة؛ لما توجّه الذمّ في التسمية من غير جهة التوقيف، والتالي باطل، أمّا الشرطيّة فظاهرة، وأمّا بطلان التالي فلقوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾(2)، حيث يفهم منه المذمّة في التسمية من قبل أنفسهم، فلو لم تكن توقيفيّة لما توجّه ذلك؛ وبعبارة أخرى: إنّ المذمّة مفهومة من الآية في تسمية مسمّيات معيّنة من غير جهة التوقيف، فلو لم تكن التسمية توقيفيّة لما [كان] وجه لذلك.

ومنها: قوله تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(3)، وجه الاستدلال: أنّ كلمة

ص: 214


1- سورة الروم: 22.
2- سورة النجم: 23.
3- سورة العلق: 5.

الموصول للعموم، فمدلول الآية حينئذٍ: أنّ كلّ معلومات الإنسان إنّما هو بتعليم الله سبحانه، فيثبت منه المرام.

ومنها: قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(1)، و﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(2)، والعموم في الآيتين يشمل اللغات أيضًا.

وهذه الآيات الثلاث قد نقل العلّامة في النهاية(3) الاستدلال بها عن أصحاب هذا القول، وفيه من الضعف ما لا يفتقر إلى البيان.

أمّا في الأوّل؛ فلأنّ المراد إمّا مطلق التسمية، أو تسمية خاصّة.

وعلى الأوّل فالشرطيّة مسلّمة، لكن بطلان التالي ممنوع، والآية غير دالّة على ذلك كما ستقف عليه.

وعلى الثاني نمنع الشرطيّة؛ لجواز أن لا يكون مطلق اللغات توقيفيّة، ومع ذلك لم يجز إطلاق بعض الأسماء على بعض المسمّيات كما لا يخفى، والذمّ في الآية الشريفة إنّما هو في إطلاق اسم الإله ونحوه على الأصنام، وأين ذلك من المرام؟!

وعلى تقدير تسليم أن لا يكون المراد من الأسماء في قوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ﴾(4) إلخ ما ذكر، نمنع توجّه المذمّة باعتبار التسمية، بل إنّما هي لعبادة تلك

ص: 215


1- سورة الأنعام: 38.
2- سورة النحل: 89.
3- نهاية الوصول: 1/ 152- 153، وينظر مفاتيح الأصول: 3.
4- سورة النجم: 23.

المسمّيات واعتقاد إلهيّتهم، كما يظهر ذلك من صدر الآية وقبلها، وهو قوله تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا﴾(1). إلخ

وأمّا في الثاني: فلانّا لا نسلّم أنّ مدلوله أنّ كلّ معلومات الإنسان إنّما هو بتعليم الله سبحانه، بل ما لا يعلم من قبل نفسه؛ لوضوح أنّ عموم الموصول إنّما هو في صلته، فالاستدلال إنّما يتمّ إذا علمنا أنّ العلم باللغات ليس ممّا علمه الإنسان بنفسه؛ وكونها كذلك متوقّف على الاستدلال بالآية، بناءً على جعلها دليلًا للمطلوب، فيلزم الدور، فتأمّل.

وأمّا في الثالث: فللقطع بعدم شمول الآيتين للّغات؛ لعدم تحقّق لغة الترك ونحوها في الكتاب، وأيضًا أنّ «الكتاب» في قوله: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ﴾(2) إلخ، عبارة عن القرآن، فلو كانت اللغات داخلة فيه بحيث يثبت التوقيف، يلزم أن لا يكونوا(3) قبل نزول القرآن عالمين بتلك اللغات، وفساده غنيّ عن البيان.

وبالجملة: إنّ ضعف التمسّك بالآيات المذكورة ممّا لا ارتياب فيه ولا شكّ يعتريه.

ص: 216


1- سورة يوسف: 39 -40.
2- سورة الأنعام: 38.
3- في «ق»: لا يكون.
استدلالٌ آخر للقول بالتوقيف

واستدلّ لذلك أيضًا بأنّ اللغات لو كانت اصطلاحيّة؛ لامتنع العلم بشيء منها، وبطلان التالي ممّا يشهد به الوجدان، وظهوره أغنى عن البيان.

أمّا الشرطيّة فلأنّه على تقدير اصطلاحيّة الجميع لو أريد تعليم بعض منها؛ لافتقر إلى التوصّل بلفظ آخر بأن يقال: إنّ هذا اللفظ موضوع لذلك المعنى، أو وضعته لذلك، أو معناه ذلك، وهذه الألفاظ الّتي قد ذكرت في مقام البيان أيضًا اصطلاحيّة، بناءً على القول ببطلان الدلالة الذاتيّة، ففهم المعاني منها إمّا بواسطة اللفظ الأوّل الّذي ذكرت في بيانه، أو بواسطة لفظ آخر وهكذا إلى غير النهاية، فيلزم إمّا الدور أو التسلسل، وكلاهما مستحيل، والمتوقّف على المستحيل مستحيل(1).

الجواب عنه

والجواب عنه: أنّ ذلك إنّما يلزم إذا كان طريق الاستفادة والإفادة منحصرًا في الألفاظ، وفساده ممّا لا يخفى؛ لحصولهما بالترديد والتكرير بالقرائن والإشارة، كتعليم الأطفال لغة الآباء.

على أنّ الإيراد على تقدير تسليمه لا اختصاص له باصطلاحيّة اللغات؛ لوروده على التوقيف أيضًا، وتعليم العباد بوضع الألفاظ إمّا بطريق الوحي، أو بخلق الأصوات في بعض الأجسام ليصوّت بذلك، وعلى التقديرين يتوجّه

ص: 217


1- ينظر نهاية الوصول: 1/ 153، ومنية اللبيب: 1/ 112، ومفاتيح الأصول: 3.

الإيراد المذكور، فيجاب بما ذكر.

ويمكن التخلّص هنا بنحو آخر أيضًا، وهو أنّه تعالى يخلق علمًا ضروريًّا في قلوبهم ليحصل منه التفاهم.

دليل القائلين باصطلاحيّة اللغات
اشارة

واستدلّ القائلون باصطلاحيّة اللغات من وجهين: نقليّ وعقليّ.

الدليل الأوّل
اشارة

أمّا الأوّل فهو قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾(1).

وجه الاستدلال أنّ المراد باللسان اللغة، فمدلول الآية كون الرسول -المرسل إلى كلّ قوم- بلغتهم، ومقتضى ذلك سبق لغة كلّ قوم على إرسال الرسول إليهم، فلو كانت اللغات توقيفيّة يلزم أن يكون مسبوقة به؛ لأنّ العلم بالأمور التوقيفيّة لا يتحصّل إلّا بالإرسال، فيلزم أن يكون الشيء الواحد سابقًا على شيء ومسبوقًا به، وهو محال(2).

الجواب عن الدليل الأوّل

والجواب عنه: لا نسلّم أنّ مقتضى الآية ما ذكر؛ لوضوح أنّ من جملة الرسل آدم (علیه السلام)؛ ومعلوم أنّه حين الإرسال لم يكن له قوم، فضلًا عن لغتهم المتفرّعة على

ص: 218


1- سورة إبراهيم: 4.
2- ينظر المحصول، للفخر الرازيّ: 1/187، وأنيس المجتهدين: 1/38، ومفاتيح الأصول: 3.

وجودهم، فتحمل الآية على أنّ المراد منها انتفاء المغايرة بين لغة الرسول وقومه، سواء كانت تلك اللغة من الأمور التوقيفيّة، أم لا؛ فعلى هذا لا تكون الآية منافية للتوقيف ومثبتة للاصطلاح كما لا يخفى(1).

إن قيل: إنّ في الآية ظاهرين، أحدهما: النكرة الواقعة في سياق النفي، والثاني: أنّ إرسال كلّ رسول مسبوق بلغة قومه؛ وإبقاؤهما على حالهما غير ممكن؛ لما مرّ من أنّ من جملتهم آدم (علیه السلام) وهو حين الإرسال لم يكن له قوم فضلًا عن مسبوقيّته بلغتهم، فلا بدّ لدفع المحذور من صرف أحدهما والحمل على خلاف الظاهر، وهو كما يمكن بما ذكر يمكن بتخصيص الرسول بغير آدم (علیه السلام) أيضًا، بل الثاني أولى لأولويّة التخصيص من المجاز، ولعلّ الاستدلال مبنيّ عليه.

قلنا: هذا وإن كان مسلّمًا، لكنّه لا يجدي في مقام الاستدلال، إذ مع تخصيص الرسول بغير آدم (علیه السلام) وإن أمكن إرادة الظاهر الثاني بأنت تكون لغة كلّ قوم سابقة على إرسال الرسول إليهم، إلّا أنّ اللغات على تقدير توقيفيّتها لا يلزم أن تكون مسبوقة بالنسبة إلى ذلك الرسول المرسل إليهم، بل بالرسول في الجملة، فلا يلزم توقّف الشيء على نفسه.

توضيح ذلك أنّه على تقدير توقيفيّة اللغات يمكن أن يكون قد أوقفها الله تعالى آدم (علیه السلام) كما مرّ في قوله سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(2)، ثمّ تعلّم ولده منه

ص: 219


1- ينظر المحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 192، وأنيس المجتهدين: 1/ 39، ومفاتيح الأصول: 3.
2- سورة البقرة: 31.

بتعليمه إيّاهم، فتكلّم كلّ طائفة منهم بلغة اختاروها من بين اللغات، ثمّ أرسل الله تعالى رسولًا بلسان القوم المرسل إليهم، فلا يكون إرسال الرسول إلى قوم بلسانهم منافيًا للتوقيف.

والحاصل: أنّ المنافي للتوقيف على فرض التسليم -وهو حمل (رسول) في الآية على عمومه بحيث يشمل آدم وغيره (علیهم السلام) - غير ممكن، والممكن -وهو حمله على غيره- غير منافٍ.

على أنّه يمكن منع التنافي على تقدير العموم أيضًا، أمّا بالنسبة إلى غير آدم (علیه السلام) فقد ظهر، وأمّا بالنسبة إليه فبأن يكون الله تعالى أوقفه على اللغات كلّها، ثمّ خلق الله تعالى حوّا وأولادهما وهم يتكلّمون بتلك اللغات، ثمّ صار رسولًا إليهم، فعلى هذا تكون الآية محمولة على ظاهرها، ومع ذلك لا يثبت منه اصطلاحيّة اللغات ولا بطلان توقيفيّتها.

الدليل الثاني
اشارة

وأمّا الثاني فهو ما نقله العلّامة - أعلى الله مقامه - في النهاية(1) من أنّ اللغات لو كانت توقيفيّة لكان إيقافه إلى المخلوق إمّا بخلق العلم الضروريّ بأنّه تعالى وضع تلك الألفاظ لمعانيها، أو لا؛ وكلاهما فاسد.

أمّا الأوّل فلأنّ خلق ذلك العلم الضروريّ إمّا في العاقل أو غيره، والأوّل باطل لاستلزامه أن يكون العلم به تعالى ضروريًّا.

ص: 220


1- نهاية الوصول: 1/ 154، وينظر مفاتيح الأصول: 3.

أمّا الملازمة فلأنّ وضعه تعالى اللغات وصف له والعلم بالصفة مسبوق بالعلم بالموصوف وفرع له، فالعلم الضروريّ بالوصف يستلزم أن يكون العلم بالموصوف كذلك.

وأمّا بطلان التالي فلاستلزامه أن لا تكون المعرفة مكلّفًا بها، وبطلانه ممّا يشهد به العيان وضرورته كفت عن إقامة البرهان؛ وكذلك الثاني لامتناع أن يخلق في غير العاقل علمًا ضروريًّا بالألفاظ ومناسبتها وتراكيبها العجيبة.

وأمّا الثاني فلافتقار السامع حينئذٍ في كون ما سمعه موضوعًا بإزاء معناه إلى طريق وننقل الكلام إليه، فإمّا أن يدور، أو يتسلسل، وكلاهما فاسد.

الجواب عن الدليل الثاني

ولعمري إنّ هذا الاستدلال أوهن من بيت العنكبوت وإنّه لأوهن البيوت؛ لأنّا نختار أنّ إيقافه تعالى بخلقٍ علمٌ ضروريٌّ في العاقل.

قوله: «إنّه يستلزم العلم الضروريّ بالله تعالى»، إن أريد استلزامه العلم الضروريّ بحقيقة الله تعالى وكنه ذاته الأقدس، ففساده ممّا لا يفتقر إلى البيان ووضوحه يعوق أن ينعطف إليه صوب العنان؛ وإن أريد استلزامه العلم الضروريّ بوجوده تعالى وتحقّقه سبحانه، فهو مسلّم، وما ذكر في إبطاله مغالطة منشؤها الخبط في الحيثيّات والخلط في اختلاف الجهات.

وإن أردت أن يظهر لك حقيقة الحال فاعلم: أنّا نقول بناءً على التوقيف: إنّ آدم (علیه السلام) علم اللغات بإيقافه سبحانه، ولو سلّم أنّ علمه بها بخلق علم ضروريّ فيه

ص: 221

بأنّ واضعها الله سبحانه واستلزامه العلم الضروريّ بوجوده سبحانه، فغاية ما يلزم من ذلك العلم الضروريّ لآدم (علیه السلام) بوجوده تعالى، وهو مسلّم.

قوله: «إنّه يستلزم انتفاء التكليف بالمعرفة»، إمّا أن يكون المراد استلزامه انتفاء التكليف بالنسبة إلى غير آدم (علیه السلام) أو بالنسبة إليه.

والأوّل ضروريّ البطلان بديهيّ الفساد؛ ضرورة أنّ العلم الضروريّ لآدم (علیه السلام) بوجوده سبحانه لا يستلزم أن لا يتوجّه الأمر بالمعرفة إلى غيره ممّن لا يحصل لهم معرفة أصلًا كما لا يخفى؛ نعم، إنّ ذلك إنّما يتوجّه إذا قيل بخلق العلم الضروريّ في كلّ أحد، لكنّه ممّا لا يقول به أحد.

والثاني لا يخلو إمّا أن يكون المراد انتفاء التكليف بالنسبة إلى غير الوجه المعلوم، فكذلك أيضًا؛ لوضوح أنّ العلم على الوجه المعلوم إنّما يكون مستلزمًا لانتفاء التكليف بالنسبة إلى ذلك الوجه، لا بالنسبة إلى غيره، أو انتفاؤه بالنسبة إلى ذلك الوجه، فهو مسلّم حذرًا عن تحصيل الحاصل، ولا مفسدة فيه أصلًا ولا خصوصيّة له بالنسبة إلى هذا المقام؛ لتحقّقه في كلّ ما كان على هذا المنوال.

والحاصل: أنّ المحذور - وهو انتفاء التكليف بالمعرفة بالنسبة إلى كلّ أحد - غير لازم، واللازم - وهو انتفاؤه بالنسبة إلى من خلق فيه العلم الضروريّ - غير محذور.

على أنّه يمكن منع الملازمة مطلقًا؛ لأنّه بناءً على أنّ اللازم على تقدير كون الإيقاف بخلق علم ضروريّ؛ ضروريّة كون هذا المعنى معنى لهذا اللفظ واللفظ موضوعًا له، ويمكن حصول ذلك مع عدم الالتفات إلى الواضع، فضلًا عن العلم به، فضلًا عن كونه ضروريًّا كما لا يخفى؛ ثمّ نختار أنّ إيقافه تعالى بغير

ص: 222

علم ضروريّ.

قوله: «إنّه يفتقر السامع حينئذٍ في كون ما سمعه موضوعًا بإزاء معناه إلى طريق وننقل الكلام إليه»، قلنا: لا اختصاص له بالتوقيف؛ لوروده على القول بالاصطلاح أيضًا كما علمت ممّا أسلفناه؛ والجواب عنها واحد، وهو ما تقدّم من إمكان حصول التعريف بالقرائن والإشارة كما في الأطفال.

مستند القائلين بالتفصيل

والمستند للقول بالتفصيل على الوجه الأوّل من كون الضروريّ المفتقر إليه في التعريف توقيفيًّا والباقي اصطلاحيًّا، أمّا بالنسبة إلى ذلك المقدار، فهو أنّه لو لم يكن ذلك توقيفيًّا، بل يكون الجميع اصطلاحيًّا، يلزم الدور؛ إذ معرفة الباقي متوقّفة على معرفة ذلك المقدار، ومعرفته على تقدير اصطلاحيّته متوقّفة على الباقي، فيلزم توقّف الشيء على نفسه.

وأمّا بالنسبة إلى الباقي، فلعلّه الدليل(1) الأوّل للقول الثاني، وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾(2)، وهو وإن كان أعمّ يشمل الجميع، لكن استثنى ذلك المقدار لما مرّ في بيانه، لكنّك قد عرفت ممّا ذكر ضعف الوجهين، فلا حاجة إلى الإعادة.

وعلى الوجه الثاني من كون المفتقر إليه في التعريف اصطلاحيًّا والباقي توقيفيًّا،

ص: 223


1- في «ق»: للدليل.
2- سورة إبراهيم: 4.

أمّا بالنسبة إلى ذلك المقدار فهو أنّه لو لم يكن ذلك المقدار اصطلاحيًّا، بل يكون توقيفيًّا أيضًا لزم الدور أو التسلسل، إذ العلم بالجميع حينئذٍ يكون بالوحي، والعلم بذلك الوحي لكونه بطريق الألفاظ يفتقر إلى وحي آخر، وهكذا إمّا أن يعود أو يذهب إلى غير النهاية، فيدور أو يتسلسل.

وأمّا بالنسبة إلى توقيفيّة الباقي فلما ذكر في القول الأوّل؛ وهو وإن كان شاملًا للجميع، لكنّه استثني ذلك المقدار لما مرّ في بيانه، وحيث قد عرفت ممّا قدّمنا الجواب عن وجه الإستثناء، ظهر لك ضعفه، فلا بدّ من القول بتوقيفيّة الجميع، وهو القول الأوّل(1).

مستند القائلين بالتوقّف

وأمّا المستند للقول بالتوقّف، فقد ظهر ممّا تقدّم في تقريره؛ وهو أنّ المذكور في بيان الأقوال الثلاثة غير مفيد للعلم مع إمكان الجميع عقلًا، فيجب التوقّف في ذلك.

ويتوجّه عليه: أنّ المراد من العلم في هذا المقام إمّا معناه الظاهر، وهو المانع عن(2) النقيض، فعدم استفادته من الأدلّة المذكورة وإن كان مسلّمًا لما تقدّم من قيام الاحتمالات المتكثّرة فيها، لكنّ الافتقار(3) إليه في أمثال المقام ممنوع، وكما أنّه

ص: 224


1- ينظر زبدة الأصول: 62، وإشارات الأصول: 1/ 10- 11.
2- في «ق»: من.
3- في «ق»: الاقتصار.

يكتفى في وضع اللفظ لمعنى بالظنّ ولا يقدح في ذلك قيام الاحتمال وغيره، فكذلك في الواضع، والفرق تحكّم.

وإن أريد معناه الأعمّ الشامل للظنّ أيضًا، فعدم استفادته ممّا ذكر في غير القول الأوّل وإن كان مسلّمًا، لكنّه لما ظهر مشروحًا لا يوجب عدم المصير إلى القول الأوّل، إذ ما ذكر في بيانه أوّلًا يستفاد منه الظنّ بصحّته، وقد علم وجهه فيما سلف، ويؤيّد ذلك بعد اهتداء الناس إلى هذه الاختراعات الغريبة واللغات المختلفة المتكثّرة.

في أنّ استناد الوضع إلى الله لا ينافي القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة

إن قلت: إنّ الوضع في اللغات لو كان مستندًا إلى الله تعالى؛ لكانت جميعها حقائق شرعيّة، فلا معنى للنزاع في ثبوتها وعدمها في جملة من الألفاظ العربيّة، وكذا تقسيم الحقائق إلى الأقسام الثلاثة الّتي هي اللغويّة والشرعيّة والعرفيّة، للزوم تقسيمها حينئذٍ إلى الشرعيّة والعرفيّة(1).

لا يقال: إنّه يمكن أن يكون النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه مبنيًّا على النزاع في هذه المسألة بأن يكون المثبتون للحقيقة الشرعيّة هم الّذين ذهبوا إلى أنّ

ص: 225


1- جاء في حاشية الأصل: وحاصل هذا الاستدلال أنّه لو كان الوضع في اللغات مستندًا إليه تعالى، لزم انحصار الحقائق في الشرعيّة والعرفيّة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، أمّا الشرطيّة فلظهور أنّ الألفاظ بأسرها إمّا واضعها الشارع أو العرف، ولا ثالث، وعلى الأوّل تكون شرعيّة، وعلى الثاني عرفيّة، وأمّا بطلان التأليف؛ لاتّفاقهم على تقسيم الحقائق إلى الأقسام الثلاثة، والاتّفاق دليل قطعيّ لا يعارضه ما تقدّم من دليلًا لتوقيف. منه.

واضع اللغات هو الله تعالى، والنافون لها هم الّذين ذهبوا إلى خلافه، وأنّ تقسيم الحقائق إلى الأقسام المذكورة أيضًا مبنيٌّ على ذلك.

لأنّا نقول: هذا فاسد، أمّا أوّلًا: فلعدم صحّته في نفسه؛ إذ من النافين متوقّفٌ في المسألة، وكذا بعض المثبتين، بل اختار بعضٌ منهم اصطلاحيّة اللغات، فلو كان الأمر كما ذكر، لما [كان] وجهٌ للتوقّف لكلّ من النافي والمثبت في هذه المسألة؛ لتعيّن المصير إلى الاصطلاحيّة للأوّل والتوقيفيّة للثاني، ولا يمكن للمثبت القول باصطلاحيّة اللغات.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ النزاع في مسألة الحقيقة الشرعيّة إنّما هو في جملة من الألفاظ العربيّة، وهذه المسألة إنّما هي في جميع اللغات، فلو كان النزاع في الحقيقة الشرعيّة مبنيًّا على هذا النزاع، لزم القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة لأرباب التوقيف في جميع الألفاظ العربيّة، بل في جميع اللغات، مع أنّه لم يتفوّه به أحد(1).

وأيضًا أنّ تقسيم الحقائق إلى الأقسام الثلاثة ممّا اتّفقت عليه الآراء، ولا أحد خالف في ذلك، فلو كان الأمر كما ذكر، لا يكون عند كلّ طائفة من القائلين بالتوقيف والاصطلاح إلّا قسمان: الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة عند القائلين بالتوقيف، واللغويّة والعرفيّة عند القائلين بالاصطلاح، وفساده ممّا لا يكاد يلتبس على من له أدنى اطّلاع بمباحث الفنّ(2).

ص: 226


1- في «ق»: أحدًا.
2- جاء في حاشية الأصل: ولقائل أن يقول: إنّ اتّفاق الجميع على تقسيم الحقائق إلى الأقسام الثلاثة بأن تكون كلّ طائفة قائلة بذلك غير ممكن، لاستلزامه [في «ج»: لاستلزام] أن يكون القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة متّفقًا عليه، مع أنّ الخلاف فيه معروف، وعلى فرض التسليم يمكن أن يقال: إنّه كما لا يمنع هذا النزاع من تقسيم الحقائق إلى تلك الأقسام، فليكن الأمر كذلك في النزاع الأوّل، إلّا أن يجاب عن ذلك بأنّ اتّفاقهم في التقسيم المذكور لا يستلزم القول بجميع الأقسام؛ لجواز أن يكون الوجه في التقسيم أنّه على تقدير ثبوت الحقائق الشرعيّة تكون مغايرة للقسمين الآخرين لا محالة، ولا يمكن مثل ذلك في السابق، يظهر وجهه للمتأمّل. منه.

قلنا: قد علمت فيما أسلفناه في الحقيقة الشرعيّة أنّ الشارع الّذي يستند إليه الوضع في الحقيقة الشرعيّة في اصطلاحهم هو النبيّ (صلی الله علیه و آله)؛ والّذي يستند إليه الوضع في هذه المسألة بناءً على التوقيف هو الله تعالى، فلا ارتباط لإحدى المسألتين بالأخرى، فلا معنى لجعل إحداهما مبنى الأخرى(1).

وعلى تقدير أن يكون الوضع في الحقيقة الشرعيّة مستندًا إلى الله تعالى ويكون هو المراد من الشارع في تلك المسألة أيضًا، يمكن الجواب بأنّ الحقيقة الشرعيّة في الاصطلاح عبارة عن الألفاظ الخاصّة الّتي نقلها الشارع الحقيقيّ عن معانيها الأصليّة إلى المعاني المعلومة، فعلى هذا لا يلزم أن تكون جميع اللغات حقائق شرعيّة بالمعنى المذكور وإن كان الوضع فيها مستندًا إلى الله تعالى، فتكون الحقائق اللغويّة في الاصطلاح الألفاظ المستعملة في معانيها الابتدائيّة مطلقًا ولو كان واضعها الله سبحانه.

ص: 227


1- في «ق»: على الأخرى.
ذكر كلام لإفضاح مقال

ذكر كلام لإفضاح مقال(1)

ومن العجائب ما صدر من بعض في هذا المقام من تفريعه على(2) هذه المسألة المسألة المعروفة بمسألة مهر السرّ والعلانية؛ وهي ما إذا تزوّج رجل امرأة بألف درهم مثلًا واصطلحا على تسمية الألف بالألفين، قال:

فهل الواجب ألف، وهو ما يقتضيه الاصطلاح اللغويّ، أو ألفان نظرًا إلى الوضع الحادث؟ فيه وجهان، مبنيّان(3).

وفيه ما لا يخفى، أمّا أوّلًا: فلأنّ التفريع على فرض صحّته على عكس ما ذكره، فينبغي أن يقال: فهل الواجب ألفان؛ نظرًا إلى الوضع اللغويّ، أو ألف نظرًا إلى الوضع الحادث؟ كما لا يخفى على المتأمّل؛ ولعلّه لهذا عدل بعضهم عنه فقال:

واصطلحا على تسمية(4) الألفين بالألف(5).

فبناءً على التوقيف يلزم الألف ولا مدخليّة لاصطلاح المتعاقدين في ذلك، وعلى القول بالاصطلاح تصير المسألة خلافيّة، بناءً على أنّ المناط هل الاصطلاح

ص: 228


1- في «ق»: مقام.
2- في «ق»: تعريفه في.
3- تمهيد القواعد: 82.
4- جاء في حاشية الأصل: لكنّه غير مناسب لهذه التسمية؛ إذ مهر السرّ والعلن إنّما يناسب إذا كان مهر السرّ أقلّ ومهر العلن أكثر وإن احتمل العكس في بعض الصور الّتي لا تخفى على المتأمّل. منه.
5- أنيس المجتهدين: 1/ 39.

اللغويّ السابق فيلزم الألف أيضًا، أو الاصطلاح اللاحق فيلزم الألفان؟

وأمّا ثانيًا: فلوضوح أنّ النزاع في انّ المعتبر في الألفاظ الصادرة من أهل اصطلاح خاصّ هل المعاني اللغويّة أو الاصطلاحيّة؟ أعمّ من أن تكون اللغات توقيفيّة أو اصطلاحيّة؛ إذ على التقديرين تكون الألفاظ حقائق لغويّة كما عرفت، والنزاع في أنّ المعتبر المعاني اللغويّة أو الاصطلاحيّة، فلا وجه لهذا التفريع أصلًا.

وأمّا ثالثًا: فلأنّ النزاع في المسألة إنّما هو عند عدم معلوميّة قصد المتكلّم من أهل الاصطلاح، فهناك يقال: هل المحمل في كلامه المعنى اللغويّ أو الاصطلاحيّ؟ وأمّا عند المعلوميّة، فلا معنى للنزاع أصلًا؛ لوضوح أنّه بعد معلوميّة قصده ومخالفته للوضع(1) اللغويّ كيف يمكن احتمال حمله على المعنى اللغويّ الّذي يقطع بعدم إرادته؟!

وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ المفروض إرادة المتعاقدين الألف من الألفين وتسميته به(2)، فلا وجه للنزاع، بل ينبغي الحكم بتعيّن الألف؛ لوضوح أنّ العقود تابعة للقصود.

رأي المؤلّف في المسألة

وأنت إذا أحطت خبرًا بما ذكرناه تعلم أنّه لا وجه لهذا التفريع، بل الحقّ أنّ المسألة من المسائل العلميّة الّتي لا يترتّب عليها ثمرة مهمّة في شيء من الفروع

ص: 229


1- في «ق»: للموضوع.
2- أي تسمية الألف بالألفين.

والمطالب العلميّة؛ لأنّ اللازم في الألفاظ الّتي ثبتت فيها الحقائق الشرعيّة الحمل على معانيها الشرعيّة دون اللغويّة، سواء كان الوضع في اللغات مستندًا إلى الله تعالى، أو البشر كما يظهر وجهه ممّا سلف،؛ وفي غيرها الحمل على المعاني اللغويّة مطلقًا فيما إذا لم يكن لها معانٍ عرفيّة، ومعها يرجع إلى النزاع المعروف الآتي في تقديم اللغة أو العرف.

وكذا فيما إذا كانت لها معانٍ شرعيّة وتعذّرت إرادتها لقيام القرينة؛ ولا يختلف الحال في شيء من ذلك، سواء كان الوضع مستندًا إلى الله تعالى أو البشر، كما لا يخفى على من لاحظ(1) مباحث الفنّ وتدبّر.

ص: 230


1- في «ق»: لاحظه.

الفصل الثالث: في الحقيقة العرفيّة

اشارة

تحقيق الحال في ذلك يستدعي التكلّم في حدّها، وتقسيمها إلى العامّة والخاصّة(1)، وبيان الفرق بينها وبين الشرعيّة واللغويّة(2)، وثبوتها، فهنا مباحث:

في تعريف الحقيقة العرفيّة وبيان الفرق بينها وبين اللغويّة والشرعيّة

المبحث الأوّل: في تحديدها وتعريفها
اشارة

فنقول: والّذي يظهر من تضاعيف كلماتهم(3) في ذلك يرجع إلى أمور ثلاثة:

الأوّل: أنّها هي الّتي استفيد منها المعنى في العرف، سواء بقيت الاستفادة بالفعل، أم لا.

والثاني: مثله إلّا أنّه اعتبر فيه(4) الاستفادة الفعليّة، فهي ما يستفاد منه المعنى في العرف بالفعل.

ص: 231


1- في «ق»: العاميّة والخاصيّة.
2- في «ق»: في اللغة.
3- ينظر معارج الأصول: 51، ونهاية الوصول: 1/ 244، ومنية اللبيب: 1/ 202، وإشارات الأصول: 1/ 26، ومفاتيح الأصول: 40- 83، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 163، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 296، والبحر المحيط: 1/ 516، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 27- 28.
4- في «ق»: فيها.

والثالث: أنّها اللفظ المستعمل في غير المعنى الأصليّ الابتدائيّ بوضع طارٍ له، بشرط أن لا يكون الواضع فيه الواضع الأوّل ولا الشارع.

تحقيق الحال في إظهار المختار من هذه الأقوال يستدعي بيان الفرق بينها ليظهر حقيقة المقال، فنقول: إنّ النسبة بين هذه الوجوه: أمّا بين الأوّل والثاني فعموم مطلقًا؛ لوضوح أنّ كلّما يصدق عليه التعريف الثاني يصدق عليه الأوّل ولا عكس كلّيّة؛ لصدق الأوّل في الموضوعات الطارئة المهجورة، بل الموضوعات الأصليّة المهجورة أيضًا فيما إذا استفيد منها المعنى في العرف ثمّ هجر كما لا يخفى.

وأمّا بينه وبين الثالث فكذلك، فكلّما يصدق عليه الثالث يصدق عليه الأوّل من غير عكس؛ لصدق الأوّل على الحقيقة اللغويّة، كالماء والنار والبارد والحارّ وغيرها ممّا يكون على هذا المنوال، بخلاف الثالث.

وأمّا بين الأخيرين فعموم من وجه؛ لتصادقهما في الموضوعات الطارئة غير المهجورة وتفارق الثاني عن الثالث في الموضوعات الابتدائيّة غير المهجورة، والثالث عنه في الموضوعات الطارئة المهجورة.

وممّا ذكر ظهر النسبة بين العرفيّة بالتفاسير الثلاثة وبين اللغويّة بأنّ النسبة بينها وبين العرفيّة بالتفسير الأوّل عموم مطلقًا؛ لأنّه كلّما يصدق عليه اللغويّة يصدق عليه العرفيّة بهذا التفسير ولا عكس؛ لصدقه على الموضوعات الطارئة دونها، مع احتمال العموم من وجه؛ لاحتمال أن يكون بعض اللغويّة ممّا لم يستفد منه المعنى في العرف.

ص: 232

وبينها وبين العرفيّة بالتفسير الثاني عموم من وجه؛ لتصادقهما في الموضوعات الابتدائيّة الغير المهجورة وتفارق اللغويّة عن العرفيّة بهذا التفسير في الموضوعات الابتدائيّة المهجورة والعرفيّة عن اللغويّة في الموضوعات الطارئة الباقية، وبينهما وبين العرفيّة بالتفسير الثالث تباين كما لا يخفى.

وكذلك يظهر النسبة بين الشرعيّة والعرفيّة بتلك التفاسير بأن يكون النسبة بينهما وبين العرفيّة بالتفسير الأوّل عمومًا مطلقًا؛ إذ كلّما يصدق عليه الشرعيّة يصدق عليه العرفيّة بهذا التفسير ولا عكس؛ لما عرفت من صدقه على الموضوعات الابتدائيّة والطارئة الّتي يكون الوضع فيها مستندًا إلى غير الشارع، وعدم صدق الشرعيّة عليهما بيّن؛ وهكذا الحال بينها وبين العرفيّة بالتفسير الثاني.

هذا إن أريد بالعرف المأخوذ في هذين التفسيرين أعمّ من العامّ وغيره؛ وأمّا إذا أريد منه الأوّل، فيكون بينهما تباين؛ إذ استفادة المعاني الشرعيّة في الألفاظ الشرعيّة إنّما هي بالنسبة إلى المتشرّعين بشريعة نبيّنا (صلی الله علیه و آله) لا بالنسبة إلى كلّ أهل اللسان، فتأمّل.

وأمّا النسبة بينها وبين العرفيّة بالتفسير الثالث، فتباين كما لا يخفى.

مختار المصنّف في المسألة

وأنت بعد اطّلاعك على ما ذكرنا يظهر لك أنّ الحقّ هو التفسير الثالث، إذ كما تكون الحقيقة اللغويّة الألفاظ الّتي تكون استفادة المعاني منها بمعونة وضع واضع اللغة، والشرعيّة الألفاظ الّتي تكون استفادة المعاني منها بمعونة وضع الشارع على

ص: 233

ما مرّ الكلام في كلّ منهما بما لا مزيد عليه، ينبغي أن يكون الحال في الحقيقة العرفيّة أيضًا كذلك بأن تكون الألفاظ الّتي تكون استفادة المعاني منها بمعونة وضع العرف، لا أهل اللغة والشارع.

ومعلوم أنّ مقتضى ذلك مباينتها لكلّ منهما وأنّ محض فهم المعنى من بعض الألفاظ في العرف تبعًا لوضع أهل اللغة لا يقتضي أن يكون ذلك حقيقة عرفيّة كما لا يخفى؛ ولمّا لم تكن النسبة بين العرفيّة بغير التفسير الثالث واللغويّة والشرعيّة مبائنة كلّيّة، ظهر أنّ الحقّ بين التفاسير المذكورة هو الثالث.

وأيضًا قد اتّفقوا على تقسيم الحقائق إلى الأقسام الثلاثة، ومقتضى ذلك أن يكون كلّ واحد منها قسيمًا لآخر، وهو إنّما يتحقّق على التفسير الثالث، لا غير.

إن قلت: إنّ الحقائق العرفيّة لو كانت موضوعات طارئة؛ لما كانت الألفاظ المخترعة من ذلك.

قلنا: إنّ الكلام في الحقيقة العرفيّة المتحقّقة، ومعلوم أنّها من الموضوعات الطارئة، لا المخترعة؛ وعلى فرض تحقّقها نقول باندارجها تحت العرفيّة بناءً على استناد الوضع في الحقائق اللغويّة إلى الله سبحانه وتحت اللغويّة بناءً على اصطلاحيّة اللغات، ويمكن القول باندراجها تحت العرفيّة على الحالين، ولا يتفاوت الحال في ذلك على التقديرين.

ص: 234

في تقسيم الحقيقة العرفيّة إلى العامّة والخاصّة

والمبحث الثاني: في تقسيمها إلى العامّة والخاصّة
اشارة

والمبحث(1) الثاني: في تقسيمها إلى العامّة والخاصّة

فنقول: قد عرفت ممّا سلف أنّ الحقيقة العرفيّة هي الموضوعات الطارئة، أي الّتي تكون استفادة المعاني منها بوضع طارٍ.

قالوا(2): إنّ ذلك الوضع إمّا يتعيّن فيه الواضع كالفقيه والأصوليّ والمنطقيّ والنحويّ والصرفيّ وغيرهم، كالطهارة والنجاسة والخلع والمبارات بناءً على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة، والحقيقة والمجاز والعلاقة وتنقيح المناط والصغرى والكبرى والموضوع والمحمول والفاعل والمفعول والحال والتميز والصحيح والمعتلّ والمضاعف والأجوف، وغيرها من الاصطلاحات المتكرّرة في أنواع العلوم وأنحاء الرسوم الّتي قد عيّنت لغير معانيها الأصليّة قطعًا.

أو لا يتعيّن فيه الواضع، كالدابّة والقارورة والغائط وغيرها من الألفاظ الّتي عيّنت في غير معانيها اللغويّة من غير أن يكون التعيين فيها مستندًا إلى طائفة مخصوصة، فالأوّل يسمّى بالعرف الخاصّ والعرفيّة الخاصّة، والثاني بالعرف العامّ والعرفيّة العامّة، فتقسيمها(3) إلى القسمين باعتبار تعيين الواضع وعدمه.

ص: 235


1- في «ق»: والبحث.
2- ينظر نهاية الوصول: 1/ 244- 245، ومنية اللبيب: 1/ 202- 203، وأنيس المجتهدين: 1/ 51، وإشارات الأصول: 1/ 26، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 28.
3- في «ق»: وتقسيمها.
إيراد مقال لدفع إشكال

اعلم: أنّه يتوهّم في المقام إيرادان:

الأوّل: أنّ مقتضى ما ذكر في هذا المقام في وجه تقسيم العرفيّة إلى القسمين المذكورين أن تكون الحقيقة الشرعيّة من العرفيّة الخاصّة، فكيف يجعل فرد الشيء قسيمًا له؟!

والثاني: أنّ الوضع مع عدم تعيين الواضع فاسد؛ لأنّ الوضع عبارة عن تعيين اللفظ للدلالة على المعنى، والتعيين لا يتصوّر من غير معيّن؛ لوضوح أنّ التعيين فعلٌ لا يمكن اجتماع قاطبة أهل اللسان عليه كما لا يخفى.

والجواب: أمّا عن الأوّل: فهو أنّ الأمر وإن كان كذلك، إلّا أنّهم أفردوا ذلك النوع من العرفيّة الخاصّة بالذكر؛ لاختصاصه بمزيد الأحكام بالنسبة إلى الأنواع(1) الأخر كما لا يخفى.

على أنّه يمكن أن يقال بمنع كون الحقيقة الشرعيّة من الحقيقة العرفيّة؛ لجريان الاصطلاح في تسمية العرفيّة ما لا يكون واضعه الشارع وتسمية الشرعيّة ما يكون كذلك، فعلى هذا لا تكون الحقيقة الشرعيّة نوعًا من العرفيّة الخاصّة حتّى يورد أنّه كيف جعل قسم الشيء قسيمًا له، بل هو قسم آخر مقابل لكلٍّ من اللغويّة والعرفيّة، ولهذا قيّدنا العرفيّة بما لا يكون واضعه الشارع.

وأمّا عن الثاني: فهو أنّ الحقائق العرفيّة بأسرها منقولات، والإيراد إنّما يتوجّه

ص: 236


1- في «ق»: أنواع.

إذا كان طريق النقل منحصرًا في التعيينيّ منه، وهو غير مسلّم؛ لما عرفت في مقدّمة الكتاب من أنّه كما يكون بالتعيين كذا يكون بالتعيّن، وهو أن يكون اللفظ مستعملًا في غير معناه الأصليّ مجازًا، ثمّ غلب استعماله فيه بحيث يفهم منه ذلك المعنى من غير افتقار إلى قرينة وهجر المعنى الأوّل بحيث تكون إرادته متوقّفة على القرينة؛ ولمّا كان البلوغ إلى هذا الحدّ لكثرة الاستعمال الّذي صدر من كثير من المستعملين، فلا يمكن الاستناد إلى بعض معيّن، فلذا يقال: إنّ الواضع فيه غير معيّن، ومقتضى ذلك انحصار طريق الحقيقة العرفيّة في النقل التعيّني.

ويمكن أن يقال: إنّ القول بكون الواضع فيها غير معيّن في مقابلة العرفيّة الخاصّة، حيث إنّ الواضع فيها طائفة مخصوصة مشخّصة وتكون تلك الألفاظ حقائق في تلك المعاني بالنسبة إلى مكالماتهم ومكالمات من يخاطب باصطلاحهم دون غيرهم، بخلاف العرفيّة العامّة، فإنّها حقائق في مخاطبات قاطبة أهل اللسان.

فعلى هذا يمكن أن يكون الناقل فيها معيّنًا، لكن لمّا تبعه قاطبة أهل اللسان في ذلك ويكون اللفظ حقيقة في ذلك المعنى المنقول إليه عند الجميع، يقال: إنّ الواضع فيه غير معيّن، أي حقيقيّته(1) في ذلك المعنى غير مختصّة عند طائفة دون أخرى، كما في العرفيّة الخاصّة، أو يقال: معنى كون الواضع فيها غير معيّن، أنّها مجهولة الواضع في الأنظار وإن كان معيّنًا في نفس الأمر، لكن فيه تأمّل لا يخفى على المتأمّل.

ص: 237


1- في «ق»: حقيقيّة.

في ثبوت الحقيقة العرفيّة

المبحث الثالث: في ثبوت الحقيقة العرفيّة وما يناسب تلك المقالة
اشارة

فنقول: أمّا الخاصّة منها فثبوتها في العيان بحيث لا يفتقر إلى البيان ولم ينازع فيها أحد من الأعلام، والاصطلاحات المتداولة في أنواع العلوم والرسوم شاهد صدق على هذا المرام.

وأمّا العامّة منها فالّذي يظهر من تصريح جماعة ممّن عثرنا على كلامهم في هذا المقام أنّها أيضًا كذلك، لكنّ الّذي يظهر من العلّامة - رفع مقامه - في النهاية تحقّق الخلاف في ذلك، حيث قال ما حاصله:

أنّه لا نزاع في إمكان الحقيقة العرفيّة، وإنّما الخلاف في الوقوع(1).

وربّما ترقّى بعض من لا يعتنى بمقالته عن عدم الوقوع وادّعى الاستحالة في ذلك(2)، وكيف كان، والحقّ أنّ ثبوتها ممّا لا ينبغي النزاع فيه؛ للقطع بأنّ ههنا ألفاظًا متكثّرة يستفاد(3) منها المعاني المغايرة للمعاني اللغويّة من غير افتقار في ذلك إلى قرينة، ولا يتفاوت الحال فيه عند طائفة دون طائفة، وهذا هو شأن الحقيقة، كالدابّة، فإنّها موضوعة في اللغة لكلّ ما يدبّ على الأرض، واختصّت(4) في العرف ببعض

ص: 238


1- نهاية الوصول: 1/ 244.
2- حكي ذلك عن بعض الأخباريّة، ينظر المحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 163، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 38، والبحر المحيط: 1/ 516.
3- في «ق»: قد يستفاد.
4- في «ق»: فاختصّت.

البهائم؛ والقارورة فإنّها اسم لكلّ ما يستقرّ فيه الشيء، واختصّت فيه بالزجاج؛ والملك فإنّها مأخوذة من الألُوكَة، وهي الرسالة(1)، واختصّ فيه ببعض الرسل؛ والخابية فإنّها موضوعة لما يخبّأ فيه، واختصّت بالبعض، وغيرها(2).

وهذه الألفاظ المذكورة إمّا عيّنت للمعاني المسطورة في أوّل الأمر والبداية، أو استعملت في بداية الأمر فيها مجازًا، ثمّ بكثرة الاستعمال صار الأمر فيها على الوجه المذكور، أو الأمر في بعضها على النحو الأوّل وفي الآخر منها على النحو الثاني، وأيّ منها كان يثبت المرام؛ إذ على الأوّل تكون الألفاظ كلّها منقولات بالنقل التعييني، وعلى الثاني بالنقل التعيّني، وعلى الثالث بالوجهين، وعلى جميع التقادير يثبت المرام.

في الداعي لتغيير اللغة وثبوت الحقيقة العرفيّة

إن قيل: إنّ وضع الألفاظ لإبراز ما في الضمائر والقلوب وإظهار الحوائج والمطلوب، وهذا يحصل باللغة، فما الداعي لتغييرها حتّى تثبت الحقيقة العرفيّة؟

قلنا: لا شبهة في أنّ إحاطةَ الألفاظ لجميع المعاني بأن يكون بإزاء كلّ معنى لفظ غيرُ ثابتة، وكيف؟ مع أنّ الألفاظ متناهية؛ لتركّبها من الحروف المتناهية، والمعاني غير متناهية، وامتناع إحاطة المتناهي لغير المتناهي بيّن.

فعلى هذا قد تكون الحاجة ماسّة إلى التعبير عن بعض المعاني الّتي لم يتحقّق لها

ص: 239


1- ينظر مجمع البحرين: 5/ 292، والنهاية: 1/ 61، ولسان العرب: 1/ 535.
2- ينظر نهاية الوصول: 1/ 245، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 297.

وضع، وذلك المعنى إمّا أن يكون من المعاني المناسبة لما وضع له في اللغة، أم لا، وعلى التقديرين إمّا أن يكون التعبير عن ذلك المعنى المفتقر إليه باللفظ المخترع، أو بالموضوع لغة، فهنا احتمالات أربعة.

لكنّ اختراع اللفظ غير معهود منهم؛ لكراهتهم مخالفة اللغة والخروج عن قانونها مطلقًا، فبقى من الاحتمالات اثنان: التعبير عن المعنى غير الموضوع له في اللغة ولا المناسب له؛ والمعنى غير الموضوع له في اللغة المناسب له باللفظ اللغويّ.

وعلى الأوّل: يمكن أن يكون ذلك على طريق المجاز؛ لانتفاء العلاقة كما هو المفروض، فتعيّن أن يكون ذلك بتعيين اللفظ له، وهذا ممّا سمّاه أئمّة الأصول والبيان بالمرتجل.

وعلى الثاني: يمكن أن يكون الاستعمال حقيقة، كما يمكن أن يكون مجازًا، لكن فرط الحاجة إلى التعبير عنه صار موجبًا لكثرة استعماله فيه حتّى بلغ إلى حدّ الحقيقة، فهذا هو الداعي لتغيير اللغة وثبوت الحقيقة العرفيّة.

لا يقال: إنّ كثيرًا من الحقائق العرفيّة بقسميها تكون لبعض أفراد مسمّياتها اللغويّة، والمذكور لا يصلح وجهًا(1) إلّا لثبوتها في المعاني المغايرة لمسمّياتها كما لا يخفى.

لأنّا نقول: إنّ ذلك إنّما هو لشدّة الحاجة إلى التعبير عن ذلك البعض دون الآخر، وهي موجبة لكثرة استعمال اللفظ هناك دونه، أو لتعيينه في أوّل الأمر

ص: 240


1- في «ق»: وجه.

للأوّل، وهو ما تقدّم.

استدلال القائل باستحالة الحقيقة العرفيّة

هذا، واستدلّ القائل باستحالة الحقيقة العرفيّة بأنّه يمتنع اتّفاق الخلق الكثير على نقل اللفظ(1)، وكأنّه توهّم انحصار طريق ثبوت الحقيقة العرفيّة في التعيين، وإلّا فالحكم بامتناع تحقّق غلبة الاستعمال من الكثير ممّا لا وجه له ولا برهان عليه، وكيف؟ مع أنّ تحقّق الغلبة من الكثير أظهر من تحقّقها من القليل، كما لا يخفى على من ليس له حظّ من العلم إلّا قليل، ولا يكاد يشتبه على من لا يكون له نصيب من الدرك إلّا يسير.

على أنّا نقول: إنّ استحالة التعيين من الكثير على فرض التسليم إنّما تكون(2) مسلّمة عند استناده إلى جميعهم في نفس الأمر، وأمّا إذا استند إلى بعض وتبعه الباقي في ذلك ويكون الاستناد إلى الجميع لذلك فلا، كما ظهر حقّيّته لك ممّا أسلفناه.

ص: 241


1- قال المحقّق الأعرجيّ في محصوله: وربما حكي إنكارها عن بعض الأخباريّة محتجًّا بأنّ اتّفاق الخلق الكثير على نقل اللفظ ممتنع عادة، وكذا العلم بذلك، وهي شبهتهم في الإجماع، وهي مكابرة على الوجدان (المحصول: 1/ 163). وحكاه عنهم أيضًا السيّد بحر العلوم في شرح الوافية (مخطوط): الورقة 38.
2- في «ق»: يكون.
في أنّه هل يصحّ حصر الحقائق في الأقسام الثلاثة أم لا؟

ذكر كلام لختم مقام

بقي الكلام في هذا المقام في أنّ حصر الحقائق في هذه الأقسام هل يكون صحيحًا، فلا توجد حقيقة إلّا وقد اندرجت تحت واحد منها، أو لا بل هنا قسم آخر غير مندرج تحت شيء منها؟

ظاهر(1) جماعة(2) بل صريحهم: الثاني؛ لأنّ الأعلام الشخصيّة غير مندرجة تحت شيء من الأقسام المذكورة مع كونها حقائق؛ لاستعمالها فيما عيّنت لها وإفادتها إيّاها من غير افتقار إلى قرينة، أمّا عدم اندراجها تحت الشرعيّة واللغويّة، فلظهوره غنيّ عن البيان؛ وكذلك الحال بالنسبة إلى العامّة من العرفيّة؛ وأمّا عدم اندراجها في العرفيّة الخاصّة، فلتصريحهم بأنّ الوضع فيها من فريق أو قوم، والأعلام ليست كذلك؛ لاختصاص الوضع فيها بواحد.

ردّ على من زعم أنّ الأعلام ليست بحقيقة ولا مجازًا

وأفرط بعضٌ في هذا المقام، فادّعى أنّها ليست بحقائق ولا مجازات، قال العلّامة في النهاية:

ص: 242


1- في «ق»: وظاهر.
2- كالفخر الرازيّ في المحصول: 1/ 295، والآمديّ في الإحكام: 1/ 33- 34، وينظر نهاية الوصول: 1/ 290، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 164، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 28.

الأعلام ليست حقيقة ولا مجازًا؛ لكونها من الألقاب، والحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له، والمجاز في غير ما وضع له، وذلك(1) يستدعي كونهما قد وضعا قبل هذا(2) الاستعمال لغة، وأسماء الأعلام ليست كذلك؛ فإنّ مستعملها لم يستعملها فيما وضعها(3) أهل اللغة له(4) ولا في غيره؛ لأنّها لم تكن من وضعهم، فلا تكون(5) حقيقة ولا مجازًا(6).

وفساد هذا الاستدلال ممّا لا يفتقر إلى البيان؛ إذ المراد من الموضوع له في قوله: «إنّ الحقيقة إنّما تكون عند استعمال اللفظ فيما وضع له»(7)، إمّا أن يكون الموضوع له اللغويّ أو الأعمّ.

وعلى الأوّل نقول: إنّ انتفاء ذلك بالنسبة إلى المعنى العَلَميّ وإن كان(8) مسلّمًا، لكنّ الّذي يلزم من ذلك أن لا تكون الأعلام حقيقةً لغويّةً بالنسبة إلى المعاني العَلَميّة، وهو مسلّم ولا يلزم منه انتفاء الحقيقيّة(9) مطلقًا، ضرورة أنّ نفي

ص: 243


1- في المصدر: وهو.
2- «هذا» لم ترد في المصدر.
3- في المصدر: وضعه.
4- «له» لم ترد في المصدر.
5- في المصدر: «بل لفظ مستعمل من كلام العرب ما عدا الوضع الأوّل، فإنّه لا يخلو عن الحقيقة والمجاز».
6- نهاية الوصول: 1/ 290.
7- في «ق»: وضع له أوّلًا.
8- في «ق»: كانت.
9- في «ق»: الحقيقة.

الأخصّ غير مستلزم لنفي الأعمّ.

وعلى الثاني نقول: إنّ ذلك وإن كان مسلّمًا، لكن استلزامه أن لا تكون الأعلام حقائق بالنسبة إلى المعاني العَلَميّة ممنوع، وكيف؟ مع أنّها قد عيّنت بإزاء تلك المعاني وليس المراد من الوضع إلّا ذلك.

وقوله: «وذلك يستدعي كونهما قد وضعا قبل هذا الاستعمال لغة» إلخ، لا يخفى ما فيه؛ لأنّه على التقدير الأوّل وإن كان مسلّمًا، ضرورة أنّ استعمال اللفظ في الموضوع له اللغويّ مسبوقٌ بالوضع اللغويّ، لكن على تقدير تسليم انتفاء ذلك في الأعلام لا يلزم أن لا تكون(1) حقيقة مطلقًا كما تقدّم، وعلى التقدير الثاني نمنع الملازمة، ضرورة أنّ استعمال اللفظ في الموضوع له غير اللغويّ إنّما يستدعي تحقّق ذلك الوضع، لا الوضع اللغويّ كما لا يخفى.

وقوله: «لأنّها لم تكن من وضعهم»، إن أريد أنّ الأعلام ليست من الموضوعات اللغويّة بالنسبة إلى المعاني العَلَميّة، فهو مسلّم، لكن لا اختصاص له بالأعلام، بل كلّ من الحقائق العرفيّة والشرعيّة كذلك، فكما لا يمنع ذلك من اتّصافهما بوصف الحقيقة، فليكن غير مانع بالنسبة إلى الأعلام لانتفاء الفارق.

وإن أريد أنّها ليست من موضوعاتهم مطلقًا، فهو ممنوع، وكيف؟ مع أنّ عَمرًا وزيدًا ونحوهما من الأسماء المتكثّرة موضوعةٌ في اللغة لغير المعاني العَلَميّة، وذلك ممّا لا يرتاب فيه ولا شكّ يعتريه، فالحقّ أنّها في المعاني العَلَميّة حقائق

ص: 244


1- في «ق»: لا يكون.

بالنسبة إلى مكالمات واضعها ومن يخاطب باصطلاحه؛ لصدق حدّ الحقيقة عليه، وإنكاره ممّا لا وجه له.

الأعلام مندرجة تحت العرفيّة الخاصّة

بقي الكلام في أنّها هل تكون مندرجة تحت واحد من الأقسام المذكورة، أو لا بل هي قسم آخر على حدة، فلا يصحّ حصر الحقائق في الأقسام المتقدّمة؟

فنقول: الظاهر اندراجها تحت العرفيّة الخاصّة، والظاهر أنّ مرادهم من كون الوضع فيها(1) من فريقٍ أو طائفةٍ أنّها حقيقة عندهم، لا لزوم صدور الوضع منهم؛ لبعد أن تكون الاصطلاحات المتكرّرة في العلوم وغيرها بأسرها ممّا اتّفق عليه طائفة، ثمّ عيّنوا بإزاء معانيها، بل الظاهر صدوره من بعض، ثمّ تبعه غيره ممّن دخل معه في فنّه، سواء كان ذلك البعض واحدًا أو متعدّدًا.

والأمر في الأعلام أيضًا كذلك؛ لأنّها حقيقة في المعاني العَلَميّة عند كلّ من يوافق الواضع في ذلك، على أنّ دعوى حصر الوضع في الأعلام من واحد ممنوعة، إذ ربّما يتّفق مشاركة جمع في تعيين اسم لبعض المسمّيات، والحمد لخالق الأرضين والسماوات.

استقصاء عقليّ

اعلم: أنّ الأقسام المتصوّرة للنقل بملاحظة أقسام الحقائق من اللغويّة

ص: 245


1- في «ق»: فيهما.

والشرعيّة والعرفيّة والاصطلاحيّة ستّة عشر، يحصل من ملاحظة كلّ من الأقسام معه ومع الآخر: نقل اللغويّة من اللغويّة والشرعيّة والعرفيّة والاصطلاحيّة؛ ونقل الشرعيّة من الشرعيّة واللغويّة والعرفيّة والاصطلاحيّة؛ ونقل العرفيّة من العرفيّة واللغويّة والشرعيّة والاصطلاحيّة؛ ونقل الاصطلاحيّة من الاصطلاحيّة واللغويّة والشرعيّة والعرفيّة.

لكنّ بعضًا من هذه الأقسام معلومُ التحقّق وبعضها معلوم العدم وبعضها محتمل الأمرين، والتفصيل يظهر بعد الإحاطة بما ذكرنا في هذه الأقسام الثلاثة، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين.

ص: 246

الفصل الرابع: في الأمور المتعلّقة بالأقسام المذكورة للحقائق

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأوّل: في تعيين الموضوع له
في أنّ الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني الذهنيّة أو الخارجيّة
اشارة

فنقول: قد اختلفوا في ذلك على أقوال أربعة:

الأوّل: أنّ الألفاظ بأسرها موضوعة للأمور الخارجيّة(1).

والثاني: أنّها موضوعة للمعاني الذهنيّة(2).

والثالث: أنّها موضوعة للماهيّات من حيث هي هي، أي مع قطع النظر عن كونها موجودة في الخارج، أو مُرتسمة في الذهن(3).

ص: 247


1- هذا ما جزم به الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع، ينظر البحر المحيط: 1/ 397، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 200، ونهاية السؤل: 2/ 16.
2- ممّن ذهب إليه الفخر الرازيّ في المحصول: 1/ 200، والبيضاويّ في منهاج الأصول (المطبوع مع نهاية السؤل): 2/ 11، والعلّامة في تهذيب الوصول: 63، ونهاية الوصول: 1/ 165، وينظر البحر المحيط:1/397، ومنية اللبيب: 1/ 121.
3- ذهب إليه الأسنويّ في نهاية السؤل: 2/ 16، وملّا ميرزا جان الباغنويّ، كما في هامش شرح تجريد الأصول (مخطوط): 1/ 101، والمحقّق النراقيّ في أنيس المجتهدين: 1/ 41.

والرابع: التفصيل بأنّ الألفاظ في الجزئيّات الخارجيّة موضوعة للأشخاص الخارجيّة، وفي الجزئيّات الذهنيّة للأشخاص الذهنيّة، وفي الكلّيّات للماهيّات من حيث هي، فهو قول بالأقوال الثلاثة كلٌّ في مورد(1).

مستند القول الأوّل: مستند القول بكون الألفاظ موضوعة للمعاني الخارجيّة مع الجواب عنه
اشارة

واستدلّ من ذهب إلى الأوّل بأنّها لو لم تكن موضوعة للحقائق الخارجيّة؛ لما كانت متبادرة منها عند الإطلاق، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الشرطيّة فلأنّها حينئذٍ لم تكن من المعاني الحقيقيّة، والتبادر على ما تقدّم تحقيقه من خواصّ الحقيقة، وخاصّة الشيء ما لا يوجد في غيره وإلّا لم تكن خاصّة له.

وأمّا بطلان التالي فلظهور أنّ المتبادر من قولك: دخلت السوق، وبعت العبد، وأخذت الدراهم، واشتريت الإدام، ودخلت الدار، وأكلت الخبز، وشربت الماء وغير ذلك، الحقائق الخارجيّة بحيث لا يمكن إنكاره، فلو لم تكن الألفاظ موضوعة بإزائها لم يكن الأمر كذلك(2).

ص: 248


1- ينظر البحر المحيط: 1/ 397، وإشارات الأصول: 1/ 22.
2- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 28.
الجواب عن مستند القول الأوّل بالمعارضة
اشارة

ويمكن الجواب عنه بالمعارضة والمناقضة، أمّا الأوّل فمن وجوه:

الوجه الأوّل

الأوّل: أنّ الألفاظ لو كانت بأسرها موضوعات للأمور الخارجيّة؛ لامتنع إطلاق شيء منها حقيقة على المعدومات في الخارج(1). والشرطيّة ظاهرة، أمّا بطلان التالي فللقطع بأنّ شريك الباري والمعدوم والمنفي وما ضاهاها حقيقة في معانيها المفهومة منها، مع أنّه لا تحقّق لشيء منها في الخارج، وكذا الكلام في الألفاظ المستعملة في المعاني الكلّيّة والصور الذهنيّة الجزئيّة.

الوجه الثاني

والثاني: أنّها لو كانت كذلك، لزم امتناع الكذب في الأخبار؛ وبطلان التالي غنيّ عن البيان، إذ الضرورة قاضية بانقسامها إلى الصادقة والكاذبة، أمّا الشرطيّة فلأنّه بناءً على هذا التقدير يلزم أن يكون كلّ خبر موضوعًا للموجود في الخارج ودالًّا عليه، فالتكلّم ب: «زيد قائم» الموضوع لقيام زيد الموجود في الخارج إنّما يمكن عند تحقّق القيام له في الخارج، وحينئذٍ لا يكون الكلام إلّا صادقًا(2).

ص: 249


1- ينظر أنيس المجتهدين: 1/ 41، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 28.
2- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 29.
الجواب عن الوجه الثاني

أجيب عن ذلك: بأنّ ذلك إنّما يتوجّه إذا كانت دلالة الألفاظ على معانيها عقليّة، إذ حينئذٍ يمتنع تخلّف المدلول عن الدالّ، فيلزم من الدالّ على النسبة الخارجيّة - وهو الخبر - تحقّقها في الخارج، كما يلزم من اللفظ المسموع وجود لافظه، لكنّه فاسد، بل دلالتها وضعيّة، وتخلّف المدلول عن الدالّ بالدلالة الوضعيّة ممّا لا شبهة فيه، فحينئذٍ لا يلزم من قولنا: «زيد قائم» الدالّ على تحقّق النسبة في الخارج تحقّقها فيه، فعلى هذا نقول: إنّ تقسيم الخبر إلى الصدق والكذب باعتبار تحقّق النسبة في الخارج وعدمه.

ويمكن أن يقال: إنّه بناءً على القول بكون الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني الخارجيّة، استعمال الخبر في الموضوع له إنّما يكون عند تحقّق النسبة في الخارج، وحينئذٍ لا يحتمل الكلام غير الصدق.

وحكاية جواز تخلّف المدلول لا تنفع، وعند الاستعمال في غير الموضوع له وإن كان محتملًا، لكنّ القسمة حينئذٍ غير واردة على مقسم واحد؛ لكون الأخبار المستعملة فيما وضعت له صادقة أبدًا، والأخبار المستعملة في المعاني المغايرة لما وضعت لها كاذبة كذلك.

الجواب عن المعارضة بنحوٍ آخر

ويمكن أن يجاب عن المعارضة بنحوٍ آخر، وهو أنّها إنّما تكون متوجّهة لو كان القائل بكون الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني الخارجيّة قائلًا بكونها موضوعة

ص: 250

للمعاني الخارجيّة المطابقة لنفس الأمر بحسب الواقع، وليس الأمر كذلك؛ لما ستقف عليه في حكاية تغيّر التسمية بتغيّر الصور الذهنيّة من كونها موضوعة للمعاني الخارجيّة المطابقة لنفس الأمر بحسب اعتقاد المتكلّم.

فعلى هذا نقول: إنّ «زيد قائم»، موضوعٌ عنده لقيام زيد الموجود في الخارج باعتقاده، فعند مطابقة الاعتقاد للواقع يكون صادقًا وعند مخالفته يكون كاذبًا، ويمكن حمل الجواب المذكور على ذلك(1).

الوجه الثالث

والثالث: أنّ الألفاظ بأسرها لو كانت موضوعة للمعاني الخارجيّة، لزم امتناع تحقّق الوضع في المركّبات والحروف؛ لأنّ معانيها أمور نسبيّة والنسبة لا وجود لها في الخارج، والتالي باطل؛ للقطع بتحقّقه في الجميع، كما حقّقناه في المقدّمة بحيث لا يبقى معه شكّ وريبة، ومنه يظهر أنّ المعارضة المذكورة مبنيّة على التسليم وغمض العين عن الحقيقة.

الجواب عن الوجه الثالث

ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ الظاهر أنّ من قال بكونها موضوعة للمعاني الخارجيّة، أراد ما يكون موجودًا في الخارج بنفسه، أو بواسطة الغير؛ والمنتفي في النسبة الوجود على الطرز الأوّل لا الثاني.

ص: 251


1- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 28.
الجواب عن مستند القول الأوّل بالمناقضة

وأمّا الثاني: فهو أنّا لا نسلّم تبادر المعاني الخارجيّة عند انتفاء القرينة، واستفادتها من الألفاظ المذكورة في الأمثلة المتقدّمة وإن كانت مسلّمة، لكنّها مقرونة بالقرائن الدالّة على الخارجيّة، كالدخول والبيع والشراء والأكل والشرب؛ والفهم الّذي له مدخليّة في إثبات الحقيقة إنّما هو الفهم من غير معونة القرينة.

الجواب عن المناقضة

لكنّه خلاف الإنصاف، أمّا أوّلًا: فلأنّه لا شبهة في تبادر المعاني الخارجيّة من الألفاظ المتقدّمة وإن تجرّدت عن القرائن المذكورة، وأمّا ثانيًا: فلأنّ الألفاظ المذكورة إنّما تصلح للقرينة لاستفادة المعاني الخارجيّة منها؛ لوضوح أنّه لو أريد منها المعاني الذهنيّة لا تكون صالحة لذلك، واستفادتها إنّما هو لتبادرها منها، فلا يكون ذلك إلّا لوضعها، فالحقّ الّذي لا محيص عنه تسليم تبادرها منها، لكن غاية ما يلزم من ذلك كونها حقيقة في تلك المعاني.

وكذا الكلام فيما يكون الأمر فيه على تلك المثابة ولا يثبت منه الكلّيّة الّتي ادّعاها المستدلّ من وضع الألفاظ بأسرها للمعاني الخارجيّة، وستعرف حقيقة الحال وتفصيل المقال عند إبراز الحقّ من بين الأقوال.

مستند القول الثاني: حجّة القول بأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الذهنيّة دون الخارجيّة
اشارة

واستدلّ القائلون بالثاني بما حاصله: أنّها لو لم تكن موضوعة للصور الذهنيّة لما

ص: 252

دارت معها وجودًا وعدمًا، وبعبارة أخرى: وهي أنّها لو لم يكن كذلك، لما تغيّرت تسمية الشيء الواحد الخارجيّ بتغيّر الصور الذهنيّة، والتالي باطل(1).

أمّا الملازمة؛ فلأنّ الصور الذهنيّة حينئذٍ إمّا معانٍ مجازيّة للألفاظ، أو ليست هي أيضًا، وعلى التقديرين لا وجه لعدم إمكان الإطلاق عند انتفائها، أمّا على الثاني فغير مفتقر إلى البيان، وأمّا على الأوّل فلأنّ المعاني الحقيقيّة للألفاظ حينئذٍ غير الصور الذهنيّة، أي الأمور الخارجيّة، والضرورة قاضية بأنّ انتفاء المعاني المجازيّة غير صالح لسلب إطلاق الألفاظ على المعاني الحقيقيّة، وكيف؟! مع أنّه يؤكّد ذلك، وأنّ وضع الألفاظ للاستعمال في المعاني الحقيقيّة وانتفاء غيرها كيف يصير مانعًا عن ترتّب تلك(2) الفائدة، وكذا إطلاق اللفظ على المعنى المجازيّ لا يسلب صحّة إطلاقه على معناه الحقيقيّ بالضرورة.

وأمّا بطلان التالي؛ فلأنّ مَن رأى شبحًا من بعيد وظنّه حجرًا ترتسم الصورة الحجريّة في ذهنه فسمّاه به، فإذا تغيّر ذلك بظنّه شجرًا ترتسم صورته الشجريّة في ذهنه فسمّاه به، وإذا تغيّر ذلك بظنّه إنسانًا ترتسم صورته في ذهنه فسمّاه به، ولا يطلق عليه لفظ «الحجر» و«الشجر» وإن كان هو في نفس الأمر واحدًا منهما.

فانتفاء المعنى المجازيّ - وهو الصورة الحجريّة مثلًا وتغيّره - صار سببًا لعدم

ص: 253


1- ينظر المحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 200، ومنية اللبيب: 1/ 121- 122، وإشارات الأصول: 1/ 21، وأنيس المجتهدين: 1/ 41، وشرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 28.
2- في «ق»: ذلك.

صحّة إطلاق لفظ «الحجر» على معناه الحقيقيّ على فرض وضعه للمعنى الخارجيّ، وكذا إطلاق اللفظ على المعنى المجازيّ - وهو الصورة الإنسانيّة - صار سببًا لعدم إطلاق اللفظ الموضوع له - وهو الحجر مثلًا - عليه.

فنقول: تغيّر التسمية بتغيّر الصور الذهنيّة مع كون المسمّى في الخارج واحدًا، وكذا عدم تغيّرها لعدم تغيّرها مع كون المسمّى فيه مختلفًا، دليلٌ ظاهر على كون الوضع للصور الذهنيّة، لا الأمور الخارجيّة، أمّا الأوّل: فقد ظهر، وأمّا الثاني: فلأنّ مَن رأى أشباحًا مختلفة في نفس الأمر كالشجر والحجر والإنسان، وظنّ الجميع إنسانًا مثلًا، لا يرتسم في ذهنه إلّا الصورة الإنسانيّة ولا يصحّ عنده الإطلاق على الجميع إلّا لفظ «الإنسان».

فعلى هذا فالمناسب(1) أن يُقرّر الدليل هكذا:

لو لم يكن(2) الألفاظ موضوعة للصور الذهنيّة؛ لما تغيّرت التسمية بتغيّر الصورة مع كون المسمّى في الخارج واحدًا، وكذا لما اتّحدت التسمية لأشياء متعدّدة عند وحدة الصورة مع كون المسمّى مختلفًا؛ واللزوم وكذا بطلان التالي قد ظهر ممّا ذكر. 

ص: 254


1- جاء في حاشية الأصل: لا يخفى أنّ الأنسبيّة بالنظر إلى إلحاق الجزء الثاني، لا بالنسبة إلى تغيير العبارة؛ وإنّما قال: الأنسب؛ لأنّ العبارة المذكورة أوّلًا لا يمكن تغييرها بحيث تشمل الأمرين، [كما] يظهر للمتأمّل. منه.
2- كذا في الأصل، والصواب: لم تكن.
الجواب عن مستند القول الثاني بالمنع

في إبطال(1) حجّة القول بكون الألفاظ موضوعة للمعاني الذهنيّة والجواب عنه بالمنع والمعارضة، أمّا الأوّل فلأنّا لا نسلّم [أنّ] تغيّر التسمية إنّما هو بتغيّر الصورة ودوران الألفاظ معها، بل إنّما هو لتغيّر الشيء الخارجيّ باعتقاده، فلمّا اعتقد ذلك الشيء الخارج حجرًا سمّاه به، ثمّ لمّا تبيّن له فساد ذلك الاعتقاد باعتقاد كونه شجرًا سمّاه به وهكذا؛ فتسميته حجرًا إنّما هو باعتقاده حجرًا في الخارج، وكذا الحال في الشجر، فدوران الألفاظ إنّما هو مع الشيء الخارجيّ باعتقاده(2).

إن قلت: إنّ الشيء(3) الخارج في الواقع ونفس الأمر غير مختلف، فلو كان اللفظ موضوعًا بإزائه لما [كان] وجهٌ لاختلافه.

قلنا: إنّ اللفظ بناءً على هذا القول وإن كان موضوعًا للشيء الخارجيّ النفس الأمريّ، لكن الشيء الخارجيّ النفس الأمريّ الّذي يكون باعتقاد المستعمل كذلك، وحيث اعتقد أنّه الحجر النفس الأمريّ أطلق عليه اللفظ الموضوع للشيء النفس الأمريّ، ثمّ لمّا تبيّن له فساده ظهر أنّه ما أصاب نفس الأمر وأخطأ في التسمية.

نعم، إنّ ذلك إنّما يتوجّه لو قلنا بأنّ اللفظ موضوع للشيء الخارج(4) النفس

ص: 255


1- في «ق»: بطلان.
2- ينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 28.
3- في «ق»: للشيء.
4- في «ق»: الخارجيّ.

الأمريّ بشرط مطابقته للواقع، لكنّه فاسد، إذ لا شبهة في أنّ وضع الألفاظ للاستعمال في المعاني؛ ولو كان الأمر على ما ذكر؛ لما أمكن ذلك إلّا بعد العلم بمطابقته للواقع بحيث لا يحتمل المخالفة، وهو ممّا يقطع بفساده، بل ربّما يمكن دعوى استحالته؛ لاحتمال الاشتباه وتطرّق الغلط إلى الحواسّ.

على أنّه لا يتفاوت الحال في ذلك بين كونه موضوعًا للشيء الخارجيّ والصورة الذهنيّة؛ لأنّ مقتضاه أن يكون موضوعًا للصورة الذهنيّة النفس الأمريّ بشرط مطابقتها للواقع، فحينئذٍ ينبغي أن لا يطلق عليه إلّا اللفظ الموضوع بإزاء الصورة الواحدة المطابقة.

واحتمال هذا الاشتراط في الشيء الخارجي(1) دون الصورة من الأمور التحكميّة الّتي لا يرضى التفوّه بها إلّا مَن لم يكن له من العقل حظّ ومن الفهم نصيب.

الجواب عن مستند القول الثاني بالمعارضة
اشارة

وأمّا الثاني فمن وجوه:

الوجه الأوّل

الأوّل: هو انّه لا يجوز أن يكون الألفاظ بأسرها موضوعة بإزاء الصور(2) الذهنيّة، إذ لو كان الأمر كذلك لما أمكن استعمال شيء من الألفاظ في المعاني الخارجيّة إلّا على وجه المجاز دون الحقيقة، والتالي باطل.

ص: 256


1- في «ق»: الخارجيّ.
2- في «ق»: الصورة.

أمّا الشرطيّة فظاهر، إذ على هذا التقدير لا يكون الموضوع له إلّا الصور الذهنيّة، فيكون المعاني الخارجيّة غير الموضوع لها، فاستعمال الألفاظ فيها لا يكون في الموضوع له، فلا يكون حقيقة.

وأمّا بطلان التالي فللقطع بتحقّق أمارة الحقيقة من التبادر وعدم صحّة السلب والاطّراد في كثير من الألفاظ بالنسبة إلى الخارجيّة كما مرّت إلى جملة منها الإشارة.

وكيف لا؟! مع أنّ إرادة الصور الذهنيّة في كثير منها غير ممكنة، كما في قولك: زيد مريض، وعمرو شاعر، وبكر فاضل، ونحوها، واحتمال استعمالها في المعاني الخارجيّة مجازًا لعلاقة المشاكلة ممّا لا يحتمله مَن له أدنى اطّلاع على مباحث الفنّ، وقد عرفت وجهه.

وبالجملة: إنّ الحكم بمجازيّة الألفاظ بأسرها في المعاني الخارجيّة ممّا يقطع بفساده، بل خلاف الضرورة.

الوجه الثاني

والثاني: هو انّه لو كانت الألفاظ بأسرها موضوعة للصور(1) الذهنيّة؛ لوجب الانتقال عند سماع الألفاظ إليها، والتالي باطل، والملازمة بيّنة، أمّا بطلان التالي فللقطع بأنّ من سمع لفظ «زيد» مثلًا، لا ينتقل منه إلّا إلى زيد المعلوم المرتسم صورته في الذهن من غير التفات إلى تلك الصورة، بل مع إنكارها، كما للمتكلّمين النافين للصور الذهنيّة.

ص: 257


1- في «ق»: الصورة.
الوجه الثالث

والثالث: هو أنّه لا يمكن أن يكون الألفاظ بأسرها موضوعة للصور الذهنيّة، إذ من الألفاظ ما لا صور ذهنيّة لمفاهيمها، كلاشيء واللاموجود ونحوهما، ضرورة أنّ كلّ ما يفرض في الذهن فهو شيء وموجود فيه، فتأمّل.

ثمّ على تقدير غمض العين عمّا يرد في البين نقول: إنّ غاية ما يلزم من الدليل المذكور انتفاء الوضع في الألفاظ للمعاني الخارجيّة، ولا يلزم من ذلك أن يكون الوضع فيها للصور الذهنيّة؛ لاحتمال الواسطة بأن يكون الوضع للماهيّة من حيث هي.

إن قلت: إنّ هذا الإيراد ونحوه إنّما يتوجّه إذا كان هذا القول ممّن قال بحصول الأشياء بأشباحها في الذهن، وأمّا إذا كان ممّن يقول بحصول الأشياء بأنفسها فيه فلا، إذ المراد بالصورة بناءً عليه الماهيّة.

قلنا: نعم، لكن لا الماهيّة المطلقة، بل الماهيّة باعتبار الوجود في الذهن، فلا ينتهض الدليل لإثبات المدّعى أيضًا؛ لوضوح أنّه لا يلزم من عدم وضع اللفظ للمعاني الخارجيّة وضعه للماهيّة الموجودة في الذهن؛ لاحتمال الوضع للماهيّة من حيث هي مع قطع النظر عن تحقّقها في أحد الطرفين، كما هو القول الثالث في المسألة.

ص: 258

في أنّ النزاع في وضع الألفاظ مبنيٌّ على النزاع في مسألة المعلوم بالذات على ما ذكره بعضهم

ثمّ إنّ الفاضل الباغنوي في حاشيته على متعلّقات الأمور العامّة من التجريد، جعل النزاع في هذه المسألة مبنيًّا على النزاع المعروف بين أرباب المعقول في المعلوم بالذات من أنّه: إمّا(1) الصورة الذهنيّة، بناءً على أنّها الحاصلة في الذهن حقيقة، وذا الصورة إنّما يحصل فيه بواسطتها، فتكون(2) تلك الصور معلومة بالذات وذو الصور معلومًا بالتبع، أو الأمر الخارجيّ - كما ذهب إليه أفضل الحكماء المحقّق الطوسيّ والإمام الرازيّ والمحقّق الشريف ومن يحذو حذوهم(3) - بناءً على أنّه هو الملتفت إليه بالذات، وأنّ الصورة إنّما هي مرآة لملاحظته وآلة لدركه، ولذا قد يحصل الالتفات إلى الأمر الخارجيّ من دون شعور بالصورة، بل مع إنكارها، كما للمتكلّمين النافين للوجود الذهنيّ.

فعلى هذا من قال بالأوّل في تلك المسألة -كالشيخين الفارابيّ والرئيس وأضرابهما- يلزمهم القول بوضع الألفاظ للصور الذهنيّة فيما نحن فيه، ومن قال بالثاني كمن تقدّم ذكرهم، يلزمهم القول بوضعها للأمور الخارجيّة.

حيث قال في الحاشية المذكورة:

ص: 259


1- في «ق»: انّ.
2- في «ق»: فيكون.
3- نقله المحقّق النراقيّ عن الرازيّ والشريف في شرح الإلهيّات من الشفاء: 1/ 417، وينظر شرح الوافية، للسيّد بحر العلوم (مخطوط): الورقة 29- 30.

أنّهم قد اختلفوا أنّ الألفاظ إمّا موضوعة للصور الذهنيّة، أو للمعلوم الخارجيّ؟ وقد اختلفوا أيضًا في أنّ المعلوم بالذات هل هو الصورة الذهنيّة، أو المعلوم الخارجيّ؟ والظاهر أنّ الخلاف الأوّل يتفرّع على الخلاف الثاني، إذ لا شكّ أنّ الألفاظ موضوعة لما هو معلوم بالذات، انتهى(1).

والظاهر أنّ الأمر كذلك، إذ لا بدّ للواضع حين الوضع من العلم بالموضوع له، واختصاص المعلوم بالتبع بالوضع وإهمال المعلوم بالذات بعيد جدًّا، فتأمّل.

والمستفاد من كلام صاحب المحاكمات في مسألة المعلوم بالذات أنّ المعلوم بالذات في الموجودات الخارجيّة هو الموجود الخارجيّ، وفي غيرها الصور الذهنيّة(2).

والظاهر أنّ هذا التفصيل هو مراد المحقّق الطوسيّ ومشاركوه وإن كانت كلماتهم مطلقة، إذ كيف يتوهّم في شأن أمثالهم أنّ المعلوم بالذات في غير الموجودات الخارجيّة أيضًا هو الموجود الخارجيّ عندهم، مع أنّ ذلك ممّا لا يتفوّه به مَن له أدنى فطنة، فضلًا عن هؤلآء الأجلّة.

فعلى هذا ما ذكره الفاضل الباغنوي في حاشيته على المحاكمات(3) بعد نقل القولين في المعلوم بالذات: «أنّه لم يذهب أحدٌ إلى أنّ المعلوم في الموجودات

ص: 260


1- لم نعثر عليه، ينظر شرح الإلهيّات من الشفاء، للمحقّق النراقيّ: 1/ 417.
2- المحاكمات بين شرحي الإشارات: 2/ 314، ونقله عنه السيّد بحر العلوم (قدس سره) في شرحه على الوافية (مخطوط): الورقة 30.
3- لم نعثر على حاشيته.

الخارجيّة هو الموجود الخارجيّ وفي غيرها هو الصور الذهنيّة، كما يستفاد من كلام صاحب المحاكمات»، ممّا لا وجه له، منشؤه إطلاق القولين في بادي الأمر.

ثمّ على البناء المذكور من كون النزاع فيما نحن فيه مبنيًّا على النزاع في مسألة المعلوم بالذات، يكون وضع الألفاظ عند هؤلاء الأعلام للأمور الخارجيّة في الموجودات الخارجيّة، والذهنيّة في الموجودات الذهنيّة، فهذا القول إمّا يكون قولًا خامسًا في المسألة، أو لا، بل يرجع إطلاق القول الأوّل إليه، وهو الظاهر؛ لأنّ احتمال وضع اللفظ للأمر الخارجيّ في غير الموجودات الخارجيّة ممّا لا يصدر من عاقل، فحينئذٍ يندفع عنه بعض ما أوردنا عليه سابقًا.

إن قيل: إنّ عدم إمكان إرادة الإطلاق من مقالة القائلين بأنّ المعلوم بالذات هو الأمر الخارجيّ، إنّما هو إذا حمل الأمر الخارجيّ في كلامهم على معناه المعلوم لما تقدّم، لكنّه ليس بلازم؛ لجواز أن يكون المراد بالأمر الخارجيّ مقابل الصورة -أي الماهيّة من حيث هي- أو الموجود في نفس الأمر، بناءً على أنّ جميع المفهومات موجودة في نفس الأمر؛ لأنّها تصلح أن تصير موضوعات لقضايا إيجابيّة صادقة.

قلنا: هذا مع ما فيه من شدّة مخالفته للظاهر، إنّما يصحّ في الكلّيّات، وأمّا الأشخاص فلا؛ لوضوح أنّه ليس المعلوم في «زيد» ونحوه الماهيّة الإنسانيّة، بل شخصه، والموجود في نفس الأمر يصدق على الماهيّة والصورة، فجعله في مقابل(1) الصورة لما عرفت من أنّ المعلوم بالذات بناءً على القول الأوّل الصور غيرُ

ص: 261


1- في «ق»: مقابلة.

صحيح، بل لا يصحّ جعله في مقابل(1) شيء أصلًا؛ لأنّ كلّ شيء موجود في نفس الأمر بالمعنى المذكور.

نعم، يمكن أن يكون مرادهم بالأمر الخارجيّ ذا الصورة، فيشمل الماهيّة من حيث هي والشخص الخارجيّ والذهنيّ، فمرجع القولين حينئذٍ أنّ المعلوم بالذات إمّا الصور(2) الذهنيّة، أو ذو الصور؛ وهو في الكلّيّات والجزئيّات الذهنيّة الماهيّة الّتي يلتفت إليها في ضمن الصورة الحاصلة في الذهن وفي الجزئيّات الخارجيّة نفسها.

فعلى البناء المذكور يكون وضع الألفاظ عند أرباب هذا القول لذي الصور، فعلى هذا يمكن إرادة هذا المعنى من الأمر الخارج في القول الأوّل فيما نحن فيه؛ وهو أنّ الألفاظ موضوعة للأمور الخارجيّة، فلا يكون القائل بالقولين في المسألتين(3) مختلفًا، بل يكون القول الأوّل حينئذٍ بالمآل هو القول الرابع، فيقلّ النزاع في المسألة.

والفاضل المحقّق الخوانساريّ(4) جعل النزاع بين القولين المذكورين فيما نحن فيه وفي مسألة المعلوم بالذات لفظيًّا عند صحّة البناء المذكور من كون النزاع في

ص: 262


1- في «ق»: مقابلة.
2- في «ق»: الصورة.
3- جاء في حاشية الأصل: أي مسألة المعلوم بالذات ومسألة وضع الألفاظ. منه.
4- شرح الشفاء، للخونساريّ: لم يوجد لدينا. نقله عنه السيّد بحر العلوم في شرحه على الوافية (مخطوط): الورقة 30.

هذه المسألة مبنيًّا على النزاع في تلك، بناءً على أنّ مراد المحقّق الطوسيّ ومشاركوه من كون الأمر الخارجيّ معلومًا بالذات إنّما هو في الموجودات الخارجيّة، وأمّا في غيرها فالصور الذهنيّة.

فمقتضى البناء المذكور أن يكون الوضع في الأوّل للأمر الخارجيّ، وفي الثاني للصور، ومقتضاه أيضًا أنّ الشيخ الرئيس والفارابيّ ممّن ذهب(1) إلى أنّ الوضع للصور الذهنيّة؛ ولمّا استبعد من مثلهما المصير إلى وضع اللفظ للصورة في الموجودات الخارجيّة أيضًا، يجعل مذهبهما أنّ الوضع للصورة في غيرها، وأمّا فيها فلها، وهو التفصيل المذكور.

ولمّا كان المفروض أنّ هذا النزاع متفرّع على النزاع في مسألة المعلوم بالذات، يلزم أن يكون مذهبهما فيها التفصيل المذكور في كلام المحقّق الطوسيّ، فرجع مآل القولين في مسألة الوضع إلى شيء واحد؛ وهو أنّ الوضع في الموجود الخارجيّ للأمر الخارجيّ، وفي الموجود الذهنيّ للصورة؛ وهو مآل القولين في مسألة المعلوم بالذات، فجعل فساد الحكم بكون المعلوم بالذات الأمر الخارجيّ بعنوان الإطلاق دليلًا على التفصيل المتقدّم، ومنه اهتدي بمعونة البناء المذكور إلى تشخيص المذهب في مسألة الوضع.

ولمّا علم مذهب الشيخين أنّ المعلوم بالذات هو الصور، علم بمعونة البناء أنّ وضع الألفاظ للصور؛ ولمّا كان القول بوضعها للصور مطلقًا ولو في الموجودات

ص: 263


1- كذا في الأصل.

الخارجيّة فاسدًا، جعل ذلك دليلًا على أنّ مذهبهما ليس الإطلاق، بل التفصيل، ومنه اهتدي بمعونة البناء المذكور أنّ ما يفهم من ظاهر كلامهما من كون المعلوم بالذات هو الصور مطلقًا، ليس ممّا يقولان به، بل المراد ما عدا الموجودات الخارجيّة، فيصير النزاع بين الفريقين لفظيًّا في كلتا المسألتين.

وأنت خبير بأنّه لو فتحت أبواب أمثال التكلّفات المذكورة لرفع النزاع في المسائل الخلافيّة؛ لأمكن رفعه(1) في كثير من المواقع المختلفة لو لم يمكن في جميعها.

وكيف كان أنّ القول بكون الألفاظ بأسرها موضوعة للصور الذهنيّة ممّا لا شبهة في فساده ما دام محمولًا على ظاهره.

ويمكن أن يكون مرادهم التنبيه على ما أشرنا إليه سابقًا من أنّها لم يكن موضوعة للمعاني النفس الأمريّة الخارجيّة الّتي غير محتملة للمخالفة، بل للمعاني الخارجيّة الّتي علم في الذهن أنّها كذلك، فالفرس مثلًا ليس موضوعًا لما هو فرس في الخارج ونفس الأمر بحيث لا يحتمل المخالفة، بل للفرس الّذي علم بعنوان الفرسيّة وتمثّلت منه صورة الفرسيّة في الذهن ولو مع مخالفته للواقع، فيكون مآل هذا القول على هذا التقرير: أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الخارجيّة الّتي علمت انّها كذلك، لا المعاني الخارجيّة الّتي طابقت للواقع غير محتملة للمخالفة.

وحمل مقالتهم على هذا المعنى وإن كان مخالفًا للظاهر في نفسه، لكن لا يبعد أن يجعل ما تمسّكوا به في إثبات المرام من تغيّر تسمية الأشباح عند تغيّر الصور على ما

ص: 264


1- في «ق»: دفعه.

تقدّم مؤيّدًا لإرادة هذا المطلب ومؤكّدًا في إعانة هذا المقصد، فيكون مرامهم على هذا أنّه ليس وضع الألفاظ للمعاني الخارجيّة الواقعيّة، وإلّا يلزم أن لا يمكن(1) التسمية في الشيء الخارج(2) عند تخيّلنا إيّاه خلاف ما هو في الواقع، وأن لا يتغيّر التسمية بتعقّلنا إيّاه أمورًا متغايرة، بل هي موضوعة للأمور المعلومة.

وحينئذٍ لا يرد عليه إلّا أمران:

الأوّل: مطالبة اطّراد هذا المعنى في جميع الألفاظ، مع أنّ من الألفاظ ما لا خارج لمسمّياتها، كالألفاظ الموضوعة للأمور الكلّيّة، وبالجملة: الألفاظ الموضوعة للمعاني المعدومة.

ويمكن أن يتصدّى في إثباته بأن يقال: إنّ مرامهم من وضع الألفاظ للصور الذهنيّة أنّه للأمور المعلومة، لا للأمور المطابقة في الواقع، فعلى هذا لا شبهة في إمكان اطّراده في جميع الألفاظ، أمّا في الموجودات الخارجيّة فقد عرفت، وأمّا في غيرها فبأن يقال: إنّ ألفاظ الكلّيّات موضوعة لما علمناه كلّيًّا، لا لما يكون كلّيًّا في نفس الأمر والواقع(3)، وهكذا في الجزئيّات الذهنيّة.

فعلى هذا الاحتمال يمكن رجوع النزاع بين القولين من وضع الألفاظ للأمور الخارجيّة والأمور الذهنيّة لفظيًّا بأن يكون المراد من(4) الأمور الخارجيّة خلاف

ص: 265


1- في «ق»: لا يكون.
2- في «ق»: الخارجيّ.
3- «والواقع» لم ترد في «ق».
4- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): من وضع الألفاظ للأمور الخارجيّة وضعه لخلاف الصور الذهنيّة، خ ل.

الصور الذهنيّة من حيث إنّها علم، ومن(1) الصور الذهنيّة الأمور المعلومة، فتأمّل.

والثاني: عدم انتهاض حجّتهم في إثبات هذا المرام؛ وهذا حقّ قد أومأنا إليه فيما سلف ونصرف زمام الكلام إليه فيما غبر مع زيادة تحقيق بمعونة فيّاض التحقيق وربّ التوفيق.

القول الثالث ومستنده:
اشارة

والقول الثالث: - وهو أنّ الألفاظ بأسرها موضوعة للماهيّة من حيث هي، مع قطع النظر عن تحقّقها في أحد الظرفين(2) - مختار جماعة من المتأخّرين(3)، منهم: الفاضل الباغنوي، لتوهّمه أنّ ما ذكر في إثبات القول الثاني إنّما يتمّ إذا كان المراد من الصورة الذهنيّة الماهيّة من حيث هي، فإنّه قد يطلق(4) الصورة على الماهيّة على ما ذكره في حاشيته على الإشارات(5)، بخلاف ما إذا كان المراد من الصورة الذهنيّة معناها الظاهر، فإنّه لا يلزم من عدم كونها موضوعة للأمور الخارجيّة وضعها

ص: 266


1- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): ومَنْ وضع الألفاظ للصور الذهنيّة وضعه للأمور المعلومة، خ ل.
2- كذا في الأصل، والصواب: الطرفين، كما في «ق».
3- منهم الأسنويّ في نهاية السؤل: 2/ 16، وملّا ميرزا جان الباغنويّ كما في هامش شرح تجريد الأصول(مخطوط): 1/ 101، والمحقّق النراقيّ في أنيس المجتهدين: 1/ 41.
4- كذا في الأصل، والصواب: قد تطلق.
5- حاشية الباغنويّ على الإشارات: لم يوجد لدينا.

للصور الذهنيّة؛ لجواز وضعها للماهيّة من حيث هي.

وربّما استدلّ عليه بأنّه لمّا لم يكن القول بوضع الألفاظ للموجودات الخارجيّة ولا للصور الذهنيّة، تعيّن القول بوضعها للماهيّة.

الجواب عن مستند القول الثالث

وفي كليهما نظر، أمّا في الأوّل: فلانّا لا نسلّم أنّ مقتضى ما ذكر في إثبات القول الثاني الوضع للماهيّة من حيث هي(1)؛ وعلى فرض التسليم نمنع أن يكون مقتضاه انحصار الوضع في الألفاظ للماهيّة من حيث هي؛ لتماميّته ولو بوضع بعض الألفاظ لها، كما يظهر وجهه للمتأمّل(2).

ثمّ إنّ إطلاق الصورة الذهنيّة على الماهيّة من حيث هي لا يخفى ما فيه، والّذي يظهر من كلام صاحب المحاكمات(3) في مسألة الوجود الذهنيّ إطلاق الصورة على

ص: 267


1- جاء في حاشية الأصل: لما تقدّم من أنّ تغيّر التسمية يمكن مع كون الألفاظ موضوعة للأمور الخارجيّة، إذ اعتقد الشيخ ذلك الشيء الخارجيّ أطلق عليه لفظه؛ ولمّا تبيّن فساد ذلك الاعتقاد واعتقده شيئًا خارجيًّا آخر أطلق عليه لفظه، وهكذا. منه.
2- جاء في حاشية الأصل: بل نقول: إنّ ذلك على فرض تماميّته إمّا يتمّ إذا كان لمسمّى اللفظ خارج، وأمّا في الألفاظ الّتي لا خارج لمسمّياتها فلا، كما سبق، وأيضًا لك أن تقول على سبيل المعارضة: أنّه لو كان المراد من الصورة الذهنيّة الماهيّة، لا يتمّ الدليل لعين ما ذكره، إذ لا يلزم من عدم كونها موضوعة للأمور الخارجيّة وضعها للماهيّة من حيث هي؛ لجواز وضعها للماهيّة بشرط وجودها الذهنيّ، فتأمّل. منه.
3- المحاكمات بين شرحي الإشارات: 2/ 308. منه.

الماهيّة المعلومة، أي باعتبار وجودها الذهنيّ، لا إطلاقها على الماهيّة من حيث هي.

وأمّا في الثاني: فهو أنّ الّذي ظهر من المباحث السالفة فساد القول بوضع الألفاظ بأسرها للموجودات الخارجيّة أو الذهنيّة، ولا يلزم منه انحصار الوضع للماهيّة من حيث هي؛ لجواز أن يكون الوضع في البعض للموجود الخارجيّ، وفي بعض للموجود الذهنيّ، وفي آخر للماهيّة من حيث هي، كما هو القول الرابع في المسألة.

وكيف مع أنّ وضع الألفاظ للماهيّة من حيث هي إنّما يكون مسلّمًا في الكلّيّات، وأمّا في الأشخاص فلا؛ لوضوح أنّ اللفظ الدالّ على الشخص -كزيد مثلًا- لو كان موضوعًا للماهيّة من حيث هي؛ لكانت تلك الماهيّة إمّا ماهيّة الإنسان، أو غيرها، وكلاهما بيّن الفساد ضروريّ البطلان، والملازمة بيّنة.

أمّا بطلان الشقّ الأوّل من التالي، فلأنّه حينئذٍ يكون المفهوم من لفظ «زيد» مثلًا عين المفهوم من لفظ «الإنسان»، وفساده من فرط الظهور كالنور في ليلة الديجور؛ لاستلزامه أن يكون «زيد» الجزئيّ الحقيقيّ كلّيًّا ويلزم منه انحصار الألفاظ في الكلّيّات، وهو ممّا يشهد اتّفاقهم، بل الضرورة على خلافه، وكيف مع أنّ نفس تصوّر مفهومه يمنع عن الشركة بين كثيرين، ومفهوم الإنسان غير مانع عنها.

وأمّا بطلان الشقّ الثاني منه فكذلك، إذ لا ماهيّة لزيد غير ماهيّة الإنسان مع قطع النظر عن وجوده في الذهن أو في الخارج حتّى يكون هي الموضوع لها، بل ماهيّته هي ماهيّة الإنسان، إذ الحقّ عند أرباب التحقيق أنّه ليس في هويّة كلّ شخص سوى ماهيّته الكلّيّة، فإنّها إذا وجدت في أيّ من الظرفين المعلومين صارت متشخّصة بدون انضمام شيء إليها، فإن كان الخارج كانت شخصًا

ص: 268

خارجيًّا، وإن كان الذهن كانت شخصًا ذهنيًّا، وتشخّص كلّ شخص بنحو وجوده الخاصّ به.

والقول بأنّه يدخل في هويّة كلّ شخص أمرٌ سوى الماهيّة الكلّيّة، يكون نسبته إلى الماهيّة النوعيّة نسبة الفصل إلى الجنس، خلاف التحقيق كما بيّن في محلّه، فظهر ممّا ذكر أنّه ليس للأشخاص ماهيّة سوى ماهيّاتها الكلّيّة، وقد علمت أنّ الألفاظ الدالّة على الأشخاص ليست موضوعة بإزاء تلك الماهيّات، وبالجملة: إنّ القطع حاصل بأنّ الأعلام الشخصيّة موضوعة لمسمّياتها الخارجيّة، فالحكم بوضع الألفاظ بأسرها للماهيّات من حيث هي فاسد.

إن قلت: إنّ العَلَم لو كان موضوعًا للشخص، لزم أن لا يصدق على ذلك المسمّى في غير حالة الوضع؛ لعدم بقاء ذلك الشخص بعينه، فينبغي أن يكون موضوعًا للمعنى العامّ الصادق عليه حين الوضع وبعده، وهو الماهيّة.

قلنا: إنّه موضوع لذلك الشخص على وجه يمتاز به عن ما عداه، بمعنى أنّه لوحظ منه في الوضع بالميزة(1) عن غيره، وهذا المعنى متحقّق معه في جميع الحالات.

وممّا يؤكّد المرام أنّ زيدًا لو كان موضوعًا للماهيّة من حيث هي، لزم صدقه على كلّ ما تحقّقت فيه الماهيّة، بل عليها نفسها، وبطلانه غنيّ عن البيان.

لا يقال: إنّه موضوع للماهيّة مع ذلك التشخّص، فلهذا لا يصدق على غيره؛ لأنّ الوضع حينئذٍ ليس للماهيّة من حيث هي، والماهيّة مع التشخّص هو الشخص.

ص: 269


1- في «ق»: بالمرّة.
المختار من بين الأقوال: القول الرابع
اشارة

فالحقّ بين الأقوال هو القول الرابع، وهو أنّ الوضع في الجزئيّات الخارجيّة للموجودات الخارجيّة، وفي الذهنيّة للذهنيّة، وفي الكلّيّات للماهيّة من حيث هي، وممّا ذكر في الأقوال المذكورة من النقض والإبرام، يظهر الوجه في ذلك، فلاحظه بعين البصيرة حتّى يظهر لك حقّيّة(1) المقال.

وممّا يؤكّد ذلك ما سيجيء من أنّ الوضع في الضمائر وأسماء الإشارة والمبهمات عامّ والموضوع له خاصّ، والأدلّة الدالّة على ذلك وفساد القول بأنّ الموضوع له فيها عامّ أدلّة على فساد القول بأنّ وضع الألفاظ للماهيّة من حيث هي كما لا يخفى.

تنقيح المقام
اشارة

ثمّ إنّ تنقيح المقام يستدعي بيان أمور:

الأمر الأوّل: فيما يتوجّه على المختار من الإيراد ودفعه
الإيراد الأوّل

أمّا الإيراد فهو أنّه لو كانت الألفاظ في الجزئيّات الخارجيّة موضوعة للأمور الموجودة، لما صحّ الحكم عليها بالوجود والعدم الخارجين(2)؛ ولما جاز التردّد في كونها موجودة في الخارج أو لا، والتالي باطل.

ص: 270


1- في «ق»: حقيقة.
2- في «ق»: الخارجيّين.

أمّا الملازمة فلأنّه يلزم بناءً على هذا التقدير.

أن لا يكون قولنا: «زيد موجود في الخارج» مفيدًا أصلًا؛ لكونه بمنزلة قولك: «زيد الموجود في الخارج موجود في الخارج».

والتناقض في قولنا: «زيد ليس بموجود في الخارج»، إذ هو بمنزلة قولك: «الموجود في الخارج ليس بموجود فيه».

والتردّد في الشيء المعلوم الوجود بين وجوده وعدمه.

وكذا لما جاز الاستفهام عن وجود «زيد» وعدمه في قولك: «زيد هل موجود أم لا؟»؛ لكونه استفهامًا فيما علم وجوده عن وجوده وعدمه.

وأمّا بطلان التوالي فمعلوم بالوجدان وغنيّ عن البيان.

الإيراد الثاني

ولو كان الوضع في الكلّيّات للماهيّات من حيث هي؛ لما كانت عند استعمالها في الجزئيّات حقيقة، والملازمة ظاهرة؛ لكون المستعمل فيه غير الموضوع له والموضوع له غير المستعمل فيه.

وأمّا بطلان التالي فلوضوح أنّ: «دخلت الدار» و«أكلت الخبز» و«شربت الماء» وما ضاهاها مع استعمالها في الجزئيّات حقائق كما عرفت سابقًا.

وأيضًا أنّ كثيرًا من أشباه تلك الألفاظ - كالصلاة والزكاة والصوم وأشباهها - قد علّق طلب الشارع بها، والماهيّة من حيث هي غير مقدور عليها، فلو كان الوضع فيها للماهيّات من حيث هي، لزم أن يكون متعلّق طلب الشارع ما لا

ص: 271

يكون مقدورًا عليه.

الدفع عن الإيراد الأوّل
اشارة

وأمّا الدفع عن الإيراد الأوّل، فيمكن من وجهين:

الوجه الأوّل

الأوّل: أنّ غاية ما يلزم من وضع اللفظ للموجود في الخارج أن يكون الخارج ظرفًا لوجوده، ومن المعلوم أنّه لا يلزم من ظرفيّة شيء لآخر دوامها واستمرارها؛ لعدم كون المظروف واجب الوجود الّذي امتنع انتفاؤه، فيكون انقطاع الظرفيّة في كلّ آنٍ محتملًا.

فعلى هذا يكون الإخبار عمّا وضع للموجود في الخارج بالوجود فيه إنّما هو لرفع هذا الاحتمال والتنبيه على بقاء الظرفيّة حال الخطاب، وبالعدم إنّما هو لتحقّق الاحتمال وانقطاع الظرفيّة، ولا شبهة أنّه فائدةٌ عظيمةٌ لم تكن حاصلة للمخاطب، وكلّ من التردّد في الوجود والعدم والاستفهام عنهما إنّما هو لذلك، ومن الأمور المعتبرة في التناقض وحدة الزمان، وهي منتفية في المقام، إذ معنى قولنا: «زيد ليس بموجود» الموجود في الخارج في الماضي ليس بموجود في الحال.

الوجه الثاني

والثاني: أنّ المحذور إنّما يتوجّه إذا كان الوجود الخارجيّ مثلًا جزءًا للموضوع له، فإنّ العلم بالموضوع له حينئذٍ يستلزم العلم بجزئه، فيلزم أن لا يكون قولنا: «زيد موجود» مفيدًا، والتناقض وهكذا إلى آخر ما قدّمناه؛ أو كان وصفًا محقّقًا له،

ص: 272

فإنّ الحكم بالوجود حينئذٍ في قولنا: «زيد موجود» يستلزم أن يكون لغوًا وغير مفيد، وبالعدم يوجب التناقض والتردّد بينهما، والاستفهام عنهما بمنزلة التردّد والاستفهام عن اللازم مع القطع بوجود الملزوم.

لكنّه ليس كذلك، بل هو وصف تقديريّ، بمعنى أنّ وضع الألفاظ للذوات المعيّنة الّتي لو وجدت لكانت موجودة في الخارج، فعلى هذا يمكن أن يكون اللفظ موضوعًا للمعنى الخارجيّ ولا يكون موجودًا في الخارج، إمّا بأن لم يوجد أصلًا، أو وجد وطرأ عليه العدم؛ وحينئذٍ يمكن الإخبار بالوجود والعدم والتردّد بينهما والاستفهام عنهما كما لا يخفى.

والجواب الأوّل أولى، يظهر وجهه للمتأمّل فيهما.

الدفع عن الإيراد الثاني

وأمّا عن الإيراد الثاني فبالمعارضة والمنع، أمّا الأوّل فبأن يقال: لو لم يكن الوضع في الكلّيّات للماهيّات، لزم أن لا يكون استعمالها فيها على وجه الحقيقة، والملازمة ظاهرة، وبطلان التالي أظهر.

وأمّا الثاني: فهو أنّ ذلك إنّما يكون متوجّهًا إذا لم يمكن استعمال اللفظ الموضوع للماهيّة في أفرادها إلّا على وجه المجاز، وهو غير صحيح؛ لأنّ المسلّم عند أئمّة الأصول والعربيّة أنّ لفظ العامّ والكلّي إذا أُطلق على الخاصّ والجزئيّ لا باعتبار الخصوصيّة والجزئيّة، بل باعتبار العموم، فهو ليس من المجاز.

ص: 273

وتحقيقه على ما لا مزيد عليه يُطلب من حواشينا على معالم الأصول(1).

وهنا نقول: إنّ هذا الحكم بناءً على القول بوجود الكلّيّ الطبيعيّ وأنّ وجوده بعين وجود أفراده بأن يكونا موجودين بوجود واحد، ظاهرٌ، وأمّا على القول بعدم وجوده فمشكل؛ إذ الموضوع له - وهو المعنى العامّ - غير موجود في ضمن الفرد وبوجوده؛ وحينئذٍ لا يكون المستعمل فيه إلّا الفرد، وهو غير الموضوع له، فلا يمكن حينئذٍ أن يكون الاستعمال في الفرد إلّا على وجه المجاز.

فعلى هذا لا يندفع أصل الإيراد من أنّ الوضع في الكلّيّات لو كان للماهيّات لما كان استعمالها في الأفراد إلّا على وجه المجاز، وهو باطل لما تقدّم، فلا يكون الوضع فيها بإزائها.

ويمكن أن يقال: إنّ إمكان الاستعمالين مبنيٌّ على القول الأوّل، وهو الصحيح، فلمّا كان القول الثاني -وهو نفي الوجود الطبيعيّ مطلقًا- فاسدًا، فلا يلتفت إليه.

ولقائل أن يقول: سلّمنا ذلك، لكن مقتضاه إمكان كلّ من الاستعمالين، وفيما نحن فيه ليس الاستعمال إلّا على الحقيقة، إذ لا يمكن استعمال لفظ «الخبز» و«الماء» و«الدار» وما ضاهاها في الفرد على وجه المجاز؛ لتحقّق أمارة الحقيقة في كلّ موضع.

وبالجملة: إنّ مقتضى ما ذكر أنّه لو استعمل الكلّيّ وأريد منه المعنى العامّ في

ص: 274


1- الحاشية على معالم الأصول، للمصنّف (قدس سره): مخطوط.

ضمن الفرد كان حقيقة، ولو استعمل في خصوص الفرد كان مجازًا؛ ومن المعلوم أنّ الألفاظ الّتي كلامنا فيها حين استعمالها في الخصوص تحقّقت فيها أمارة الحقيقة من التبادر وعدم صحّة السلب والاطّراد، فاستعمالها(1) في خصوص الأفراد لا يكون إلّا على وجه الحقيقة، فلا يتمّ الجواب.

فيما يمكن أن يقال في دفع الإيراد

ويمكن أن يقال في دفع الإيراد: إنّ المراد(2): أنّ وضع الألفاظ في الجزئيّات الخارجيّة لها إلخ، وهذه الأفراد الخارجيّة هي الجزئيّات المذكورة، إذ كلّ واحد منها يمتنع صدقه على غيره فضلًا عن صدقه على كثيرين، فتكون تلك الألفاظ موضوعة بإزائها، كما أنّها موضوعة للمعاني الكلّيّة أيضًا، فعدم كون الاستعمال في تلك الأفراد إلّا على وجه الحقيقة غير منافٍ للمطلوب، بل يؤكّده.

فيما يتوجّه عليه

لكن يتوجّه عليه شيئان:

الأوّل: أنّه بناءً على ذلك لا معنى للحكم بأنّ استعمال الكلّيّ في الفرد يكون على وجهين؛ لما عرفت من أنّ استعمال اللفظ حينئذٍ في الفرد على وجه الحقيقة أبدًا، كما أنّ استعماله في الماهيّة من حيث هي كذلك.

ص: 275


1- في «ق»: واستعمالها.
2- في «ق»: المراد.

والثاني: أنّه يلزم بناءً على ما ذكر أن تكون الألفاظ الموضوعة للماهيّات الّتي لها أفراد خارجيّة أو ذهنيّة مشتركة، فيلزم اشتراك أكثر الألفاظ، وهو غير صحيح؛ لأنّ تتبّع الكتب المصنّفة في اللغة مكذّب إيّاه، وانتفاء أمارة الاشتراك فيها من عدم الحمل إلّا على البعض المدلول عليه بالقرينة مبطل له، وقضيّة أكثريّة المجاز من الاشتراك كما صدرت من فحول الأعلام مفسدة فيه.

الحقّ في الجواب عن الإيراد الأوّل

والحقّ في الجواب هو ما تقدّم، بأن يقال: إنّ تلك الألفاظ عند استعمالها في الأفراد إنّما تكون حقيقة في الصورة المفروضة، وأمّا عند استعمالها في خصوص

-الأفراد ويكون الخصوصيّة مرادة منها بأن يكون الدالّ واحدًا والمدلول متعدّدَ المعنى العامّ والخصوصيّة- فلا.

ودعوى تحقّق خواصّ الحقيقة فيها ممنوعة.

تحقيق ذلك: هو أنّ دعوى تبادر الجزئيّات الخارجيّة من لفظ «الخبز» و«الدار» ونحوهما، إمّا أن يكون عند اقترانها بالقرائن الدالّة عليها، كما في قولك: «أكلت الخبز» و«شربت الماء» و«دخلت الدار» وهكذا، أو مطلقًا حتّى يكون المتبادر من «الدار» و«الخبز» ونحوهما الأفراد الخارجيّة.

وعلى الأوّل: وإن كان التبادر مسلّمًا، لكنّه ليس من خواصّ الحقيقة؛ لاستلزامه انسداد باب المجاز بالمرّة؛ لوضوح أنّ المعاني المجازيّة بأسرها متبادرة عند الاقتران بالقرائن الدالّة عليها، وقد مرّ تحقيق الحال في ذلك مشروحًا في بحث التبادر، من أراد أن يظهر له حقيقة الحال ولِمُّ المقال، فعليه بتدقيق النظر في ذلك.

ص: 276

وعلى الثاني: نمنع(1) دعوى تبادر الخصوصيّات عند انتفاء العهديّة، فالتبادر المعتبر في إثبات الحقيقة غير متحقّق فيها، والمتحقّق غير معتبر.

وأمّا الاطّراد: فهو وإن كان مسلّمًا؛ لوضوح أنّ استعمال «الخبز» في الفرد(2) المعهود إنّما هو لتحقّق المعنى المعلوم فيه، وهو يصحّ في كلّ ما يتحقّق فيه ذلك؛ وهكذا الحال في «الماء» و«الدار» ونحوهما، لكن قد عرفت ممّا أسلفناه في بحثه أنّه غير ناهض في إثبات الحقيقة.

وأمّا السلب: فهو وإن لم يكن صحيحًا؛ لظهور أنّه لا يصحّ في أفراد «الخبز» مثلًا أن يقال: إنّها ليست بخبز، ولمن يأكله: أنّه ما يأكل خبزًا، وهكذا في أمثاله، لكنّه لم يثبت منه كون اللفظ حقيقة في خصوص الفرد.

تحقيق ذلك يستدعي أن يقال: إنّ المعنى الكلّىّ -بناءً على التحقيق- لمّا كان موجودًا بوجود الفرد بأن يكونا موجودين بوجود واحد، صحّ حمل العامّ عليه بحمل هو هو، بأن يقال: هذا خبز، وهذه دار، وزيد إنسان، وما ضاهاها، مع أنّ المعتبر في الحمل: الاتّحاد الذاتيّ والتغاير الاعتباريّ، فلو لم يكونا متّحدين بالذات لما صحّ الحمل، وصحّة الحمل الإيجابيّ مستلزمة لأن لا يصحّ الحمل السلبيّ بأن يقال: «إنّه ليس بخبز»، أو: «زيد ليس بإنسان» ونحوهما؛ لاستلزامه اجتماع النقيضين.

ولمّا كان الوجه في الحمل كونهما موجودين بوجود واحد، فسلب الحمل يستلزم

ص: 277


1- في «ق»: يمنع.
2- في «ق»: العرف.

سلبه، فيلزم اجتماع النقيضين، لكنّ الّذي يلزم من ذلك أنّ انتفاء السلب إنّما هو بالنسبة إلى المعنى العامّ الّذي بتحقّقه في ضمن الخاصّ وبوجوده صحّ حمله عليه.

ومن المعلوم أنّ عدم السلب إنّما يقتضي حقيقيّة اللفظ فيما لا يصحّ سلبه عنه، وهو فيما نحن فيه المعنى الكلّيّ، وحقيقيّة اللفظ بالنسبة إليه ممّا لا تنكر، وهو ما قدّمنا من أنّه إذا استعمل لفظ الكلّيّ في الخاصّ باعتبار العموم لا باعتبار الخصوص لا يكون مجازًا، ولا يلزم منه أن يكون لفظ الكلّيّ حقيقة في خصوص الجزئيّات، إذ عدم السلب لم يثبت بالنسبة إليها، بل خلافه متحقّق.

ألا ترى أنّه يقال: «زيد ليس بإنسان فقط»، وكما يصدق ذلك فليصدق: «هذه ليست بدار فقط»، و«هو ليس بخبز كذلك»، إذ لا افتراق بينهما من هذه الجهة؛ غاية ما في الباب أنّ الفرد الإنسانيّ عيّن له اسم بخصوصه وراء الإنسان، بخلاف أفراد «الخبز» بالنسبة إليه، وهو لا يصلح فارقًا فيما نحن بصدد بيانه، بل ذلك إنّما هو لتحقّق الدواعي في ذلك التعيين من المخاطب(1)، وغيره هناك وانتفائها فيما نحن فيه.

وممّا ذكر ظهر أنّ المراد من كون الوضع في الجزئيّات الخارجيّة للموجودات الخارجيّة إنّما هو بالنسبة إلى الألفاظ الّتي عيّنت لها بخصوصها، كزيد وعمرو ونحوهما من أيّ نوع كان، لا بالنسبة إلى اللفظ الكلّيّ عند استعماله في الجزئيّات من حيث إنّها جزئيّاته.

ص: 278


1- في «ق»: التخاطب.

هذا كلّه بالنسبة إلى الإيراد الأوّل على تقدير كون الوضع في الكلّيّات للماهيّات من حيث هي.

الحقّ في الجواب عن الإيراد الثاني

وأمّا الإيراد الثاني، فهو أنّا نقول: إنّ الماهيّة غير المقدورة إنّما هي الماهيّة بشرط لا، لا الماهيّة اللابشرطيّة(1)؛ لظهور إمكان إيجادها في ضمن بعض الأفراد، وما نحن فيه من هذا القبيل، فامتناع تعلّق طلب الشارع بمطلق الماهيّات غير مسلّم.

تنبيه

وممّا يتوهّم(2) تفريعه على هذه المسألة هو النظر إلى صورة الأجنبيّة للرجل(3) والأجنبيّ للمرأة المرتسمة في الماء والمرآة والجدار والخشب ونحوها، فإنّه بناءً على القول بأنّ وضع الألفاظ للأمور الخارجيّة ينبغي أن يجوز النظر إليها، بخلافه على القول بأنّ وضعها للصور؛ وكذلك الحال في الأدعية والأذكار الموظّفة وغيرها، فإنّه على القول بوضع الألفاظ للصور ينبغي أن يتأتّى الامتثال بتخيّلها، بخلافه على القول الآخر.

لكنّه غير صحيح، إذ القائل بأنّ وضع الألفاظ للصور لم يقل بوضعها لها مطلقًا، بل للصور الذهنيّة، والصور المنقوشة فيما ذكر ليست منها.

ص: 279


1- في «ق»: اللابشرط.
2- المتوهّم هو المحقّق النراقيّ في أنيس المجتهدين: 1/ 42.
3- في «ق»: لرجل.

نعم، ربّما يتخيّل له وجه، بناءً على القول بحصول الأشياء بأشباحها في الذهن، فإنّ تلك الصور أيضًا أشباح، لكنّه أيضًا ليس بشيء؛ إذ له أن يقول: إنّ الصور الذهنيّة ما كانت مرتسمة في الذهن، مضافًا إلى أنّه منبئٌ أنّ ذلك القائل ممّن يقول بحصول الأشياء بأشباحها في الذهن، وهو غير معلوم، وأمّا حكاية الأدعية والأذكار فلا بأس بها(1).

لا يقال: يمكن أن يقال من قِبَله: إن كان المراد من الأذكار ممّا كان مستنده مثل أن يقال: «من ذكر فله كذا»، فنلتزم ذلك، وما الدليل على بطلانه؟! وإن كان المراد ممّا يكون مستنده مثل من قال: «كذا فله كذا»، فلا نسلّم أنّه يلزم بناءً على القول المذكور ما ذكر؛ لوضوح أنّ القول لا يتحقّق إلّا باللسان.

لأنّا نقول بعد غمض العين عن الأوّل: إنّ المفروض أنّ الألفاظ بأسرها موضوعة للصور الذهنيّة، ومنها لفظ «القول»، فيلزم المحذور، بل يلزمه الحكم بعدم الامتثال فيما إذا قرأها مع الغفلة عن صورها الذهنيّة.

ولك أن تقول أيضًا: إنّه يلزم بناءً على ظاهر القول المذكور جواز النظر إلى المرأة الخارجيّة، إذ مقتضى كون الأصل في الاستعمال الحقيقة حمل الألفاظ على معانيها الحقيقيّة، والمفروض أنّ الموضوع له الصورُ الذهنيّة، لا الأمور الخارجيّة، فبعد حمل الأدلّة الدالّة على الحرمة على حقيقتها يلزم ما ذكر، وهكذا الحال في أمثاله، بخلافه على القول بوضعها للأمور الخارجيّة إمّا مطلقًا، أو على التفصيل المتقدّم.

ص: 280


1- في «ق»: لها.

وبالجملة: لا بدّ لهذا القائل إمّا أن يلتزم ما ذكر، أو يقول بمجازيّة الألفاظ بأسرها، وشيء منهما ممّا لا يلتزم؛ وهو دليل آخر على فساد القول المذكور -ما حمل على ظاهره- أظهرُ ممّا سلف كما لا يخفى على من تدبّر وتفطّن.

والأمر الثاني: هو أنّ وضع الألفاظ للمعاني ما كانت معانٍ باعتقاد المستعمل والمكلّف، أو في نفس الأمر والواقع
اشارة

والأمر الثاني: هو أنّ وضع الألفاظ للمعاني ما كانت معانٍ باعتقاد المستعمل والمكلّف، أو(1) في نفس الأمر والواقع

وهذا المبحث(2) من أهمّ المباحث في الباب، وكم قد يتفرّع عليه من الثمرات، مثلًا أنّ الشارع أمر بإيقاع الصلوات في مواقيتها وإلى القبلة، واجتناب النجاسات فيها، وترك المحرّمات، وغير ذلك ممّا يكون على هذا المنوال.

فلو قلنا: إنّ المعاني الموضوع لها هي ما يكون باعتقاد المكلّف، يلزم صحّة الصلاة فيما إذا اعتقد الوقتيّة ما لم يكن كذلك، والفساد فيما إذا أوقعها في الوقت النفس الأمريّ مع اعتقاد خلافه، بل مع عدم الاعتقاد، وصحّة الصلاة فيما إذا أتاها مع النجاسة النفس الأمريّة مع عدم اعتقادها، وفسادها فيما إذا أتاها مع اعتقاد النجاسة ما لم يكن كذلك في نفس الأمر؛ وجواز النظر إلى امرأة يعتقدها من محارمه وإن لم تكن(3) كذلك في الواقع، وعدمه فيما إذا اعتقد خلافه كذلك.

ص: 281


1- «أو» لم ترد في «ق».
2- في «ق»: المبحث.
3- في «ق»: لم يكن.
مختار المؤلّف

والتحقيق في هذا المقام هو ما أومأنا إليه سابقًا من أنّها موضوعة للمعاني الواقعيّة النفس الأمريّة، وذلك ممّا لا ينبغي التأمّل فيه؛ لوضوح أنّ الواضع حين الوضع لا بدّ له من تعقّل المعنى وملاحظته ثمّ يضع اللفظ بإزائه، والقطع حاصل بأنّه لا التفات له إلى ما يعتقده المخاطب والمستعمل وإن كان مخالفًا للواقع، وإنّما التفاته إلى ما يكون في الواقع ونفس الأمر، وذلك معلوم بالعيان ويشهد له الرجوع إلى الوجدان.

ألا ترى أنّ من استعمل لفظًا في مورد على اعتقاد أنّه معناه وتبيّن مخالفته للواقع ومغايرته لنفس الأمر، يقال له: إنّك خابط في ذلك، ويحكم عليه بأنّه غالط هنالك، ولا أحد يتأمّل في ذلك، وليس ذلك إلّا لعدم إصابته بالواقع؛ فلو كان وضع الألفاظ لما يعتقده المستعمل أنّه معناه، لما كان له وجه.

وهذا يعمّ اللغويّة والشرعيّة والعرفيّة، لكن لمّا كان المقصود من وضع الألفاظ استعمالها في المحاورات والداعي لإيرادها في الخطابات الامتثال لتحصيل القربات، يجوز الاستعمال لكلّ مستعمل فيما اعتقد أنّه معناه في نفس الأمر.

وكذا الأخذ في الامتثال فيما اعتقد ذلك، ثمّ بعد الإتيان لا يخلو إمّا أن يظهر عليه المطابقة للواقع، أو المخالفة، أو لا هذا ولا ذاك؛ وفي الأوّل والثالث لا ينبغي التأمّل في حصول الامتثال؛ أمّا على الأوّل فظاهر، وأمّا على الثالث فلأنّه لم يثبت من الأدلّة المقرّرة للتكاليف أزيد من ذلك؛ على أنّ العلم بالمطابقة في كثير من الموارد من الأمور المستحيلة، فالتكليف بها خارج عن حدّ الطاقة.

ص: 282

وفي الثاني: يفتقر إلى النظر في الأدلّة الدالّة على اعتباره، فإن دلّ عليه جزئيّة كانت أو شرطيّة على العموم والإطلاق، كأركان الصلاة والطهارة والوقت مثلًا، ينبغي الحكم بالبطلان، فلا يحصل له الامتثال؛ وإلّا فلا، كالنجاسة، فإنّ ما دلّ على لزوم الاجتناب عنها في الصلاة إنّما هو بعد العلم بها.

وبالجملة: إنّ ما دلّ على بطلان الصلاة بها إنّما هو بعد العلم بها، فمطلق مصاحبة النجاسة لم يثبت إفسادها للصلاة، وهكذا الحال في غيرها ممّا يكون بهذا المنوال، وهذه قاعدة متقنة، وكم يترتّب عليها من الفروعات الجليلة، والتفرقة بين الموارد لا يكون إلّا بالنظر في الأدلّة.

فعلى هذا التقرير لا يلزم صحّة الصلاة مثلًا فيما إذا أتاها في الوقت النفس الأمريّ مثلًا مع اعتقاده خلافه؛ لأنّه منهيٌّ عن الصلاة إلّا إذا اعتقد الوقتيّة، فمع عدمه يكون الأخذ بها منهيًّا عنه، والنهي في العبادة(1) يستدعي الفساد، وهكذا الكلام في القبلة وأشباههما، فلاحظ وتتبّع وتأمّل ولا تختبط ولا تخلط بعض الأقسام بالآخر.

في أنّه هل يجوز الرجوع في الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة إلى الحقيقة العرفيّة أو اللغويّة، أم لا؟

ص: 283


1- في «ق»: العبادات.
المبحث الثاني: في أنّ المناط في حمل الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة على ماذا؟
اشارة

فنقول: لا شبهة في أنّ اللازم حمل الألفاظ الصادرة من الشارع على مراده، فإن تبيّن ذلك فلا كلام فيه، سواء كان ذلك معنى حقيقيًّا أم مجازيًّا، وهو ظاهر.

وأمّا إذا لم يعلم ذلك، فهل يجوز الرجوع في تشخيصه(1) إلى العرف أو اللغة، فيحمل على الحقيقة العرفيّة أو اللغويّة؟ فيه تفصيل معروف، وهو أنّ ذلك اللفظ إن كان من أسام العبادات(2) -أي ما يتوقّف صحّتها على النيّة، كالوضوء والغسل والتيمّم والصلاة وأشباهها- فلا، وإن كان من المعاملات -أي ما لا يتوقّف صحّتها عليها- فنعم.

في أنّ الأحكام الشرعيّة بأسرها توقيفيّة

تحقيق الحال في هذا المرام يستدعي بسطًا في الكلام، فنقول: المعروف -بل قيل: لا خلاف- أنّ المرجع في نفس الأحكام الشرعيّة، سواء كانت تكليفيّة، وهي الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة، أي إثباتها لموضوعاتها، أم وضعيّة، ككون الشيء نجسًا وطاهرًا وشرطًا وسببًا ومانعًا وصحيحًا وفاسدًا وجزءًا، هو الشارع.

وأمّا موضوعاتها فقد اشتهر أنّها إن كانت من نفس العبادات بالمعنى المذكور

ص: 284


1- في «ق»: تشخّصه.
2- في «ق»: للعبادات.

فكذلك، وإلّا فيرجع فيه إلى العرف أو اللغة، سواء كانت من المعاملات أم لا.

وكذا الحال في الألفاظ المستعملة في كلام الشارع لإفادة الأحكام، كلفظ الوجوب والحرمة وغيرهما، وبيان ماهيّة العبادات كما يقال مثلًا: إنّ الوضوء غَسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين، وغيرهما.

وبالجملة: إنّ المرجع في الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة بأسرها العرف أو اللغة، إلّا الألفاظ الّتي [هي] أسامٍ لنفس العبادات.

والوجه في كون الشرع المرجع في الأحكام يظهر من الإضافة؛ لأنّ الشيء ما لم يحكم به الشارع لا يكون حكمًا شرعيًّا، فإطلاق الحكم الشرعيّ على شيء إنّما يمكن بعد حكم الشارع بذلك، فالتوصّل إليه من غير جهته غير ممكن.

والأولى أن يقال في بيان ذلك: إنّ الواجب ما أوجب فعله الثواب والفوز بمعارج الرضوان، والإخلال به العقاب والوصلة إلى درك النيران، والحرام على عكس ذلك، وكذلك الحال في المندوب والمكروه والمباح، والإخبار بتلك الغايات إنّما يمكن في حقّ العالِم بعواقب الأمور والمطّلع بحقائق الأشياء البري عن رين الجهول.

وكذلك الحال في جعل الشيء مانعًا، أو جزءًا، أو شرطًا، أو سببًا، ونحوها؛ ومعلوم انحصاره في الشارع العليم، ولا يمكن التوصّل بذلك إلّا بإيقافه وإعلامه، فلذلك(1) يكون(2) الأحكام بأسرها توقيفيّة، وفي الموضوعات الّتي هي

ص: 285


1- في «ق»: فكذلك.
2- كذا في الأصل، والصواب: تكون.

العبادات وأنّها كيفيّات وحقائق محدثة من الشارع، فلا تكون معلومة إلّا له، فالتوصّل إليها من(1) غير إيقافه وإعلامه غير ممكن أيضًا، ولذا تراهم يقولون: إنّ الأحكام الشرعيّة والعبادات توقيفيّة.

ولا يخفى عليك أنّ الحكم المذكور من توقيفيّة ماهيّات العبادات غيرُ متوقّف على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة، ولذا قال بها مَن لم يقل بها، إذ الظاهر أنّ الحكم المذكور اتّفاقيٌّ بينهم، والنزاع في الحقيقة الشرعيّة معلوم، بل متوقّف على استعمال الشارع الألفاظ المعهودة في المعاني المغايرة للمعاني اللغويّة، وهو ممّا لا شكّ فيه ولا ريب يعتريه إلّا على القول المعزى إلى القاضي(2)، ويلزمه عدم تسليم ذلك، لكنّه ممّا لا شبهة في فساده، وقد مرّ الكلام عليه في مباحث الحقيقة الشرعيّة، فلاحظ.

وجوه الإيراد في المقام
اشارة

لكن يتوجّه في المقام وجوه من الإيرادات:

الإيراد الأوّل

الأوّل: أنّ العقل عندهم معدودٌ من أدلّة الأحكام الشرعيّة، ومقتضاه كون الحكم المستند إليه شرعيًّا كما لا يخفى.

ص: 286


1- في «ق»: عن.
2- عزاه إلى القاضي في شرح مختصر المنتهى: 1/ 580- 581، والتقريب والإرشاد: 1/ 387، والإحكام، للآمديّ: 1/31، ونهاية الوصول: 1/ 246، وغاية الوصول: 1/ 171، ومنية اللبيب: 1/ 207، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 168.
الإيراد الثاني

والثاني: أنّ من جملة الأحكام الوضعيّة الصحّة والفساد، والعلم بهما لا يتوقّف على الشرع؛ لوضوح أنّ المأمور به إذا أُوقع على الوجه المطلوب يكون صحيحًا وإلّا فاسدًا، فلا يصحّ إطلاق القول بكون الأحكام تكليفيّة أم وضعيّة توقيفيّة.

في توقيفيّة العبادات دون المعاملات

الإيراد الثالث

والثالث: أنّ الوجه المذكور في توقيفيّة العبادات يستدعي توقيفيّة المعاملات أيضًا، إذ القول بالمعاني الشرعيّة غير مختصّ بالعبادات كما لا يخفى.

فعلى هذا نقول: إنّ مقتضى القول بذلك أنّ الشارع(1) جعل تلك الألفاظ أسامي(2) لمعانٍ معلومة عنده، أو(3) استعملها فيها، ومن المعلوم أنّ العلم بوضع الألفاظ مثلًا لا يتيسّر إلّا من جهة الواضع، وهذا لا اختصاص له بموضوعات الشارع؛ لوضوح عدم إمكان الاطّلاع بأيّ اصطلاح كان إلّا من أهله، سواء فيه الشارع وغيره، ولهذا يقال: إنّ اللغات توقيفيّة وأنّها لا تثبت(4) بالترجيح.

ص: 287


1- في «ق»: الشرع.
2- كذا في الأصل، والصواب: أساميًا.
3- في «ق»: إذا.
4- في «ق»: لا يثبت.
الجواب عن الإيراد الأوّل

ويمكن الجواب عن الأوّل بأنّ الأحكام الشرعيّة لها إطلاقان، الأوّل: ما حكم الشارع، والثاني: ما ينبغي أن يؤخذ من الشارع، ومرادهم من الأحكام الشرعيّة في هذا المقام المعنى الأوّل، وفيما عدّ العقل من أدلّتها المعنى الثاني؛ لوضوح أنّ حكم العقل بشيء لا يجعله ممّا حكم به الشارع كما لا يخفى، ونحن قد حرّرنا في حاشيتنا على المعالم(1) في تعريف الفقه ما ينفعك ملاحظته في المقام، فلا تنافي، فتأمّل.

الجواب عن الإيراد الثاني

وعن الثاني: بأنّ الصحّة لها معنيان: موافقة الأمر، وإسقاط القضاء، ويطلب تحقيق الحال في التفسيرين من حاشيتنا على تهذيب الأصول(2)، وسنتعرّض لهما فيما بعد إن شاء الله سبحانه.

والإيراد إنّما يتوجّه على الأوّل دون الثاني؛ ولعلّ بناء مَن عدّ الصحّة والفساد من الأحكام الوضعيّة على الثاني، فلا يكونان منها(3) على الأوّل، وستقف على مزيد تحقيق في ذلك.

ص: 288


1- الحاشية على معالم الأصول، للمصنّف (قدس سره): مخطوط، الصفحة 25.
2- الحاشية على تهذيب الوصول، للمصنّف (قدس سره): مخطوط.
3- في «ق»: فيها.
الجواب عن الإيراد الثالث

وأمّا الجواب عن الثالث(1): فلا يمكن في بادي الرأي إلّا بتخصيص القول بالحقيقة الشرعيّة بالعبادات، إذ لو عمّ المعاملات تكون ألفاظها كالعبادات منقولات عن المعاني اللغويّة والعرفيّة إلى المعاني المستحدثة، فتكون معانيها الشرعيّة مغايرة لهما جميعًا كالعبادات، فلا وجه للرجوع في تشخيصها وتعيينها إليهما قطعًا، أو بدعوى توافق الوضع الشرعيّ مع واحد منهما في المعاملات، فحيث لم يعلم المعنى الشرعيّ يرجع إلى العرف أو اللغة لثبوت الموافقة كما هو المفروض، فبالعلم بأحد الأمرين المتوافقين يعلم الآخر المجهول.

فيما يتوجّه على الوجهين

ويتوجّه على الوجهين، أمّا على الأوّل: فلأنّه مع منافاته لظواهر كثير من كلماتهم، بل تصريحات جماعة منهم، حيث لم يكتفوا في مقام التمثيل للحقائق الشرعيّة بذكر ألفاظ(2) العبادات، بل أضافوا إليها جملة من ألفاظ(3) المعاملات،

ص: 289


1- جاء في حاشية الأصل: هذا الجواب على التقرير المذكور بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة كما هو المختار، وأمّا على القول بالعدم فغير خفيّ على المتدبّر بأن يقال: إنّه لا يمكن إلّا بتخصيص القول بالمعاني الشرعيّة بالعبادات، إذ لو عمّ المعاملات تكون المعاني فيها أيضًا مغايرة للمعاني اللغويّة مثلًا، فكيف يمكن الرجوع في تشخيصها إلى اللغة؟! وهكذا الحال إلى آخر المقال. منه.
2- في «ق»: الألفاظ.
3- في «ق»: الألفاظ.

ينافيه(1) قول الفقهاء في كتبهم الفقهيّة مطلقًا ولو في المعاملات: إنّ هذا اللفظ لغةً كذا وشرعًا كذا.

فيعلم منه أنّ معناه الشرعيّ مقابل للمعنى اللغويّ، بل العرفيّ أيضًا، سواء كان استعمال الشارع على سبيل الحقيقة كما هو الظاهر من هذا التعبير ومقتضى القول بالحقيقة الشرعيّة، أو على سبيل المجاز كما يقتضيه القول بعدمها.

فكيف يمكن اختصاص القول بالحقيقة الشرعيّة بالعبادات، مع أنّ قولهم في بيان المعنى الشرعيّ وجعله مقابلًا للمعنى اللغويّ مشترك بين القسمين على حدّ سواء، بل كيف يمكن الرجوع إلى العرف واللغة في تشخيص المعنى الشرعيّ؟!

وأمّا على الثاني: فمضافًا إلى ما ذكر والتكلّف والتعسّف الظاهرين منافاته لقولهم في كتبهم الأصوليّة: إنّ الحقائق الشرعيّة منقولات، من غير تفرقة بين العبادات والمعاملات.

الجواب عمّا يتوجّه على الوجهين

ويمكن الجواب: بعد تعميم القول بالحقيقة الشرعيّة في القسمين كما هو الظاهر: إنّ الألفاظ المعهودة في المعاملات مستعملة عند الشارع في معانيها اللغويّة مثلًا، لكن لا مطلقًا، بل مقيّدة بالقيود والشروط المعتبرة المعهودة، فيتحقّق النقل في الألفاظ بأسرها وصحّت المقابلة بينهما من حيث العموم والخصوص، كما هو

ص: 290


1- جاء في حاشية الأصل: خبر «لأنّ» في قوله: «فلأنّه»، وهو لكونه مأوّلًا بالمفرد يكون فاعلًا ليتوجّه، والتقدير: يتوجّه على الأوّل منافاته لقول الفقهاء. منه.

المعروف عن القاضي في العبادات، حيث نقلوا عنه: أنّ ألفاظ العبادات مستعملة في معانيها اللغويّة، والأمور المعتبرة فيها شرعًا ليست بداخلة في المستعمل فيه، بل زوائد خارجة وشرائط معتبرة، والشرط خارج عن المشروط(1).

وقد أسلفنا المقال فيه وفي ردّه(2)، فيكون مناط الفرق بين العبادات والمعاملات عدم تسليم ذلك في الأوّل، بل هي مستعملة فيها في المعاني المحدثة من الشارع، ولهذا لا يمكن الرجوع في تشخيصها إلى اللغة، بل يقال: إنّها توقيفيّة كما عرفت، وتسليمه في المعاملات(3)، ولهذا يتوصّل في مقام التشخيص إلى اللغة، وكلّما ظهر اعتباره من الشارع يكون ذلك تقييدًا للمعنى اللغويّ وشرط الصحّة للمعنى الشرعيّ.

والثمرة بين الاحتمالين من كون الألفاظ المتردّدة في المعاملات مستعملة في معانيها اللغويّة أو غيرها، تظهر فيما لم يظهر اعتباره شرعًا مع احتماله، فإنّه على الأوّل يدفع بالأصل، للشكّ في اشتراط المكلّف به بشيء خارج، فما لم يثبت يدفع بالأصل، بخلافه على الثاني فيما احتمل أنّه من جزء المستعمل فيه والمكلّف به، فإنّ الأصل عدم حصوله إلّا بإتيان جميع الأمور المحتملة، فلا يحصل الامتثال إلّا

ص: 291


1- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 580- 581، والتقريب والإرشاد: 1/ 387، والإحكام، للآمديّ:1/31، ونهاية الوصول: 1/ 246، وغاية الوصول: 1/ 171، ومنية اللبيب: 1/ 207، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 168.
2- تقدّم في ص76، مباحث الحقيقة الشرعيّة.
3- جاء في حاشية الأصل: والمراد من قولنا: «تسليمه في المعاملات» تسليمه في الجملة، لا مطلقًا، إذ القاضي لا يقول بالحقيقة الشرعيّة. منه.

بذلك، وقد أسلفنا المقال في مثله في الحقيقة الشرعيّة، وستقف على مزيد تحقيق في نظير المسألة إن شاء الله سبحانه.

لكنّه أيضًا غير صحيح؛ لأنّ الحكم بأنّ ألفاظ المعاملات بأسرها مستعملة في معانيها اللغويّة ممّا يشهد على فساده العيان وينطق بخلافه البرهان؛ لظهور أنّ الظهار والخلع والمباراة والإيلاء واللعان والتدبير والمكاتبة وأشباهها لم تكن(1) موضوعة في اللغة بإزاء معانيها المعهودة من الشارع، وكذلك الحال في لفظ: الإيمان والكفر والعدالة والفسق والطهارة والنجاسة والحدث، بل معانيها المعهودة معيّنة في الكلّ من الشارع، فلا يمكن التوصّل إليها إلّا من قبله، فالحكم بأنّ الموضوعات بأسرها في المعاملات مرجعها العرف أو اللغة، فاسد.

بل ربّما يمكن أن يقال: كما لم تصحّ هذه الدعوى على الإيجاب الكلّيّ في المعاملات، كذا لم تصحّ على السلب الكلّىّ في العبادات، بل القدر المسلّم الجزئيّ في كليهما إيجابًا في الأوّل وسلبًا في الثاني، بل كلاهما في كليهما، أمّا في الأوّل فلما عرفت، وأمّا في الثاني فلأنّ الظاهر أنّ لفظ: الركوع والسجود والطواف ونحوها، لم تنقل عن معانيها اللغويّة مطلقًا، بل التغاير بينهما من حيث الإطلاق والتقييد على نحو ما مرّ الكلام في المعاملات، فالحكم بعدم جواز الرجوع في موضوعات(2) العبادات إلى اللغة على الإطلاق غير صحيح أيضًا.

ص: 292


1- في «ق»: لم يكن.
2- «موضوعات» لم ترد في «ق».
التخلّص عن ذلك بوجوه
اشارة

ويمكن التخلّص عن ذلك بوجوه:

الوجه الأوّل

الأوّل: أنّ محلّ الكلام(1) على ما أومأنا إليه فيما إذا لم يظهر مخالفة اصطلاح الشارع فيه للّغة، وأمّا إذا ظهرت فلا يكون المرجع فيه إلّا الشرع، وهو ظاهر غير مفتقر إلى البيان.

فالمحصّل: أنّ الألفاظ الواردة في كلام الشارع ممّا لم يظهر فيه اصطلاحه إن كانت من العبادات فلا يجوز الرجوع في تشخيص معانيها إلى غير الشرع، بخلافه إن كانت من المعاملات.

إن قلت: قد ظهر ممّا أسلفت أنّ مخالفة اصطلاح الشارع للّغة وعدمها قد ثبت في كلّ من النوعين، فما لم تظهر فيه المخالفة كما يمكن أن يكون في العبادات ممّا ثبتت وفي المعاملات ممّا لم تثبت، كذا يمكن العكس، وكذا يمكن أن يكون في كلّ منهما ممّا ثبتت، كما يمكن أن يكون فيهما ممّا لم تثبت، فالاحتمالات أربعة، مقتضى الأوّل الحمل على ما ثبتت المخالفة في العبادات وعلى ما لم تثبت في المعاملات، فتعيّن الرجوع في الأوّل إلى الشرع دون الثاني، ومقتضى الثاني عكسه؛ والثالث: تعيّن الرجوع في النوعين إلى الشرع، والرابع عدمه كذلك إليه؛ والمدّعى إنّما يتمّ على الأوّل، دون الثلاثة الباقية، فما وجه ترجيحه عليها؟

ص: 293


1- جاء في حاشية الأصل: في جواز الرجوع إلى غير الشرع وعدم جوازه. منه.

قلنا: وجهه(1) إلحاقُ الظنِّ الشيءَ المشتبهَ بالأغلب؛ ولمّا كان الغالب في ألفاظ العبادات كونها من المنقولات عن المعاني اللغويّة إلى المعاني المحدثة المخترعة الّتي لا يتوصّل إليها إلّا ببيان الشارع، يلحق غيره به؛ ولمّا كان الغالب في المعاملات خلاف ذلك، يلحق غيره به أيضًا؛ وهذا أولى من الحمل في الكلّ على غير الغالب كما في الثاني، أو في البعض عليه كما في الأخيرين، فتأمّل.

الوجه الثاني

والثاني: أنّ الحكم المذكور من الإيجاب والسلب الكلّيّين إنّما هو بالنظر إلى الأغلب في النوعين، فلمّا كان الغالب في العبادات توقّف العلم بماهيّاتها على بيان الشرع دون المعاملات -فإنّ الغالب فيها خلاف ذلك- أطلقوا القول بأنّ العبادات توقيفيّة دون المعاملات.

والفرق بين الجوابين مع كونهما متقاربين يظهر بعد التأمّل في البين.

الوجه الثالث

والثالث: أمّا بالنسبة إلى مثل: الركوع والسجود، فبالمنع من اتّحاد المنع الشرعيّ مع اللغويّ؛ لوضوح اعتبار الإخلاص في مطلق العبادات، فالإخلاص داخل في المعنى الشرعيّ، بخلاف اللغويّ، فهما متغايران؛ لأنّ السجود مثلًا على الأوّل عبارة عن الفعل مع الإخلاص، وعلى الثاني عن الفعل فقط، فلا يمكن تشخيص السجود الشرعيّ بالرجوع إلى اللغة، بل يتوقّف على بيان الشارع، فلا انتقاض.

ص: 294


1- في «ق»: وجه.

وأمّا بالنسبة إلى لفظ: الخلع والإيلاء وأشباههما، فبأنّ(1) مرادهم: أنّ الموضوعات في المعاملات يُرجع فيها إلى العرف أو اللغة ليس الإيجاب الكلّيّ، أي كلّ الموضوعات في المعاملات كذلك، بل الظاهر من قولهم: «إنّ العبادات توقيفيّة دون المعاملات»، أنّ المراد رفع الإيجاب الكلّيّ، أي ليس كلّ الموضوعات في المعاملات توقيفيًّا كالعبادات، فلا ينافيه توقيفيّة بعض الموضوعات منها(2)، كما عرفت.

والحاصل: أنّ المراد تعيّن الرجوع في العبادات إلى الشارع، بخلاف المعاملات، فأنّه لم يتعيّن فيها ذلك، ومقتضاه إمكان الرجوع فيها إلى غير الشرع في الجملة، لا إمكانه مطلقًا، فلا ينافيه عدم الإمكان في البعض كما لا يخفى.

لكن هذا الجواب لا بأس به بالنسبة إلى النقض في المعاملات.

وأمّا بالنسبة إلى العبادات فإنّه مبنيٌّ على القول بدخول الإخلاص في حقيقة العبادة؛ وأمّا على القول بالعدم فلا؛ لأنّه حينئذٍ يكون شرطًا لها، ومعلوم أنّ الشرط خارج عن المشروط، فيكون المعنى الشرعيّ واللغويّ متّحدًا، فلا تفاوت بينهما إلّا بالإطلاق والتقييد.

هذا كلّه مبنيٌّ على تعميم القول بالحقيقة الشرعيّة في العبادات والمعاملات بأسرها، كما هو الظاهر من قولهم فيهما: هذا اللفظ في اللغة كذا وفي الشرع كذا على نهج واحد؛ ويظهر من المحقّق في الشرائع والعلّامة في القواعد وغيره والشهيدين -أعلى الله مقامهما- في القواعد والمسالك، وستقف على عباراتهم إن

ص: 295


1- في «ق»: بأنّ.
2- أي من المعاملات.

شاء الله تعالى.

ويمكن التفصيل في المعاملات بأن يقال بثبوتها فيما علم التغاير بين المعنى اللغويّ والشرعيّ، كما تقدّم من لفظ: الظهار والخلع والمباراة وأشباهها؛ وبالعدم فيما لم يعلم ذلك؛ أو علم عدمه وهو الأكثر، كالبيع والصلح والإجارة والدين والهبة والرهن والوديعة والعارية والغصب والميراث والرضاع والقصاص وغيرها.

ويحمل قولهم المذكور في القسم الأوّل على ظاهره، وفي الثاني على أنّ المراد بيان المعاملات الصحيحة شرعًا المترتّبة عليها الآثار الثابتة في الشرع، أو المراد من(1) الشرع في ذلك المقام أعمّ من الشارع وأهل الشرع، فيحمل على أنّ المراد فيما نحن فيه أنّ اصطلاح المتشرّعة كذا، أو أنّ المراد المستعمل فيه أعمّ من أن يكون حقيقة بناءً على القول بالحقيقة الشرعيّة، أو مجازًا بناءً على القول بالعدم.

وفي الجميع نظر، أمّا في الأوّل: فلأنّه لو كان المراد تحديد المعاملات الصحيحة شرعًا، لزم استقصاء الشرائط في تعريفاتها مع أنّه ليس كذلك قطعًا، بل لم يتعرّضوا فيها إلّا للقليل.

وأمّا في الثاني: فلأنّه مع ما فيه من البعد، سيّما بعد إرادة معناه في العبادات وفي بعض المعاملات، يتوجّه عليه: أنّ للمتشرّعة اصطلاحات كثيرة، فما وجه إطلاق الشرع في أمثال هذه المقامات دون غيرها؟! مضافًا إلى ما يأتي في الثالث.

وأمّا في الثالث: فلأنّه إنّما يصحّ بعد المغايرة بين المعنى اللغويّ والشرعيّ،

ص: 296


1- في «ق»: في.

والمفروض خلافه، وإلّا كانت المعاملات توقيفيّة كالعبادات.

ويمكن اختيار الثالث والتزام التغاير على النحو المتقدّم من الإطلاق والتقييد، فالمغايرة على هذا النحو لا تنافي الرجوع في تشخيص المعاني إلى العرف أو اللغة كما عرفت، نعم، يتوجّه عليه ما مرّ في الأوّل من أنّه لو كان المراد ذلك؛ لكان اللازم استقصاء الشروط المعتبرة شرعًا.

ويمكن الجواب هنا بمنع اللزوم؛ إذ الاقتصار في البعض يكفي للتنبيه على التغاير في الجملة؛ على أنّه يمكن أن يقال: إنّ التعبير على النحو المذكور في مجموع أبواب المعاملات ليس بمجمع عليه، بل ولا ما أطبق عليه الأكثر وإنّما ذكره البعض، ويمكن أن يكون منشؤه الغفلة، أو بناؤه(1) على ثبوت الحقيقة الشرعيّة على النحو الّذي سبقت إليه الإشارة.

إيراد آخر في المقام

لكن يتوجّه في المقام إيراد آخر، وهو أنّ هذا التغاير متحقّق في العبادات أيضًا؛ لما تقدّم من مثل الركوع والسجود؛ ولما ذكر في بعض كتب الأصول وغيرها من أنّ لفظ «الصوم» في اللغة لمطلق الإمساك وفي الشرع لإمساك مخصوص، ولفظ «الحجّ» في اللغة لمطلق القصد وفي الشرع لقصد مخصوص، ونحوهما من لفظ «الخمس» وغيره، فعلى التوجيه السالف يمكن الرجوع في تشخيص بعض العبادات أيضًا إلى العرف أو اللغة، فلا يصحّ الحكم بتوقيفيّة العبادات بأسرها

ص: 297


1- في «ق»: بناء.

دون المعاملات، مع اشتراكهما فيما ذكر.

الجواب عن الإيراد

ويمكن الجواب عنه: إمّا بما أومأنا إليه من أنّ الحكم المذكور أغلبيٌّ لا كلّي؛ ولمّا كان الغالب في العبادات تحقّق المعاني الحادثة الملتئمة من الأجزاء الشرعيّة المخترعة من الشارع دون المعاملات، حكموا بذلك، وإلّا فقد عرفت تحقّق المعاني المغايرة المذكورة في بعض المعاملات أيضًا وعدم إمكان الرجوع فيها إلى غير الشرع، ومن اعتبار الإخلاص في المعنى الشرعيّ دون اللغويّ، مع ما عرفت ممّا فيه.

أو يقال: إنّ أُسّ العبادات وركنها وأصل الطاعات وعمدتها كالصلاة لمّا كان كذلك، حكموا بعنوان الإطلاق، أو بمنع كون المعاني المذكورة للألفاظ السابقة شرعيّة، لكنّه بالنسبة إلى لفظ «الحجّ» لا بأس به؛ لإمكان أن يكون معناه الشرعيّ الأفعال المعهودة على النهج المقرّر كما هو الظاهر، وعرّفه بها بعض المحدّدين لمعناه الشرعيّ، وإليه أشار العلّامة -أعلى الله مقامه- في النهاية، حيث قال: «الحجّ في الشرع(1) للأفعال المخصوصة عند البيت»(2).

وفي التهذيب: «الحجّ الموضوع في اللغة للقصد، ونقله الشارع إلى المناسك المؤدّاة في المشاعر»(3).

ص: 298


1- «في الشرع» لم ترد في المصدر.
2- نهاية الوصول: 1/ 248.
3- تهذيب الوصول: 76.

وكذا كثير من العلماء الأعلام؛ وأمّا في نحو الصوم والخمس فمستبعد جدًّا، فالتعويل على ما سلف.

فالمحصّل ممّا ذكر: توقيفيّة الأحكام الشرعيّة وماهيّات العبادات على بيان الشارع، دون المعاملات بالمعنى المتقدّم.

تذييل فيه تكميل
اشارة

ومن المهمّ في هذا المقام البحث عن ثلاثة مطالب:

المطلب الأوّل: لكلّ من لفظ العبادات والمعاملات إطلاقان
اشارة

إنّ لفظ «العبادة» يطلق على معنيين، الأوّل: ما يتوقّف صحّته على النيّة كما مرّ، والثاني: ما يترتّب الثواب عليه، وهو أعمّ من الأوّل؛ إذ كلّ ما يتوقّف صحّته على النيّة يترتّب الثواب عليه، ولا عكس؛ إذ جميع الأفعال المباحة إذا قصد به التقرّب يترتّب الثواب عليه، مع أنّ عند انتفاء الخلوص والقربة لم ينتف عنها وصف الصحّة.

وكذا لفظ «المعاملة»، فإنّها تطلق على معنيين أيضًا، الأوّل: ما هو المعروف بين الناس من المعاوضات الجارية بينهم، والثاني: ما يقابل العبادة بالمعنى الأوّل، أي ما لا يتوقّف صحّته على النيّة كما تقدّم، وهي أيضًا بالتفسير الثاني أعمّ من الأوّل كما لا يخفى.

والمراد من العبادة فيما نحن فيه معناها الأخصّ، ومن المعاملة الأعمّ، فلا يرد

ص: 299

أنّ حكمهم بتوقيفيّة العبادات غير صحيح على الإطلاق(1)، بناءً على أنّ كلّ فعل إذا قصد به التقرّب إليه سبحانه يكون عبادة(2)، مع أنّ كثيرًا منها لم يتوقّف بيانه على الشرع قطعًا؛ لأنّ مبناه على حمل العبادة في قولهم: «إنّ العبادات توقيفيّة» على المعنى الثاني.

وهو مع فساده في نفسه ينافيه تصريح جماعة منهم، وأنّ المتبادر من العبادة ما يكون كذلك بالذات، فيخرج(3) العبادة العرضيّة الّتي يعرضها وصف العبادة بسبب قصد القربة.

وقولهم في مقابله بعدم توقيفيّة المعاملات، إذ لا يبقى حينئذٍ لهذا القول مصداق؛ لعدم إمكان حملها على شيء من المعنيين المذكورين، أمّا على المعنى الأعمّ فظاهر، وأمّا على الأخصّ فلأنّه أيضًا عند قصد التقرّب مندرج(4) تحت العبادة؛ والحمل على الأعمّ بتخصيصه فيما إذا لم ينو التقرّب يفسده عدم معقوليّة توقّف ماهيّة معيّنة على بيان الشارع تارةً وعدم توقّفها عليه أخرى كما لا يخفى، فتأمّل.

ص: 300


1- جاء في حاشية الأصل: أي أنّ العبادات توقيفيّة دون المعاملات. منه.
2- في «ق»: العبادة.
3- كذا في الأصل، والصواب: فتخرج.
4- كذا في الأصل، والصواب: يندرج، كما في «ق».
في تفسير الصحّة والفساد

تبيين تفسير

لمّا كان لفظ «الصحّة» مأخوذًا في تفسير كلّ من العبادات والمعاملات، فلا بأس للتعرّض إلى كشف الحال فيها، فنقول: قد اختلفوا في الصحّة في العبادات، فالمحكيّ عن المتكلّمين أنّها موافقة الأمر أو(1) الشريعة، وعن الفقهاء أنّها كون الفعل مسقطًا للقضاء؛ ويعلم البطلان والفساد بالمقابلة(2).

وتظهر ثمرة الخلاف في الصلاة بظنّ الطهارة مع انكشاف الفساد بعد الصلاة، أو شكّها فيما إذا جاز التعويل عليهما، فإنّها على الأوّل ينبغي أن تكون(3) صحيحة، بخلافه على الثاني؛ لعدم إسقاطها القضاء، وكذا في الصلاة إلى جهة بظنّ أنّها القبلة، ثمّ تبيّن الخلاف وهو في الوقت، وغيرهما.

وفي كلّ من التفسيرين كلام، أمّا في الأوّل: فلأنّ موافقة أمر الشارع من صفات المأمور، ومن المعلوم أنّ الصحّة من أوصاف المأمور به، فكيف يجعل أحدهما حدًّا

ص: 301


1- جاء في حاشية الأصل: اعلم: أنّ كلمة «أو» في هذا التفسير للتخيير، بمعنى أنّك مخيّر في الإتيان بأيّ منهما يكون، لا للإبهام؛ لكونه منافيًا للتحديد؛ لكونه للتعريف والإبهام منافٍ له. منه.
2- ينظر غاية الوصول: 1/ 287، ونهاية الوصول: 1/ 107، والمحصول، للفخر الرازيّ:1/112، والإحكام، للآمديّ: 1/ 175، وزبدة الأصول: 77- 78، وأنيس المجتهدين: 1/ 108، وقوانين الأصول: 1/ 362- 365، وإشارات الأصول: 1/ 110، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/361، وشرح مختصر المنتهى: 1/ 229.
3- في «ق»: أن يكون.

للآخر؟! وانتقاض طرده بدخول الختان، فإنّ موافقة أمر الشارع متحقّق فيه مع عدم اتّصافه بالصحّة.

ويمكن الجواب عن الأوّل: بأنّه إنّما يتوجّه إذا حمل الموافقة على معناه المتعدّي، وأمّا إذا حمل على المعنى اللازم فلا؛ لوضوح أنّه حينئذٍ من أوصاف الفعل كما لا يخفى.

وعن الثاني: بالمنع من عدم اتّصاف الختان بالصحّة، فإنّه إذا أوقع على النهج الّذي أمر به الشارع يقال إنّه صحيح، وإلّا يقال إنّه غير صحيح، وعلى فرض التسليم نقول: يمكن أن يقال: إنّ المراد أنّ الصحّة والفساد فيما يمكن اتّصافه بهما لا مطلقًا، فما لا يتّصف بهما خارج عن أصله، فتأمّل.

وأمّا في الثاني: فلأنّ القضاء حينئذٍ لم يثبت، فكيف يسقط؟!

وجوابه: أنّ المراد كون الفعل بحيث يمنع تعلّق الأمر بالقضاء على المكلّف، لكن ينتقض عكسه بصلاة العيد وما وقته العمر، كالنذر المطلق وصلاة الزلزلة والقضاء نفسه والنوافل غير الراتبة، فإنّ كلًّا منها إذا أُتي على الوجه الّذي ينبغي أن يُؤتى يتّصف بالصحّة مع عدم القضاء لشيء منها.

ويمكن الجواب عنه أيضًا على النحو المذكور في التفسير الأوّل بأن يقال: إنّ الصحّة في العبادات كون الفعل مسقطًا للقضاء فيما له قضاء، لكنّه مع ما فيه من التكلّف الّذي ينبغي الاحتراز عنه في الحدود، تبقى الصحّة فيما لم يكن له قضاء من دون تحديد.

أو يقال: إنّ الصحّة فيها عبارة عن كون الفعل على نهج يسقط القضاء على تقدير

ص: 302

أن يكون له قضاء، وهو أيضًا لا يخلو عن تكلّف، فالأولى بين التفسيرين الأوّل.

وأمّا في المعاملات: فقد اتّفقوا على أنّ الصحّة فيها عبارة عن ترتّب الأثر المطلوب منها كزوال النجاسة من الغسل، وانتقال الثمن إلى البائع والمثمن إلى المشتري في البيع، ووجه الإجارة والمنافع إلى المؤجر والمستأجر في الإجارة، وحلّيّة البضع والنظر مثلًا في النكاح وغيرها.

إن قلت: هنا احتمالات، جعل الصحّة في النوعين معًا مفسّرة بالتفسير المذكور في العبادات، أو في المعاملات، أو في العبادات مفسّرة بما ذكر في المعاملات وبالعكس؛ وما وجه اختيار ما ذكر على الاحتمالات المذكورة؟

قلنا: أمّا الاشتراك بينهما بما ذكر في العبادات فغير ممكن؛ لأنّ غسل النجاسة لو أوقع على النهج المنهيّ عنه - كالغسل بماء مغصوب - لصحّ وجاز مع ذلك الثوب مثلًا الدخول في الصلاة، مع أنّ موافقة أمر الشارع غير متحقّقة فيه، وهكذا البيع في وقت النداء وغيره، ومنه يعلم الحال في الاحتمال الثالث.

نعم، لو اشترك بينهما بالتفسير السالف من الفقهاء بأن يقال: الصحّة مطلقًا عبارة عن كون الفعل مسقطًا للقضاء وأريد من القضاء أعمّ من المعنى المصطلح عليه والإتيان ثانيًا، لجاز، بل لا يرد حينئذٍ شيء ممّا سلف.

وأمّا الاشتراك بينهما بما ذكر في المعاملات -كما ذكره الفاضل العضديّ وشيخنا البهائيّ(1)- فلا بأس به، فيقال: إنّ الصحّة مطلقًا عبارة عن ترتّب الأثر،

ص: 303


1- ينظر شرح مختصر المنتهى: 1/ 229، وزبدة الأصول: 78.

لكنّ الأثر مختلف، فهو في المعاملات ما تقدّم وفي العبادات إمّا الثواب أو الامتثال والإطاعة، فعلى هذا لا يرد الانتقاض بمثل الختان وغيره ممّا سلف.

لكن يتوجّه على جميع التفاسير المذكورة: أنّ الظاهر أنّ الصحّة ليست نفس الموافقة ولا إسقاط القضاء ولا ترتّب الأثر، بل هو وصف يتّصف الفعل به باعتبار الموافقة ويسقط القضاء لثبوت ذلك الوصف له ويترتّب عليه الأثر لذلك.

نعم، لو جعل التفاسير للفعل الصحيح بأن يقال: إنّ الفعل الصحيح ما يكون موافقًا لأمر الشارع، أو يكون مسقطًا للقضاء، أو يترتّب عليه الأثر، سلم من ذلك، لكن لم يعلم الصحّة نفسها؛ ويمكن أن يقال: إنّ هذه أمور اصطلاحيّة، فلا مشاحّة فيها(1).

فإذا عرفت الصحّة في العبادات والمعاملات، يظهر عليك حال الفساد فيهما، إذ هو في مقابلها؛ ويرادفه البطلان، خلافًا للحنفيّة حيث فرّقوا بينهما بأنّ الباطل ما لم يكن مشروعًا بأصله كبيع الملاقيح، والفاسد ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه كالربا(2).

ص: 304


1- ينظر قوانين الأصول: 1/ 365.
2- ينظر فواتح الرحموت (المطبوع مع المستصفى): 1/ 58 و122، والدرّ المختار، للحصفكيّ: 6/ 328، والمحصول، للفخر الرازيّ: 1/ 112، والإحكام، للآمديّ: 1/ 140 و176، والمحصول، للمحقّق الأعرجيّ: 1/ 363، وأنيس المجتهدين: 1/ 108- 109، وقوانين الأصول: 1/ 365، وشرح مختصر المنتهى: 1/229.
كلامٌ في عدّ الصحّة والفساد من الأحكام التوقيفيّة
تنبيه

قد علمت ممّا سلف أنّ من جملة ما عدّ من الأحكام الوضعيّة الصحّة والفساد؛ ويمكن المناقشة في توقيفيّتهما بجميع التفاسير المذكورة، أمّا على الأوّل: فقد مرّ الكلام فيه.

وأمّا على الثاني: فلأنّ المأمور به إذا أُتي على النهج الّذي أمر به ولم يظهر إخلال شيء من أجزائه وشرائطه، يحكم العقل بعدم افتقار إعادته وإتيانه ثاني الحال.

وأمّا على الثالث: فلأنّ الشارع جعل العقود مثلًا أسبابًا لترتّب الآثار المعهودة، فالحكم الشرعيّ هناك سببيّة العقود، وهو مسلّم، وأمّا ترتّب الآثار فهو معلول لتلك الأسباب والعلامات، فالعلم بها يكفي للعلم به، فلا يكون العلم بترتّب الآثار متوقّفًا على بيان من الشارع على حدة، فلا بدّ إمّا من القول بعدم اندراجهما في الأحكام الوضعيّة، أو بعدم توقيفيّة مطلقِها، إلّا أن يقال: إنّ التوقيف بالواسطة كافٍ فيما نحن فيه، فتدبّر.

والمطلب الثاني
اشارة

قد ظهر ممّا سلف توقيفيّة ماهيّات العبادات على بيان الشارع دون المعاملات بالمعنى السالف، لكن بيان ماهيّاتها في النصوص بعنوان التحديد لا يكاد يوجد، بل المعهود بيانها ببيان الأجزاء، لكن لا بلفظ الجزئيّة، بل على النهج الّذي يستفاد منه الجزئيّة.

ص: 305

إلّا أنّه قد يدلّ النصّ على جميع الأجزاء، ولا إشكال حينئذٍ كما في الأذان حيث روى أبو بكر الحضرميّ وكليب الأسديّ عن مولانا أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه حكى لهما الأذان، فقال:

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلّا الله، أشهد أن لا إله إلّا الله، أشهد أنّ محمّدًا رسول الله، أشهد أنّ محمّدًا رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله، لا إله إلّا الله(1).

وقد لا يكون كذلك، وهو الغالب؛ فهل اللازم حينئذٍ في مقام الامتثال الإتيان بجميع ما احتمل أنّ له مدخليّة في المأمور به بحيث ينعقد الإجماع على تحقّق المطلوب الشرعيّ في ضمنه وعدم احتمال مدخليّة غيره فيه، نظرًا إلى أنّ اشتغال الذمّة يقينيّ، فلا يحصل(2) البراءة اليقينيّة إلّا بما ذكر وأنّ الأصل عدم كونها العبادة المطلوبة؛ أو لا، بل يجوز الاقتصار(3) على ما علم مدخليّته فيه وانعقد الإجماع على وجوبه، فيدفع غيره بأصالة عدم المدخليّة وأصالة البراءة؟

فيه إشكال وخلاف بين الأعلام مبنيٌّ على الخلاف في أنّ ألفاظ العبادات أسامٍ للصحيحة منها أو الأعمّ؛ وحيث قد كانت المسألة من مهمّات المسائل الأصوليّة وكانت في أكثر كتب الأصول غير منقّحة، بل غير مذكورة إلّا على وجه الإيماء

ص: 306


1- وسائل الشيعة: 5/ 416، ح9.
2- كذا في الأصل، والصواب: فلا تحصل.
3- في «ق»: الافتقار.

والإشارة، فبالحريّ أن نصرف زمام الكلام إلى تحقيقها وتنقيحها ورفع جلباب الجهل عن مناهجها ومداركها.

في أنّ ألفاظ العبادات أسامٍ للصحيحة أو الأعمّ

فنقول بعد الاستمداد من الموفّق الفيّاض: لا شبهة أنّ ماهيّة الصلاة مثلًا مركّبة من أجزاء متعدّدة(1)؛ وأنّ لها شروطًا معدودة، كالطهارة والاستقبال وإباحة المكان وستر العورة وغيرها؛ وأنّ تلك الماهيّة إذا أتيت مع مراعاة تلك الشروط تكون(2) متّصفة بوصف الصحّة؛ وأنّ متعلّق طلب الشارع وأوامره ليس إلّا المعنى الصحيح.

لكنّ الكلام في أنّه كما كان(3) متعلّقات الأوامر الشرعيّة المعاني الصحيحة، هل يكون(4) المعاني الّتي عيّن الشارع تلك الألفاظ بإزائها بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة، أو استعمل فيها بناءً على العدم هي المعاني الصحيحة؟ لا بمعنى أنّه وضع اللفظ مثلًا بإزاء الماهيّة مع تلك الشرائط حتّى يكون(5) الشرائط داخلة في الموضوع له وجزءً له، وإلّا يكون الكلّ أجزاءً ويلزم الانتقال من اللفظ إلى الشرائط أيضًا كالانتقال إلى الأجزاء، بل المراد أنّ الموضوع له للفظ «الصلاة» مثلًا

ص: 307


1- في «ق»: الأجزاء المتعدّدة.
2- في «ق»: يكون.
3- كذا في الأصل، والصواب: كانت.
4- كذا في الأصل، والصواب: تكون.
5- في «ق»: يكون.

عند الشارع المعنى الّذي إذا أوجده(1) المكلّف في الخارج يحصل له الامتثال ويحكم بأنّه صحيح، كما أنّك تعيّن اسمًا لمسمّى له أوصاف كثيرة من العلم والورع والكتابة والتجارة والخياطة وغيرها، بمعنى أنّ مسمّى هذا اللفظ في الخارج له تلك الصفات، لا بأن يندرج(2) تلك الصفات تحت الموضوع له.

أو لا، بل الموضوع له أعمّ من الصحيح والفاسد بأن يكون الموضوع له تلك الماهيّة، فإن أتيت مع مراعاة تلك الشرائط تكون صحيحة، وإلّا ففاسدة، كما في المعاملات كالبيع مثلًا، فإنّه في اللغة موضوع لمعناه وجعل الشارع له شرائط، كمعلوميّة العوض والمعوّض وطهارتهما وكمال المتعاقدين وتراضي الطرفين وكونهما مقبوضين في الصرف غير متفاضلين مع التجانس ونحوها، فإن أُتي مع مراعاة تلك الشرائط يقال: إنّه صحيح، وإلّا ففاسد.

ومن هذا التقرير ظهر أنّ ما تقدّم من ابتناء إمكان التمسّك بأصالة العدم في رفع مشكوك الجزئيّة وعدمه على القولين غير صحيح؛ إذ التكليف بإيجاد الماهيّة قطعيّ وأنّها توقيفيّة(3)، وهو مع عدم إتيان ذلك المشكوك فيه غير معلوم، فالبراءة إنّما تحصل بإتيان جميع ما له احتمال الجزئيّة؛ لوضوح أنّ مع عدم تحقّقها مشكوك فيه وإن قلنا بأنّها أسامٍ للأعمّ من الصحيحة(4)، إذ التكليف بإيجاد

ص: 308


1- في «ق»: أوجد.
2- كذا في الأصل، والصواب: تندرج.
3- في «ق»: توقيفيّ.
4- في «ق»: الصحيح.

الماهيّة ممّا اتّفق عليه الفريقان.

والوجه في عدم جواز التمسّك به على القول الصحيحيّ الجهلُ في تحقّق الماهيّة والموضوع له، وهو متحقّق على القول بالأعمّ أيضًا فيما نحن فيه، فالقول بجواز التمسّك به على أحدهما دون الآخر مع اشتراك الموجب بينهما من غير افتراق ممّا لا وجه له أصلًا.

إن قلت: لا نسلّم الشكّ في تحقّق الماهيّة بناءً على القول بالأعمّ؛ لأنّ ماهيّة الصلاة مثلًا على هذا القول الأركان الخمسة أو الأربعة، فتحقّق الماهيّة بإتيانها معلومٌ بناءً على هذا القول والشكّ إنّما هو في غيرها.

قلنا: هذا لا وجه له، أمّا أوّلًا: فلأنّه يخرج الحال عن محلّ الكلام، إذ الفرض أنّ مشكوك الجزئيّة يمكن اندفاعه بالأصل بناءً على القول بالأعمّ دون غيره، والمشكوك فيه على التقدير المذكور لم يكن من ذلك.

وأمّا ثانيًا: فلأنّ تفرقتهم في الكتب الفقهيّة بين الأجزاء المنسيّة بعدم لزوم التدارك في بعض ولزومه في الآخر ينافي ذلك؛ لظهور أنّه على الاحتمال المذكور لا جزء سوى الأركان؛ واحتمال إطلاق الجزء في المقامين نظرًا إلى القول الآخر ممّا لا شبهة في بُعده، بل فساده، ضرورة قيام الفرق بين ستر العورة مثلًا والقراءة.

في دفع الشروط المشكوكة بالأصل على القول بالأعمّ دون الصحيح

فانحصرت الثمرة بين القولين في الشروط، فإنّه إذا شكّ في شرطيّة شيء مع انتفاء احتمال الجزئيّة بالنسبة إليه، يدفع ذلك بالأصل بناءً على القول بالأعمّ؛ لأنّ

ص: 309

الأمر قد تعلّق بإيجاد الماهيّة والموضوع له، وتحقّقها حينئذٍ مقطوع به، وإنّما الشكّ في اشتراطها بالمشكوك فيه، والأصل عدمه؛ إذ القدر المعلوم ثبوت التكليف بإيجاد الماهيّة، فقد حصل، وأمّا اشتراطها به، فغير معلوم.

بخلافه على القول بالصحيح؛ لأنّ الموضوع له لمّا كان المعنى الصحيح وحصوله مع عدم ذلك المشكوك فيه غير معلوم؛ والبراءة إنّما يعلم بحصول العلم بصحّة المأتيّ به، وهو إنّما يحصل بعد الإتيان بجميع ما له احتمال الشرطيّة أيضًا؛ ولقائل أن يقول بمثل ذلك على القول بالأعمّ أيضًا، بناءً على ما مرّ من أنّ إرادة الماهيّة الصحيحة من الشارع ممّا لا شكّ فيه ولا ريب يعتريه، فلا نسلّم أنّ متعلّق الأوامر مطلق الماهيّة حتّى يحصل الامتثال بإيجادها، بل الماهيّة الصحيحة.

فمع عدم الإتيان بالمشكوك الشرطيّة يكون المعلوم ايجاد مطلق الماهيّة لا الصحيحة، والتكليف قد علم بالنسبة إلى الثاني لا الأوّل، فالبراءة إنّما تحصل بالعلم بكون المأتيّ به الماهيّة الصحيحة، وهو لا يتيسّر إلّا بالإتيان بجميع ما له احتمال الشرطيّة على هذا القول أيضًا، فلا يحصل الافتراق بين القولين بذلك أيضًا؛ وغاية ما في البين أنّ الصحّة على القول بالصحيح وصفٌ للموضوع له، وعلى الأعمّ وصف للمراد، وهو لا يوجب الافتراق المذكور.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ العبادة الصحيحة بناءً على القول بالأعمّ الماهيّة مع الشرائط المعلومة؛ لأنّ غاية ما هناك تحقّق العلم بأنّ مراد الشارع ليس الماهيّة بشرط لا، ولا من حيث هي هي المعبّر عنها بالماهيّة اللابشرطيّة، بل الماهيّة بشرط شيء، والعلاوة على ذلك غير مسلّمة؛ ويكفي في الامتثال للأوامر المتعلّقة بالماهيّة

ص: 310

بشرط شيء إتيانها مع مراعاة الشروط المعلومة.

والحاصل: أنّ التكليف المعلوم بناءً على هذا القول إيجاد الماهيّة مع مراعاة الشروط في الجملة لمعلوميّة مسمّى الألفاظ ومدلولها؛ والبراءة تحصل بإيجادها مع الشروط الثابتة، وأمّا المشكوكة فلا حاجة إلى إتيانها لذلك؛ لأصالة عدم اشتراط الماهيّة بها وبراءة الذمّة عنها، بخلافه على القول بالصحيح، إذ التكليف بإيجاد مدلول اللفظ ممّا لا شبهة فيه؛ وهو مع عدم مراعاة الشروط ولو كانت مشكوكة غير معلوم؛ للجهل بمدلول اللفظ، فتحصيل البراءة يستدعي مراعاة الشروط المشكوكة أيضًا، فعلى هذا تكون الثمرة بين القولين إمكان إجراء الأصل في الشروط بناءً على القول بالأعمّ، وعدمه بناءً على القول بالصحيح، وأمّا في الأجزاء فعدم إجرائه مشترك بين القولين.

في دفع الأجزاء المشكوكة بالأصل على القول بالأعمّ وأنّ انتفاء أيّ جزء لا يوجب انتفاء الكلّ في العرف

إيراد مقالة لازمة للتنبيه على ثمرة مهمّة

اعلم: أنّه يمكن أن يقال: إنّ الجزء على قسمين، قسمٌ ممّا ينتفي الكلّ بانتفائه في العرف والعادة، كالأركان المعروفة فيما نحن فيه والرأس والرقبة بالنسبة إلى زيد مثلًا؛ وقسمٌ لا يكون كذلك، كالذكر والركوع والسجود والطمأنينة ونحوهما في الأوّل، والأذن والأنف والإصبع في الثاني.

فعلى هذا نقول: لو شكّ في جزئيّة شيء وعلم أنّه على فرض ثبوته من القسم

ص: 311

الثاني لا الأوّل، يجوز دفعه بالأصل على القول بالأعمّ، بخلافه على القول الآخر.

والسرّ فيه: هو أنّ الأوامر المتوجّهة بالصلاة لمّا كان(1) مقتضاها إيجاد الماهيّة، ينبغي أن يحصل الامتثال كلّما يصدق عليه أنّه أتى بالماهيّة؛ ولمّا كان القسم الأوّل ممّا تنتفي بانتفائه الماهيّة، لا معنى لإجراء الأصل فيه لثبوت التكليف بإيجادها؛ وأمّا القسم الثاني: فلمّا لم يكن انتفائه موجبًا لانتفاء الماهيّة ولم يعلم من الأدلّة المثبتة للتكليف أزيد من إيجادها، والمفروض أنّه يتحقّق ولو مع عدم الإتيان بالمشكوك الجزئيّة، فالتكليف بالنسبة إليه مشكوك فيه، فالأصل البراءة عنه.

والحاصل: أنّ القدر المعلوم إيجاد الماهيّة على النحو المتقدّم، فكلّما يكون انتفاؤه في العرف موجبًا لانتفائها يجب إتيانه ولا معنى لدفعه بالأصل، وكلّما لم يكن كذلك ولم يثبت من الأدلّة وجوبه لم يجب إتيانه لأصالة البراءة عنه؛ فعلى هذا لا يرد جواز الإخلال متعمّدًا بمثل الذكر والطمأنينة ونحوهما ممّا لم يكن انتفاؤه موجبًا لانتفاء الماهيّة؛ لثبوت التكليف بالنسبة إليها.

ومنه يستفاد وجه ما ذكروه من أنّ الإخلال بشيء من الأركان مطلقًا ولو سهوًا مبطل؛ وأمّا غيرها من الأمور الواجبة، فلا يكون الإخلال به ساهيًا مبطلًا؛ لأنّ الأركان لمّا كان الإخلال بشيء منها موجبًا لانتفاء الماهيّة، فلم يحصل الامتثال بالنسبة إلى الأوامر الموجبة لإيجادها، فيجب الإتيان تحصيلًا لذلك.

وأمّا غيرها فلمّا لم يكن انتفاؤه موجبًا لانتفائها ولم يثبت من الأدلّة الموجبة له إلّا

ص: 312


1- في «ق»: كانت.

وجوب إتيانه في أثناء الصلاة حال الشعور لا غير، يحصل الامتثال بالنسبة إلى الأوامر المتوجّهة إلى ماهيّة الصلاة بإتيان ما به يتحقّق، فيخرج عن عهدة التكليف.

ومنه يظهر أنّ أقلّ ما يكفي لتحقّق الماهيّة هو الأركان(1) المعهودة وأنّه لا يوجب أن لا يتّصف غيرها بوصف الجزئيّة، فيصحّ الحكم بدفع الجزء المشكوك فيه بالأصل بلفظ الجزئيّة ولو على القول بالأعمّ.

وهذا كلّه إنّما هو على القول بالأعمّ، وأمّا القول الآخر فلمّا كان الموضوع له للّفظ- بناءً عليه- الماهيّة الصحيحة ولم يعلم عدم مدخليّة الجزء المشكوك فيه فيها والمفروض ثبوت التكليف بإيجاد الموضوع له وهي الماهيّة الصحيحة، فلا يحصل العلم بالامتثال إلّا بإتيان الجميع، فلا يمكن دفع المشكوك فيه بالأصل.

ذكر مقال لدفع سؤال

إن قلت: إنّ العلم بعدم انتفاء الماهيّة بانتفاء ذلك الشيء إمّا من قبل الشرع، أو من العرف، كما هو الظاهر من التقرير المذكور، وكلاهما غير صحيح؛ أمّا الأوّل فلعدم ثبوته كما لا يخفى، وأمّا الثاني فلأنّه حينئذٍ لا تكون ماهيّة العبادة توقيفيّة بناءً على القول بالأعمّ، وهم غير ملتزمين لذلك.

قلنا: يمكن القول بكلّ من الاحتمالين، أمّا الأوّل: فلأنّ المراد من عدم الثبوت من الشرع إمّا عدمه صريحًا، أو الأعمّ؛ وانتفاء الأوّل وإن كان مسلّمًا، لكنّه غير مضرّ؛ لكفاية مطلق البيان والظهور من كلماته، وانتفاء الثاني غير مسلّم؛ لأنّ

ص: 313


1- في «ق»: أركان.

الظاهر من التفرقة بين الأجزاء بكون(1) اختلال بعضها مطلقًا ولو سهوًا موجبًا لعدم الامتثال بخلاف الآخر، ولهذا صحّ الصلاة من الآتي بالأركان مع نسيان غيرها مطلقًا هو ذلك.

وأمّا الثاني: فلأنّ المراد من العرف ليس العامّ لينافي التوقيفيّة، بل عرف المتشرّعة؛ وعرفهم إنّما يعلم من الشارع للقطع بأنّ معاني المتشرّعة هي الّتي استعمل الشارع اللفظ فيها، وعلمهم بها إنّما هو باستعماله فيها وبيانه إيّاها، فالرجوع إلى عرفهم بهذا المعنى غير منافٍ للتوقيفيّة كما لا يخفى، فتأمّل.

في دفع الأمور المشكوكة بالأصل على القول بالصحيح أيضًا

إعادة كلام لكشف مرام

اعلم: أنّ النزاع بين القولين في الحقيقة يؤول إلى أنّ تلك الألفاظ هل هي موضوعة لما يتأتّى به الامتثال، أو الأعمّ؟ فالقائلون بالصحيح على الأوّل والأعمّ على الثاني، فالقول بالصحيح مآله أنّ الشارع أوجب شيئًا معيّنًا وعيّن اللفظ بإزائه لينتقل المكلّف منه إليه كلّما رآه في كلامه، أو سمعه من المخاطب باصطلاحه.

فعلى هذا لو حصل العلم بالموضوع له يعلم أنّه ما يتأتّى به الامتثال، وبالعكس - أي لو حصل العلم بأنّه ما يتأتّى به الامتثال - يعلم أنّه الموضوع له؛ والعلم بأنّه ممّا يحصل به الامتثال يحصل ببيان الشارع إمّا أنّه من ذلك، أو من الموضوع له، لكنّه معلوم الانتفاء في كثير من العبادات لو لم يدّع انتفاؤه في الكلّ، أو بصدور الأمر

ص: 314


1- في «ق»: يكون.

منه إلى جزئيّات على كيفيّة(1) مخصوصة وشرائط معدودة وعلم أنّها من أجزاء ذلك المأمور به، وهذا هو الغالب.

فإذا عثرنا بعد التتبّع التامّ والتصفّح الكامل في كلامه وطريقته على صدور الأمر منه بجزئيّات على كيفيّة خاصّة ولم نعثر على غيرها من الشرائط والأجزاء، يظهر علينا أنّ ماهيّة ذلك المأمور به ملتئمة من تلك الأجزاء بتلك الشرائط لا غير، إذ لو كان غيرها لعثرنا عليه كغيره؛ ووجوده مع عدم النقل مع تحقّق دواعيه بالنسبة إلى الكلّ وتوفّر الحاجة لعموم البلوى في غاية البعد، فحينئذٍ نحكم بأنّ المتحصّل من تلك الأجزاء والشرائط هو ما يتأتّى به الامتثال، فهو الموضوع له(2).

إذا تحقّق ذلك نقول: لو ادّعى أحدٌ شرطيّة شيء من غير أن يقيم عليه ما يطمئن النفس إليه، يمكن دفعه بالأصل ولو على القول بالصحيح، بل لو ادّعى جزئيّة شيء أيضًا لما ذكر، فعلى هذا التحقيق يظهر لك عدم اختصاص دفع الأمور المشكوكة بالأصل بالقول بالأعمّ كما اشتهر في الألسنة، فعليك ثمّ عليك بالتأمّل التامّ فيما ذكر والخوض الكامل فيه وفي أطرافه، عسى أن يظهر لك حقيقة الحال ويفاض عليك صدق المقال؛ وإيّاك ثمّ إيّاك عن ملازمة ربقة التقليد.

إن قلت: إنّ هذه مقالة لا يوافقك عليها أحد؛ لأنّ القائلين بالصحيح إنّما

ص: 315


1- في «ق»: كيفيّته.
2- جاء في حاشية الأصل: ومن هنا ظهر الجواب عمّا تقدّم مرارًا من أنّ الاشتغال بإيجاد الموضوع له ثابت، فلا تحصل البراءة إلّا بعد الإتيان بجميع المشكوك فيه أيضًا كما لا يخفى على المتأمّل. منه.

اختلفوا في إجراء الأصل وعدمه في الشرائط، وأمّا الأجزاء فقد اتّفقوا على خلافه.

قلنا: هذه حكاية قد اشتهرت في الألسنة وصدرت من جماعة من المتأخّرة(1)، وهي مخالفة للواقع؛ ويدلّك على ذلك أنّ القول بالصحيح ممّا ذهب إليه أكثر الأصوليّين في كتبهم الأصوليّة(2)، كما ننبّهك عليه إن شاء الله سبحانه، مع أنّ تتبّع كتبهم الفقهيّة يكشف عن عدم تفرقتهم في الدفع بالأصل(3) بين الأجزاء والشرائط، إلّا من بعض من المتأخّرين، فلا يبعد دعوى اتّفاقهم على ذلك(4)، مع أنّ الظاهر أنّ القول بالصحيح قول الأكثر لو لم نقل إنّه قول علمائنا كما ستقف عليه، والظاهر أنّ وجهه ما نبّهنا عليه.

إن قلت: إنّه على التقدير المذكور لا يصحّ الحكم بدفع الأمور المشكوكة بالأصل، إذ عليه يكون عدم اعتبارها مظنونًا، فلا تكون(5) من الأمور المشكوكة.

ص: 316


1- لم نعثر عليه.
2- ينظر عدّة الأصول: 2/ 441، والذريعة: 1/ 353، ومعارج الأصول: 108، ونهاية الوصول: 2/ 410- 412.
3- جاء هنا في هامش الأصل بخطّه (قدس سره): قال في المدارك: لو مسح العضو وعليه بلل، فهل يكون المسح مجزيًا أم لا؟ قيل بالأوّل للأصل وإطلاق الأمر وصدق الامتثال، وهو خيرة المصنّف (رحمة الله) في المعتبر والعلّامة في المنتهى وابن إدريس [مدارك الأحكام: 1/ 212]. وقال أيضًا في مبحث القراءة بعد أن حكم بعدم وجوب السورة بعد الحمد: لنا أنّ إيجاب السورة زيادة تكليف والأصل عدمه [مدارك الأحكام: 3/ 348].
4- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي دفع الأمور المشكوكة مطلقًا بالأصل.
5- في «ق»: فلا يكون.

قلنا: الشكّ في بداية الأمر متحقّق، وأمّا بعد التتبّع في كلمات الشارع والالتفات إلى مقتضى الأصل، فيؤول الحال إلى الوهم، فإطلاق الشكّ بالنظر إلى أوّل الأمر؛ وهذا كما يقال: من تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة، أو بالعكس، مع أنّ الشكّ لا يجتمع مع اليقين.

على أنّ التعبير بالاحتمال يكفي في المقام بأن يقال: إنّ الأمور المحتملة يمكن دفعها بالأصل، مع أنّه لا اختصاص له بالقول بالصحيح؛ لتحقّقه ولو على القول بالأعمّ أيضًا؛ والجواب ما أشرنا إليه.

إذا تحقّقت ذلك، ظهر لك أنّ دفع الأمور المحتملة مطلقًا بالأصل ليس من خواصّ القول بالأعمّ كما شاعت في الألسنة، فلا تظهر الثمرة لهذا الخلاف من هذه الجهة.

في الثمرة بين القول بالصحيح والأعمّ

نعم، يمكن دعوى الثمرة من هذه الجهة في بداية الأمر بأنّه على القول بالأعمّ لو شكّ في شرطيّة شيء يمكن دفعه بالأصل في أوّل الأمر من غير افتقار إلى غاية الفحص، بخلافه على القول بالصحيح؛ ويظهر وجهه ممّا تقدّم مع تأمّل فيه أيضًا، بناءً على أنّ التمسّك بالأصول قبل الفحص عن المخصّص غير مجوّز، إلّا أن يبني الافتراق في مبلغ الفحص مع الكلام فيه أيضًا.

وكذا تظهر الثمرة بين القولين في مقام النذر ونحوه، كما إذا نذر أحدٌ أن يصلّي صلاة الظهر مثلًا كلّ يوم جماعة، أو في الروضات المشرّفة، أو المساجد المتبرّكة؛ وصلّى، ثمّ انكشف عليه اختلال بعض الأمور الموجبة للفساد والإعادة، فعلى

ص: 317

القول بالأعمّ يقال: إنّه وفي بنذره، فيجوز له الصلاة ثانيًا من غير جماعة وفي غير تلك الأماكن العالية، بخلافه على القول الآخر(1).

إيراد مقال لإبراز مختار

لمّا كانت عمدة الثمرة لهذا النزاع إمكان إجراء الأصل في الأمور المحتملة وعدمه، وتبيّن لك ممّا قرّرنا انتفاؤها من هذه الجهة وتحقّقه على القولين واشتراكهما فيه، فلا يهمّنا البحث عن تحقيق الحال في الطرفين وإبراز الحقّ في البين، لكن لمّا كانت الثمرة الّتي أشرنا إليها أيضًا لا تخلو عن اهتمام بشأنها كما لا يخفى، فلا بأس بصرف زمام الكلام إلى تحقيق الحال وإبراز المختار في الجانبين، فنقول: المختار أنّها أسامٍ للصحيحة، لا الأعمّ.

في أدلّة القول بالصحيح
اشارة

لنا وجوه:

الدليل الأوّل

الأوّل: أنّ الرجوع إلى الوجدان شاهد صدق وقاضٍ بالحقّ على أنّ الداعي لوضع اصطلاح من أيّ شخص كان، إنّما دعاه إلى وضعه وتقريره بحيث يترتّب عليه ذلك الداعي، كما لا يخفى على من لاحظ الاصطلاحات المختلفة وتأمّل الصناعات المتفرّقة.

ص: 318


1- ينظر مفاتيح الأصول: 49.

فالداعي للنحويّ إلى وضع الفاعل والمفعول لمسمّاهما المعهود إنّما هو لتمييز أحوالهما المختلفة والانتقال(1) منهما إلى مسمّاهما فيما إذا رآهما في كلامه، أو سمعهما من المخاطب باصطلاحه؛ وهذا إنّما يوجب وضعهما لما يترتّب منه ذلك، لا لشيء آخر وإن كانت المغايرة بالعموم والخصوص.

وهكذا الحال في أيّ اصطلاح كان كما لا يخفى على من سلك جادّة الإنصاف وعدل عن طريق الجور والاعتساف ونظر إلى الاصطلاحات المتداولة بين الناس.

ومن المعلوم أنّ الداعي لوضع مسالك العبادات وتقرير التكاليف والطاعات إنّما هو تحصيل الامتثال والاستعداد للمثوبات الإلهيّة والمواهب السبحانيّة والعطايا الجزيلة؛ وبالجملة: هِداية الناس إلى ما به تنتظم أمورهم الدنيويّة والأخرويّة وتترقّى النفس من حضيض المراتب الهيولانيّة إلى معارج الكمالات الروحانيّة؛ وهذا إمّا يوجب وضع الألفاظ للمعاني الّتي يحصل منها تلك الغاية والمفاهيم الّتي يترتّب عليها تلك السعادة.

والحاصل: أنّ الشارع أوجب إيجاد ماهيّات مخصوصة على كيفيّة مخصوصة بحيث لو أوجدها المكلّف في الخارج يكون ممتثلًا، والظاهر المتاخّم للقطع أنّه عيّن الألفاظ بإزاء تلك المعاني بالحيثيّة المذكورة لينتقل المكلّفون منها إليها ويحاورونها في مخاطباتهم ويبلّغ الشاهد منهم الغائب بواسطتها، والقول بالأعمّ مقتضاه أنّ الشارع وإن أوجب شيئًا معيّنًا يحصل بإيجاده الامتثال، لكنّه لم يعيّن اللفظ بإزاء

ص: 319


1- في «ق»: وللانتقال.

ذلك المعنى الّذي يتأتّى به الامتثال، بل بإزاء شيء آخر أعمّ منه، وهذا في الظاهر ممّا لا يرتضيه الراجع إلى الوجدان والمتأمّل في الدواعي الموجبة لوضع الاصطلاحات وإحداث الصناعات كما لا يخفى(1).

إن قيل: لا نسلّم انحصار الفائدة في وضع تلك الماهيّات وإحداثها فيما ذكر؛ لجواز أن تكون فائدته مع ذلك تمييز المسلم عن غيره ومزيد شوكة الإسلام وتقويته.

نعم، عمدة الفائدة ما ذكر، فإذا أوجدها المكلّف على الوجه الصحيح يترتّب عليها الفوائد بأسرها؛ وإن أوجدها لا على الوجه لا ينتفي منها مطلق الفائدة؛ لتحقّق الامتياز المذكور وتقوية الإسلام لكثرة آثاره؛ وإنّما المنتفي بعضها، فيجوز أن يكون وضع الألفاظ لمطلق الماهيّة نظرًا إلى مطلق الفائدة ويكون الأمر قرينة لإرادة الصحيحة.

قلنا: إن أريد من هذا الكلام أنّ وضع الماهيّات واختراعها لترتّب الفوائد بأسرها، فنحن لا ننكره، فهو غير مضرّ؛ لوضوح أنّه يستدعي وضع الألفاظ للمعاني الصحيحة الّتي يترتّب منها تلك الفوائد بأجمعها كما لا يخفى.

وإن أريد أنّ وضعها لا لذلك، بل لترتّب مطلق الفائدة، بمعنى أنّه لمّا كانت مراتب الفوائد مختلفة بالكمال والنقصان، يكون وضع أصل الماهيّات لأجل مطلق الفائدة، والأمر بالفرد الكامل لتحصيل(2) الفائدة الكاملة، فنقول: إنّ تلك الفائدة

ص: 320


1- ينظر مفاتيح الأصول: 46 -47، وإشارات الأصول: 1/ 35.
2- في «ق»: ليحصل.

المقتضية لوضع اللفظ بإزاء مطلق الماهيّة(1) إمّا حصولها مطلوب من المكلّف حال التعمّد والاختيار، أو في غيرها، أو غير مطلوب أصلًا.

والأوّل: لا شبهة في فساده، إذ مقتضاه أنّ وضع اللفظ من الشارع بإزاء تلك الماهيّة لأجل تلك الفائدة، مع أنّه نهى عن إتيانها وأوعد عليه غاية الإيعاد ويعاقب عليه أشدّ العقاب؛ وهذا ممّا لا يصدر عن العاقل فضلًا عن الشارع الحكيم الكامل.

وعلى الثاني نقول: إنّ تحصّيل(2) تلك الفائدة لا يوجب العدول عمّا ذكرنا ووضع اللفظ بإزاء الأعمّ؛ لحصولها على تقدير الوضع للصحيحة؛ إذ المكلّف اشتغل بإيجاد الماهيّة(3) على إرادة إيجاد الصحيحة، فيترتّب عليه جميع تلك الفوائد إلّا الامتثال بعد أن ظهر عليه إخلاله لبعض ما يوجب ذلك.

وبالجملة: محصّل تلك الفائدة الاشتغال بتلك الأفعال وإن كان اللفظ موضوعًا للمعنى الصحيح كما لا يخفى.

وعلى الثالث يلزم اللغويّة؛ وبالجملة: كيف يمكن صدور فعل من فاعل لأجل غاية مع عدم كونها مطلوبة الحصول، أو كونها ممنوعًا عنها؟!

الدليل الثاني

والثاني: أنّا إذا خُلّينا وأنفسنا يتبادر في أذهاننا ويستبق إلى أفهامنا بمجرّد استماع

ص: 321


1- في «ق»: الماهيّات.
2- في «ق»: تحصيل.
3- في «ق»: الماهيّات.

لفظ «الصلاة» مثلًا(1) - سواء ورد في سياق الطلب أم لا - المعنى الّذي أوجبه الشارع وأمر به.

وبالجملة: المعنى الّذي يحصل به الامتثال من دون شائبة وريبة؛ وأمّا غيره فغير متبادر؛ والتبادر من أمارات الحقيقة، وعدمه أو تبادر الغير من علامة المجاز، فثبت أنّها أسامٍ للصحيحة لا الأعمّ(2).

إن قلت: أريد التبادر من هذه الألفاظ فيما إذا وردت في كلام المتشرّعة، أو الشارع، وعلى الثاني إمّا أن يكون المراد تبادر ما ذكر في زمان المتشرّعة كما هو الظاهر من التقرير، أو في زمان الشارع.

والأوّل والثاني لا ينفع، أمّا الأوّل فظاهر؛ لأنّ تبادر كلّ قوم أمارة الوضع عندهم، فاللازم أنّ الصلاة مثلًا عند المتشرّعة اسم للمعنى المذكور ولا يلزم منه أن يكون اسمًا له عند الشارع، وليس الكلام إلّا فيه.

وأمّا الثاني فكذلك، توضيحه: أنّ التبادر على ما عرفت فيما سلف عبارة عن فهم المعنى من مجرّد اللفظ مع قطع النظر عن ملاحظة ما سواه؛ وهذا المعنى إذا تحقّق في لفظ بالنسبة إلى طائفة لا يختلف الحال فيه بالنسبة إليهم ولو لم يكن المتكلّم

ص: 322


1- جاء في حاشية الأصل: ولفظ «مثلًا» في هذا المقام له فائدتان، الأولى -وهي ظاهرة-: أنّ الأمر في لفظ الوضوء والغسل والركوع والسجود وأشباهها أيضًا كذلك؛ والثانية: بالنسبة إلى الاستماع، أي ذكر الاستماع إنّما هو على سبيل المثل؛ لأنّ الأمر في السماع أيضًا كذلك كما لا يخفى. منه.
2- ينظر مفاتيح الأصول: 44، وقوانين الأصول: 1/ 107، وإشارات الأصول: 1/ 35.

من أهل ذلك الاصطلاح؛ لأنّ فهم المعنى من اللفظ حالة لو استقرّت لا يختلف باختلاف المتكلّمين وإنّما يختلف باختلاف السامعين؛ ولهذا لو استمع النحويّ لفظ «الفعل» من أيّ شخص كان ولو كان المتكلّم من المخاطب بعرف اللغة، ينصرف ذهنه إلى المعنى المعهود عنده مع علمه بعدم إرادته ذلك المعنى منه.

غاية الأمر يكون صدوره عمّن ليس من أهل الاصطلاح موجبًا لصرفه عن الحمل على المعنى المصطلح عند السامع، لا عن فهمه إيّاه؛ إذ الواجب حمل اللفظ الصادر من أيّ متكلّم كان على اصطلاحه إلّا مع القرينة، فعلى هذا لم يثبت من التبادر المذكور إلّا كون تلك الألفاظ أساميًا للمعاني الصحيحة عند المتشرّعة، لا عند الشارع.

والثالث: وإن كان يثبت به المرام، لكنّه ممنوع؛ لأنّ تبادر المعنى المذكور بحكم الوجدان ليس إلّا التبادر في زمان المتشرّعة، وأمّا أنّ هذا التبادر كان ثابتًا في زمان الشارع فغير معلوم، وأنّى يتأتّى لنا إثبات ذلك.

والجواب: أنّ التبادر عند المتشرّعة كافٍ لإثبات المرام؛ لما أسلفنا من القطع بأنّ المعاني عند المتشرّعة هي المعاني الّتي استعملها الشارع فيها، وأمّا كون استعماله على سبيل الحقيقة أو المجاز، فلا يهمّنا التعرّض له في هذا المبحث؛ إذ الثمرة المترتّبة على هذه المسألة غير موقوفة على القول بالحقيقة الشرعيّة.

وكذا النزاع لتحقّقهما على القولين كما لا يخفى على من أجاد النظر في البين، بل على استعمال الشارع تلك الألفاظ في المعاني المغايرة للّغويّة، ففي الحقيقة مآل النزاع أنّ المعنى المستعمل فيه للشارع هل المعاني الّتي يحصل بها الامتثال المعبّرة

ص: 323

عنها على المشهور بالمعاني الصحيحة أو الأعمّ؟

ومنه يظهر أنّ عنوان المسألة على النحو المتقدّم من كون ألفاظ العبادات أساميًا للصحيحة أو الأعمّ؛ إنّما يلائم بظاهره القول بالحقيقة الشرعيّة كما لا يخفى؛ ولعلّه منهم وتبعهم القائلون بالعدم في هذا العنوان وعوّلوا على ما اختاروه في تلك المسألة قرينة في هذا المقام.

ومن هنا يعلم وجه آخر لِبُعد كون المعاني الشرعيّة أعمّ من الصحيحة والفاسدة بالنسبة إلى القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة أشدّ ممّا سلف؛ لأنّ مقتضى القول بالأعمّ بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة أنّ الشارع وضع الألفاظ للمعنى الأعمّ أوّلًا، ثمّ استعمل في متعلّقات أوامره في المعنى الصحيح، فيكون مقتضاه بناءً على القول بالعدم أنّه استعملها أوّلًا في المعنى الأعمّ، ثمّ استعملها في متعلّقات أوامره في المعنى الصحيح.

وهو متوقّفٌ على كون الخطابات الآمرة - كأقيموا الصلاة مثلًا - مسبوقة بغيرها؛ ومن أين يتأتّى إثبات ذلك، أو يكون المنكر للحقيقة الشرعيّة قائلًا بالصحيح لا الأعمّ، أو يقول بثبوت الاستعمال تارةً في الصحيح وأخرى في الأعمّ؟

والاحتمالات المذكورة بأسرها لا تخلو من بعد، مضافًا إلى ما قدّمنا في الوجه الأوّل؛ على أنّه يمكن أن يقال بعد تسليم التغاير بين المعنى المستعمل فيه الشرعيّ ومعنى المتشرّعة: لا تنتفي الثمرة مطلقًا؛ لأنّ ثمرة المسألة غير منحصرة في كلام الشارع؛ لتحقّقها في الأوقاف والأيمان والنذور ونحوها على ما ظهر لك ممّا أسلفنا، فيختلف الحال على تقدير كونها أساميًا للصحيحة أو الأعمّ عند المتشرّعة

ص: 324

كما يظهر للمتأمّل ممّا مرّ، فتأمّل.

الدليل الثالث

والثالث: صحّة السلب عن العاري عن بعض الشرائط والأجزاء(1)، ويمكن تقريره من العرف والنصّ.

أمّا الأوّل: فلأنّه لا شبهة في أنّ من اشتغل بأفعال الصلاة مستدبرًا للقبلة عند معلوميّتها يقال: إنّها ليست بصلاة، وكذا من ترك الطهارة وتكلّم في الأثناء بكلّ كلام واشتغل بكلّ فعل، وهكذا.

في النصوص الدالّة على صحّة السلب عن العاري عن بعض الشرائط والأجزاء

وأمّا الثاني فكالنبويّ المذكور في المعتبر والمنتهى والتذكرة ونهاية الإحكام وغيرها(2): «أنّ رجلًا دخل المسجد ورسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس في ناحية المسجد، فصلّى، ثمّ جاء فسلّم عليه، فقال: وعليك السلام، ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ، فرجع ثمّ جاء فقال له مثل تلك، فقال له الرجل في الثالثة: علّمني يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء، ثمّ استقبل القبلة، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن، ثمّ اركع حتّى تطمئنّ راكعًا، ثمّ ارفع رأسك حتّى تعدل قائمًا، ثمّ اسجد حتّى

ص: 325


1- ينظر الفوائد الحائريّة: 103، وقوانين الأصول: 1/ 107، وإشارات الأصول: 1/ 35، ومفاتيح الأصول:46، وقوانين الأصول: 1/ 107.
2- ينظر المعتبر: 2/ 164، ومنتهى المطلب: 5/ 142، وتذكرة الفقهاء: 3/ 190، ونهاية الإحكام: 1/ 481 و490، وذكرى الشيعة: 3/ 363.

تطمئنّ ساجدًا، ثمّ ارفع رأسك حتّى تستوي قائمًا، ثمّ افعل ذلك في صلواتك كلّها»(1).

والصحاح المستفيضة عن زرارة، منها: ما رواه في الكافي عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «بينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس في المسجد إذ دخل رجل، فقام يصلّي، فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده، فقال (صلی الله علیه و آله): نقر كنقر الغراب، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني»(2).

لأنّ قوله (صلی الله علیه و آله): «نقر» إلى آخره، أي ليس بصلاة؛ ولا يتوهّم معارضته بإطلاق الصلاة في قوله: «يصلّي»، وهكذا «صلاته»؛ لأنّ الأوّل محمول على إرادة الصلاة كما لا يخفى، والثاني معناه أنّه لو أتى صلاته النفس الأمري(3) على هذه الهيئة؛ ولا يلزم منه إطلاق الصلاة على ما أتاه، فتأمّل.

ومنها: ما رواه في الفقيه من مولانا الباقر (علیه السلام): «لا صلاة إلّا إلى القبلة»(4).

ومنها: ما رواه فيه أيضًا عنه (علیه السلام): «قم منتصبًا، فإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من لم يقم صلبه، فلا صلاة له»(5).

ومنها: ما رواه في التهذيب عنه (علیه السلام): «لا صلاة إلّا بطهور»(6).

ص: 326


1- ينظر صحيح مسلم: 2/ 11، وعوالي اللآلئ الحديثيّة: 1/ 116، ومستدرك الوسائل: 4/ 90، ح 4211.
2- الكافي: 3/ 268، باب من حافظ على صلاته أو ضيّعها، ح6.
3- كذا في الأصل، والصواب: الأمريّة.
4- كتاب من لا يحضره الفقيه: 1/ 278، باب القبلة، ح 855.
5- كتاب من لا يحضره الفقيه: 1/ 313، باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها، ح916.
6- تهذيب الأحكام: 1/ 50، باب آداب الأحداث الموجبة للطهارة، ح 144.

ومنها: ما رواه فيه أيضًا عن مولانا الصادق (علیه السلام): «من صلّى ولم يصلّ على النبيّ (صلی الله علیه و آله) وترك ذلك متعمّدًا فلا صلاة له»(1).

وكصحيحة محمّد بن مسلم عن مولانا الباقر (علیه السلام)، قال: «سألته عن الّذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته؟ قال: لا صلاة له»(2).

وكما رواه أبو بصير عن مولانا الصادق (علیه السلام): «إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك، فإنّه لا صلاة لمن لا يقيم(3) صلبه»(4).

وما رواه عنه أيضًا: «من صلّى في غير وقت فلا صلاة له»(5).

وما رواه أبو بكر الحضرميّ بعد أن سأل: «أيّ شيء حدّ الركوع والسجود؟ إلى

ص: 327


1- تهذيب الأحكام: 2/ 159، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون وما يجوز فيها وما لا يجوز، ح625.
2- تهذيب الأحكام: 2/ 146، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون وما يجوز فيها وما لا يجوز، ح31.
3- في «ق»: لا يقم.
4- الكافي: 3/ 320، باب الركوع وما يقال فيه من التسبيح والدعاء فيه وإذا رفع الرأس منه، ح6، وتهذيب الأحكام: 2/ 78، باب كيفية الصلاة وصفتها وشرح الإحدى وخمسين ركعة وترتيبها والقراءة فيها والتسبيح في ركوعها وسجودها والقنوت فيها والمفروض من ذلك والمسنون، ح 58.
5- الكافي: 3/ 285، باب وقت الصلاة في يوم الغيم الريح ومن صلى لغير القبلة، ح6، وتهذيب الأحكام: 2/ 140، باب تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون وما يجوز فيها وما لا يجوز، ح5.

أن قال: ومن لم يسبّح فلا صلاة له»(1).

وأشباه ما ذكر من النصوص، فإنّها كثيرة جدًا.

وجه الاستدلال: أنّه لو كان لفظ «الصلاة» مثلًا اسمًا للأعمّ من الصحيحة والفاسدة؛ لما صحّ الحكم بانتفاء جنسها لانتفاء بعض الأمور المعتبرة فيها، والتالي باطل.

أمّا الملازمة؛ فلوضوح أنّ تحقّق جنسها حينئذٍ في ضمن فردين: الصحيحة والفاسدة؛ وغاية ما هناك انتفاء أحد الفردين، وهو غير مستلزم لانتفاء الأعمّ، ضرورة عدم استلزام انتفاء الأخصّ لانتفاء الأعمّ.

وأمّا بطلان التالي؛ فللنصوص المذكورة؛ وجه دلالتها عليه أنّ الظاهر من أئمّة اللغة والعربيّة اتّفاقهم على أنّ كلمة «لا» في أمثال المقام لنفي الجنس، وقد مرّ مرارًا وجوب حمل الألفاظ على المعاني الظاهرة عند انتفاء القرينة.

ص: 328


1- الكافي: 3/ 329، باب أدنى ما يجزئ من التسبيح في الركوع والسجود وأكثره، ح1، وتهذيب الأحكام: 2/ 80، باب كيفيّة الصلاة وصفتها وشرح الإحدى وخمسين ركعة وترتيبها والقراءة فيها والتسبيح في ركوعها وسجودها والقنوت فيها والمفروض من ذلك والمسنون ح 68.
إيرادات وتفصّيات
اشارة

وقد يناقش في المقام بوجوه:

الإيراد الأوّل

الأوّل: أنّ مثل هذا التركيب قد وجد في كثيرٍ من الموارد، كقوله (صلی الله علیه و آله): «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد»(1)، و«لا عمل إلّا بنيّة»(2)، ونحوهما، ولا يمكن إرادة الجنس هناك كما لا يخفى، فليكن ما نحن فيه أيضًا كذلك.

الإيراد الثاني

والثاني: أنّ الاستدلال بها فيما نحن فيه يستلزم الدور؛ لأنّ نفي الجنس و(3)الماهيّة يتوقّف على كون تلك الألفاظ أسامي(4) للصحيحة؛ لوضوح أنّها لو كانت أسامي(5) للأعمّ لما أمكن الحكم بانتفاء الماهيّة بمحض انتفاء بعض أفراده؛ والمفروض أنّ كون الألفاظ اسمًا(6) للصحيحة متوقّفٌ على نفي الماهيّة؛ لكونه دليلًا عليه.

ص: 329


1- عوالي اللآلئ الحديثيّة: 1/ 306، ودعائم الإسلام: 1/ 148.
2- الكافي: 1/ 70، باب الاخذ بالسنّة وشواهد الكتاب، ح9.
3- في «ق»: أو.
4- كذا في الأصل، والصواب: أساميًا.
5- كذا في الأصل، والصواب: أساميًا.
6- كذا في الأصل، والصواب: أساميًا.
الإيراد الثالث

والثالث: أنّ غاية ما يلزم من قوله (علیه السلام): «لا صلاة إلّا بطهور»(1)، و«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(2) مثلًا على تقدير التسليم أنّ الصلاة الّتي لا طهور لها ولا فاتحة فيها ليست بصلاة، ولا يدلّ على أنّ الصلاة اسم للصحيحة كما لا يخفى، إذ لو حصل الطهور والفاتحة وشككنا أنّ السورة أيضًا واجبة مع الفاتحة أم لا، فهذا الحديث لا ينفي كون الصلاة الخالية عنها صلاة، ولا يدلّ على أنّ الصلاة اسم لما جامع جميع الشرائط.

الإيراد الرابع

والرابع: أنّ مثل هذه التراكيب لو كانت ظاهرًا في نفي الحقيقة والماهيّة، لكان نفى الإجمال في قوله (علیه السلام): «لا صلاة إلّا بطهور» ونحوه، لظهوره فيما ذكر؛ والتالي باطل؛ لأنّ أحدًا من العلماء لم يتمسّك في مباحث المجمل لنفي الإجمال في أمثال هذه التراكيب بذلك، بل نقول: إنّها ظاهرة في نفي الصفة.

ولذا لم يحتمل أحدٌ من العلماء الفحول في ذلك المبحث دلالتها على نفي الحقيقة إلّا على تقدير كون تلك الألفاظ أسامي للصحيحة، فإثبات كونها أسامي لها بهذه التراكيب يوجب الدور.

ص: 330


1- تهذيب الأحكام: 1/ 50، باب آداب الأحداث الموجبة للطهارات، ح83.
2- عوالي اللآلئ الحديثيّة: 3/ 82، ح65.
الجواب عن الإيراد الأوّل

والجواب: أمّا عن الأوّل: فظاهر؛ لوضوح أنّ صرف اللفظ عن الظاهر لموجب لا يوجب صرفه عنه مع انتفائه كما لا يخفى، إلّا أن يدّعى ثبوت الوضع الشرعيّ أو العرفيّ لمثل هذه التراكيب في انتفاء الصفة لا الذات، لكنّه ممنوع وعلى من ادّعاه الإثبات، وللمانع يكفي الاحتمال.

على أنّه يمكن المناقشة في مثل: «لا عمل إلّا بنيّة» من وجه آخر، أمّا على القول بركنيّة النيّة فظاهر؛ لأنّ انتفاء النيّة حينئذٍ مستلزم لانتفاء أصل العمل كما لا يخفى، وأمّا على القول بالعدم؛ فلأنّ التمسّك به لكون هذا التركيب لنفي الصفة لا لنفي الذات إنّما يمكن(1) إذا لم تكن الألفاظ أساميًا للصحيحة، إذ على تقديره تنتفي الذات بانتفاء النيّة؛ لأنّ استلزامه لانتفاء الصحّة ممّا لا كلام فيه، فالتمسّك به لذلك يوجب الدور.

إلّا أن يقال: إنّ الكلام في المسألة إمّا هو في الألفاظ الّتي تطلق على العبادات، كالصلاة والصوم ونحوهما، لا في لفظ «العمل»؛ لوضوح أنّ معناه ما يفهم منه لغة وعرفًا، ومعلوم أنّ انتفاء النيّة لا يوجب انتفاؤه قطعًا.

ولقائل أن يقول: إنّ منصب الشارع إنّما هو لبيان الأعمال الشرعيّة المترتّب عليها الآثار المعهودة، فعلى هذا يندرج لفظ «العمل» في الحديث في محلّ النزاع؛ على أنّه ربّما يمكن دعوى التعيّن في ذلك؛ إذ لا شبهة في تقدير الصحّة بناءً على

ص: 331


1- في «ق»: يكون.

القول بالأعمّ بأن يقال: إنّ التقدير: «لا عمل صحيحًا إلّا بالنيّة»، والعمل اللغويّ والعرفيّ لم يتوقّف صحّته عليها.

الجواب عن الإيراد الثاني

وأمّا عن الثاني: فلأنّه مغالطة لعدم تكرّر الأوسط؛ لأنّ النفي من الشارع وإن كان متوقّفًا على كونه اسمًا للصحيح، لكن كون الاسم للصحيح غير متوقّف له على نفي الماهيّة كما لا يخفى، بل متوقّف على وضعه(1) للصحيح، وعلمنا بكون الاسم للصحيح متوقّف على حكم الشارع بانتفاء الماهيّة بانتفائها، لا على حكمنا بانتفائها بذلك كما لا يخفى، فلا دور.

الجواب عن الإيراد الثالث

وأمّا عن الثالث: فظاهر؛ لأنّهم مفترقون(2) على فرقتين، فرقة منهم قالوا بكونها أساميًا للأعمّ ويلزمهم عدم إمكان الحكم بانتفاء الماهيّة؛ لانتفاء شيء من الشرائط المعتبرة كائنًا ما كان، فإذا ثبت الحكم بانتفائها لانتفاء بعض الشروط مثلًا، علم أن لا تكون الصلاة اسمًا للأعمّ ويلزم منه أن تكون اسمًا للصحيح لانتفاء الفارق.

الجواب عن الإيراد الرابع

وأمّا عن الرابع: فلأنّه مخالف للواقع؛ وإن شئت أن يظهر عليك حقيقة الحال

ص: 332


1- في «ق»: وصفه.
2- في «ق»: متفرّقون.

فاستمع لما أتلو عليك، فإنّه -مع كونه جوابًا عنه ودليلًا على أنّ منشأه عدم الرجوع إلى كتب القوم- يكون شاهدًا لما ادّعيناه فيما سلف من كون القول بالصحيح قول أكثر علماء الأصول ومختار أعظم العلماء الفحول.

نقل الكلمات الواصلة إلينا من علمائنا الدالّة على أنّ الألفاظ عندهم أسامٍ للصحيحة

قال العلّامة -أحلّه الله تعالى دار الكرامة- في النهاية:

اختلف الناس في الأفعال المنفية كقوله (صلی الله علیه و آله): «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(1)، و«لا عمل إلّا بنيّة(2)»(3)، و«لا صيام لمن لا يبيّت الصيام من الليل»(4) [ونحوه]، فذهب الكلّ إلى نفي الإجمال فيه. وقال القاضي أبو بكر(5) وأبو عبد الله البصريّ(6): (إنّه مجمل).

وقسّم أبو الحسين الفعل الّذي دخل عليه حرف النفي إذا لم يكن على صفة من الصفات إلى قسمين، أحدهما: أن يكون انتفاء الفعل [متى لم تحصل تلك الصفة] ممكنًا، بأن يكون النفي داخلًا على اسم شرعيّ كقوله (صلی الله علیه و آله): «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»؛ لأنّ كلامه (صلی الله علیه و آله) يحمل على معانيه الشرعيّة، فظاهره يقتضي نفي الصلاة

ص: 333


1- عوالي اللآلئ الحديثيّة: 1/ 196، ح2.
2- في «ق»: بالنيّة.
3- الكافي: 1/ 70، ب الأخذ بالسنّة، ح9.
4- عوالي اللآلئ الحديثيّة: 3/ 132، ح 5.
5- التقريب والإرشاد: 3/ 88- 90.
6- حكاه عنه في المحصول: 3/ 166.

الشرعيّة، وهو يقتضي كون القراءة شرطًا، ويقتضي أن يكون قولنا: «صلاة فاسدة» مجازًا، [أعني وصفنا لها بأنّها صلاة]، ويكون المراد أنّها على صورة الصلاة؛ وكذا قوله (صلی الله علیه و آله): «لا صيام لمن لا يبيّت الصيام من الليل»(1).

إلى أن قال: واحتجّ أبو عبد الله البصريّ(2) على الإجمال بأنّ الصلاة والعمل موجودان، فلا يمكن صرف النفي إليهما.

إلى أن قال: والحقّ أنّه لا إجمال هنا، أمّا فيما له مسمّى شرعيّ؛ فلإمكان نفيه، والشرع أخبر عن انتفاء ذلك المسمّى عند انتفاء الوصف المخصوص.

لا يقال: إنّه قد يقال: هذه صلاة فاسدة، فدلّ على [أنّ] بقاء المسمّى مع الفساد، والفاسد ليس صلاة شرعيّة.

لأنّا نقول: التوفيق بين الدليلين أن يصرف(3) ذلك إلى المسمّى الشرعيّ وهذا إلى المسمّى اللغويّ، وليس بجيّد؛ إذ ليس المراد بقولنا: صلاة فاسدة، أي دعاء فاسد، ولا غيره من المحامل اللغويّة، بل الوجه قول أبي الحسين أنّه مجاز(4)، انتهى كلامه.

وفي مواضع من هذا الكلام دلالة على كون اللفظ اسمًا للصحيح عند الشارع،

ص: 334


1- عوالي اللآلئ الحديثيّة: 3/ 132، ح5.
2- الحسين بن عليّ بن إبراهيم، أبو عبد الله البصريّ، ساكن بغداد، يُعرف بالجُعل وبالكاغديّ. وهو أحد شيوخ المعتزلة، كثير التصانيف، وقرأ عليه الشيخ المفيد، ت سنة 369ﻫ. ينظر: موسوعة طبقات الفقهاء: 4/171.
3- في المصدر: أن نصرف.
4- نهاية الوصول: 2/ 410- 412.

إذ لو كان اسمًا للأعمّ بأن يكون المعنى الشرعيّ أعمّ من الصحيح والفاسد لما انتفى مطلق المعنى الشرعيّ بانتفاء ذلك الشيء، بل القسم الواحد منه، ويكون إطلاق الصلاة على الفاسدة حقيقة أيضًا لا مجازًا.

وقال المحقّق -أعلى الله مقامه- في المعارج:

حرف النفي إذا دخل على المصدر كقوله: «لا صلاة إلّا بطهور»، قال أبو عبد الله البصريّ: هو مجمل، وقال قوم: إن كان الفعل شرعيًّا انتفى عند انتفاء الصفة المذكورة [كقوله: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب](1)؛ لأنّ الشرع أخبرنا بانتفاء ذلك(2).

ولا يخفى أنّ القول البصريّ مبنيٌّ على القول بالأعمّ، والقول الثاني على القول بالصحيح؛ ونسبة الأوّل إلى البصريّ فقط والثاني إلى قوم يرشدك إلى ما ادّعيناه من كون هذا القول قول الأكثر.

وقال في كتاب الأيمان من الشرائع:

إطلاق العقد ينصرف إلى العقد الصحيح دون الفاسد ولا يبرّ بالبيع الفاسد لو حلف ليبيعنّ، وكذا غيره من العقود(3).

وقال شيخ الطائفة -قدّس الله روحه- في كتابه العدّة:

ذهب قومٌ إلى أنّ ما رُوي عنه (صلی الله علیه و آله) من قوله: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و«لا

ص: 335


1- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
2- معارج الأصول: 108.
3- شرائع الإسلام: 3/ 138.

صلاة إلّا بطهور»(1) و«لا نكاح إلّا بوليّ»(2) مجمل.

إلى أن قال: وذهب عبد الجبّار بن أحمد إلى أنّ ذلك ليس بمجمل، وقال: لأنّ حرف النفي يدخل في الفعل الشرعيّ، وما يقع منه مع عدم الشرط المذكور لا يكون شرعيًّا، فكأنّه قال: لا صلاة شرعيّة إلّا بطهور، فإذا وقعت من غير طهور لم تكن شرعيّة، فحرف النفي قد استعمل في الحقيقة فيما دخل فيه.

لكن ما ذكرناه أنّما يصحّ إذا دخل حرف النفي في الفعل الشرعيّ، وأمّا(3) إذا دخل(4) فيما عداه فيجب أن ينظر فيه، فإن دخل على الحكم في الحقيقة قضي بنفيه إذا لم يحصل الشرط المذكور، وإن دخل على الفعل والمعلوم من حاله أن(5) يقع فعلًا صحيحًا مع عدم الشرط، فيجب أن يكون مجازًا(6) على ما ذكروه.

إلى أن قال: هذه ألفاظه بعينها ذكرها في كتاب العمد، وهي قريبة إلى الصواب(7)، انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

وقال السيّد الأجلّ المرتضى -قدّس الله روحه- في الذريعة: وممّا ألحقه قوم

ص: 336


1- كتاب من لا يحضره الفقيه: 1/ 33، ب وقت وجوب الطهور، ح67.
2- دعائم الإسلام: 2/ 218، ح 807.
3- في المصدر: فأمّا.
4- في المصدر: حصل.
5- في المصدر: أنّه.
6- في المصدر: مجملًا.
7- عدّة الأصول: 2/ 441- 443.

بالمجمل -وإن لم يكن مع التأمّل كذلك- ما روي عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) [من قوله]: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و«لا نكاح إلّا بوليّ» و«لا صلاة إلّا بطهور»، واعتمدوا على أنّ لفظة «لا» لا يمكن أن تكون نافية(1) للفعل مع علمنا بوقوعه(2).

إلى أن قال: والّذي نقوله في هذا الباب أنّ الّذي ذكروه وإن كان في اللفظ نفيًا، فهو في القصد(3) والغرض إثبات؛ والغرض أنّ من شرط الصلاة الطهور وقراءة فاتحة الكتاب [والوليّ في النكاح](4)، فجعلوا النفي منبئًا عن الإثبات، وهو أوكد منه؛ لأنّ قول القائل: «لا صلاة إلّا بطهور» أوكد من قوله: «من شرط الصلاة الطهور»، والنفي واقع في الحقيقة على الصلاة؛ لأنّ فقد الطهارة ينفي كونها صلاة مشروعة، وكذلك الظاهر في كلّ ما دخل عليه هذا الحرف من نكاح و(5) صيام و(6) غير ذلك(7).

ص: 337


1- في المصدر: تكون نافية.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): من تتمّة كلام السيّد: «فيجب أن يكون داخلًا فيه على أحد الأمرين: إمّا الإجزاء، وإمّا التمام والفضل، فإذا لم يكن في اللفظ ما يقتضي ذلك فهو مجمل. وربّما قالوا: إنّ الإجزاء والتمام لا يصحّ أن يرادا بعبارة واحدة، والّذي نقوله» إلى آخر ما نقلنا عنه.
3- في «ق»: المقصد.
4- ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
5- في المصدر: أو.
6- في المصدر: أو.
7- الذريعة: 1/ 353 -354.

وقال السيّد السند عميد الدين(1) في شرحه على تهذيب الأصول:

(أكثر الناس على أنّه لا إجمال في اللفظ الدالّ على نفي الفعل، مثل: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و«لا عمل إلّا بنيّة» و«لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل»؛ خلافًا لأبي عبدالله البصريّ؛ لأنّ اللفظ إن كان له مسمّى شرعيّ -كالصلاة والصيام- حمل على ظاهره من نفي مسمّاه عند انتفاء الأمور المذكورة، كالقراءة في الصلاة وتبيت(2) النيّة في الصيام، وهو يقتضي(3) كونها أجزاء من تلك الأفعال المنفيّة، أو شرائط لها. وإن لم يكن له مسمّى شرعيّ مثل: «لا عمل إلّا بنيّة» حمل على نفي الصحّة؛ لأنّ نفي الذات غير مقصود لتحقّقها.

إلى أن قال: احتجّ المخالف بأنّ الصلاة والعمل مثلًا موجودان، فامتنع صرف النفي إليهما، إلى آخره.

ثمّ قال: والجواب بالمنع(4) من وجود ما له مسمّى شرعيّ، كالصلاة والصيام عند عدم القراءة(5) وتبيت(6) النيّة؛ لأنّهما إنّما يصدقان حقيقة على

ص: 338


1- عميد الدين الأعرجيّ عبد المطلب بن أبي الفوارس محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي الأعرجيّ الحسينيّ الحلّيّ، من كبار الفقهاء، ت سنة 754ﻫ. ينظر: فهرس التراث: 1/726.
2- كذا في الأصل، والصواب: تبييت كما في المصدر.
3- في المصدر: يقتضي.
4- في المصدر: المنع.
5- في المصدر: قراءة الفاتحة.
6- كذا في الأصل، والصواب: تبييت كما في المصدر.

الصحيح منهما(1).

قال الشارح الفاضل جمال الدين في شرحه على التهذيب بعد نقل الخلاف في المسألة، أقول: «لا صلاة» يمكن منه إرادة نفي الذات بلا شبهة؛ لأنّ الصلاة موضوعة شرعًا للصحيحة، فالصلاة الباطلة ليست بصلاة البتّة، فلا يحتاج إلى اختيار المجاز)(2)، انتهى كلامه رفع مقامه.

قال شيخنا الشهيد -أعلى الله مقامه- في القواعد:

الماهيّات الجعليّة -كالصلاة والصوم وسائر العقود- لا تطلق على الفاسد إلّا الحجّ؛ لوجوب المضيّ فيه، فلو حلف على ترك الصلاة(3) أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحّة، وهو الدخول فيهما، فلو أفسدهما بعد ذلك لم يزل الحنث، ويحتمل عدمه؛ لأنّها لا تسمّى صلاة شرعًا ولا صومًا مع الفساد، أمّا لو تحرّم في الصلاة، أو دخل

ص: 339


1- منية اللبيب: 2/ 24- 26.
2- ينظر: شرح تهذيب الوصول، للسيّد جمال الدين بن عبدالله الحسينيّ الجرجانيّ: مخطوط، لم يوجد لدينا. قال الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ (رحمة الله) في موضع من الذريعة (13/ 166): «هو شرح مزجيّ، فرغ منه مؤلّفه في أواسط ربيع الثاني سنة 929 ق». وقال في موضع آخر منه (13/ 169): «شرح تهذيب الوصول، للسيّد جمال الدين محمّد الحسينيّ الاسترآباديّ، ذكره في كشف الحجب مع ذكره لشرح السيّد جمال الدين بن عبد الله الجرجانيّ الصريح في تعدّدهما».
3- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): أي: في الأماكن المكروهة، أو الأوقات كذلك.

في الصوم مع مانع من الدخول لم يحنث قطعًا(1).

وقال شيخنا الشهيد الثاني -قدّس الله روحه- في المسالك في شرح العبارة السالفة من الشرائع:

«عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد؛ لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما، كمبادرة المعنى إلى ذهن السامع عند إطلاق قولهم: باع فلان داره وغيره؛ ومن ثمّ حمل الإقرار به عليه حتّى لو ادّعى إرادة الفاسد لم يسمع(2) إجماعًا؛ وعدم صحّة السلب وغير ذلك من خواصّه، فلو(3) كان مشتركًا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره ب-«أحدهما» كغيره من الألفاظ المشتركة»(4).

وقوله -طاب ثراه-:

«وعدم صحّة السلب» مع عدم إنكار القائل بالأعمّ كونه حقيقة في الصحيح، الظاهر أنّه أراد به أنّ القائل بالأعمّ لمّا كان ظاهره أنّه يكون موضوعًا للمعنى المشترك بين القسمين، فيكون اللفظ عنده من المشترك المعنويّ، فعلى هذا ينبغي أن يصحّ السلب عن الصحيح بخصوصه مع أنّه ليس كذلك، وستقف على مزيد توضيح لذلك.

وقال في كتاب الغصب: تسميته على تقدير فساد الشراء مشتريًا مجاز بحسب

ص: 340


1- القواعد والفوائد: 1/ 158.
2- في المصدر: لم تسمع.
3- في المصدر: ولو.
4- مسالك الأفهام: 11/ 263.

الصورة، وإلّا فالبيع حقيقة لا يطلق إلّا على الصحيح(1).

وقال في كتاب الصلاة منه: ويشترط صحّة كلّ من الصلاتين لولا الاجتماع المذكور، فلا تؤثّر(2) الفاسدة في صحّة الأخرى، والإطلاق منزّل على الصحيحة(3).

وقال في كتاب الوقف منه في مقام بيان أنّ القبض المعتبر في الوقف يتحقّق في المسجد الموقوف بصلاة واحدة فيه، ما هذا كلامه:

واعلم: أنّه لا فرق في الصلاة بين الواجبة والمندوبة ولا بين الواقعة من الواقف وغيره، ويشترط كونها صحيحة ليتحقّق مسمّاها شرعًا(4)، انتهى كلامه.

ويقرب منه ما ذكره صاحب التنقيح، قال:

الرابع(5): القبض في المسجد صلاة مسلم صلاة صحيحة(6).

وقال في كشف اللثام في مبحث صلاة كلّ من الرجل والمرأة بحذاء الآخر:

إنّ الصلاة الفاسدة ليست بصلاة حقيقة، فلا يفهم من لفظها إلّا بقرينة(7).

وقال الفاضل المحقّق الأستاذ -أعلى الله مقامه في المعاد- في حاشية المعالم:

ص: 341


1- مسالك الأفهام: 12/ 222.
2- في المصدر: فلا تؤثّر.
3- مسالك الأفهام: 1/ 172.
4- مسالك الأفهام: 5/ 373- 374.
5- في المصدر: الرابعة.
6- التنقيح الرائع: 2/ 302.
7- كشف اللثام: 3/ 286.

(قد أثبتنا في الفوائد(1) كون الصلاة حقيقة عند المتشرّعة في خصوص الصحيحة، وكذا غيرها من العبادات؛ للتبادر وصحّة السلب عن الفاسد وأصالة عدم التقدير في مثل: «لا صلاة إلّا بطهور»)(2).

قال الآمدي في إحكامه:

اختلفوا في قوله (علیه السلام): «لا صلاة إلّا بطهور» و«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و«لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل».

إلى أن قال: والمختار أنّه لا إجمال في هذه الصور؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يقال بأنّ الشارع له في هذه الأسماء عرف، أو لا عرف له فيها، بل هي منزّلة على الوضع اللغويّ، فإن قيل بالأوّل فيجب تنزيل كلام الشارع على عرفه، إذ الغالب منه أنّه إنّما يناطقنا فيما له فيه عرف بعرفه، فيكون لفظه منزّلًا على نفي الحقيقة الشرعيّة من هذه الأمور، ونفي الحقيقة الشرعيّة ممكن، والأصل حمل الكلام على ما هو حقيقة فيه، وعلى هذا فلا إجمال(3).

وأنت إذا أحطت خبرًا بما ذكرنا، ظهر لك صحّة ما ادّعينا من كون المناقشة المذكورة مخالفة للواقع؛ لوضوح أنّ بناء جميع المقالات المذكورة على أنّ انتفاء الإجمال فيما نحن فيه لظهوره في نفي الجنس والحقيقة وإمكان إرادته بناءً على ثبوت المعنى الشرعيّ، مضافًا إلى تصريحات كثير منهم عليه أيضًا، لكن ما ذكرنا

ص: 342


1- ينظر الفوائد الحائريّة: 103.
2- حاشية المعالم، للعلّامة البهبهانيّ (قدس سره): مخطوط، لم يوجد لدينا.
3- الإحكام، للآمديّ: 3/ 16- 17.

يغني ذكرها.

ومنه ظهر(1) أنّ الحكم بأنّه لم يحتمل أحد من العلماء الفحول دلالة تلك الهيئة على نفي الحقيقة إلّا على تقدير كون الألفاظ أساميًا للصحيحة، غيرُ صحيح جزمًا؛ وكأنّ منشأه كلام صاحب المعالم تبعًا لشارح المختصر حيث قال بعد الحكم بعدم الإجمال:

لنا: أنّه إن ثبت أنّها(2) حقيقة شرعيّة في الصحيحة منها(3) -إلى آخر ما ذكره- وإن لم يثبت لها(4) حقيقة شرعيّة كما مرّ، إلى آخره(5).

مع ما في كلامه من الحزازة، إذ المناسب بالترديد المذكور أن يقول: وإن لم يثبت أنّها حقيقة شرعيّة في الصحيحة، بل أعمّ منها ومن الفاسدة، أو: لم يثبت لها حقيقة شرعيّة.

ويمكن أن يكون عدم الالتفات إليه لعدم الافتقار إليه؛ لإمكان أن يدّعى أنّه ممّا لا قائل به من علمائنا على ما ظهر لك ممّا نقلنا من مقالاتهم(6)، وعلى تقدير

ص: 343


1- في «ق»: يظهر.
2- في المصدر: كونه.
3- في المصدر: في الصحيح من هذه الأفعال.
4- في المصدر: له.
5- معالم الأصول: 155.
6- جاء في حاشية الأصل: إذ يظهر من عدم نقلهم الخلاف في المسألة إلّا من بعض علماء العامّة عدم تحقّقه من علمائنا، إذ لو تحقّق ذلك لاطّلعوا عليه ولو اطّلعوا عليه لنقلوا كما نقلوا عن العامّة، وتحقّقه مع عدم اطّلاعهم عليه، أو اطّلاعهم مع عدم نقلهم ونقلهم عن العامّة مستبعد كما لا يخفى. منه.

وجوده لا شبهة في ندرته وشذوذه(1)، فلا حاجة إلى التعرّض إليه، بل حكمهم بعدم الإجمال لتصريحهم بأنّ الهيئة المذكورة ظاهرة في نفي الجنس(2)؛ والحمل عليه عند المسمّى الشرعيّ ممكن، فيلزم منه أنّ المسمّى الشرعيّ عندهم المعنى الصحيح، إذ لو كان أعمّ منه لما أمكن ذلك، كما لا يخفى.

وأمّا دعوى ظهور تلك الهيئة في نفي الصفة لا الجنس ممّا لم يقل به أحد؛ ويدلّك مضافًا إلى تصريحات كثير منهم -كما يظهر للمتتبّع في كلامهم- ترجيحهم تقدير

ص: 344


1- جاء في حاشية الأصل: قال في الإيضاح عند شرح قول والده «الأقرب اشتراط صحّة صلاة المرأة لولاه في بطلان الصلاتين»: وجه القرب أنّ الفاسدة كلا صلاة، ولحمل الأصحاب الصلاة عند الإطلاق على الصحيح كالعقود، ويحتمل عدمه لصدق المسمّى على الفاسدة [إيضاح الفوائد: 1/ 89]. وقال المحقّق الثاني في جامع المقاصد في شرح العبارة المذكورة: وجه القرب أنّ الفاسدة كلا صلاة، ولأنّ إطلاق الصلاة محمول عند الفقهاء على الصحيحة في غالب أبواب الفقه، ويحتمل عدمه لصدقها على الفاسدة أيضًا، وندور الحمل لا يقتضي المجاز، والأوّل أصحّ؛ لأنّ إطلاق الشارع لفظ «الصلاة» إنّما يراد به الصحيحة؛ لعدم توجّه الأمر إلى غيرها وعدم إجرائه الأحكام على الفاسدة [جامع المقاصد: 2/ 123]. منه.
2- جاء في حاشية الأصل: قال المحقّق الفاضل الأستاذ -أعلى الله مقامه- في الحاشية المذكورة [حاشية معالم الأصول، للوحيد البهبهانيّ (قدس سره): مخطوط، لم يوجد لدينا]: أمّا أنّه هل تحقّق حقيقة شرعيّة أو عرفيّة في قول: لا كذا إلّا كذا؟ فممّا لا شكّ في فساده وعدم تحقّق حقيقة فيه سوى الحقيقة اللغويّة، وهي نفي الجنس والحقيقة أو نفي الشخص. منه.

نفي الصحّة على نفي الكمال؛ لكون الأوّل أقرب إلى الحقيقة من الثاني، ومعلوم أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كانت الهيئة حقيقة وظاهرة في نفي الحقيقة كما لا يخفى.

إن قلت: كيف يمكن الحكم بأنّ القول بالأعمّ ممّا لم يذهب إليه إلّا قليل من علمائنا، مع أنّ كتبهم الفقهيّة مشحونة بأنّ تلك الصلاة باطلة، بل ربّما قسّمت إلى الصحيحة والفاسدة، والمقسم مشترك في أقسامه ومتحقّق فيها؛ وأيضًا أنّ دفع الأمور المحتملة بالأصل ممّا أطبقت عليه كلماتهم، وهو إنّما يتمّ على القول بالأعمّ لا الصحيح.

قلنا: أمّا الجواب عن الثاني فقد عرفت ممّا أسلفنا، وأمّا عن الأوّل فلأنّ الإطلاق أعمّ من الحقيقة والمجاز، وظهور القسمة على فرض تحقّقها(1) لا يلتفت إليه بعد تحقّق التصريح على خلافه، وستقف على زيادة كلام في ذلك.

نعم، قد صرّح السيّد الشارح عميد الدين في شرحه على التهذيب في مبحث دلالة النهي على الفساد بكون الصلاة اسمًا للصحيحة والفاسدة، حيث قال:

والحقّ(2) أنّ الصلاة مثلًا تصدق شرعًا على الصحيحة والفاسدة؛ لصحّة تقسيمها إليهما، فهي أعمّ منهما، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ، وكذا البيع والنكاح وغيرهما، ونمنع كون المعنى الشرعيّ هو الصحيح دون غيره، وإلّا لما صحّ أن

ص: 345


1- جاء في حاشية الأصل: أشار بقوله: «على فرض تحقّقها» إلى منع تقسيمهم الصلاة إلى الصحيحة والفاسدة في الكتب الفقهيّة بأن يقولوا: الصلاة على قسمين: صحيحة وفاسدة، أو ما يؤدّي هذا المعنى. منه.
2- في المصدر: والحقّ أن يقال.

يقال لمن صلّى صلاة فاسدة: «أعد صلواتك»، وحمله على المجاز(1) مخالف للأصل(2)، انتهى.

وفي كلام بعض آخر في ذلك المبحث إيماء أو ظهور إليه، بل تصريح به أيضًا، لكنّ الجواب عنه: هو أنّ التصريح فيما بعد ذلك المبحث بالمجازيّة والاختصاص بالصحيحة دليلٌ على العدول عن ذلك كما لا يخفى.

المناقشة في بعض النصوص بوجه آخر

ثمّ اعلم: أنّه يمكن أن يناقش في بعض هذه النصوص بوجه آخر غير ما ذكر، تقريرها: هو أنّ قوله (علیه السلام): «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ونحوه، لا شبهة في عدم إمكان حمله على ظاهره؛ لوضوح أنّ انتفاء الحمد ساهيًا لا يوجب انتفاء ماهيّة الصلاة، فلا بدّ فيه من التقييد، فكما يمكن تقييده بحالة التعمّد فيصحّ الاستدلال به حينئذٍ لما نحن فيه، يمكن التقييد بحالة السهو والنسيان، فلا يصحّ لما عرفت، بل لا بدّ حينئذٍ من تقدير الكمال، فلا يتمّ الاستدلال.

ويمكن الجواب عنها أيضًا: بأنّ الأمر وإن كان كما ذكر، لكن الحمل على حال التعمّد أولى، إذ لا يلزم معه صرف «لا صلاة» عن ظاهره، بخلاف الحمل على حالة السهو والنسيان؛ هذا مع أنّ في تقدير الكمال كلامًا، لإمكان أن يقال: إنّ انتفاء الحمد ساهيًا لا يوجب انحطاطها عن درجة الكمال، فتأمّل.

ص: 346


1- في «ق»: المجازات.
2- منية اللبيب: 1/ 470.

نعم، هنا مناقشة أخرى أصعب ممّا ذكر مختصّة ببعض تلك النصوص، وهي أنّ بعض النصوص المذكورة صدره معارض لذيله، كقوله: «من صلّى ولم يصلّ على النبيّ (صلی الله علیه و آله) »، إلى أن قال: «فلا صلاة له»(1)؛ لأنّ مقتضى قوله: «من صلّى» تحقّق ماهيّة الصلاة مع عدم ذلك الشيء، ومقتضى قوله: «فلا صلاة» انتفاؤها، ويجيء الكلام فيه عن قريب إن شاء الله تعالى.

ص: 347


1- تهذيب الأحكام: 2/ 159، باب تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون وما يجوز فيها وما لا يجوز، ح83.
في أدلّة القول بالأعمّ
اشارة

إعادة مقال لنقل استدلال

وحيث قد انقضى الكلام في تحقيق أدلّة القول بالصحيح، فبالحريّ أن نصرف زمام الكلام إلى تحقيق أدلّة القول بالأعمّ، فنقول: لهم وجوه أيضًا:

الدليل الأوّل
اشارة

الأوّل: النصوص الدالّة على كون الفاسدة صلاة أيضًا، وهي على أنواع:

النوع الأوّل

منها: ما رواه في التهذيب عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (علیه السلام)، قال: من صلّى في غير وقت فلا صلاة له(1).

والنصوص بهذه الكيفيّة كثيرة.

النوع الثاني

ومنها: الصحيح المرويّ فيه عن عبد الرّحمن بن أبي عبدالله، عن أبي عبدالله (علیه السلام)، قال: إذا صلّيت وأنت على غير القبلة واستبان(2) لك أنّك صلّيت وأنت(3) على غير

ص: 348


1- التهذيب: 2/ 140، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون وما يجوز فيها وما لا يجوز، ح 5، عن الكافي: 3/ 286، باب وقت الصلاة في يوم الغيم الريح ومن صلّى لغير القبلة، ح6.
2- في المصدر: فاستبان.
3- «وأنت» لم ترد في المصدر.

القبلة وأنت في وقت فأعد، وإن فاتك الوقت فلا تعد(1).

و(2) الموثّق المرويّ فيه عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام)، «في رجل صلّى الغداة بليل غرّه من ذلك القمر ونام حتّى طلعت(3) الشمس، فأخبر أنّه صلّى بليل، قال: يعيد صلاته»(4).

والموثّق المرويّ فيه عن سماعة، قال: «إذا سها الرجل في الركعتين الأوليين(5) من الظهر والعصر [والعتمة]، فلم يدر(6) واحدة(7) صلّى أم ثنتين، فعليه أن يعيد الصلاة»(8).

والصحيح المرويّ فيه عن الفضل بن عبد الملك، قال: «قال لي: إذا لم تحفظ الركعتين الأوليين(9) فأعد صلواتك»(10).

والنصوص المشاركة لها أكثر من أن تحصى.

ص: 349


1- الكافي: 3/ 284، باب وقت الصلاة في يوم الغيم الريح ومن صلّى لغير القبلة، ح3.
2- في «ق»: ومنها.
3- في المصدر: طلعت.
4- الكافي: 3/ 285، باب وقت الصلاة في يوم الغيم الريح ومن صلّى لغير القبلة، ح4.
5- في المصدر: الأولتين.
6- في المصدر: ولم يدر.
7- في المصدر: أواحدة.
8- الكافي: 3/ 350، باب السهو في الركعتين الأولتين، ح2.
9- في المصدر: الأولتين.
10- لم نجده في الكافي، بل في التهذيب: 2/ 177، باب أحكام السهو في الصلاة وما يجب منه إعادة الصلاة، ح 8.
النوع الثالث

ومنها: ما رواه في الكافي في الموثّق أو الصحيح عن المفضّل(1) بن يسار، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «بني الإسلام على خمسة(2)، على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم(3) والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ(4) الناس بأربع وتركوا هذه [يعني الولاية]»(5).

وجه الاستدلال بالنسبة إلى النوع الأوّل

وجه الاستدلال: أمّا بالنسبة إلى الأوّل: فلأنّه كما يكون مدلول «من ضرب» و«كتب» وهكذا، من أوجد حقيقة الضرب والكتابة، كذا يكون مدلول «من صلّى في غير وقت» من أوجد حقيقة الصلاة فيه؛ ومعلوم أنّ ذلك إنّما يمكن عند تحقّقها في ضمن الفاسد، وهو إنّما يتمّ على تقدير كون الصلاة اسمًا للأعمّ كما لا يخفى.

لا يقال: إنّ الظاهر منه وإن كان كما ذكر، لكن يعارضه ظاهر قوله (علیه السلام): «لا صلاة له»، إذ مدلوله الظاهر: لا يكون آتيًا لحقيقة الصلاة وجنسها؛ ودفعه(6) كما يمكن بصرف اليد عن ظاهر الثاني فيتمّ الاستدلال، كذا يمكن بالعكس بأن يقال:

ص: 350


1- في المصدر: فضيل.
2- في المصدر: خمس.
3- في المصدر: والصوم والحجّ.
4- في «ق»: وأخذ.
5- الكافي: 2/ 18، باب دعائم الإسلام، ح3.
6- في «ق»: ورفعه.

إنّ معنى «من صلّى»: من أوجد مشابه الصلاة وصورتها، فلا يتمّ الاستدلال.

لأنّا نقول: لا نسلّم أنّ الظاهر من «لا صلاة له» ما ذكر، بل مدلوله بقرينة اللام الدالّة على الانتفاع: لا صلاة لانتفاعه، ومعلوم أنّ الصلاة الّتي للانتفاع هي الصحيحة، وظاهرٌ أنّ نفي الجنس في ضمن معيّن لا ينافي الحكم بإثبات مطلق الحقيقة، ضرورة أنّ انتفاء الأخصّ لا يستلزم انتفاء الأعمّ.

وعلى فرض تسليم أن لا يكون مدلول اللام فيما نحن فيه الانتفاع(1) بأن يحمل على مطلق الملكيّة، نقول: وإن كان مدلوله حينئذٍ أنّه لا يكون مالكًا لجنس الصلاة؛ وهو على فرض تسليم أن يكون مستلزمًا لأن لا يكون آتيًا لجنس الصلاة، فيتحقّق التنافي بين صدر الحديث وذيله، لكنّ الترجيح للتجوّز في الذيل بحمل الصلاة المنفيّة على الصلاة المحصّلة للامتثال والصحيحة، لأولويّة التقييد من المجاز.

وجه الاستدلال بالنسبة إلى النوع الثاني

وأمّا بالنسبة إلى الثاني فظاهرٌ؛ لأنّ الإعادة عبارة عن إتيان الشيء ثانيًا، وهو إنّما يتحقّق إذا كانت السابقة الفاسدة صلاة حقيقة.

إن قلت: إنّ ذلك ممّا لا اختصاص له بالقول بالصحيح؛ لتحقّقه على القولين، إذ الصلاة السابقة فاسدة والمأتيّ بها ثانيًا صحيحة، فلا يصحّ أنّ ذلك إتيان ذلك الشيء ثانيًا.

قلنا: الاختلاف بهذا المقدار ممّا لا بدّ منه في معنى الإعادة؛ لأنّها عبارة عن

ص: 351


1- في «ق»: للانتفاع.

الإتيان ثانيًا لوقوع خلل في الأوّل، وهو متحقّق في الأوّل دون الثاني.

وبالجملة: إنّ الاختلاف على القول بالأعمّ في الوصف، وهو ممّا لا بدّ منه في تحقّق الإعادة؛ وأمّا على القول بالصحيح فهو بحسب الذات والحقيقة، وهو ممّا يأباه لفظ «الإعادة».

وجه الاستدلال بالنسبة إلى النوع الثالث

وأمّا بالنسبة إلى الثالث، فلأنّ المراد بالناس العامّة، وإطباق أصحابنا منعقد على فساد عباداتهم، ونصوصنا مستفيضة بذلك، فلو لم تكن الصلاة مثلًا اسمًا للأعمّ من الصحيحة، لزم تركهم الخمسة بأسرها كما لا يخفى، والتالي باطل، لحكمه (علیه السلام) بأخذ الأربع وترك الواحد، فيلزم منه أن تكون كلّ من الصلاة والزكاة والحجّ والصوم أساميًا للأعمّ من الصحيحة والفاسدة، وكذا غيرها؛ لانتفاء الفارق، فثبت المدّعى.

الجواب عن الاستدلال بالنسبة إلى النوع الأوّل

ويمكن الجواب: أمّا عن الأوّل: فلأنّا نقول: إنّ من صلّى معتقدًا لدخول الوقت، ثمّ انكشف الخلاف وظهر وقوع صلاته بأسرها خارج الوقت؛ إنّما يمكن حينئذٍ الحكم بانتفاء الصلاة لانتفاعه بناءً على القول بالصحيح لا الأعمّ، إذ بناءً عليه لا شبهة في تحقّق ماهيّة الصلاة منه؛ والظاهر القريب من القطع أنّه ممّا يوجب الثواب والأجر؛ لاشتغاله بها عازمًا للامتثال والخلوص ومتقرّبًا إلى ربّ الأرباب.

وغاية ما هناك أنّه لم يحصل له الامتثال بالنسبة إلى الأمر المتوجّه بالصلاة في

ص: 352

وقتها المعيّن، وهو لا يوجب انتفاء الأجر للصلاة الّتي صدرت منه بقصد الخلوص والإطاعة، فالصلاة لانتفاعها على القول بالأعمّ متحقّقة، فكيف يمكن الحكم بانتفائها؟!

نعم، إنّما يصحّ ذلك بناءً على القول بالصحيح؛ لأنّ الصلاة للانتفاع حينئذٍ غير موجودة، وإنّما الموجب للنفع فعل آخر غيرها مشابه لها، فالحمل على هذا المعنى مفسد للقول بالأعمّ [لا] دليلٌ له ودليلٌ للقول بالصحيح، لا دليلٌ عليه، إلّا أن يقيّد الانتفاع بالامتثال أو الكامل، أو يقيّد المصلّي بما إذا أتى الصلاة خارج الوقت مع عدم اعتقاده دخوله، أو اعتقاده عدم دخوله، وكلّ ذلك مخالفٌ للظاهر.

ثمّ إنّ الحكم بأولويّة التقييد من التجوّز غير صحيح على إطلاقه، بل إنّما يسلم إذا لم يترجّح التجوّز بمرجّح؛ وما تقدّم من الأدلّة وموافقة الشهرة -لو لم يدّع الإجماع - ممّا يرجّحه عليه في الغاية.

الجواب عن الاستدلال بالنسبة إلى النوع الثاني

وأمّا عن الثاني: فلأنّ ذلك مبنيٌّ على كون لفظ «الإعادة» حقيقة في المعنى المذكور في اللغة، أو عند الشارع، وكلاهما محلّ المنع، فعلى هذا نقول: «أعد صلواتك» بمعنى: ائت صلواتك، وهكذا، فسقط الاستدلال.

وعلى فرض التسليم نقول: إنّ التجوّز في كثير(1) من تلك النصوص ممّا لا بدّ

ص: 353


1- جاء في حاشية الأصل: هذا الاستدلال إلى آخره إنّما يلائم على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة، لكن يظهر منه الحال على القول بالعدم أيضًا، لكن يحتاج في بعض من المواضع إلى مزيد تأمّل، إذ قد يتوهّم في بادي الأمر عدم تماميّته على هذا القول، فعليك بالتأمّل حتّى يظهر عليك وجهه، فتأمّل. منه.

منه، إذ الإعادة بناءً على ما مرّ: إتيان الشيء ثانيًا لوقوع خلل ونقص في الأوّل؛ وهذا المعنى في النصوص المشتملة على «أعد صلواتك» ونحوه ممّا علّق فيه الإعادة بالصلاة إنّما يتحقّق إذا كان ظهور مقتضى الإعادة بعد الفراغ من العمل؛ لأنّ الصلاة أفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة(1) بالتسليم إمّا مطلقًا كما يقتضيه القول بالأعمّ، أو على وجه الصحّة كما يقتضيه القول الآخر، فهي بالنسبة إلى الركعات ليست من قبيل اللفظ الموضوع للمعنى العامّ المتحقّق في ضمن كلّ أبعاضه، كالماء الموضوع للجسم السيّال المخصوص المتحقّق في ضمن كلّ أبعاضه؛ ولهذا يكون كلّ بعض من أبعاضه جزئيًّا من جزئيّاته وفردًا من أفراده، بل هي موضوعة للمعنى المجموع والمركّب الّذي يكون كلّ بعض منه جزءًا من أجزائه.

ولهذا لا يقال لمن صلّى صلاة الظهر مثلًا: إنّه أوجد ماهيّات متعدّدة من الصلاة في ضمن جزئيّات متعدّدة، بل يقال: إنّه أوجد ماهيّة الصلاة في ضمن فرد واحد، فعلى هذا إذا علم مقتضى الإعادة قبل الفراغ مطلقًا ولو كان في الركعة الأخيرة، لا يصدق «أعد صلوتك» على وجه الحقيقة.

وكثير من النصوص من هذا القبيل، بل لا بدّ حينئذٍ إمّا رفع اليد عن ظاهر الإعادة بأن يقال: إنّ المراد منها إتيان العمل، أو عن ظاهر الصلاة بأن يقال: إنّ إطلاقها في ذلك المقام على التجوّز، وعلى التقديرين لا يتمّ الاستدلال.

ص: 354


1- في «ق»: ومختتمة.

أمّا على الأوّل: فلأنّه بناءً عليه لم يثبت منه إطلاق الصلاة على الفاسدة حتّى يتمسّك بأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة؛ لأنّ المراد حينئذٍ الأمر بإتيان الصلاة المأمور بها كما لا يخفى.

وأمّا على الثاني: فلكونه مبنيًّا على أنّ استعمال لفظ «الصلاة» في ذلك الفاسد على وجه التجوّز، فلا يتمّ التقريب، فتأمّل في المقام حتّى يظهر لك عدم اختصاص هذا المرام بالقول بالحقيقة الشرعيّة وتماميّته على القولين.

إن قلت: هذه الدعوى على التقدير الأوّل وإن كانت مسلّمة، لكنّها على الثاني غير مسلّمة؛ لأنّ إطلاق الصلاة على ذلك الجزء إنّما هو لكونه جزءًا، فيطلق اسم الكلّ عليه؛ وهذا إنّما يتمّ إذا كان لفظ «الصلاة» اسمًا للكلّ الفاسد كما لا يخفى.

قلنا: القدر المسلّم أنّ استعمال لفظ «الصلاة» هناك على التجوّز، وأمّا كون العلاقة ما ذكر فممنوع، فمن أين يتأتّى إثبات ذلك؟!

فيمكن أن تكون المشابهة في الصورة، أي: لمّا كانت تلك الأفعال مشابهة في الصورة للصلاة الصحيحة أطلق عليها اسمها، فإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال، فعلى ما ذكر يكون المدلول في النصوص الّتي على هذا المنوال: أعد تلك الأفعال مثلًا(1)، فلا دخل لها فيما نحن فيه.

وأمّا في النصوص الّتي لم تكن كذلك، بل يكون ظهور المقتضي للإعادة بعد الفراغ، فإطلاق الصلاة على الفاسدة وإن كان مسلّمًا، لكنّه لا يثبت منه المدّعى،

ص: 355


1- جاء في حاشية الأصل: إذ بعضها: «فليعدها»، وفي بعضها: «يعيدها». منه.

إمّا للمنع من أصالة الحقيقة فيما نحن فيه، بناءً على دوران الأمر بين الاشتراك والمجاز، إذ كون لفظ «الصلاة» اسمًا للصحيحة ممّا لا شبهة فيه، فلو كان اسمًا للفاسدة أيضًا يلزم الاشتراك.

إن قلت: إنّ ذلك مبنيّ على كون الصحيحة بخصوصها مسمّى للفظ «الصلاة»، وهو ممّا لا يلتزمه(1) القائل بالأعمّ، وقوله: «بأنّه اسم للأعمّ» شاهد عليه.

قلنا: لو لم يكن خصوص الصحيحة مسمّى للفظ «الصلاة»، لزم أن يكون استعماله في خصوص الصحيحة بأن يراد الخصوصيّة من ذلك اللفظ مجازًا، وهو ممّا لا شبهة في فساده؛ وعدم صحّة سلب الصلاة عن الصحيحة بخصوصها دليل عليه، فإذا ثبت وضعه لخصوص الصحيحة بالتبادر وعدم صحّة السلب نقول: لو كان اسمًا أيضًا للأعمّ أو الفاسدة(2) فقط يلزم الاشتراك المرجوح بالنسبة إلى المجاز.

وإمّا لأنّ حمله على مقتضى الأصل يوجب التجوّز في قوله (علیه السلام): «لا صلاة إلّا بطهور» وأشباهه، وحملها على ظاهرها يوجب التجوّز فيما نحن فيه، وهو أولى، بل متعيّن لما تقدّم.

ص: 356


1- في «ق»: ممّا يلتزمه.
2- في «ق»: والفاسدة.
الجواب عن الاستدلال بالنسبة إلى النوع الثالث

وأمّا عن الثالث: فلأنّ المعرفة إذا أعيدت نكرة كان الثاني غير الأوّل، وكذا النكرة إذا أعيدت نكرة(1)، فلو كانت الصلاة اسمًا للأعمّ من الصحيحة، مقتضى إتيان «أربع»(2) نكرة أن تتكون غير الأربع المذكورة؛ وهو إنّما يتحقّق على هذا التقدير أن تكون الأربع الّتي أخذها الناس مشاركة مع تلك الأربعة المذكورة في الصورة، لا في الحقيقة.

وفيه نظر، للقطع بأنّ المراد من قوله (علیه السلام): «بني الإسلام على خمسة، على الصلاة» إلى آخره، ليس إلّا الصحيحة، لا الفاسدة ولا الأعمّ، فلو كان ما أخذه الناس فاسدًا تتحقّق المغايرة، مع كون الصلاة حقيقة فيهما.

فالحقّ في الجواب هو ما تقدّم من الوجهين المذكورين آنفًا:

أوّلهما أن يقال: إنّ غاية ما ثبت من ذلك إطلاق الصلاة على الفاسدة، وهو ممّا لا ينكر، لكنّه لا يثبت منه المدّعى إلّا بعد أن يضمّ به أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة؛ وهذه الضميمة فيما نحن فيه غير صحيحة؛ لما عرفت من دوران الأمر بين المجاز والاشتراك، بل الأصل فيه التجوّز على ما مرّ تحقيق الحال بحيث لا مزيد عليه.

ص: 357


1- ينظر مغني اللبيب: 2/ 656.
2- في قوله (علیه السلام): «بني الإسلام على خمس، على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه، يعني الولاية»، الكافي: 2/ 18، دعائم الإسلام، ح3.

والثاني بعد الإغماض عنه: أنّ العمل بالأصل المذكور إنّما يتوجّه إذا لم يعارضه مخالفة الأصل من وجه آخر؛ وما نحن فيه ليس منه؛ لأنّ العمل بمقتضى الأصل فيما نحن فيه يستلزم صرف النصوص السالفة من قوله: «لا صلاة إلّا بطهور» وأشباهها عن ظواهرها وبالعكس، واللازم في مقام التعارض اختيار الراجح من المتعارضين والعدول عن المرجوح في البين، وقد ظهر ممّا سلف وجه الرجحان والمرجوحيّة، فلاحظ.

الدليل الثاني
اشارة

والثاني من الوجوه الّتي يتمسّك بها لإثبات أنّ الألفاظ أسامٍ للأعمّ: تقسيم الصلاة ونحوها إلى الصحيحة والفاسدة، ومعلوم أنّ المقسم معتبر في الأقسام ومشترك بينها، إذ القسمة عبارة عن ضمّ قيود متباينة أو المتغايرة بالمقسم، فبانضمام كلّ قيد إليه يحصل قسم(1).

الجواب عن الدليل الثاني

والجواب: إن كان المراد دعوى التقسيم في النصوص أو في كتب الفقهاء إليهما، فهي ممنوعة؛ لأنّا لم نجده في شيء من النصوص والكتب.

وإن كان المراد دعوى صحّة القسمة إليهما فنقول: إنّها مبنيّةٌ على كون اللفظ اسمًا للأعمّ من الصحيحة والفاسدة، فالاستدلال به عليه يوجب الدور.

ص: 358


1- ينظر مفاتيح الأصول: 47 - 49، وقوانين الأصول: 1/ 106، وإشارات الأصول: 1/ 34.

وإن أريد صحّتها(1) في العرف والعادة إليهما(2)، فيستدلّ بها على كون اللفظ اسمًا للأعمّ، نمنع ذلك أوّلًا ودلالتها ثانيًا؛ لأنّ كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ قد يوجب المسامحة في أمثال ذلك؛ ولهذا تجد القبح والوحشة في قولنا: الزكاة على قسمين: صحيحة وفاسدة؛ لعدم تحقّق الكثرة في هذا اللفظ، وكذا الخمس ونحوهما.

ثمّ على تقدير التسليم في الكلّ نقول: غاية ما هناك ظهور القسمة في ذلك، والظهور ممّا يجب رفع اليد عنه عند معارضته بأقوى منه، وقد عرفت الحال مفصّلًا وستقف على ما ينفعك في المقام أيضًا.

قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في كتاب الأيمان بعد الحكم بأنّ عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد:

«وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة»(3).

الدليل الثالث
اشارة

والثالث: دعوى عدم صحّة السلب من الفاسدة، فيعلم منه أنّ الاستعمال على الحقيقة(4).

ص: 359


1- جاء في حاشية «ق»: أي القسمة.
2- جاء في حاشية «ق»: الصحيح والفاسد.
3- مسالك الأفهام: 11/ 263.
4- ينظر قوانين الأصول: 1/ 106، وإشارات الأصول: 1/ 34، ومفاتيح الأصول: 47-49.
الجواب عن الدليل الثالث

والجواب عنه: إن كان المراد عدم صحّة السلب في النصوص، فهو ممنوع، وكيف؟! مع أنّك قد عرفت خلافه فيها(1).

وإن كان المراد في غيرها نقول بمثل ما تقدّم من ابتنائه على القول بالأعمّ، فالاستدلال به عليه يوجب الدور.

وإن كان المراد في العرف غير الفقهاء، نمنع ذلك أوّلًا؛ لأنّ من صلّى الفريضة إلى غير القبلة مع عدم الطهارة، مع علمه بكلّ منهما وكذا علم العرف، ويخرج كلّ ساعة ألف ضرطة، ويتكلّم كلّ آن بألف كلام، ويشتغل بالحمد والسورة والركوع والسجود وغيرها، نقول: لا شبهة في حكمهم بأنّها ليس بصلاة من دون أن يتأمّل أحد منهم في ذلك، وكذلك بالنسبة إلى من أتى جميع أفعال الصلاة والشرائط، لكن مع قصد الاستهزاء والسخريّة واللعب والمضحكة، ولا يتأمّل واحد(2) منهم في صحّة الحكم بأنّها ليست صلاة، وهكذا الحال في غير ما ذكر، فلو كان اسمًا للأعمّ من الصحيحة والفاسدة لما أمكن ذلك في شيء من الموارد؛ لتحقّق الأركان فيها.

ونمنع صحّة الاستدلال ثانيًا؛ لأنّ علم العوامّ من المتشرّعين بالمعاني الشرعيّة التوقيفيّة إنّما هو بواسطة علمائهم وهم مختلفون في المسألة، ولا يجوز مزيّة الفرع على الأصل.

ص: 360


1- في «ق»: فيهما.
2- في «ق»: أحد.

إن قلت: لا نسلّم أنّ علم العوامّ من المتشرّعين بواسطة علمائهم؛ لوضوح أنّ الشارع أوقف الحاضرين المكلّفين على المعاني الشرعيّة قطعًا وبقيت تلك المعاني بينهم خلفًا عن سلف وحديثًا عن قديم إلى هذا الزمان وهكذا إلى يوم القيامة؛ ومنه يظهر الوجه في رجوع العلماء في تشخيص المعاني اللغويّة والعرفيّة إلى أهل اللسان ولو كانوا من العوامّ.

قلنا: هذا ممّا لا شبهة في فساده فيما نحن فيه؛ إذ القدر المسلّم تحقّق العلم في الجملة بالمعاني الشرعيّة، وأمّا على التفصيل فليس بحاصل قطعًا، وإلّا كانت المعاني الشرعيّة بأسرها معلومة تفصيلًا لكلّ أحد؛ وهل حيرة(1) العلماء إلّا في ذلك؟! والقدر المسلّم(2) لا يكفي فيما نحن فيه كما لا يخفى.

وأيضًا نحن نقطع بأنّ استعمالات العوامّ وطريق محاوراتهم في الألفاظ الشرعيّة غير منحصرة على نهج في طريق استعمالات الشارع، بل حصل التغيير والتبديل بحيث لا يوافق شيئًا من القولين.

وإن أردت أن يظهر لك حقيقة الحال فاعلم: أنّ العوام إذا رأوا المتوضّئ يغسل الوجه لا بتمام أجزائه واليدين إلى الزند مثلًا، يحكمون بأنّه توضّأ ولا يرضون بالسلب، مع أنّ تحقّق الماهيّة على القولين ممّا لا بدّ منه في تحقّق(3) المسمّى

ص: 361


1- في «ق»: حبرة.
2- جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): وهو على الإجمال.
3- في «ق»: تحقيق.

الشرعيّ(1)، وهي في الوضوء عبارة عن غسل الأعضاء مثلًا بحيث تكون مستوعبة، والسلب عن الوضوء بالطريق المذكور متحقّق ولو على القول بالأعمّ؛ لانتفاء الماهيّة، مع أنّهم لا يرضون بذلك.

وكذا إذا حصل الإخلال ببعض أركان الصلاة، مع أنّ انتفاءه يوجب انتفاء الماهيّة والمسمّى ولو على القول بالأعمّ، مع أنّهم لا يحكمون بذلك، بل ربّما يحكمون بالصحّة؛ ولهذا تراهم قاطبتهم إلّا الشاذّ منهم أنّ أعمالهم ليست على النهج المعتبر في الشريعة(2) مع أنّهم معتقدون شرعيّتها وصحّتها، فيعلم منه انتفاء التعويل على محاوراتهم وعدم الاعتماد على مقتضى استعمالاتهم فيما نحن فيه.

وبالجملة: فساد دعوى علمهم(3) بالمعاني الشرعيّة على الوجه المذكور ممّا لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه، وكيف؟! مع أنّه مع مخالفته للواقع كما هو ظاهر عند كلّ أحد، يستلزم انسداد باب التقليد والاجتهاد.

ص: 362


1- جاء في حاشية الأصل: لا يقال: قد تقدّم أنّ انتفاء بعض الأجزاء لا يوجب انتفاء المركّب، فليكن ما نحن فيه من ذلك؛ لأنّا نقول: إنّ الجزء في المفروض ليس من ذلك كما لا يخفى. منه.
2- جاء في حاشية الأصل: وكثير من عباداتهم الفاسدة لا يرضون بسلب الصحّة عنها، فلو جاز التعويل على مثل ذلك ينبغي أن يحكم بصحّة تلك العبادات؛ لعدم سلب الصحّة فيما بينهم، فتأمّل. منه.
3- في «ق»: علمائهم.
في المؤيّدات الّتي ذكرت للقول بالأعمّ مع الجواب عنها
إيراد كلمات للتفصّي عن مؤيّدات
اشارة

اعلم: أنّه قد أيّد القول بالأعمّ بوجوه:

التأييد الأوّل
اشارة

الأوّل: اتّفاق الفقهاء على أنّ أركان الصلاة هي ما تبطل الصلاة بزيادتها ونقصانها عمدًا أو سهوًا؛ ومعلوم أنّ زيادة الركن - كالركوع مثلًا - عمدًا منهيّ عنه، والنهي في العبادات يدلّ على الفساد، ومع ذلك يعدّ ركوعًا.

لا يقال: إنّ مرادهم صورة الركوع، لا الركوع الحقيقيّ؛ لأنّ مقتضى ذلك القول ببطلان الصلاة بزيادة صورة الركوع، وهو غير صحيح؛ لأنّ من انحنى في الصلاة بمقدار الركوع لأجل أخذ شيء من الأرض سيّما مع وضع اليد على الركبة بحيث يحسب الناظر أنّه قد ركع، لا يحكم ببطلان الصلاة مع زيادة صورة الركوع، فيعلم أنّ مرادهم ليس صورة الركوع، بل الركوع الحقيقيّ، وهو لا يمكن إلّا مع كون الركوع اسمًا للأعمّ من الصحيحة والفاسدة(1).

الجواب عن التأييد الأوّل

ويمكن الجواب عنه: بأنّا لا نسلّم تعميم النزاع في المسألة بحيث يشمل الأسامي الّتي لأجزاء الصلاة(2)، إذ الظاهر من قولهم: «ألفاظ العبادات أسامٍ

ص: 363


1- ينظر قوانين الأصول: 1/ 107.
2- جاء في حاشية الأصل: المراد من عدم الشمول للأجزاء إنّما هو من حيث الجزئيّة، لا مطلقًا؛ إنّما قيّدنا بذلك لأنّ السجود مثلًا له اعتباران، أحدهما من حيث الجزئيّة للصلاة، والثاني من حيث كونها عبادة مستقلّة كسجود الشكر مثلًا، والمراد إنّما هو بالاعتبار الأوّل، لا مطلقًا، فتأمّل. منه.

للصحيحة، أو الأعمّ» الألفاظ الّتي للعبادة المستقلّة كالصلاة مثلًا، فلا تشمل أسامي الأجزاء.

وكيف؟! مع انّك قد عرفت أنّ القول بالصحيح قول الأكثر، بل الكلّ، والمفروض أنّ ما ذكروه من أنّ زيادة الأركان ولو متعمّدًا توجب البطلان، لا يجوز أن يكون مرادهم صورتها، بل ما يسمّى أركانًا حقيقة، فلو عمّم النزاع يلزم التناقض في كلماتهم.

وعلى فرض التسليم نمنع أن لا يكون مرادهم صورتها، وما ذكر في بيانه غير صحيح؛ لكونه أخصّ من المدّعى، إذ غاية ما يلزم منه عدم إرادتهم صورة الركوع مطلقًا بحيث يندرج تحتها الانحناء الّذي يكون بصورته إذا لم يكن لأجل الركوع وقصده، فنقول: يمكن أن يكون مرادهم صورة الركوع الّتي تكون مشابهة معه في جميع الأمور المعتبرة فيه، ومن جملتها كون الانحناء بقصد الركوع، وزيادة الصورة على هذا الوجه مبطلة قطعًا.

ولقائل أن يقول: إنّه على هذا يكون إطلاق الركوع مجازًا إطلاقًا للشيء على مشابهه في الصورة، وهو غير صحيح؛ لانتفاء خواصّه، وإلّا أمكن السلب، فينبغي أن يقال لمن فعل كذلك في ركعة واحدة: أنّه ما أتى ركعتين فيها، أو ما زاد

ص: 364

ركعة؛ لأنّ صورة الشيء غيره مع أنّه غير ممكن، فتأمّل.

التأييد الثاني مع الجواب عنه
اشارة

والتأييد الثاني: هو «أنّه يلزم على القول بكونها أساميًا للصحيحة أن يفتّش أحوال المصلّي إذا أراد أن يعطيه شيئًا لأجل النذر إذا لم يعلم مذهبه وصحّة صلاته في نفس الأمر، فإنّ حمل فعل المسلم على الصحّة لا يكفي هنا، فإنّ غاية ذلك حمل فعل المسلم على الصحيح عنده، والصحّة(1) قد تختلف باختلاف الآراء، فإذا رأى من نذر شيئًا للمصلّي رجلًا صالحًا يصلّي بجميع الأركان والأجزاء، ولكن لا يدري أنّه هل صلّى بغسل غير الجنابة بلا وضوء، أم(2) مع الوضوء، وهو يرى بطلان الصلاة به؛ وذلك الصالح قد يكون رأيه أو رأي مجتهده الصحّة، والمفروض أنّ المعتبر في وفاء الناذر على تكليفه ملاحظة الصحيح عنده المطابق لنفس الأمر بظنّه، وكذلك ملاحظة غيره من الاختلافات في الأجزاء وسائر الشرائط(3).

ولا ريب أنّ الصحيح من العبادة ليس شيئًا واحدًا حتّى يبنى عليه في المجهول الحال على حمل فعل المسلم على الصحّة، ولم نقف إلى الآن على مَنْ التزم هذه التفحّصات والتدقيقات ويعطون إلى(4) من ظاهره الوفاء، وليس ذلك إلّا لأجل كونها أساميًا للأعمّ؛ ولعلّه لأجل ذلك لا يتفحّص المؤمنون في الأعصار والأمصار

ص: 365


1- في «ق»: والصحيحة.
2- في القوانين: أو.
3- في القوانين: الشروط.
4- في القوانين: على.

عن مذهب الإمام في جزئيّات مسائل الصلاة، مثل أنّه هل يعتقد وجوب السورة أو ندبها، أو وجوب القنوت أو ندبه، ويأتمّون به بعد ثبوت عدالته.

نعم، إذا علم المخالفة، فلا يصحّ الاقتداء فيما يعتقده باطلًا، مثل ما لو ترك الإمام السورة أو نحو ذلك، فما لم يعلم بطلانه يجوز الاقتداء به ويصحّ صلاته؛ لأنّه ائْتمّ بمن يحكم بصحّة صلاته شرعًا، والقدر الثابت من المنع هو ما علم بطلانه وإن كان صحيحًا عند الإمام، فليس هذا إلّا من جهة كفاية مسمّى الصلاة ما لم يعلم المأموم بطلانها على مذهبه، لا أنّه(1) لا يصحّ الاقتداء حتّى يعلم أنّه صحيح على مذهبه»(2)؛ انتهى كلام(3) المؤيّد الفاضل المحقّق (دام ظله) العالي.

أقول: هذا الكلام يرجع إلى أمرين متقاربين:

الأمر الأوّل

الأوّل بالنسبة إلى الناذر، محصّله: أنّ تلك الألفاظ لو كانت أساميًا للصحيحة؛ لزم على الناذر التفتيش في أحوال المصلّي ليظهر عليه صحّة صلاته باعتقاده، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

والجواب عنه بمنع الملازمة على المعنى الّذي بناء الكلام عليه، وما ذكره في بيانها غير تامّ.

ص: 366


1- في «ق»: لأنّه.
2- قوانين الأصول: 1/ 114.
3- في «ق»: الكلام.

توضيح الحال: هو أنّك قد عرفت ممّا أسلفنا أنّ المراد بالصحيح المعنى المحصّل للامتثال، فالناذر فيما نحن فيه يرجع نذره على القول بالصحيح إلى أنّ من أتى بالمعنى الّذي يحصل به الامتثال له عليّ كذا؛ ولا شبهة في تحقّق هذا المعنى بعد تسليم حمل أفعال المسلم على الصحّة، كما هو بناء المورد بالنسبة إلى كلّ مصلّ، فيحصل له الوفاء بالنذر بالنسبة إلى كلّ أحد؛ لما ذكر.

وما استند إليه من أنّ المفروض في وفاء الناذر على تكليفه ملاحظة الصحيح عنده إلى آخره، إن أريد به المعنى المحصّل للامتثال لذلك المصلّي باعتقاد الناذر، فهو مسلّم، لكن انتفاؤه ممنوع؛ لوضوح أنّ كلّ مجتهد يتعيّن عليه العمل باجتهاده عند كلّ أحد، بل الناذر المجتهد يعتقد أنّه لو ترك المصلّي الصلاة على مقتضى اجتهاده وأتى على وفق اجتهاد الناذر لم يحصل له الامتثال؛ والمقلّد لا يتعيّن عليه تقليد معيّن عند انتفاء الأمور الخارجة، ومعها يخرج المقام عن محلّ الكلام.

وإن أريد به المعنى المحصّل للامتثال للناذر كما هو ظاهر الكلام، فهو ممنوع؛ وكيف لا؟! مع أنّ قولك للمصلّي: «عليّ كذا»، ليس مدلوله جزمًا إلّا أنّه للاتي(1) بالمعنى الصحيح المحصّل للامتثال مطلقًا، كذا على هذا القول كما مرّ، فيحصل له الامتثال بالنسبة إليه؛ لعدم إيجاب(2) النذر أزيد منه؛ وأمّا كونه محصّلًا للامتثال للناذر فمن أين؟!

ص: 367


1- في «ق»: الآتي.
2- في «ق»: إيجاد.

وبالجملة: هو تقييد خارج عن مدلول اللفظ يفتقر إلى دليل، ألا ترى أنّك إذا صرّحت بالصحّة وقلت للمصلّي بالصلاة الصحيحة كذا، لا يفهم منه المعنى المحصّل للامتثال للناذر، بل مطلقًا، وبناء على ما ذكر يلزم على القول بالأعمّ حينئذٍ التفحّص عن مراتب الصحّة، مع أنّ انتفاء التفتيش على تقديره مشترك بين الصورتين، والاكتفاء بما يحصل الامتثال متحقّق على التقديرين.

وممّا(1) يزيدك بيانًا هو أنّا مكلّفون بالمعاملة بمن كانت معاملته صحيحة، ولا شبهة أنّ الصحّة في المعاملات أيضًا تختلف باختلاف الآراء، فربّ معاملة تكون صحيحة عند مجتهد وفاسدة عند آخر، ومقتضى ما ذكر لزوم التفتيش عن صحّتها، فإن ظهر عليه صحّتها عنده أو عند مجتهده تجوز، وإلّا فلا، مع أنّ انتفاءه ممّا لا شبهة فيه، والاكتفاء بمطلق حمل أفعال المسلمين على الصحّة ممّا لا شكّ يعتريه.

والقول بأنّا لم نقف إلى الآن على من التزم هذه التفحّصات والتدقيقات، إلى آخره، على تقدير تسليمه ليس مبنيًّا على ما بناه المورد من أنّ ذلك لأجل كونها أساميًا للأعمّ، بل لأنّ النذر على الوجه المذكور لا يوجب ذلك، إذ مقتضاه ليس إلّا ما سلف.

وأيضًا أنّ انتفاء هذه التفحّصات والتدقيقات لانتفاء أصل النذر؛ لأنّا لم نقف إلى الآن على مَنْ نذر بذلك، وعلى تقدير فرض الوقوع مع كونه خلاف ظاهر العبارة نقول بمثل ذلك فيما لو صرّح في مقام النذر بالصحّة كما عرفت.

ص: 368


1- في «ق»: وما.
الأمر الثاني

والثاني بالنسبة إلى المأموم، محصّله كما تقدّم من أنّه لو كانت الألفاظ أساميًا للصحيحة، لزم التفتيش والتفحّص عن مذهب الإمام في جزئيّات المسائل، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، فعدم التفتيش قرينة كونها أساميًا للأعمّ.

والجواب عنه بمنع الملازمة أيضًا؛ لما تقدّم مرارًا من أنّ مرادنا بالصحيح ليس إلّا المحصّل للامتثال، وقد دلّت الأدلّة الشرعيّة على جواز الاقتداء وفضيلته بعد ثبوت عدالة الإمام مطلقًا، إلّا إذا علم المخالفة بين اعتقاد الإمام والمأموم بحيث تكون مبطلة على اعتقاد المأموم دون الإمام، كما إذا اعتقد الإمام جواز قراءة العزيمة في الصلاة فيقرؤها لذلك واعتقد المأموم حرمتها، أو اعتقد الإمام عدم وجوب السورة فيها فيتركها لذلك والمأموم وجوبها، وهكذا، فما لم تظهر المخالفة على الوجه المذكور، يجوز الاقتداء لعموم الأدلّة، وهو يستلزم أن تكون تلك الصلاة مجزية، ولا نعني بالصحيح إلّا ذلك، فمن أين استلزم القول بالصحيح التفحّص المذكور؟!

ثمّ نقول: لا شبهة في أنّ المأمور به ومطلوب الشارع ليس إلّا الصحيح ولو على القول بالأعمّ كما لا يخفى، فما ذكر من كون الاختلاف في الصحّة باختلاف الآراء موجبًا للتفحّص المذكور على تقدير تسليمه لا اختصاص له بالقول بالصحيح، بل مشترك بين القولين؛ لتحقّق الموجب على التقديرين، وكون أصل الاسم للأعمّ بعد القطع بإرادة الصحيح، لا يوجب الافتراق المذكور كما لا يخفى، فالتمسّك بذلك تأييدًا للقول بالأعمّ بعد القطع بما ذكرنا غير سديد.

ص: 369

نعم، لو تمسّك به متمسّك في أنّ المطلوب ليس الصحيح وإلّا لوجب التفحّص، أو للقول بالأعمّ مع عدم تسليمه(1)، لسلم عن ذلك، لكنّه ممّا لا شبهة في فساده؛ وهذا يتوجّه على الأوّل أيضًا؛ لوضوح أنّ مقصود الناذر الصلاة الّتي أمر بها الشارع، ولا شبهة في أنّها صحيحة ولو على القول بالأعمّ، فلا يتفاوت الحال في ذلك بين القولين، فتأمّل.

تأييد ثالث مع الجواب عنه

والتأييد الثالث:

أنّه: «لا إشكال عندهم في صحّة اليمين على ترك الصلاة في مكان مكروه أو مباح مثلًا وحصول الحنث بفعلها، ويلزمهم على ذلك المحال؛ لأنّه يلزم حينئذٍ من ثبوت اليمين نفيها، فإنّ ثبوتها يقتضي كون الصلاة منهيًّا عنها، والنهي في العبادة مستلزم للفساد، وكونها فاسدة مستلزم لعدم تعلّق اليمين بها، إذ هي إنّما تتعلّق بالصحيحة على مفروضهم.

إلى أن قال:

ويجري هذا الكلام في المعاملات أيضًا إن قلنا بدلالة النهي على الفساد فيها أيضًا»(2).

أقول: وقريب من ذلك ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في كتاب

ص: 370


1- في «ق»: بعد تسليمه.
2- قوانين الأصول: 1/ 113- 114.

الأيمان، ولعلّه مأخوذ منه، حيث قال:

«واعلم: أنّه لو باع على تقدير حلفه على عدمه انعقد وإن حنث؛ لأنّ النهي في المعاملات لا يقتضي الفساد، خصوصًا إذا كان النهي لوصف خارج كما هنا(1).

ولو قلنا بدلالته على الفساد كالعبادات، ففي الجمع بين ذلك(2) وبين حمل مطلقه على البيع الصحيح إشكال؛ لأنّ اليمين يقتضي(3) عدم الصحّة، فلو اشترطت(4) صحّته يلزم(5) الجمع بين النقيضين، أو لزوم غير مراد الحالف.

ولأنّه يلزم من ثبوت اليمين النهي عنه المقتضي لفساده المقتضي لعدم تعلّق النهي به، فيحكم بصحّته، فيلزم من ثبوت اليمين نفيها، فلا يتحقّق بعد تعلّقها

ص: 371


1- جاء في حاشية الأصل: قوله (قدس سره): «خصوصًا إذا كان النهي لوصف خارج كما هنا»، أقول: أي إذا كان الحلف على ترك البيع، فإنّ البيع في حدّ ذاته ليس بمنهيّ عنه، والنهي بعد الحلف إنّما هو لمخالفة اليمين، وهي خارجة عن حقيقة البيع. ولك أن تقول: إنّ النهي يقتضي الفساد، سواء تعلّق بنفس الشيء أو جزئه أو لازمه، وفيما نحن فيه من الأخير؛ لوضوح أنّ ايقاع البيع بعد الحلف مستلزم للمخالفة كما لا يخفى؛ منه.
2- جاء في حاشية الأصل: أي بين القول بالفساد وبين حمل مطلقه إلى آخره، أي بين القول بأنّ البيع حقيقة في الصحيح إشكال؛ أو بين الحلف على ترك البيع على تقدير القول بدلالة النهي على الفساد وبين القول بكون البيع حقيقة في الصحيح إشكال، أو بين مخالفة الحلف على التقدير المذكور وبين ما ذكر، والمآل في الجميع واحد، لكنّ الأوّل أولى كما لا يخفى. منه.
3- في المصدر: تقتضي.
4- في المصدر: فلو اشترط.
5- في المصدر: لزم.

الحنث؛ لامتناع وقوع ضدّه، وهو العقد الصحيح»(1)؛ انتهى كلامه رفع مقامه.

والجواب عنه: أنّ ما ذكر من الحكم بعدم الإشكال في صحّة اليمين على ترك الصلاة فيما ذكر وإن كان مسلّمًا، لكنّ الحكم بذلك في حصول الحنث بفعل الصلاة حينئذٍ غير مسلّم، وكيف؟! مع أنّ كلام المسالك المذكور وهو قوله: «فلا يتحقّق بعد تعلّقها الحنث» إلى آخره، جار(2) فيما نحن فيه أيضًا، فتأمّل.

وقال شيخنا الشهيد في القواعد:

«لو حلف على ترك الصلاة في الدار المغصوبة، أو على ترك الصوم مع الجنابة، أو على ترك بيع الخمر أو الخنزير(3)، أمكن الحمل على الصورة، فيحنث بها(4) وعدمه؛ لأنّه حلف على ممتنع شرعًا»(5).

ومن المعلوم أنّ الامتناع الشرعيّ إنّما هو لعدم إمكان الصلاة مثلًا في المكان المغصوب؛ لكونها اسمًا للصحيح، وهو متحقّق فيما نحن فيه أيضًا بعد الحلف؛ لوضوح أنّ بعده لا يمكن إتيان الصلاة الصحيحة في الأماكن المكروهة مثلًا؛ لكونها منهيًّا عنها، فبعد الحلف على ترك الصلاة ليس المأتيّ به صلاة، فلا حنث.

ص: 372


1- مسالك الأفهام: 11/270.
2- في «ق»: جاز.
3- في نضد القواعد: الحرّ.
4- في نضد القواعد: بهما.
5- لم نعثر عليه في القواعد، والعبارة بعينها موجودة في «نضد القواعد الفقهيّة، للفاضل المقداد: 99»، مع اختلاف في بعض الألفاظ كما نبّهنا عليه، وينظر القواعد والفوائد: 1/ 158.

وقال في المسالك:

«إذا حلف «ليبيعنّ الخمر» لم ينعقد؛ لأنّ العقد الصحيح متعذّر، وغيره غير مراد من إطلاق اللفظ لغةً وعرفًا(1)، ولو حلف: «لا يبيعه»، قيل: لا يحنث ببيعه؛ لأنّه بيع فاسد، فلم يتناوله(2) اليمين»(3).

ولا يخفى جريانه فيما نحن فيه أيضًا، إذ نقول: لا يحنث بالصلاة بعد الحلف؛ لكونها صلاة فاسدة، فلم يتناولها اليمين.

قال العلّامة - أحلّه الله دار الكرامة - في القواعد:

«الإطلاق ينصرف إلى الصحيح من العقود(4)، فلو حلف ليبيعنّ أو لا يبيع، انصرف إلى الصحيح دون الفاسد»(5).

ويظهر الحال منه ممّا تقدّم، فتأمّل.

ثمّ نقول على تقدير التسليم: لا اختصاص له بالقول بالصحيح؛ لوضوح أنّ قصد الحالف عدم إتيان الصلاة المطلوبة فيها.

وبالجملة: الصلاة الّتي كلّفه الشارع بها، ومعلوم أنّها لا تكون(6) إلّا صحيحة

ص: 373


1- في المصدر: ولا عرفًا.
2- في المصدر: فلم تتناوله.
3- مسالك الأفهام: 11/ 268.
4- في المصدر بدل «من العقود»: منها.
5- قواعد الأحكام: 3/ 275.
6- في «ق»: لا يكون.

جزمًا كما مرّ مرارًا، والنهي في العبادة(1) يقتضي الفساد، إلى آخر ما ذكر في التأييد؛ ومجرّد كون الصلاة اسمًا للأعمّ لا يكفي لتحقّق الحنث بعد كون متعلّق الحلف الصلاة الصحيحة.

وهذا الكلام ممّا سلّمه المؤيّد الفاضل(دام ظله) حيث قال في بعض كلماته:

«يمكن أن يقال: إنّه لا يحصل الحنث على المختار لو أتمّه فاسدًا أيضًا عالمًا بالفساد؛ لما ذكرناه(2) من إرادة الصحّة(3) في أمثال ذلك وإن بني على المختار»(4)، انتهى.

وعلى فرض التسليم يمكن أن يجاب عنه بما أجاب به شيخنا الشهيد في المسالك(5) في نظير المسألة بأن يقال: إنّ متعلّق اليمين الصلاة الصحيحة لولا اليمين، فيتحقّق الحنث بكلّ صلاة لو لم يكن اليمين لصحّت، فلو أتى بالصلاة في شيء من الأماكن المكروهة كالحمّامات وبين المقابر ومعاطن الإبل وجوار الطرق بعد الحلف على تركها فيها، يتحقّق الحنث لذلك، فتأمّل.

وبالجملة: لا نجد الفرق فيما ذكر بين القول بالصحيح والأعمّ.

ص: 374


1- في «ق»: العبادات.
2- في المصدر: لما ذكرناه في توجيه كلامه (رحمة الله) ومَن وافقه.
3- في المصدر: الصحيحة.
4- قوانين الأصول: 1/ 117.
5- ينظر مسالك الأفهام: 11/ 269.
تأييد رابع مع الجواب عنه

والرابع: هو أنّه: «يلزم على القول بكونها أساميًا للصحيحة لزوم القول بألف ماهيّة لصلاة الظهر مثلًا، فصلاة الظهر للمسافر شيء وللحاضر شيء آخر، وللحافظ شيء وللناسي شيء آخر؛ وكذلك للشاك والمتوهّم(1) والصحيح والمريض والمحبوس والمضطرّ والغريق، إلى غير ذلك من أقسام الناسي في جزئيّات مسائل النسيان والشاك في جزئيّات مسائله، وهكذا إلى غير ذلك»(2).

لأنّه بناء على القول بالصحيح هو أنّ لفظ «الصلاة» مثلًا اسم للمستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط، ولا ريب أنّ الأجزاء والشرائط مختلف(3) في الصور المذكورة بالزيادة والنقصان، وما نقص فيها بعض الأجزاء أو الشرائط، لا بدّ إمّا أن يقال فيه بعدم صحّتها، أو بكونها ماهيّة علي حدة، لا سبيل إلى الأوّل، فتعيّن الثاني، وهو المطلوب، بخلاف القول بالأعمّ، فإنّهم يقولون بأنّ ماهيّة صلاة الظهر التامّة واحدة، ولا يخرجها عن الحقيقة نسيان سجدة أو تشهّد أو غير ذلك، فيمكن لهم التمسّك في الصحّة بصدق الاسم وحصول الامتثال بسبب الإتيان بالمسمّى.

والجواب عنه يظهر ممّا قرّرناه في أدلّة القول بالصحيح، توضيحه: هو أنّا نمنع لزوم ذلك على المختار؛ لأنّا نقول: إنّ لفظ «الصلاة» مثلًا موضوع للمعنى الّذي يحصل به الامتثال، وهو معنى واحد يتحقّق في ضمن أفراد متعدّدة، كتحقّق المعنى

ص: 375


1- في المصدر: وللمتوهّم.
2- قوانين الأصول: 1/ 106.
3- في «ق»: يختلف.

العامّ في ضمن أفراده، أو أصنافه، أو أنواعه؛ وهو لا يوجب تعدّد الماهيّة أصلًا، فضلًا عن القول بألف ماهيّة؛ ثمّ على تقدير تسليم ذلك نمنع استحالة ذلك وعلى مدّعيها البيان، فتأمّل.

وممّا ذكرنا ظهر الجواب عمّا ربّما يتوهّم أنّه لو كان لفظ «الصلاة» اسمًا للمستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط، لزم انتفاء الصحّة عند انتفاء الأجزاء غير الأركان مثلًا، والتالي باطل؛ لأنّ من ترك ما عدا الأركان ناسيًا يحكم بصحّة صلاته، والملازمة ظاهرة، وتقرير الجواب بعد ما قرّرناه غير مفتقر إلى البيان.

نعم، لو استدلّ أحدٌ بأنّه لا يجوز أن يكون لفظ «الصلاة» اسمًا للأركان كما هو مقتضى القول بالأعمّ على ما صرّح به بعضهم، لكان له وجه؛ إذ لو صحّ ذلك لزم انتفاء الصلاة عند انتفائها ولو بعضًا، والتالي باطل؛ لأنّ كثيرًا من المواضع قد تحقّقت الصلاة مع انتفائها، كصلاة المواقفة والمسايفة والمطاردة(1) ونحوها؛ بخلافه على القول بالصحيح؛ لأنّه بناء عليه تكون الصلاة اسمًا لما يحصل به الامتثال، وهو متحقّق في الصلوات المذكورة أيضًا كما لا يخفى، فتأمّل.

ثمّ نقول على تقدير تسليمه: لا اختصاص له بالقول بالصحيح أيضًا؛ لأنّ

ص: 376


1- المطاردة: حملة بعضهم على بعض في الحرب وغيرها (كتاب العين: 7/ 410). والوِقاف والمُواقَفَة: أن تقف معه ويقف معك في حرب أو خصومة (القاموس المحيط: 3/ 206). والمُسَايفة: المُجالَدَة بالسيوف (الصحاح: 4/ 1379). قال العلّامة الحلّيّ في التحرير: صلاة شدّة الخوف تسمّى صلاة المطاردة والمُسايفة، مثل أن ينتهي الحال إلى المعانقة (تحرير الأحكام: 1/ 331).

الحكم بأنّ تلك الماهيّة التامّة لصلاة الظهر مثلًا واحدة إلى آخره، لا يصحّ إلّا على تقدير أن يكون المراد بتلك الماهيّة الأركان المعهودة وكون لفظ «الصلاة» اسمًا لها كما تقدّم، فحينئذٍ نقول: إنّ الحمد مثلًا إمّا أن يكون خارجًا عن حقيقة الصلاة ويكون من قبيل الشروط، أو لا، والأوّل فاسد للقطع بحصول الافتراق بين الحمد والتشهّد مثلًا وبين ستر العورة مثلًا، ولحكمهم بجزئيّته حيث حكموا بالتفرقة بين الأجزاء المنسيّة بلزوم التدارك في بعضها دون الآخر، فتعيّن الثاني.

وعليه نقول: لا شبهة في حصول الفرق بين الماهيّة المركّبة من الأجزاء الأربعة كالأركان، وبين المركّبة من الأجزاء الخمسة أو الستّة أو السبعة، وهكذا وبين كلّ واحد منها وبين الآخر، فاختلفت الماهيّة على القول بالأعمّ أيضًا.

إن قلت: قد تقدّم أنّ انتفاء أيّ جزء كان لا يوجب انتفاء الماهيّة، وما نحن فيه من هذا القبيل، وهو يستلزم عدم اختلاف الماهيّة على تقدير اجتماعها مع الأركان وانفكاكها عنها.

قلنا: مقتضى ذلك انّ تلك الأجزاء بأسرها ما عدا الأركان الأربعة مثلًا أجزاء للماهيّة تتألّف منها، ومع ذلك انتفاؤها بأسرها ولو متعمّدًا لا يوجب انتفاء الماهيّة؛ وهذا تحكّمٌ ظاهرٌ لا يكاد يرتضيه العاقل، كما لا يخفى على المنصف المتأمّل.

ص: 377

إنّ النزاع في أنّ الألفاظ الشرعيّة أساميٍ للصحيحة أو الأعمّ غير مختصّ بالعبادات، بل متحقّق في المعاملات أيضًا

إنّ النزاع في أنّ الألفاظ الشرعيّة أساميٍ(1) للصحيحة أو الأعمّ غير مختصّ بالعبادات، بل متحقّق في المعاملات أيضًا

إيراد كلام للتنبيه على مرام

اعلم: أنّه ربّما يتوهّم من عنوان المسألة على ما اشتهر في الألسنة من أنّ ألفاظ العبادات هل هي أساميٍ(2) للصحيحة أو الأعمّ، اختصاص النزاع في المسألة في العبادات وعدم جريانه في المعاملات، لكنّه ليس بصحيح، بل هو متحقّق في القسمين وجارٍ في المقامين؛ وهذا وإن ظهر ممّا ذكرناه من مقالاتهم السالفة، لكنّا أعدناه تأكيدًا للمطلب وتبعيدًا عن الغفلة في المقصد.

قال في الشرائع: «إطلاق العقد ينصرف إلى العقد الصحيح دون الفاسد، ولا يبرّ بالبيع الفاسد لو حلف ليبيعنّ، وكذا غيره من العقود»(3).

قال في القواعد: «المطلب الرابع في العقود، والإطلاق ينصرف إلى الصحيح منها، فلو حلف ليبيعنّ أو لا يبيع انصرف إلى الصحيح دون الفاسد، إلّا في المحرّم بيعه، كالميتة الخمر والخنزير، فإنّ اليمين على عدم البيع لا تنطلق(4) إلى الصحيح، بل إلى الصورة، إلى آخر ما ذكره»(5).

ص: 378


1- كذا في الأصل، والصواب: أسامٍ.
2- كذا في الأصل، والصواب: أسامٍ.
3- شرائع الإسلام: 3/ 138.
4- كذا في الأصل والمصدر، وفي بعض نسخ المصدر: لا تنصرف، وهو الصحيح.
5- قواعد الأحكام: 3/ 275.

قال في الإرشاد:

«العقد هو الإيجاب والقبول، فلو حلف ليبيعنّ أو ليهبنّ لم يبرّ إلّا بهما وإنّما ينصرف إلى الصحيح، فلا يبرّ بالفاسد»(1).

قال في المسالك:

«عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد؛ لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما، إلى آخر ما تقدّم»(2).

وقال في موضع آخر:

«قد تقدّم أنّ إطلاق العقد محمول على الصحيح دون الفاسد؛ لأنّه حقيقة فيه؛ وإنّما يحمل اللفظ مع الإطلاق على الحقيقة مع عدم قرينة صارفة عنه إلى المجاز، فإذا حلف «ليبيعنّ الخمر» لم ينعقد، [لأنّ العقد الصحيح متعذّر وغيره غير مراد من إطلاق اللفظ لغة ولا عرفًا؛ ولو حلف لا يبيعه قيل: لا يحنث ببيعه]؛ لأنّه بيع فاسد، فلم يتناوله اليمين.

واختار المصنّف (رحمة الله) والأكثر الحنث هنا؛ لدلالة العرف على أنّ المراد هنا صورة البيع؛ ولأنّه لمّا أضاف البيع إليها وهي غير قابلة له، كان اللفظ محمولًا على صورة البيع صونًا لكلامه عن الهذر»(3).

ص: 379


1- إرشاد الأذهان: 2/ 85.
2- مسالك الأفهام: 11/ 263.
3- مسالك الأفهام: 11/ 268- 269. ما بين المعقوفتين أثبتناه في المصدر.

قال شيخنا الشهيد في القواعد:

«الماهيّات الجعليّة -كالصلاة والصوم وسائر العقود- لا يطلق على الفاسد إلّا الحجّ؛ لوجوب المضيّ فيه، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحّة، وهو الدخول فيها(1)، فلو أفسدها(2) بعد ذلك لم يزل الحنث؛ ويحتمل زواله(3)؛ لأنّه(4) لا تسمّى صلاة شرعًا ولا صومًا مع الفساد، و(5) أمّا لو تحرّم في الصلاة، أو دخل في الصوم مع مانع من الدخول لم يحنث قطعًا»(6).

ولا يخفى عليك أنّ هذه العبارات بأسرها دالّةٌ على أنّ ألفاظ المعاملات أيضًا حقائق في الصحيحة، فيعلم منه مضافًا إلى ما ذكر عدم اختصاص القول بالحقيقة الشرعيّة في العبادات عندهم، كما ذهب إليه بعض الأعلام(7).

كلام على ما ذكره شيخنا الشهيد أعلى الله مقامه

لكن ما ذكره شيخنا الشهيد من التفريع منظورٌ فيه، إذ مع الحلف على ترك الصلاة في الأماكن المكروهة يكون(8) الصلاة منهيًّا عنها، والنهي في العبادة

ص: 380


1- كذا في الأصل، والصواب: فيهما.
2- كذا في الأصل، والصواب: أفسدهما.
3- في المصدر: عدمه.
4- كذا في الأصل، والصواب: لأنّها.
5- «و» ليس في المصدر.
6- القواعد والفوائد: 1/ 158.
7- استظهره من بعضهم في قوانين الأصول: 1/ 115.
8- كذا في الأصل، والصواب: تكون.

يستدعي الفساد، فعلى هذا لا يتصوّر الدخول فيها صحيحة ويكون من قبيل ما ذكره: «وأمّا لو لم تحرّم في الصلاة»(1) إلى آخره.

لا يقال: النهي لم يتعلّق بنفس الصلاة، بل بمخالفة الحلف، وهي خارجة عنها.

لأنّا نقول: المفروض أنّ الحلف على ترك الصلاة، والحلف على النفي عندنا يقتضي تحريم المحلوف عليه، كما انّ الحلف على الإثبات يقتضي(2) وجوبه، فتكون الصلاة منهيًّا عنها، وعلى فرض التسليم تكون الصلاة في تلك الأماكن مستلزمة لمخالفة الحلف، والنهي في العبادة يقتضي فسادها، سواء تعلّق بنفس العبادة، أو جزئها، أو لازمها.

ويمكن الجواب عنه بما(3) ذكرنا أخيرًا(4) في الجواب عن التأييد الثالث عن المسالك، حاصله: أنّ متعلّق الحلف الصلاة الصحيحة لولا اليمين، فيتحقّق الحنث بالصلاة الّتي لولا الحلف لصحّت.

نعم، يتوجّه الإيراد من وجه آخر، وهو أنّك قد عرفت ممّا قدّمنا أنّ الصلاة اسم للمجموع المركّب الّذي كلّ أبعاضها أجزاؤها لا جزئيّاتها، فإتيان بعضها لا يكفي لإتيانها؛ والحنث إنّما يلزم بإتيان الصلاة فيها، وهو لا يتحقّق إلّا بعد الفراغ منها، فمجرّد الدخول فيها لا يوجب المخالفة، فتأمّل.

ص: 381


1- القواعد والفوائد: 1/ 158.
2- في «ق»: تقتضي.
3- في «ق»: ممّا.
4- في «ق»: احترازًا.

إبراز(1) كلام لاختتام مقام

ومن المهمّ في هذا المقام التنبيه على أمرين
الأمر الأوّل: في دفع المشكوك بالأصل مطلقًا ولو كان جزءًا
اشارة

وهذا المطلب وإن أسّسناه فيما سلف، لكن أوردناه هنا أيضًا تأكيدًا للمقصد وإشارةً إلى بعض الفوائد، فنقول: تحقيق الحال في المقام يستدعي التفصيل في المرام بأن يقال: إنّ العبادات منقسمة على قسمين، قسم منها وقع التكليف والتخاطب به بألفاظها المجملة، كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ ونحوها، كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾(2) ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(3) ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِله﴾(4)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾(5)، وعلم المراد منها ببيانات الشارع.

وقسم منها ليس كذلك، بل التكليف والخطاب به بالألفاظ الدالّة على ماهيّاتها، كالوضوء كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾(6)، ومن هذا القبيل التيمّم كما في

ص: 382


1- في «ق»: إيراد.
2- سورة البقرة: 43 و83 و110.
3- سورة البقرة: 185.
4- سورة البقرة: 196.
5- سورة المائدة: 6.
6- سورة المائدة: 6.

قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾(1).

فإن كانت من القسم الثاني، ينبغي القطع بجواز دفع المشكوك فيه(2) بالأصل، فاللازم الإتيان بكلّ ما يفهم من الكلام شرطًا كان أو جزءًا، فإذا ادّعي جزئيّة شيء غيره ولم يقم عليه ما يطمئنّ النفس به، يكون الأصل البراءة عنه، إذ الظاهر من ذلك الكلام المسوق لبيان ماهيّتها(3) أنّها عبارة عن المفهوم منه؛ لعدم جواز الإغراء بالجهل؛ وهذا ممّا لا ينبغي التأمّل فيه ولو على القول بالصحيح.

الترتيب في الذكر لا يفيد الترتيب في الحكم إلّا في كتاب الله تعالى

وإنّما الكلام في أنّ مدلول الكلام في أمثال المقام هل هو ما دلّ عليه ألفاظه بأوضاعها اللغويّة، أو أعمّ منه بأن يكون هناك مدلول آخر يستفاد من الترتيب الذكريّ، أي يكون الترتيب في الذكر مفيدًا للترتيب في الحكم؟ فعلى الثاني يكون الترتيب المعهود في الوضوء أيضًا مفهومًا من الآية، فلا يمكن في دفعه التمسّك بالأصل، بخلافه على الأوّل.

فيه إشكال، من أنّ التقديم قد صدر من(4) فاعل مختار، فلا بدّ أن يكون

ص: 383


1- سورة النساء: 43.
2- جاء في حاشية الأصل: «فيه» يجوز أن يكون نائبًا عن فاعل «المشكوك»، كما يجوز أن يكون متعلّقًا ب- «دفع». منه.
3- في «ق»: ماهيّاتها.
4- في «ق»: عن.

لمرجّح، ومن أنّ الكلام لا يتمّ إلّا بتقديم بعض أجزائه على الآخر كما لا يخفى على أيّ متكلّم كان، وأنّ الخطابات الشرعيّة على نهج الخطابات العرفيّة، ولا دلالة للتقديم في الذكر على التقديم في الحكم في العرف والعادة.

وهذا هو التحقيق، لكن في غير خطابات الله سبحانه لما ذكر؛ وكون التقديم لمرجّح لا يقتضي أن يكون المرجّح ذلك، وأمّا فيها فالظاهر أنّ الترتيب في الذكر يفيد الترتيب في الحكم لا لما ذكر، بل للنصوص الدالّة عليه كقوله (صلی الله علیه و آله) حين سئل عن مبدأ السعي من الصفاء أو المروة بعد نزول: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾(1): «ابدأوا بما بدأ الله تعالى به»(2).

ومثله روي في الوضوء أيضًا(3)، وهذا وإن ورد في موضع خاصّ، إلّا أنّ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص المحلّ.

ويتوجّه عليه: أنّ غاية ما يستفاد من قوله (صلی الله علیه و آله): «ابدأ بما بدأ الله» لزوم الابتداء بما بدأه الله تعالى، وهذا يحصل بالابتداء في غسل الوجه، سواء قدّم غسل اليد اليمنى على اليسرى أو عكس، بل يحصل بتقديم مسح الأعضاء بأسرها أو بعضها على غسل اليدين كما لا يخفى، وأين ذلك من الترتيب المعهود في الوضوء؟!

ص: 384


1- سورة البقرة: 158.
2- تهذيب الأحكام: 5/ 145، باب الخروج إلى الصفا، ح6، ينظر الكافي: 4/ 431، باب الوقوف على الصفا والدعاء، ح 1.
3- ينظر الكافي: 3/ 34، باب الشك في الوضوء ومن نسيه أو قدم أو أخر، ح 5، ووسائل الشيعة: 1/ 448، أبواب الوضوء، باب 34، ح1.

إلّا أن يدّعى أنّ المدلول العرفيّ لقوله: «ابدأ(1) بما بدأ الله» الابتداء بما ذكره أوّلًا ثمّ بما بعده وهكذا إلى آخره، إمّا بكون الابتداء فيه محمولًا على الإضافيّ، أي ابتدائيّته بالنسبة إلى ما بعده؛ أو لا، فتأمّل.

إن قلت: إنّ هذه الآية الشريفة من آيات سورة المائدة، وهي آخر سور القرآن نزولًا، والوضوء كان في أوّل الشريعة واجبًا، فلا يكون إنشاء التكليف بالوضوء من هذه الآية وليست بيانًا لماهيّته؛ لأنّهم كانوا في ذلك الزمان يعرفونها؛ ولأنّ البيان لا بدّ أن يكون وافيًا محيطًا لجميع(2) المبيّن، والآية ليست كذلك قطعًا(3).

قلنا: كون السورة من آخر سور القرآن لا يوجب أن يكون(4) كلّ آية من آياته كذلك؛ وعلى فرض التسليم نقول: معرفتهم الوضوء قبل نزول الآية لا يوجب عدم بيان ماهيّتها في الآيات النازلة بعده كما لا يخفى، إذ كما يكون(5) ماهيّة الوضوء معلومة عندهم كذلك وجوبه أيضًا، بل بطريق أولى كما لا يخفى؛ ومقتضى ما ذكر عدم صدور الأمر به بعده، مع أنّه لا شبهة في فساده، والفائدة فيه هي الفائدة في بيان الماهيّة بعد علمهم بها.

ثمّ نقول: لا شبهة أنّ الظاهر من سياق الآية الشريفة أنّها مسوقة لبيان الماهيّة

ص: 385


1- في «ق»: ابتدأ.
2- كذا في الأصل، والصواب: بجميع.
3- ذكره البهبهانيّ في الفوائد الحائريّة: 442.
4- كذا في الأصل، والصواب: تكون.
5- كذا في الأصل، والصواب: تكون.

بحيث لا يمكن إنكاره، والحمل على الظاهر لازم إلّا مع القرينة الصارفة، ومجرّد علمهم بذلك لا يصلح لذلك كما لا يخفى؛ لاحتمال أن يكون البيان في الآية أيضًا تصديقًا لما بيّنه النبيّ (صلی الله علیه و آله) أو تأكيدًا له، أو غير ذلك كإفادتها لمن بعدهم.

لا يقال: إنّ الخطابات الشفاهيّة مختصّة بالموجودين في ذلك الوقت، فلا يتناول من بعدهم.

لأنّا نقول: إنّ الاستفادة منها ليست لشمولها لنا، بل لكون المفهوم منها ذلك، والمفهوم معتبر بالنسبة إلينا أيضًا لاشتراك التكليف، والقول بأنّ البيان لا بدّ أن يكون وافيًا لتمام المبيّن لا يقتضي أن لا يكون ما لم يُستقصَ فيه غير مبيّن؛ لوضوح أنّ كثيرًا من الأدلّة الشرعيّة كذلك، فما ثبت اعتباره نقول به، والثمرة يظهر(1) فيما لم يثبت.

ولذا قال صاحب المدارك (قدس سره) ما حاصله:

إنّ الله تعالى أمر بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين كيف كان الغسل والمسح، فلا إجمال أصلًا، فما ثبت من دليل اعتباره مثل الترتيب والموالات والنيّة نقول به، وما لم يثبت فالأصل عدمه، ولا حاجة إلى بيان فعليّ أو قوليّ، كما هو الحال في العبادات(2).

إن قلت: إنّ الاشتغال اليقينيّ بالوضوء ثابت والبراءة اليقينيّة لا تحصل إلّا بإتيان المشكوك فيه، فلا يجوز دفعه بالأصل.

ص: 386


1- كذا في الأصل، والصواب: تظهر.
2- لم نجده بتمامه في مدارك الأحكام: 1/ 200، ونقله البهبهانيّ في الفوائد الحائريّة: 442.

قلنا: الاشتغال إنّما هو بإيجاد تلك الماهيّة وقد ظهرت بالأدلّة الشرعيّة كما هو المفروض، ومقتضاه حصول الامتثال بإيجادها، والزائد عليه غير مسلّم لعدم الدليل، فالأصل البراءة عنه، ففي هذا القسم لا نتمسّك(1) فيه بالاشتغال الثابت بالنسبة إلى المشكوكة، وأمّا القسم الأوّل، أي إذا وقع التخاطب باللفظ المجمل من غير أن يعقّب بالبيان كأقيموا الصلاة مثلًا، فقيل: ظهور الماهيّة فيه لا شبهة في لزوم الإتيان بالأمور المشكوكة تحصيلًا للبراءة اليقينيّة وعدم حصول الامتثال إلّا بذلك ولو كان الاحتمال من الخبر الضعيف لتأييده بما ذكر.

وأمّا بعد ظهورها على الوجه الّذي أومأنا إليه، فالظاهر أنّ حاله في جواز دفع المشكوك بالأصل وعدم لزوم التمسّك بالاشتغال الثابت حال القسم الأوّل؛ إذ ظنّ المجتهد بعد مراعاة ما يجب عليه مراعاته في حكم القطع.

لكنّ الكلام في أنّه إذا دلّ دليلٌ معتبرٌ على اعتبار شيء في تلك العبادة شرطًا كان أو جزءًا وعارضه مثله، هل يقدّم المثبت نظرًا إلى الاشتغال الثابت، أو النافي نظرًا إلى أصالة البراءة؟ الظاهر: الأوّل، ويظهر وجهه ممّا ذكر، إلّا عند اعتضاد النافي بشيء آخر.

وبالجملة: المناط تشخيص الماهيّة عند المجتهد، فإن حصل ولم يوجب المثبت تزلزلًا له في ذلك يقدّم النافي؛ عملًا بأصالة البراءة، وإلّا يجب تقديم المثبت تمسّكًا بالاشتغال الثابت.

ص: 387


1- في «ق»: لا يتمسّك.

وممّا ذكر ظهر لك الافتراق بين ما يتمسّك فيه بالاشتغال الثابت وما يتمسّك فيه بأصالة البراءة وفساد توهّم التدافع في كلمات الفقهاء حيث يتمسّكون بالاشتغال الثابت وبأصالة البراءة، مع أنّ مقتضى الأوّل لزوم الإتيان والثاني عدمه؛ وذلك لأنّ من الأمور المعتبرة في التنافي وحدة المورد، وهنا ليس كذلك كما عرفت.

وممّا يتمسّك فيه بالاشتغال اليقينيّ هو ما إذا كلّف بشيء غير معيّن في نظر المكلّف، بل متردّد بين أمور محصورة، كما إذا فاتت إحدى الفرائض الخمس والتبست بين الثنائيّة والثلاثيّة والرباعيّة، فإنّه يجب عليه أن يأتي بثلث صلوات، إذ الاشتغال اليقينيّ ثابت، ولا يحصل البراءة إلّا بذلك، وكذلك الحال في الإنائين المشتبهين والثوبين وأمثال ذلك، ولا يجوز أن يتمسّك في أمثال المقام بأصالة البراءة عمّا سوى الواحد؛ لانتقاضها(1) بثبوت التكليف بواحد مردّد بين اثنين، والبراءة لا تحصل إلّا بالجميع.

الأمر الثاني

والأمر الثاني: هو أنّه ربّما يتوهّم أنّ المشهور في الألسنة، بل المذكور في الكتب المتداولة أنّ الصلاة في اللغة للدعاء وفي الشرع للأركان المعهودة، وهو لا يتمّ(2) إلّا على القول بالأعمّ، وينافي كونها اسمًا للصحيحة كما لا يخفى، فكيف يدّعى أنّ القول بالصحيح قول الأكثر أو الكلّ، مع أنّه يمكن ممّا ذكر دعوى عكسه؟

ص: 388


1- في «ق»: ولانتقاضها.
2- في «ق»: لا يتوهّم.

والجواب عنه وإن يظهر ممّا ذكرناه في المباحث السالفة، لكنّا لا نكتفي بذلك حذرًا عن غفلة الغافل، فنقول: إنّ هذا الكلام وإن شاع في الألسنة، لكنّه ليس محمولًا على ظاهره قطعًا.

وكيف؟! مع أنّك قد عرفت تصريحاتهم بكونها أساميًا للصحيحة، فيعلم منه أنّ مرادهم في تلك المواضع ليس إلّا التنبيه على المغايرة بين المعنى اللغويّ والشرعيّ؛ وهذا يحصل بما ذكروه، لا أنّ مرادهم أنّ الشارع جعل تلك الألفاظ اسمًا للأركان كما هو محلّ النزاع.

على أنّا نقول: إنّ نسبة هذا المرام إلى العلماء الأعلام أمر عارٍ عن البرهان مقرون بالظلم والعدوان، وكفاك في الوصول إلى حقيقة الحال حكاية جملة من الأقوال.

قال العلّامة -أعلى الله مقامه- في النهاية:

«إنّ الصلاة في الشرع للركعات المخصوصة»(1).

وفي التهذيب: «نقله(2) الشارع إلى الأفعال المخصوصة»(3).

وقال السيّد السند عميد الدين في شرحه:

«إنّ الصلاة نقلها الشارع إلى الأفعال المخصوصة من الركوع(4) والسجود

ص: 389


1- نهاية الوصول: 1/ 248.
2- في «ج»: نقلها.
3- تهذيب الوصول: 76.
4- إلى هنا تمّت النسخة الأصليّة بخطّ المؤلّف، والتكلمة من نسخة «ق» و«ج».

والقيام والقعود والأذكار المعيّنة من التكبير والقراءة والتسبيح»(1).

وقال في المعالم:

«كاستعمال الصلاة في الأفعال المخصوصة بعد وضعها في اللغة للدعاء»(2).

وغير ما ذكر من الأقوال.

نعم، هو مذكور في بعض الكتب، وبناؤه إمّا على ما ذكر، أو على الغفلة، أو على تعميم الأركان(3) بحيث يشمل المعنى المصطلح عليه وغيره، أو على القول بالأعمّ مع تأمّل فيه، فاتّضح الحال وارتفع الاشكال بمعونة الله(4) المتعال.

ص: 390


1- منية اللبيب في شرح التهذيب: 1/ 206.
2- معالم الأصول: 35.
3- في «ق»: الأذكار.
4- «الله» لم ترد في «ق».

الفهارس الفنّيّة

اشارة

ص: 391

ص: 392

الفهارس الفنّيّة

فهرس الآيات القرآنيّة

الآية ....... رقمها ....... السورة ....... ص

﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ ....... 19 ....... البقرة ....... 80/1، 139/1.

﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ ....... 30 ....... البقرة ....... 206/2، 207/2.

﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ ....... 31البقرة ....... 193/2، 199/2، 200/2، 201/2، 202/2، 203/2، 205/2، 207/2، 219/2.

﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا...﴾ ....... 32 ....... البقرة ....... 198/2، 202/2.

﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا...﴾ ....... 33 ....... البقرة ....... 201/2، 202/2، 203/2، 208/2.

﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ ....... 43 ....... البقرة ....... 81/1، 142/1، 382/2.

﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ ....... 158 ....... البقرة ....... 348/2.

﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ ....... 185 ....... البقرة ....... 382/2.

﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِله﴾ ....... 196 ....... البقرة ....... 382/2.

ص: 393

الآية ....... رقمها ....... السورة ....... ص

﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ...﴾ ....... 238 ....... البقرة ....... 432/1، 438/1.

﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ ....... 286 ....... البقرة ....... 414/1.

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلَامُ﴾ ....... 19 ....... آل عمران ....... 102/2.

﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ...﴾ ....... 26 ....... آل عمران ....... 415/1.

﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله﴾ ....... 54 ....... آل عمران ....... 291/1.

﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا...﴾ ....... 85 ....... آل عمران ....... 102/2، 105/2.

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ...﴾ ....... 107 ....... آل عمران ....... 159/1، 172/1.

﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ﴾ ....... 22 ....... النساء ....... 431/1، 438/1.

﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ...﴾ ....... 43 ....... النساء ....... 80/1، 36/2، 383/2.

﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ ....... ....... 80النساء ....... 24/2.

﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ ....... 92 ....... النساء ....... 81/1.

﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...﴾ ....... 3 ....... المائدة ....... 430/1، 26/2.

﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا...﴾ ....... 6 ....... المائدة ....... 36/2، 37/2، 382/2.

﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله...﴾ ....... 33 ....... المائدة ....... 106/2.

﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا...﴾ ....... 38 ....... المائدة ....... 124/1.

﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً...﴾ ....... 48 ....... المائدة ....... 7/2.

ص: 394

الآية ....... رقمها ....... السورة ....... ص

﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾ ....... 64 ....... المائدة ....... 288/1.

﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ....... 38 ....... الأنعام ....... 17/2، 18/2، 215/2، 216/2.

﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا...﴾ ....... 59 ....... الأنعام ....... 17/2.

﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ ....... 122 ....... الأنعام ....... 173/1، 414/1.

﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا...﴾ ....... 4 ....... الأعراف ....... 159/1.

﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ ....... 8 ....... الأعراف ....... 156/1.

﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله﴾ ....... 99 ....... الأعراف ....... 294/1.

﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ ....... 5 ....... التوبة ....... 439/1.

﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ ....... 82 ....... التوبة ....... 415/1.

﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ ....... 81 ....... هود ....... 102/2.

﴿الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ ....... 1 ....... يوسف ....... 69/2.

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ ....... 2 ....... يوسف ....... 205/1، 60/2، 68/2، 69/2.

﴿مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ ....... 31 ....... يوسف ....... 217/1، 218/1.

﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ ....... 36 ....... يوسف ....... 153/1، 154/1، 188/1.

ص: 395

الآية ....... رقمها ....... السورة ....... ص

﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ...* مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ...﴾ ....... 39-40 ....... يوسف ....... 216/2.

﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ ....... 82 ....... يوسف ....... 159/1، 270/1، 275/1، 276/1، 277/1، 437/1.

﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ...﴾ ....... 10 ....... الرعد ....... 415/1.

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا...﴾ ....... 4 ....... إبراهيم ....... 218/2، 223/2.

﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا...﴾ ....... 89 ....... النحل ....... 17/2، 215/2.

﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ ....... 78 ....... الإسراء ....... 36/2.

﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ﴾ ....... 18 ....... الكهف ....... 414/1.

﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ ....... 4 ....... مريم ....... 407/1، 201/2.

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ ....... 14 ....... طه ....... 68/2.

﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ ....... 113 ....... طه ....... 69/2.

﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ﴾ ....... 132 ....... طه ....... 68/2.

﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾ ....... 80 ....... الأنبياء ....... 195/2، 197/2.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ ....... 77 ....... الحجّ ....... 37/2.

﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ ....... 103 ....... المؤمنون ....... 157/1.

ص: 396

الآية ....... رقمها ....... السورة ....... ص

﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ...﴾ ....... 2 ....... النور ....... 124/1.

﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ ....... 32 ....... العنكبوت ....... 102/2.

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ....... 22 ....... الروم ....... 210/2، 214/2.

﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ...﴾ ....... 39 ....... ص ....... 13/2، 28/2.

﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ...* قُرْآنًا عَرَبِيًّا...﴾ ....... 27-28 ....... الزمر ....... 69/2.

﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ ....... 3 ....... فصّلت ....... 69/2.

﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ....... 11 ....... الشورى ....... 380/1.

﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ...﴾ ....... 13 ....... الشورى ....... 8/2.

﴿حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ...﴾ ....... 1-3 ....... الزخرف ....... 69/2.

﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ...﴾ ....... 18 ....... الجاثية ....... 7/2.

﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ ....... 14 ....... الحجرات ....... 106/2.

﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا...﴾ ....... 35 ....... الذاريات ....... 102/2.

﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ ...﴾ ....... 36 ....... الذاريات ....... 102/2، 105/2.

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ ....... 3-4 ....... النجم ....... 14/2.

﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا...﴾ ....... 23 ....... النجم ....... 214/2، 215/2.

ص: 397

الآية ....... رقمها ....... السورة ....... ص

﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ...﴾ ....... 78 ....... الرحمن ....... 58/2.

﴿قُلْ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ...﴾ ....... 11 ....... الجمعة ....... 405/1.

﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي الله النَّبِيَّ...﴾ ....... 8 ....... التحريم ....... 106/2، 109/2.

﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ ....... 1 ....... القلم ....... 15/2.

﴿إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ....... 4 ....... القلم ....... 11/2، 13/2، 14/2، 16/2، 20/2، 24/2.

﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا﴾ ....... 6 ....... الإنسان ....... 157/1.

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾ ....... 48 ....... المرسلات ....... 142/1.

﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا﴾ ....... 14-15 ....... النبأ ....... 186/1.

﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ ....... 22 ....... الفجر ....... 186/1،380/1، 430/1.

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ ....... 1 ....... العلق ....... 15/2.

﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ ....... 5 ....... العلق ....... 214/2.

﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ ....... 17 ....... العلق ....... 159/1.

﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ...﴾ ....... 5 ....... البيّنة101/2.

ص: 398

فهرس أحاديث المعصومين (علیهم السلام)

الحديث ....... القائل ....... ص

«ابدأوا بما بدأ الله تعالى به» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 384/2، 385/2.

«إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء،...» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 325/2.

«الطواف في البيت صلاة» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 423/1.

«القبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة...» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 355/1.

«أوتيت جوامع الكلم واختصر لي...» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 431/1.

«في خمسٍ من الإبل شاة» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 428/1.

«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 330/2، 333/2، 335/2، 337/2، 338/2، 342/2، 346/2.

«لا عمل إلّا بنيّة» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 329/2، 333/2، 338/2.

«لا نكاح إلّا بوليّ» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 336/2، 337/2.

«من دعي إلى طعام فليجب، وإن كان...» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 88/2.

«وعليك السلام، ارجع فصلّ، فإنّك...» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 325/2.

«لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 329/2.

ص: 399

الحديث ....... القائل ....... ص

«لا صيام لمن لا يبيّت الصيام من الليل» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 333/2، 334/2، 338/2، 342/2.

«الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم» ....... أمير المؤمنين (علیه السلام) ....... 445/1.

«إنّ الله تبارك وتعالى أجلّ من أن...» ....... الصادقين (علیهم السلام) ....... 352/1.

«إذا سها الرجل في الركعتين الأوليين...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 349/2.

«إذا لم تحفظ الركعتين الأوليين فأعد...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 349/2.

«إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئًا تحتاج...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 18/2.

«بني الإسلام على خمسة على الصلاة...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 350/2، 357/2.

«بينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس في المسجد إذ دخل رجل، فقام يصلّي، فلم يتمّ ركوعه» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 326/2.

«عشر ركعات، ركعتان من الظهر...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 10/2.

«قم منتصبًا، فإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 326/2.

«كان الّذي فرض الله (عزوجلّ) على العباد عشر...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 10/2.

«لا صلاة إلّا إلى القبلة» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 326/2.

«لا صلاة إلّا بطهور» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 326/2، 330/2، 335/2، 337/2، 342/2، 356/2، 358/2.

ص: 400

الحديث ....... القائل ....... ص

«لا صلاة له» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 327/2.

«لمّا عرج برسول الله (صلی الله علیه و آله) نزل بالصلاة...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 15/2.

«وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ديّة العين وديّة...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 13/2.

«إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 327/2.

«إذا صلّيت وأنت على غير القبلة واستبان» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 348/2.

«إنّ الله تبارك وتعالى أدّب نبيّه (صلی الله علیه و آله) ...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 13/2.

«إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 18/2.

«إنّ الله (عزوجلّ) أدّب رسوله حتّى قوّمه على ما...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 25/2.

«إنّ الله (عزوجلّ) أدّب نبيّه على محبّته...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 24/2.

«إنّي لأعلم ما في السماوات وما في...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 19/2.

«لا والله ما فوّض الله إلى أحد من خلقه...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 25/2.

«ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 18/2.

«من صلّى في غير وقت فلا صلاة له» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 327/2، 348/2.

«من صلّى ولم يصلّ على النبيّ (صلی الله علیه و آله) وترك...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 327/2.

«والله، إنّي لأعلم كتاب الله من أوّله...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 18/2.

«خصّ الله تعالى آدم من تعليم كلّ شيء» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 203/2.

ص: 401

الحديث ....... القائل ....... ص

«من صلّى ولم يصلّ على النبيّ (صلی الله علیه و آله) » ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 347/2.

«يابن خنيس، ألا أدلّك على ما هو أبين...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 203/2.

إنّ الله (عزوجلّ) أدّب نبيّه فأحسن أدبه...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 11/2.

ومن لم يسبّح فلا صلاة له» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 328/2.

«يا بن أشيم! إنّ الله (عزوجلّ) فوّض إلى سليمان...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 28/2.

«لا بأس بالصلاة فيما صنع في أرض...» ....... الإمام الكاظم (علیه السلام) ....... 396/1، 442/1.

«إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» ....... الإمام الكاظم (علیه السلام) ....... 396/1، 442/1.

«يا عبد العزيز، جهل القوم وخُدعوا...» ....... الإمام الرضا (علیه السلام) ....... 17/2.

ص: 402

فهرس أسماء المعصومين (علیهم السلام) والأعلام

النبي (صلی الله علیه و آله): 428/1، 6/2، 9/2، 11/2، 12/2، 13/2، 14/2، 15/2، 16/2، 17/2، 19/2، 20/2، 21/2، 22/2، 24/2، 25/2، 26/2، 27/2، 28/2، 30/2، 34/2، 35/2، 36/2، 37/2، 38/2، 41/2، 42/2، 43/2، 44/2، 46/2، 57/2، 66/2، 80/2، 93/2، 99/2، 100/2، 103/2، 104/2، 105/2، 108/2، 109/2، 199/2، 227/2، 325/2، 386/2.

أمير المؤمنين (علیه السلام): 445/1، 24/2.

الإمام الحسن (علیه السلام): 15/2، 16/2.

الإمام الحسين (علیه السلام): 15/2، 16/2.

الإمام الباقر (علیه السلام): 10/2، 13/2، 15/2، 18/2، 326/2، 327/2، 349/2، 350/2.

الإمام الصادق (علیه السلام): 11/2، 13/2، 18/2، 19/2، 24/2، 25/2، 28/2، 195/2، 203/2، 306/2، 327/2، 348/2.

الإمام الكاظم (علیه السلام): 396/1.

الإمام الرضا (علیه السلام): 17/2، 26/2.

ابن أثير: 8/2.

ابن إدريس: 26/2، 316/2.

ابن البرّاج: 26/2.

ابن الحاجب: 97/1، 321/1، 48/2، 49/2، 77/2، 163/2، 165/2، 166/2.

ابن السبكيّ: 193/2.

ابن جنّي: 315/1، 441/1.

ابن زهرة: 345/1، 26/2.

ابن عبّاس: 359/1، 15/2، 36/2، 37/2، 199/2.

ص: 403

ابن عرفة: 8/2.

ابن فورك: 190/2.

ابن مالك: 374/1.

أبو إسحاق الأسفرائنيّ: 192/2.

أبو إسحاق النحويّ: 24/2.

أبو الحسين: 333/2، 334/2.

أبو بكر الحضرميّ: 306/2، 327/2.

أبو عبد الله البصريّ: 333/2، 334/2، 335/2، 338/2.

أبو قتادة: 28/2.

أبو هاشم: 191/2.

أبو الحسن الأشعريّ: 190/2.

أحمد بن محمّد الأنطاكي: 291/1.

آدم (علیه السلام): 195/2، 198/2، 199/2، 202/2، 203/2، 204/2، 205/2، 206/2، 207/2، 208/2، 209/2، 218/2، 219/2، 220/2، 221/2، 222/2.

الإربلي: 445/1.

إسحاق بن عمّار: 396/1، 442/1، 13/2.

إسماعيل (علیه السلام): 197/2، 198/2، 199/2، 200/2، 209/2.

الأسنويّ: 437/1، 192/2، 247/2، 266/2.

الأصمعيّ: 359/1.

الآمدي: 138/1، 237/1، 266/1، 125/2، 192/2، 242/2، 342/2.

الإيجي: 237/1.

بحر العلوم (قدس سره): 312/1، 352/1، 9/2، 241/2، 260/2، 262/2.

البرداني: 413/1.

البهائي، الشيخ: 266/1، 372/1، 303/2.

البيضاويّ: 138/1، 437/1، 194/2، 247/2.

ثمود: 198/2.

الجوهريّ: 8/2.

الجيزاويّ: 292/1.

جمال الدين بن عبد الله الجرجانيّ، السيّد: 339/2.

ص: 404

جمال الدين محمّد الحسينيّ الاسترآبادي، السيد: 339/2.

الچلبي: 52/1 .

الحاجبي: 266/1.

خليل القزوينيّ، الشيخ: 292/1.

الخوانساريّ: 262/2.

الدسوقي: 138/1.

الزبيدي: 8/2.

زرارة: 10/2، 13/2، 326/2، 349/2.

الزركشي: 441/1.

السخاوي: 444/1.

سليمان بن فهد الأزدي: 315/1.

سماعة: 349/2.

السيّد الأجل: 373/1، 380/1، 381/1، 383/1، 390/1.

السيّد السند عميد الدين: 338/2، 345/2، 389/2.

السيّد المجاهد: 348/1، 352/1، 362/1، 393/1، 125/2، 192/2.

السيّد المرتضى: 321/1، 345/1، 26/2.

الشريف الرضي: 315/1.

الشهيد الثاني: 346/1.

الشيخ الرئيس: 89/1، 259/2، 263/2.

الشيخ المفيد: 334/2.

الشيخ حسن: 26/2.

شيخنا الشهيد: 380/2.

صاحب التنقيح: 341/2.

صاحب المحاكمات: 267/2.

صاحب المدارك: 386/2.

صاحب المعالم: 441/1، 343/2.

صالح المازندراني (قدس سره)، المولى: 288/1.

الصفي الهندي: 138/1.

الطبرسيّ: 203/2.

الطوسيّ، المحقّق: 259/2، 260/2، 263/2.

عاد: 198/2.

عبّاد بن سليمان: 125/2.

عبد الأعلى مولى آل سام: 18/2.

عبد الجبّار بن أحمد: 336/2.

ص: 405

عبد العزيز بن مسلم: 17/2.

عبد الله بن سليمان العامري: 15/2.

عبد الله بن سنان: 25/2.

العضديّ: 64/1، 138/1، 172/1، 216/1، 175/1، 196/1، 267/1، 279/1، 322/1، 414/1، 77/2، 176/2، 181/2، 303/2.

العلّامة البهبهانيّ (قدس سره): 342/2، 344/2.

العلّامة الحلّيّ: 362/1، 425/1، 429/1، 75/2، 119/2، 192/2، 211/2.

عليّ القاري، الملّا: 444/1.

عليّ بن إبراهيم: 195/2.

الغزاليّ: 279/1، 193/2.

الفارابي: 259/2، 263/2.

الفاضل الباغنوي: 197/1، 50/2، 52/2، 259/2، 260/2، 266/2.

الفاضل التفتازانيّ: 291/1، 292/1، 335/1، 401/1، 408/1، 9/2، 50/2، 52/2، 55/2، 105/2، 149/2، 177/2، 178/2، 186/2.

الفاضل: 138/1.

الفخر الرازيّ: 138/1، 196/1، 437/1، 441/1، 75/2، 193/2، 242/2، 247/2، 259/2.

الفضل بن عبدالملك: 349/2.

فضيل بن يسار: 11/2، 350/2.

الفيّومي: 329/1.

قابيل: 199/2.

قاسم بن مسلم: 17/2.

القاضي أبو بكر: 205/1، 60/2، 71/2، 75/2، 76/2، 77/2، 193/2، 286/2، 291/2، 333/2.

القزوينيّ (رحمة الله)، المحقق: 138/1، 9/2.

القمّيّ، المحقق= المؤيّد الفاضل: 391/1، 81/2، 366/2، 374/2.

قنديل بن لاوَذَ بن إِرَمَ: 198/2.

قيس الماصر: 11/2.

الكرباسيّ: 352/1، 393/1.

كعب الأحبار: 199/2.

كليب الأسديّ: 306/2.

ص: 406

لوط (علیه السلام): 102/2، 103/2.

المتنبي: 315/1.

المجلسيّ: 443/1.

المحقّق الأعرجيّ: 241/2.

المحقّق الشريف: 97/1، 408/1، 157/2، 168/2، 259/2.

محمّد بن الحسن الميثمي: 25/2.

محمّد بن سنان: 13/2.

محمّد بن مسلم: 327/2.

محمود بن سبكتكين: 190/2.

المعلّى بن الخنيس: 203/2.

موسى بن أشيم: 27/2.

موسى (علیه السلام): 21/2.

ميرزا جان الباغنو، ملّا: 247/2.

نجم الأئمّة: 100/1.

النراقيّ، المحقّق: 348/1، 352/1، 437/1، 81/2، 125/2، 203/2، 247/2، 259/2، 266/2، 279/2.

نوح (علیه السلام): 199/2، 209/2.

النووي: 8/2.

هابيل: 199/2.

الهروي: 8/2.

هشام الغوطيّ: 125/2.

الوحيد البهبهانيّ: 235/1، 352/1، 387/1، 391/1، 393/1.

يعرب بن قحطان: 199/2.

يوسف (علیه السلام): 217/1.

ص: 407

ص: 408

فهرس الكتب والمؤلّفات

إثبات الجزء الّذي لا يتجزّأ: 125/2.

الآداب الدينيّة: 203/2، 204/2.

الإرشاد: 379/2.

إعجاز القرآن: 76/2.

أعلام الزركلي: 413/1.

الإنصاف: 76/2.

إنكار أن يخلق الناس أفعالهم: 125/2.

الإيضاح: 97/1، 344/2.

التحرير: 376/2.

تذكرة العالم: 191/2.

التذكرة: 325/2.

تفسير القرطبي: 199/2.

التمهيد: 76/2.

التهذيب: 138/1، 396/1، 437/1، 442/1، 298/2، 326/2، 348/2، 389/2.

جامع المقاصد: 344/2.

حاشية الإشارات[الباغنوي]: 266/2.

حاشية التهذيب: 235/1، 288/2.

حاشية المعالم[المصنّف]: 235/1، 274/2، 288/2.

حاشية المعالم[القزوينيّ]: 138/1، 9/2.

حاشية المعالم[المازندرانيّ]: 288/1.

حاشية المعالم[البهبهانيّ]: 341/2، 344/2.

حاشية المعالم[سلطان العلماء]: 23/2.

الحدود في الأصول: 190/2.

حلّ الآيات المشكلات: 190/2.

الحلية اللامعة: 171/1، 235/1.

الخصائص: 315/1.

الذريعة: 336/2، 339/2.

الذكرى: 23/2.

الروضة: 409/1.

زبدة البهائيّ: 138/1.

سرّ الصناعة: 315/1.

الشامل في الفقه: 191/2.

ص: 409

الشرائع: 295/2، 335/2، 340/2، 378/2.

شرح التهذيب [جمال الدين]: 339/2.

شرح التهذيب [عميد الدين]: 338/2، 345/2.

شرح الشفاء: 262/2.

شرح اللمع: 247/2.

شرح المنهاج: 138/1.

شرح تهذيب الوصول: 339/2.

الصحاح: 408/1.

العدّة في الأصول: 191/2، 335/2.

العلل: 103/2.

العمد: 336/2.

العيون: 17/2.

الفقيه: 10/2، 326/2.

القاموس: 288/1، 408/1، 8/2، 87/2، 116/2.

القواعد: 295/2، 339/2، 372/2، 373/2، 378/2، 380/2.

الكافي: 10/2، 11/2، 15/2، 18/2، 27/2، 326/2.

كشف اللثام: 9/2، 24/2، 341/2.

كنز اللغة: 408/1.

المجازات: 381/1.

مجمع البحرين: 9/2.

المحاكمات: 260/2.

المحتسب في شواذ القراءات: 315/1.

مختصر الحاجبي: 138/1.

المدارك: 316/2.

المزهر: 199/2.

المسالك: 295/2، 340/2، 359/2، 370/2، 373/2، 374/2، 379/2.

مشكل الحديث وغريبه: 190/2.

المطوّل: 335/1.

المعارج: 335/2.

المعالم: 390/2.

المعتبر: 316/2، 325/2.

المفاتيح: 89/1، 414/1، 425/1.

المنتهى: 316/2، 325/2.

نضد القواعد الفقهيّة: 372/2.

نهاية الإحكام: 325/2.

ص: 410

النهاية: 299/1، 307/1، 359/1، 429/1، 438/1، 438/1، 77/2، 119/2، 193/2، 215/2، 220/2، 238/2،242/2، 298/2، 333/2، 389/2.

الوسائل: 396/1.

ص: 411

ص: 412

فهرس مصادر التحقيق

القرآن الكريم

1. الإتّقان في علوم القرآن، لجلال الدين أبي بكر السيوطيّ (910 ق)، تحقيق سعيد المندوب، دار الفكر، لبنان، 1416 ق.

2. أحسن الوديعة في تراجم مشاهير مجتهدي الشيعة، لمحمّد مهدي الموسويّ الأصفهانيّ الكاظميّ (1391 ق)، المطبعة الحيدريّة، النجف الأشرف، 1388ق.

3. الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمّد عليّ بن حزم الأندلسيّ (456ق)، الناشر زكريّا عليّ يوسف، مطبعة العاصمة، القاهرة.

4. الإحكام في أصول الأحكام، لعلىّ بن محمّد الآمديّ (631 ق)، علّق عليه الشيخ عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلاميّ، بيروت، ط2، 1402ق.

5. اختيار مصباح السالكين، للشيخ ميثم بن عليّ بن ميثم البحراني (689 ق)، تحقيق الدكتور شيخ محمّد هادي الأميني، مجمع البحوث الإسلاميّة، مشهد، 1408 ق.

6. الآداب الدينيّة للخزانة المعينيّة، لأمين الإسلام الشيخ أبي عليّ الفضل بن الحسن الطبرسيّ (548 ق)، تحقيق ماجد بن أحمد العطيّة، انتشارات الشريف الرضيّ، 1423 ق.

7. إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، للعلّامة الحلّيّ الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726 ق)، تحقيق الشيخ فارس الحسّون، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1410 ق.

8. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ من علم الأصول، لمحمّد بن عليّ بن محمّد الشوكاني

ص: 413

(1255 ق)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1ط، 1356- 1937م.

9. الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، لملّا عليّ القاري (1014 ق)، تحقيق محمّد بن لطفي الصباغ، المكتب الإسلاميّ، بيروت، 1406 ق.

10. إشارات الأصول، للشيخ محمّد إبراهيم بن محمّد حسن الكرباسيّ (1261ق)، چاپ سربي، تهران، 1245 ق.

11. الإشارات والتنبيهات، للشيخ الرئيس ابن سينا (428 ق)، نشر البلاغة، قم، ط1، 1375 ش.

12. إشراق هياكل النور، غياث الدين الدشتكي الشيرازيّ (949 ق)، تحقيق على أوجبي، ميراث مكتوب، تهران، 1382 ش.

13. الأعلام، لخير الدين الزركلي (ت 1410)، دار العلم للملايين، بيروت، 1980م.

14. أعيان الشيعة، للسيّد محسن الأمين (ت 1371)، تحقيق حسن الأمين، دار المعارف، بيروت، 1403 ق.

15. الألفيّة، لابن مالك الأندلسي (672 ق)، دفتر نشر نويد إسلام، قم، 1417ق.

16. إلهيّات المحاكمات (مع تعليقات الباغنوي)، لقطب الدين الرازيّ (766ق)، تصحيح مجيد هادي زاده، ميراث مكتوب، تهران، 1381 ش.

17. الأمالي: لأبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (م 460)، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة، دار الثقافة، قم، 1414 ق.

18. أنوار التنزيل وأسرار التأويل (تفسير البيضاويّ)، لناصر الدّين أبي الخير عبدالله بن عمر البيضاويّ (685 ق)، مؤسّسة شعبان للنشر والتوزيع، بيروت، 1330ق.

ص: 414

19. أنيس المجتهدين، لمحمّد مهدي بن أبي ذر النراقيّ (1209 ق)، تحقيق مركز العلوم والثقافة الإسلاميّة، مؤسّسة بوستان كتاب، قم، 1388 ش.

20. إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، لأبي طالب محمّد بن الحسن بن يوسف المطهّر الحلّيّ (682 - 771)، تحقيق الكرماني والاشتهاردي والبروجردي، المطبعة العلمية، قم، 1387 ق.

21. الإيضاح في شرح المفصّل للزمخشري، لأبي عمرو عثمان بن عمر ابن الحاجب المالكي (646 ق)، تحقيق محمّد عثمان، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2011 م.

22. الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزوينيّ (739 ق)، دار الكتاب الإسلاميّ، ط1، قم، 1411 ق.

23. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، للعلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسيّ(1037 - 1110 ق)، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1403ق.

24. البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين محمّد بن بهادر الزركشي (794ق)، تحقيق الدكتور محمّد محمّد تأمر، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1421 ق.

25. بدائع الأفكار، للشيخ حبيب الله بن محمّد عليّ الرشتيّ (1312 ق)، مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، الطبعة الحجريّة، قم، بدون تاريخ.

26. بصائر الدرجات، لمحمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار(290 ق)، تحقيق ميرزا حسن كوچه باغي، منشورات الأعلمي، تهران، 1404ق.

27. بغية الراغبين في سلسلة آل شرف الدين، للإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين الموسويّ (ت 1377 ق)، المطبوعة ضمن: «موسوعة الإمام السيّد عبدالحسين شرف الدين»، تحقيق مركز العلوم والثقافة الإسلاميّة، دار المؤرّخ العربيّ،

ص: 415

بيروت، 1431ق.

28. البهجة المرضيّة في شرح الألفيّة، لجلال الدين أبي بكر السيوطيّ(ت910)، تحقيق ونشر مؤسّسة دار الهجرة، قم، 1419 ق.

29. بيان المفاخر، للسيّد مصلح الدّين المهدوي، مكتبة مسجد السيّد، أصفهان، 1368ش.

30. تاج العروس من جواهر القاموس، لمحبّ الدين أبي فيض السيّد محمّد مرتضى الحسيني الزبيدي (ت 1205)، تحقيق على شيري، دارالفكر، بيروت، 1414 ق.

31. تاريخ أصفهان ورى وهمه جهان، ميرزا حسن خان جابرى، 1321.

32. تاريخ أصفهان، ميرزا حسن خان جابرى، مشعل، أصفهان، 1378.

33. تحرير الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة: للعلّامة الحلّيّ جمال الدّين حسن بن يوسف بن المطهّر (ت726)، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري، قم، 1420 ق.

34. تحرير القواعد المنطقيّة في شرح الرسالة الشمسيّة، لقطب الدين الرازيّ (ت766 ق)، تصحيح محسن بيدار فر، انتشارات بيدار، ط2، قم، 1384 ش.

35. التحصيل، بهمنيار بن المرزبان (ت 458 ق)، تصحيح شهيد مرتضى مطهّرى، تهران، 1375 ش.

36. تحف العقول عن آل الرسول (صلی الله علیه و آله) لابن شعبة الحرّاني (ق 4)، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1404 ق.

37. تذكرة الفقهاء: للعلّامة الحلّيّ جمال الدّين حسن بن يوسف بن المطهّر (726)، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) لإحياء التراث، قم، 1414 ق.

38. تذكرة القبور، للشيخ عبدالكريم الجزي، مكتبة آية الله المرعشيّ، قم، 1371ش.

ص: 416

39. تذكره مآثر الباقريّة، ميرزا محمّد على زوّاره اى، تحقيق دكتر حسين مسجدى، سازمان تفريحى فرهنگى شهردارى، أصفهان، 1385 ش.

40. تعليقة على معالم الأصول، للسيّد عليّ الموسويّ القزوينيّ (1298ق)، تحقيق السيّد عليّ العلويّ القزوينيّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1422ق.

41. تفسير القمّي، علىّ بن ابراهيم القمّي، مؤسّسة دار الكتب، قم، 1404ق.

42. التفسير الكبير، لفخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازيّ (544 - 606)، ط3، بدون تاريخ.

43. التقريب والإرشاد الصغير في أصول الفقه، لأبي بكر محمّد بن الطيب المعروف بابن الباقلاني (403 ق)، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1418 ق.

44. تكملة أمل الآمل، للسيّد حسن الصدر الكاظميّ، تحقيق حسين على محفوظ وعبدالكريم وعدنان الدبّاغ، دار المؤرخ العربيّ، بيروت، 1429 ق.

45. تمهيد القواعد، للشهيد الثاني زين الدين بن عليّ (966 ق)، تحقيق مكتب الإعلام الإسلاميّ - فرع خراسان، دفتر تبليغات إسلامى حوزة علميّه قم، ط1، قم، 1416 ق.

46. التنقيح الرائع لمختصر الشرائع: لجمال الدّين مقداد بن عبدالله السيوري الحلّيّ (م 826)، تحقيق السيّد عبد اللطيف الحسينيّ الكوه كمري، نشر مكتبة آية الله المرعشيّ، ط1، قم، 1404 ق.

47. تهذيب الأحكام: لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسيّ (385 - 460 ق)، تحقيق السيّد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلاميّة، تهران، 1365.

ص: 417

48. تهذيب الوصول إلى علم الأصول، للعلّامة الشيخ حسن بن يوسف الحلّيّ (648 - 726 ق)، تحقيق الشيخ محمّد باقر الناصري، ذوي القربى، قم، ط1، 2005 م.

49. الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، لجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطيّ (911 ق)، دار الفكر، بيروت، 1401 ق.

50. جامع المقاصد في شرح القواعد: للمحقّق الثاني علىّ بن الحسين بن عبدالعالي الكركيّ (940)، نشر وتحقيق مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) قم، 1408.

51. الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبيّ)، لأبي عبدالله محمّد بن أحمد الأنصاريّ القرطبيّ (ت 671)، مؤسّسة التاريخ العربيّ، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، 1405ق.

52. جامعة الأصول: لملّا محمّد مهدي بن أبي ذر النراقيّ (1209 ق)، تحقيق رضا الاستادي، كنگره بزرگداشت محقّقان نراقى، قم، 1422 ق.

53. الجوهر النضيد، للعلّامة الشيخ حسن بن يوسف المطهّر الحلّيّ (726ق)، تصحيح محسن بيدارفر، انتشارات بيدار، قم، 1371 ش.

54. الحاشية على تهذيب المنطق، للمولى عبدالله بن شهاب الدين الحسينيّ اليزديّ (981 ق)، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1412 ق.

55. الحاشية على مختصر المعاني، للشيخ محمّد بن محمّد عرفة الدسوقي، مكتبة الشفيعي، أصفهان، بدون تاريخ.

56. الحاشية على معالم الأصول، للمولى صالح المازندرانيّ (1081 ق)، مكتبة داورى، قم، ط1، بدون تاريخ.

57. حاشية ملّا محمّد صادق على شرح الكاتي على متن ايساغوجي، للأبهري: دار

ص: 418

الكتب العلمية، بيروت 45، 1971.

58. حكمة العين وشرحه، لنجم الدين عليّ الكاتبي - ميرك البخاريّ (675 ق - 740 ق)، تصحيح جعفر زاهدى، دانشگاه مشهد، مشهد، 1353 ش.

59. الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، لصدر المتألّهين (1050ق)، دار إحياء التراث، بيروت، 1981 م.

60. الحلّيّة اللامعة للبهجة المرضيّة، للعلّامة المحقّق الحاجّ السيّد محمّد باقر بن محمّد نقي الموسويّ الجيلانيّ الشفتيّ (1180 - 1260 ق)، تحقيق مكتبة مسجد السيّد بأصفهان، شب افروز، ط1، تهران، 1393 ش.

61. الدرّ المختار شرح تنوير الأبصار، لمحمّد أمين الحصفكي الشهير بابن عابدين (1088ق)، تحقيق مكتب البحوث والدراسات، دار الفكر، بيروت، 1415 ق.

62. الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطيّ (911 ق)، دار المعرفة، بيروت.

63. دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام عن أهل بيت رسول الله -عليه وعليهم أفضل السلام-: للقاضي نعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيون التميمي المغربي (م 363)، تحقيق آصف بن عليّ أصغر فيضي، دار المعارف، مصر، 1383 ق.

64. ديوان دعبل الخزاعيّ، دعبل بن علىّ الخزاعي (246 ق)، شرحه وضبطه وقدّم له: ضياء حسين الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، 1417 ق.

65. الذريعة إلى أصول الشريعة، للسيّد عليّ بن الحسين الموسويّ علم الهدى (436 ق)، تصحيح دكتر أبوالقاسم گرجى، دانشگاه تهران، تهران، 1376 ش.

ص: 419

66. الذريعة، للشيخ آقا بزرگ الطهراني (ت 1389)، دار الأضواء، بيروت، 1403ق.

67. ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة: للشهيد الأوّل شمس الدّين محمّد بن مكّي العامليّ (ت 786)، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) قم، 1419 ق.

68. الرسائل الرجاليّة: للسيّد محمّد باقر الشفتيّ المشهور بحجّة الإسلام (1260)، تحقيق السيّد مهدي الرجائي، نشر مكتبة مسجد السيّد بأصفهان، 1417ق.

69. رسائل الشهيد الثاني: الشيخ زين الدين بن عليّ العامليّ (ت 965)، تحقيق رضا المختاري، بوستان كتاب قم، 1422 ق.

70. روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات، للسيّد محمّد باقر الموسوي الچهارسوقي(ت 1313)، مؤسّسة إسماعيليان، قم، 1390 ق.

71. الروضة البهيّة في الإجازة الشفيعيّة، للسيّد محمّد شفيع بن عليّ أكبر الجاپلقي البروجردي (ت 1280 ق)، الطبع الحجري، تهران، بدون تاريخ.

72. ريحانة الأدب، لميرزا محمّد على المدرّس (ت1373)، خيام، تهران، ط2.

73. زبدة الأصول، للشيخ محمّد بن حسين البهائي العامليّ (1031 ق)، تحقيق فارس حسّون كريم، مرصاد، قم، 1423 ق.

74. زبدة التفاسير، لملّا فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني (988 ق)، تحقيق ونشر مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، قم، 1423 ق.

75. سنن ابن ماجة: لأبي عبدالله محمّد بن يزيد بن ماجة القزوينيّ (207 - 275)، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت.

ص: 420

76. سنن الترمذي: لأبي عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي (279)، تحقيق عبدالوهاب عبداللطيف، دار الفكر، بيروت، 1403 ق.

77. السنن الكبرى (سنن البيهقي): لأبي بكر أحمد بن الحسين بن عليّ البيهقي (458)، نشر دار الفكر، بيروت.

78. سير أعلام النبلاء، لشمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748)، تحقيق حسين الأسد، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1413 ق.

79. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام: للمحقّق الحلّيّ الشيخ أبي القاسم جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهذلي (602 - 672)، تحقيق وتعليق السيّد صادق الشيرازي، نشر انتشارات الاستقلال، طهران، 1409 ق.

80. شرح أصول الكافي، للمولى محمّد صالح المازندرانيّ (1081 ق)، تحقيق الميرزا أبوالحسن الشعرانيّ، ضبط وتصحيح السيّد عليّ عاشور، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، 1421 ق.

81. شرح الإلهيّات من الشفاء، للمحقّق النراقيّ (متوفّى 1244 ق)، كنگره بزرگداشت محقّقان نراقى، قم، 1380 ش.

82. شرح اللمع، لابن بَرْهَان العكبري، حقّقه د. فائز فارس، 1405 ق.

83. شرح المطوّل، لسعد الدين التفتازاني (ت 792)، وبهامشه حاشية السيّد الشريف، منشورات مكتبة الداوري، قم، 1424 ق.

84. شرح الهداية الأثيريّة، لصدر المتألّهين (1050 ق)، تصحيح محمّد مصطفى فولادكار، مؤسّسة التاريخ العربيّ، بيروت، 1422 ق.

ص: 421

85. شرح الوافية، للسيّد بحرالعلوم (ت1212)مخطوطة مجلس الشورى برقم 1348.

86. شرح جمل الزجاجي، لابن عصفور، تحقيق على محسن مال الله.

87. شرح عيون الحكمة، لفخر الدين الرازيّ (606 ق)، تحقيق محمّد حجازى أحمد على سقا، مؤسّسة الصادق (علیه السلام)، تهران، 1373ش.

88. شرح كافية ابن الحاجب، لنجم الأئمّة الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاسترآبادي (ت 686 ق)، تحقيق يوسف حسن عمر، مؤسّسة الصادق، تهران، 1395 ق.

89. شرح كتاب القبسات، لأحمد بن زين العابدين العلويّ (1060 ق)، تحقيق حامد ناجى أصفهاني، مؤسّسة مطالعات إسلامي، تهران، 1376ش.

90. شرح مختصر المنتهى الأصوليّ، للعلّامة القاضي عضد الدين الإيجي (ت 756 ق)، تحقيق محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل، دار الكتب العلميّة، ط1، 1424 ق- 2004 م.

91. شرح مطالع الأنوار في المنطق، لقطب الدين الرازيّ (766 ق)، انتشارات كتبى نجفى، قم، بدون تاريخ.

92. الشعر والشعراء، لابن قتيبة الدينوري (276 ق)، تحقيق وشرح أحمد محمّد شاكر، دار الحديث، قاهرة، 1427 ق.

93. الشواهد الربوبيّة في المناهج السلوكيّة، لصدر المتألّهين (1050 ق)، تصحيح سيّد جلال الدين الآشتياني، المركز الجامعي للنشر، مشهد، 1360ش.

94. الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربيّة): لإسماعيل بن حمّاد الجوهري (م 393)،

ص: 422

تحقيق أحمد بن عبدالغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، 1407 ق.

95. صحيح البخاريّ: لأبي عبدالله بن إسماعيل البخاريّ(194 - 256)، دار الفكر، بيروت، 1401 ق.

96. صحيح مسلم: لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (261 ق) تحقيق محمّد فؤاد عبدالباقي، دار الفكر، بيروت، 1398.

97. طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال: للسيّد عليّ أصغر بن محمّد شفيع الجابلقي البروجردي (1313)، تحقيق السيّد مهدي الرجائي، مكتبة آية الله المرعشيّ، قم، 1410 ق.

98. العدّة في أصول الفقه (ط ج)، لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسيّ (385 - 460)، تحقيق محمّد رضا الأنصاريّ، قم، 1417 ق.

99. العدّة في أصول الفقه (ط ق)، لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسيّ (385 - 460)، وبذيله الحاشية الخليليّة للشيخ خليل بن الغازي القزوينيّ (1089 ق)، تحقيق محمّد مهدي نجف، مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، قم.

100. علل الشرائع، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي (م 381)، نشر المكتبة الحيدريّة، النجف الأشرف، 1386.

101. عوالي اللآلئ الحديثيّة، لابن أبي جمهور الأحسائي (880)، تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقي، سيّد الشهداء، قم، 1403 ق.

102. عيون أخبار الرضا (علیه السلام)، لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق الشيخ حسين الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1404 ق.

ص: 423

103. غاية الوصول وإيضاح السبل في شرح مختصر منتهى السؤل والأمل لابن الحاجب، للعلّامة الشيخ حسن بن يوسف بن المطهّر الحلّيّ (648 - 726 ق)، تحقيق الشيخ آ.مرداني پور، مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، قم، 1430 ق.

104. فتح الباري شرح صحيح البخاريّ، لشهاب الدّين ابن حجر العسقلاني (852)، دار المعرفة، بيروت.

105. الفروق اللغويّة، لأبي هلال العسكريّ (ن 395)، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1412 ق.

106. الفصول الغرويّة في الأصول الفقهيّة، للشيخ محمّد حسين بن عبدالرحيم الحائرىّ (ت 1250 ق)، دار إحياء العلوم الإسلاميّة، قم، 1404 ق.

107. الفصول المختارة، للشيخ المفيد (413 ق)، تحقيق جمع من المحقّقين بأصفهان، دار المفيد، بيروت، 1414 ق.

108. فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آية الله مرعشى نجفى، سيّد احمد حسينى، كتابخانه آية الله مرعشى، قم، 1395 ق.

109. فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آية الله گلپايگانى، سيّد أحمد حسينى، خيام، قم، 1357 ش.

110. فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه جامع گوهرشاد، محمود فاضل، كتابخانه جامع گوهرشاد، مشهد، 1363 ش.

111. فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه مجلس شوراى إسلامى، نشر كتابخانه مجلس شوراى اسلامى، تهران، 1305 تا 1377.

112. فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه مسجد أعظم، رضا استادى، كتابخانه

ص: 424

مسجد اعظم، قم، 1365 ش.

113. فهرست نسخه هاى خطّى مركز احياء ميراث إسلامى، سيّد أحمد حسينى، قم، 1419 ق.

114. الفوائد الحائريّة، للعلّامة محمّد باقر البهبهانيّ (1206 ق)، مجمع الفكر الإسلاميّ، قم، 1415 ق.

115. القاموس المحيط: لأبي طاهر مجد الدّين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي (817)، تحقيق ونشر دار العلم، بيروت، 1306.

116. قصص العلماء، ميرزا محمّد بن سليمان تنكابنى (ت 1302)، انتشارات علميّة إسلاميّة، تهران، بدون تاريخ.

117. قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام: للعلّامة الحلّيّ الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726)، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1413 ق.

118. القواعد والفوائد، للشهيد الأوّل محمّد بن مكّيّ العامليّ (786 ق)، تحقيق الدكتور السيّد عبدالهادي الحكيم، مكتبة المفيد، ط1، قم، بدون تاريخ.

119. القوانين المحكمة في الأصول، للميرزا أبي القاسم بن محمّد حسن القمّي الجيلانيّ (1231 ق)، شرحه وعلّق عليه رضا حسين صبح، إحياء الكتب الإسلاميّة، قم، 1430 ق.

120. الكافي: لأبي جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني (م 329) تحقيق عليّ أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1388.

121. كتاب التعريفات، للسيّد الشريف عليّ بن محمّد الجرجانيّ (816 ق)، ناصر خسرو، تهران، 1370 ش.

ص: 425

122. كتاب العين، لأبي عبدالرّحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 - 175)، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، مؤسّسة دارالهجرة، قم، 1409ق.

123. كتاب من لا يحضره الفقيه: للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي (م 381)، تحقيق عليّ أكبر الغفاري، نشر جامعة المدرّسين، قم، 1404ق.

124. الكرام البررة، للشيخ آقا بزرگ الطهراني (ت 1389)، دارالمرتضى مشهد، 1404ق.

125. كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمّد عليّ التهاوني (1158 ق)، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1996 م.

126. الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري (467 - 538)، دار الكتب العربيّ، بيروت، 1366 ق.

127. كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، للشيخ الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء (م 1228 ق)، تحقيق مكتب الإعلام الإسلاميّ، نشر دفتر تبليغات إسلامي، قم، 1422 ق.

128. كشف الغمّة في معرفة الأئمّة: لأبي الحسن عليّ بن عيسى بن أبي الفتح الإربلي (م 693 ق)، دار الأضواء، بيروت، 1405 ق.

129. كشف اللّثام عن قواعد الأحكام: للشيخ بهاء الدّين محمّد بن الحسن الأصفهانيّ المعروف ب- الفاضل الهنديّ (1062 - 1137)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلاميّ

ص: 426

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، 1416ق.

130. كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، لعلاء الدين عليّ المتّقي بن حسام الدين الهنديّ (ت 975)، تحقيق الشيخ بكري حياني، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1409ق.

131. الكنى والألقاب، للشيخ عبّاس القمّيّ(ت1359)، مكتبة الصدر، تهران، 1409ق.

132. لسان العرب: لجمال الدّين محمّد بن مكرم بن منظور المصريّ (630 - 711)، نشر أدب الحوزة، قم، 1405 ق.

133. ماضي النجف وحاضرها، للشيخ جعفر الشيخ باقر آل محبوبة (ت1377)، تحقيق محمّد سعى آل محبوبه، دار الأضواء، بيروت، 1430 ق.

134. مبادي الوصول إلى علم الأصول، للعلّامة الحلّيّ جمال الدّين حسن بن يوسف بن المطهّر (726 ق)، المطبعة العلميّة، ط1، قم، 1404ق.

135. متشابه القرآن ومختلفه، للشيخ محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندراني (588ق)، شركت سهامى طبع كتاب، 1328.

136. مجمع البحرين ومطلع النيّرين: للشيخ فخر الدّين محمّد الطريحيّ (م 1085) تحقيق السيّد أحمد الحسيني، مكتبة نشر الثقافة الإسلاميّة، 1408ق.

137. مجمع البيان في تفسير القرآن: لأبي عليّ أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسيّ (حوالي 470 - 548)، تحقيق لجنة من العلماء والمحقّقين الأخصائيّين، نشر مؤسّسة الأعلميّ، بيروت، 1415 ق.

ص: 427

138. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدّين عليّ بن أبي بكر الهيثميّ (م807)، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1408 ق.

139. المحاكمات بين شرحي الإشارات (المطبوع في هامش شرح الإشارات والتنبيهات، للمحقّق الطوسّي)، لقطب الدين الرازيّ (766 ق)، نشر البلاغة، قم 1375ش.

140. المحصول، لفخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازيّ (544 - 606)، تحقيق دكتور طه جابر فيّاض العلواني، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1412 ق.

141. المحصول، للعلّامة السيّد محسن بن حسن الأعرجيّ (1130 - 1227 ق)، تحقيق هادي الشيخ طه، دار المرتضى، النجف الأشرف، 1437ق.

142. مختصر المعاني، لسعد الدين التفتازاني (ت 792)، دار الفكر، قم، 1411 ق.

143. المخصص، لأبي الحسن عليّ بن إسماعيل النحوي الأندلسي، المعروف بابن سيدة، المتوفّى 458 ق، تحقيق لجنة إحياء التراث العربيّ، بيروت، لبنان.

144. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام: للسيّد محمّد بن عليّ الموسوي العامليّ (956 - 1009) تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) قم، 1410 ق.

145. مرآة الكتب، ثقة الإسلام التبريزي(ت1330)، مكتبة آية الله المرعشيّ، قم، 1414 ق.

146. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام: للشهيد الثاني زين الدّين بن علىّ بن أحمد العامليّ (911 - 965) تحقيق ونشر مؤسسة المعارف الإسلاميّة، قم، 1413 ق.

147. مستدرك الصحيحين، للحاكم أبي عبدالله النيسابوري (405 ق)، تحقيق يوسف

ص: 428

عبدالرحمن المرعشلي، دار المعرفة، بيروت.

148. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، للحاج الميرزا حسين المحدّث النوريّ الطبرسيّ (1254 - 1320)، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، قم، 1408 ق.

149. المستصفى في علم الأصول، لأبي حامد محمّد بن محمّد الغزاليّ (505 ق)، تصحيح محمّد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1417ق.

150. مستند الشيعة في أحكام الشريعة: لملّا أحمد بن محمّد مهدي النراقيّ (1245) تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) لإحياء التراث، قم، 1415ق.

151. مسند أحمد (وبهامشه: منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال)، لأحمد بن محمّد بن حنبل أبي عبدالله الشيبانيّ (164 - 241)، دار صادر، بيروت.

152. مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (460 ق)، مؤسّسة فقه الشيعة، بيروت، 1411 ق.

153. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، لأحمد بن محمّد بن عليّ المقري الفيّومي (ت 770)، منشورات دار الهجرة، قم، 1405 ق.

154. مطالع الأنوار، للحاجّ السيّد محمّد باقر الشفتيّ (1180- 1260 ق)، طبع الأفست، مكتبة مسجد السيّد، نشاط، أصفهان 1366- 1409ق.

155. معارج الأصول، للشيخ نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّيّ (602- 676)، تحقيق محمّد حسين الرضويّ، مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، قم، 1403ق.

156. معالم الدين وملاذ المجتهدين (قسم الفقه): للشيخ حسن بن زين الدّين العامليّ نجل الشهيد الثاني (1011)، تحقيق السيّد منذر الحكيم، قم، 1418 ق.

ص: 429

157. المعتبر في شرح المختصر: للمحقّق الحلّيّ نجم الدّين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهذلي (602- 676)، لجنة التحقيق بإشراف الشيخ ناصر مكارم، مؤسسة سيّد الشهداء (علیه السلام) قم، 1364.

158. معجم المؤلّفين، عمر رضا كحالة، دار إحياء التراث، بيروت.

159. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام عبدالله جمال الدين بن يوسف الأنصاريّ المصريّ (ت 761)، تحقيق محمّد محيي الدين عبدالحميد، نشر مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ، قم، 1404 ق.

160. مفاتيح الأصول، للعلّامة السيّد محمّد بن عليّ الطباطبائيّ المعروف بالمجاهد (1242 ق)، مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، ط1، قم، 1296 ق.

161. مكارم الآثار، محمّد عليّ المعلّم حبيب آبادي (ت 1396)، انجمن كتابخانه هاى عمومى أصفهان، 1377 - 1382 ق.

162. ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، للعلّامة الشيخ محمّد باقر المجلسيّ (1110ق)، تحقيق السيّد مهدي الرجائي، مكتبة آية الله المرعشيّ، قم، 1406ق.

163. الملل والنحل: لأبي الفتح محمّد بن عبدالكريم الشهرستاني (479- 548ق)، انتشارات الشريف الرضي، قم، بدون تاريخ.

164. مناهج العقول، للإمام محمّد بن الحسن البدخشي (922 ق)، المطبوع على نهاية السؤل، دار الكتاب العربيّ، بيروت، 1405 ق.

165. منتهى المطلب في تحقيق المذهب: للعلّامة الحلّيّ جمال الدّين حسن بن يوسف بن المطهّر (726 ق)، تحقيق ونشر قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلاميّة، مشهد، 1412 ق.

ص: 430

166. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، لسعيد بن هبة الله قطب الدين الراوندي (573 ق)، تحقيق السيّد عبداللطيف الكوهكمريّ، مكتبة آية الله المرعشيّ، قم، 1406ق.

167. منية اللبيب في شرح التهذيب، للسيّد ضياء الدين عبدالله بن محمّد بن الأعرج الحسينيّ الحلّيّ (بعد 681، كان حيًّا 740 ق)، تحقيق اللجنة العلميّة في مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام) مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام) قم، 1431 ق.

168. المواقف، للعلّامة القاضي عضد الدين الإيجي (756 ق)، تحقيق عبدالرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1417 ق.

169. ميراث حوزة أصفهان، دفتر سوّم وچهارم، مركز تحقيقات رايانه اى حوزة علميّه أصفهان، 1386 ش.

170. نضد القواعد الفقهيّة، لمقداد بن عبدالله السيورىّ الحلّيّ (826 ق)، تحقيق السيّد عبداللطيف الكوهكمريّ، مكتبة آية الله المرعشيّ، قم، 1403ق.

171. نقباء البشر في القرن الرابع عشر، للشيخ آقا بزرگ الطهراني (ت 1389)، دار المرتضى، مشهد، 1404 ق.

172. نهاية الإحكام في معرفة الأحكام: للعلّامة الحلّيّ الحسن بن يوسف بن المطهّر (648- 726)، تحقيق السيّد مهدي الرجائي، مؤسسة إسماعيليان، قم، 1410ق.

173. نهاية الأرب في فنون الأدب، لشهاب الدين أحمد بن عبدالوهّاب النويري (733 ق)، وزارة الثقافة والإرشاد القومي المؤسّسة المصريّة العامّة، القاهرة.

174. نهاية السؤل في شرح منهاج الأصول للبيضاوي، للأسنوي جمال الدين

ص: 431

عبدالرحيم بن الحسن (772 ق)، دار الكتاب العربيّ، بيروت، 1405 ق.

175. نهاية المرام في علم الكلام، للعلّامة الحلّيّ الحسن بن يوسف بن المطهّر (648- 726 ق)، تحقيق فاضل العرفان، مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام) قم، 1419ق.

176. نهاية الوصول إلى علم الأصول، للعلّامة الحلّيّ الحسن بن يوسف بن المطهّر (648- 726 ق)، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادريّ، مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام) قم، 1425 ق.

177. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن أثير الجزري (544- 606)، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمّد الطناحي، مؤسّسة إسماعيليان، قم، 1364ش.

178. هداية المسترشدين، للشيخ محمّد تقي بن عبدالرحيم الرازيّ النجفيّ (1248ق)، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلاميّ، ط2، قم، 1429ق.

179. همع الهوامع شرح جمع الجوامع في علم العربيّة، للسيوطيّ عبدالرحمن بن أبي بكر (ت 910 ق)، تحقيق عبدالعال سالم مكرم 1980 م - 1400 ق.

180. الوافية في أصول الفقه، للمولى عبدالله بن محمّد البشروىّ الخراسانيّ (1071ق)، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضويّ الكشميريّ، مجمع الفكر الإسلامىّ، مؤسّسة إسماعيليان، قم، 1412ق.

181. وسائل الشيعة (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة): للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ (1104 ق)، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) قم، 1414 ق.

ص: 432

فهرس المحتويات

الباب الرابع

في تقسيم الحقيقة والمجاز إلى الأقسام المعروفة وما يتعلّق بها من الأمور المهمّة5

الفصل الأوّل7

في الحقيقة الشرعيّة7

المبحث الأوّل: في تعيين الشارع7

في ثبوت التفويض في الأحكام إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) 10

في الاشكالات الواردة على تفويض الأحكام إليه (صلی الله علیه و آله) 14

الجواب عن الإشكالات الواردة على تفويض الأحكام إليه (صلی الله علیه و آله) 15

إشكال آخر أصعب ممّا ذكر17

حاصل الإشكال19

الجواب عن الإشكال20

محصّل الكلام في هذا المقام22

في عدم ثبوت التفويض في الأحكام إلى الأئمّة (علیه السلام) 23

الإشكال الوارد على تفويض الأحكام إلى الأئمّة (علیه السلام) 24

بعض النصوص الدالّة على ثبوت التفويض إلى الأئمّة (علیه السلام) 24

الجواب عن الإشكال الوارد على تفويض الأحكام إلى الأئمّة (علیه السلام) 25

إشكال آخر على تفويض الأحكام إلى الأئمّة (علیه السلام) 28

الجواب عن الإشكال29

ص: 433

المبحث الثاني: في ماهيّة الحقيقة الشرعيّة31

الاحتمالات في وضع الحقيقة الشرعيّة ثلاثة34

الاحتمال الأوّل38

الاحتمال الثاني39

الاحتمال الثالث40

الإيراد على الاحتمالات الثلاثة مع الجواب عنه41

الاحتمال الرابع41

الاحتمال الخامس42

طرق إثبات الوضع التعيّنيّ43

الاحتمال السادس44

الاحتمال السابع44

الاحتمال الثامن45

الاحتمال التاسع45

احتمال آخر46

حاصل الكلام في تعريف الحقيقة الشرعيّة46

في بيان الحقيقة الدينيّة48

الاحتمال الأوّل49

الاحتمال الثاني50

الكلام على تقدير أخصّيّة الدينيّة من الشرعيّة52

ص: 434

الكلام على ما ذكروا في تفسير الدينيّة56

متمسّك النافين للحقيقة الشرعيّة60

الدليل الأوّل60

الجواب عن الدليل الأوّل60

الاحتمالات في الحكم بكون الحقائق الشرعيّة مجازات لغويّة62

الاحتمال الأوّل63

الاحتمال الثاني63

الاحتمال الثالث64

الاحتمال الرابع64

الدليل الثاني للّنافين للحقيقة الشرعيّة70

الجواب عن الدليل الثاني71

الدليل الثالث للّنافين للحقيقة الشرعيّة74

الجواب عن الدليل الثالث74

البحث الثالث: في ثبوت الحقيقة الشرعيّة75

تنبيهٌ نبيه76

تفصيل جمعٍ من متأخّري الأصحاب في المسألة78

وجوه النظر في القول بالتفصيل79

الوجه الأوّل79

الوجه الثاني80

ص: 435

الوجه الثالث81

رأي المصنّف في المسألة82

متمسّك المثبتين للحقيقة الشرعيّة83

الدليل الأوّل83

وجوه النظر في استدلال المثبتين83

الوجه الأوّل83

الوجه الثاني83

الجواب عن الوجهين84

الوجه الثالث مع الجواب عنه84

الوجه الرابع مع الجواب عنه86

الوجه الخامس90

الدليل الثاني لإثبات الحقيقة الشرعيّة93

الدليل الثالث لإثبات الحقيقة الشرعيّة93

والبحث الرابع: في الثمرة المترتّبة على ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه94

أقسام الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة95

القسم الأوّل95

القسم الثاني97

القسم الثالث97

القسم الرابع98

ص: 436

دفع إيراد لاستحكام مقام98

الدليل الأوّل للمعتزلة لإثبات الحقيقة الدينيّة101

الجواب عن الدليل الأوّل للمعتزلة104

الدليل الثاني للمعتزلة لإثبات الحقيقة الدينيّة106

الجواب عن الدليل الثاني للمعتزلة107

الفصل الثاني111

في الحقيقة اللغويّة111

البحث الأوّل: في تعريف الحقيقة اللغويّة111

الإيراد على تعريف الحقيقة اللغويّة111

تعريف آخر للحقيقة اللغويّة112

الإيراد على التعريف مع الجواب عنه114

والبحث الثاني: في ثبوت الحقيقة اللغويّة119

في الفرق بين المنقول والمجاز مع اشتراكهما في الاستعمال في المعنى المناسب 120

دليلٌ آخر لإثبات الحقيقة اللغويّة122

المبحث الثالث: في واضع الحقيقة اللغويّة124

المقام الأوّل: في أنّ دلالة الألفاظ وضعيّة124

في احتجاج القائلين بأنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة125

القول المذكور مبنيّ على أمور126

الأمر الأوّل126

ص: 437

الأمر الثاني128

الأمر الثالث128

الأمر الرابع130

في الجواب عن احتجاج القائلين بأنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة137

الجواب عنه بالمعارضة137

الوجه الأوّل138

الوجه الثاني138

الوجه الثالث140

الوجه الرابع141

الوجه الخامس143

الوجه السادس147

الوجه السابع150

الوجه الثامن151

الجواب عن احتجاج القائلين بأنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة بالمناقضة151

الإرادة غير صالحة للترجيح152

الخطور أيضًا غير صالح للترجيح153

جواب آخر153

الإشكال في الوجهين المذكورين لإثبات الترجيح155

والمقام الثاني: في تفسير الوضع وما يترتّب عليه من الفوائد157

ص: 438

الفائدة الأولى: في تفسير الدلالة وما يتوجّه إليه من المناقشة157

الفائدة الثانية: في تقسيم الدلالة إلى الأقسام الثلاثة162

الكلام هنا في أمور163

الأمر الأوّل: في أنّ المطابقة والتضمّن والالتزام من الدلالات اللفظيّة، أو بعضها لفظيّ وبعضها عقلي163

في وجه كون المطابقة والتضمّن من الدلالة اللفظيّة دون الالتزام166

الإيرادات الواردة في هذا المقام167

الإيراد الأوّل167

الإيراد الثاني169

الإيراد الثالث169

الجواب عن الإيراد الثاني170

الجواب عن الإيراد الثالث170

الإيراد الأوّل وارد172

الأمر الثاني: في أنّ حصر الدلالات في الأقسام الثلاثة غير صحيح173

الأمر الثالث: في أنّ دلالة الألفاظ المجازيّة على المعاني المجازيّة مطابقة لا التزام.......176

الإشكال في القول الثاني177

الإشكال في القول الأوّل177

الوجه الأوّل177

الوجه الثاني178

ص: 439

الوجه الثالث179

إيراد وتخليص181

الإشكال الأوّل181

الإشكال الثاني182

الجواب عن الإشكال الأوّل182

الوجه الأوّل: في أنّ الدلالة على الخارج اللازم ليس التزامًا مطلقًا182

الوجه الثاني: إرادة المعنى العامّ من الوضع في الالتزام يستلزم امتناع تحقّق الالتزام بالنسبة إلى الحقائق، مع الجواب عنه183

الجواب عن الإشكال الثاني186

إيراد آخر187

إيراد كلام لتنبيه مرام187

الجواب عن الإيراد188

والمقام الثالث: في التكلّم إلى أصل المطلب والبحث عن تحقيق المقصد189

الأقوال في واضع اللغات190

القول الأوّل190

القول الثاني190

القول الثالث191

القول الرابع193

مختار المصنّف ومستنده193

الدليل الأوّل193

ص: 440

الاعتراض على القول بالتوقيف194

الاعتراض الأوّل194

الجواب عن الاعتراض الأوّل197

ما اشتهر من حدوث لغة العرب في زمان إسماعيل (علیه السلام) غير صحيح198

الاعتراض الثاني200

الجواب عن الاعتراض الثاني200

الإيراد في المقام من وجه آخر204

الجواب عن أصل الإيراد206

إيرادٌ آخر208

وجه اختلاف اللغات في ذرّيّة آدم مع علمه بجميع اللغات208

الجواب عن الإيراد209

الدليل الثاني210

الإيراد على الدليل الثاني210

الجواب عن الإيراد211

احتمال آخر للآية الشريفة213

الاستدلالات الّتي ذكرها في النهاية عن أصحاب التوقيف214

استدلالٌ آخر للقول بالتوقيف217

الجواب عنه217

دليل القائلين باصطلاحيّة اللغات218

ص: 441

الدليل الأوّل218

الجواب عن الدليل الأوّل218

الدليل الثاني220

الجواب عن الدليل الثاني221

مستند القائلين بالتفصيل223

مستند القائلين بالتوقّف224

في أنّ استناد الوضع إلى الله لا ينافي القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة 225

ذكر كلام لإفضاح مقال228

رأي المؤلّف في المسألة229

الفصل الثالث231

في الحقيقة العرفيّة231

المبحث الأوّل: في تحديدها وتعريفها231

مختار المصنّف في المسألة233

والمبحث الثاني: في تقسيمها إلى العامّة والخاصّة235

إيراد مقال لدفع إشكال236

المبحث الثالث: في ثبوت الحقيقة العرفيّة وما يناسب تلك المقالة238

في الداعي لتغيير اللغة وثبوت الحقيقة العرفيّة239

استدلال القائل باستحالة الحقيقة العرفيّة241

في أنّه هل يصحّ حصر الحقائق في الأقسام الثلاثة أم لا؟242

ص: 442

ردّ على من زعم أنّ الأعلام ليست بحقيقة ولا مجازًا242

الأعلام مندرجة تحت العرفيّة الخاصّة245

استقصاء عقليّ245

الفصل الرابع247

في الأمور المتعلّقة بالأقسام المذكورة للحقائق247

المبحث الأوّل: في تعيين الموضوع له247

في أنّ الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني الذهنيّة أو الخارجيّة247

مستند القول الأوّل: مستند القول بكون الألفاظ موضوعة للمعاني الخارجيّة مع الجواب عنه248

الجواب عن مستند القول الأوّل بالمعارضة249

الوجه الأوّل249

الوجه الثاني249

الجواب عن الوجه الثاني250

الجواب عن المعارضة بنحوٍ آخر250

الوجه الثالث251

الجواب عن الوجه الثالث251

الجواب عن مستند القول الأوّل بالمناقضة252

الجواب عن المناقضة252

مستند القول الثاني: حجّة القول بأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الذهنيّة دون الخارجيّة.252

ص: 443

الجواب عن مستند القول الثاني بالمنع255

الجواب عن مستند القول الثاني بالمعارضة256

الوجه الأوّل256

الوجه الثاني257

الوجه الثالث258

في أنّ النزاع في وضع الألفاظ مبنيٌّ على النزاع في مسألة المعلوم بالذات على ما ذكره بعضهم259

القول الثالث ومستنده:266

الجواب عن مستند القول الثالث267

المختار من بين الأقوال: القول الرابع270

تنقيح المقام270

الأمر الأوّل: فيما يتوجّه على المختار من الإيراد ودفعه270

الإيراد الأوّل270

الإيراد الثاني271

الدفع عن الإيراد الأوّل272

الوجه الأوّل272

الوجه الثاني272

الدفع عن الإيراد الثاني273

فيما يمكن أن يقال في دفع الإيراد275

فيما يتوجّه عليه275

ص: 444

الحقّ في الجواب عن الإيراد الأوّل276

الحقّ في الجواب عن الإيراد الثاني279

تنبيه279

والأمر الثاني: هو أنّ وضع الألفاظ للمعاني ما كانت معانٍ باعتقاد المستعمل والمكلّف، أو في نفس الأمر والواقع281

مختار المؤلّف282

المبحث الثاني: في أنّ المناط في حمل الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة على ماذا؟284

في أنّ الأحكام الشرعيّة بأسرها توقيفيّة284

وجوه الإيراد في المقام286

الإيراد الأوّل286

الإيراد الثاني287

الإيراد الثالث287

الجواب عن الإيراد الأوّل288

الجواب عن الإيراد الثاني288

الجواب عن الإيراد الثالث289

فيما يتوجّه على الوجهين289

الجواب عمّا يتوجّه على الوجهين290

التخلّص عن ذلك بوجوه293

الوجه الأوّل293

ص: 445

الوجه الثاني294

الوجه الثالث294

إيراد آخر في المقام297

الجواب عن الإيراد298

تذييل فيه تكميل299

المطلب الأوّل: لكلّ من لفظ العبادات والمعاملات إطلاقان299

في تفسير الصحّة والفساد301

كلامٌ في عدّ الصحّة والفساد من الأحكام التوقيفيّة305

تنبيه305

والمطلب الثاني305

في أنّ ألفاظ العبادات أسامٍ للصحيحة أو الأعمّ307

في دفع الشروط المشكوكة بالأصل على القول بالأعمّ دون الصحيح309

في دفع الأجزاء المشكوكة بالأصل على القول بالأعمّ وأنّ انتفاء أيّ جزء لا يوجب انتفاء الكلّ في العرف311

ذكر مقال لدفع سؤال313

في دفع الأمور المشكوكة بالأصل على القول بالصحيح أيضًا314

في الثمرة بين القول بالصحيح والأعمّ317

إيراد مقال لإبراز مختار318

في أدلّة القول بالصحيح318

الدليل الأوّل318

ص: 446

الدليل الثاني321

الدليل الثالث325

في النصوص الدالّة على صحّة السلب عن العاري عن بعض الشرائط والأجزاء325

إيرادات وتفصّيات329

الإيراد الأوّل329

الإيراد الثاني329

الإيراد الثالث330

الإيراد الرابع330

الجواب عن الإيراد الأوّل331

الجواب عن الإيراد الثاني332

الجواب عن الإيراد الثالث332

الجواب عن الإيراد الرابع332

نقل الكلمات الواصلة إلينا من علمائنا الدالّة على أنّ الألفاظ عندهم أسامٍ للصحيحة333

المناقشة في بعض النصوص بوجه آخر346

في أدلّة القول بالأعمّ348

الدليل الأوّل348

النوع الأوّل348

النوع الثاني348

ص: 447

النوع الثالث350

وجه الاستدلال بالنسبة إلى النوع الأوّل350

وجه الاستدلال بالنسبة إلى النوع الثاني351

وجه الاستدلال بالنسبة إلى النوع الثالث352

الجواب عن الاستدلال بالنسبة إلى النوع الأوّل352

الجواب عن الاستدلال بالنسبة إلى النوع الثاني353

الجواب عن الاستدلال بالنسبة إلى النوع الثالث357

الدليل الثاني358

الجواب عن الدليل الثاني358

الدليل الثالث359

الجواب عن الدليل الثالث360

في المؤيّدات الّتي ذكرت للقول بالأعمّ مع الجواب عنها363

إيراد كلمات للتفصّي عن مؤيّدات363

التأييد الأوّل363

الجواب عن التأييد الأوّل363

التأييد الثاني مع الجواب عنه365

تأييد ثالث مع الجواب عنه370

تأييد رابع مع الجواب عنه375

إنّ النزاع في أنّ الألفاظ الشرعيّة أساميٍ للصحيحة أو الأعمّ غير مختصّ بالعبادات، بل متحقّق في المعاملات أيضًا378

ص: 448

كلام على ما ذكره شيخنا الشهيد أعلى الله مقامه380

ومن المهمّ في هذا المقام التنبيه على أمرين:382

الأمر الأوّل: في دفع المشكوك بالأصل مطلقًا ولو كان جزءًا382

الترتيب في الذكر لا يفيد الترتيب في الحكم إلّا في كتاب الله تعالى383

الأمر الثاني388

الفهارس الفنّيّة393

فهرس الآيات القرآنيّة393

فهرس أحاديث المعصومين (علیهم السلام) 399

فهرس أسماء المعصومين (علیهم السلام) والأعلام403

فهرس الكتب والمؤلّفات409

فهرس مصادر التحقيق413

فهرس المحتويات433

ص: 449

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.